التحقيق في تحطّم الطائرات

Sunday 18th of November 2012 08:00:00 PM ,
العدد : 2653
الصفحة : ناس وعدالة ,

اقترن تحطم الطائرات في عصرنا الحاضر بالتفجيرات الإرهابية، ولذلك فإن تأكيد أو نفي هذا الاحتمال يأتي من ضمن أولويات المحققين. كما يأتي على سلم الأولويات مسألة التعرف الى هُوية الموتى الذين غالباً ما تكون أجسادهم محترقة أو مشوهة، بحيث يتعذر التعرف إليها بصرياً، ومما يسهل هذه المهمة وجود قائمة بأسماء الركاب يمكن الرجوع إليها والحصول على معلومات تضيق حلقة البحث، وكلما قل عدد الضحايا صارت مسألة التعرف الى هُوياتهم أكثر سهولة. ويستخدم في هذا السبيل سجلات أسنان الركاب، وسجلاتهم الطبية، التي قد تدل على وجود كسور قديمة في العظام يمكن أن تستخدم للاستدلال على هُوية الأجساد المحترقة.

أما الأجساد المشوهة فيمكن بالإضافة إلى ذلك استخدام علامات مميزة على الجلد، مثل الوشم أو ندب الالتئام وغيرها. كما يمكن في نهاية المطاف تأكيد الهُوية عن طريق مضاهاة البصمة الوراثية (الـ DNA) غير أنها تتطلب الحصول على عينات من دماء أقارب الضحايا أو متعلقات شخصية كان قتلى الحادثة يستخدمونها إبان حياتهم وتحمل خلايا أو إفرازات من أجسادهم (فرش الأسنان أو أدوات الحلاقة أو الملابس).  
ونظراً للخصائص المميزة للجروح الناجمة عن المتفجرات، لذلك يركز الفحص الطبي الخارجي والتشريحي على إثبات أو استبعاد وجود إصابات، يدل مظهرها وطبيعتها على حدوثها بسبب المتفجرات. كما يهتم الفاحصون بتصوير الأجساد بالأشعة السينية تحسباً لوجود أجزاء معدنية أو شظايا تكون نفذت إليها بسبب انفجار قنبلة، تكون استخدمت في عملية إرهابية، وهذه قد تقود بدورها في نهاية المطاف إلى منفذي العملية.

لا شك في أن استخدام أجساد آدمية موهوبة في مجال أبحاث ودراسات حوادث الطائرات أمر تكتنفه الصعوبة، ولكنها الطريقة المثالية الوحيدة لجعل التجارب في ذلك الصدد أكثر واقعية. أما البدائل المتوافرة فتتمثل في الدُّمى وحيوانات التجارب، وهي لا تعبر تعبيراً حقيقياً عن الجسم الآدمي، ما يجعل النتائج المترتبة على مثل هذه الأبحاث غير دقيقة. لهذا السبب فإن معظم البيانات المتوافرة في هذا المضمار تعتمد على دراسات قامت على فحص ضحايا سقوط طائرات متعددة كانت أسباب تحطمها معروفة، وهذا النوع من الدراسات يسمى علمياً بدراسات الأثر الرجعي.  وقد أجريت في ذلك السبيل دراسات على ضحايا تحطم الطائرات، الذين يهوون ويرتطمون بسطح الماء بسرعة عالية؛ فبينت حدوث إصابات داخلية بأحشائهم خاصة بالرئتين، بينما اقتصرت إصاباتهم الخارجية على بعض الجروح غير الخطرة. من الناحية النظرية، هناك احتمالات ثلاثة لنشوء هذه الإصابات الداخلية في مثل تلك الحوادث: الموجة الارتدادية الناجمة عن انفجار القنابل، أو الاختلال المفاجئ في تنظيم الضغط الداخلي للطائرة، أو السقوط من الارتفاع الشاهق والارتطام بسطح الماء. ويمكن تأكيد أو استبعاد دور انفجار القنبلة بشيء من السهولة، حيث يسبب الانفجار إصابات مميزة، أهمها تفتت الأجساد الواقعة في بؤرة الانفجار، والعثور على شظايا منغرسة في الأجساد مصدرها أجزاء من القنبلة أو أجزاء متطايرة من جسم الطائرة بسبب الانفجار، أو مشاهدة أثر الشظايا على هيئة جروح تهتكية متعددة على الجسم. ولم تؤيد التجارب العملية أن اختلال الضغط الجوي داخل الطائرة يسبب إصابات داخلية بالرئتين؛ حيث عرضّت فئران التجارب لاختلال الضغط على غرار ما يحدث عند تحطم الطائرات ولم تصب بأذى. أما التجارب التي أجريت باستخدام فئران التجارب لاختبار ما يحدث عند السقوط من ارتفاع، فقد أثبتت صحة الاحتمال الثالث، حيث بدت رئاتها كرئات ضحايا الطائرات الذين ارتطموا بسطح الماء.

وتتمزق الملابس وتنفصل عن الأجساد الساقطة من ارتفاع كبير لدى ارتطامها بسطح الماء أو الأرض. فإذا كانت أجساد الضحايا الطافية عارية من الملابس، دل ذلك على تحطم الطائرة في ارتفاع شاهق، أما إذا كانت الملابس سليمة في مجملها، دل ذلك على أن الطائرة تحطمت عند ارتطامها بالماء أو بالقرب من الماء. وإذا كانت طائفة من الأجساد عارية، وطائفة أخرى ملابسها سليمة، فقد يدل ذلك على انشطار الطائرة إلى قسمين، قسم تحطم في الجو وآخر هبط ولم يتحطم تماماً إلاّ لحظة الارتطام بسطح الماء. وفي هذه الحالة الأخيرة يمكن عن طريق تحديد الحد الفاصل بين مقاعد الطائفتين حسب أرقام جلوسهم التوصل إلى موضع انشطار جسم الطائرة. ولإثبات هذه الحقيقة استخدم الباحثون دمى بملابس كاملة، ألقيت إلى البحر من طائرات محلقة في الجو، وفي لحظة الاصطدام تمزقت الملابس وتطايرت. هذه الحقيقة لوحِظت على المنتحرين الذين يلقون بأنفسهم من الجسور العالية.

وخلال خبرتي في فحص ضحايا السقوط من ارتفاع، خاصة الذين يهوون من المباني العالية إلى الأرض، سواء في معرض حوادث مختلفة أو عمداً بقصد الانتحار، لاحظت تمزق بناطيلهم وقمصانهم وانخلاع أحذيتهم عن أقدامهم. لا استطيع أن أجزم إن كانت بعض الأبحاث في مجال حوادث الطائرات قد استخدمت أجساداً حقيقية لدراسة إثر ارتطامها بالأرض أو بالماء. إن كان ذلك قد حدث، فلم يُذْكر صراحة في الدراسات المنشورة، ولا أستغرب أن بعضها على الأقل استخدم أجساداً موهوبة من أجل العلم ضمن الدمى التي أسقطت من ارتفاعات شاهقة لتكون التجارب أكثر واقعية.

قلة فقط من الطائرات التي تتحطم تهوي إلى الأرض من ارتفاع ثلاثين ألف قدم، بل أن معظم الحوادث تحدث وقت الإقلاع أو الهبوط، على الأرض أو قريباً منها، ولذلك فإن احتمال النجاة يكون كبيراً إذا اتخذت الإجراءات الكفيلة بإخلاء الطائرة المنكوبة بالسرعة المطلوبة. تتطلب شروط السلامة إمكان إخلاء جميع الركاب من نصف مخارج النجاة خلال تسعين ثانية! وفي كثير من حوادث الطائرات لم تنفتح جميع مخارج النجاة كما كان مرجواً، بل ندر انفتاح نصفها في الطائرات المتحطمة التي أمكن نجاة بعض ركابها.وبسبب الفوضى والارتباك الناجمين عن الخوف والتدافع للوصول إلى مخارج النجاة يتعطل الإخلاء، فيلقى كثير من الركاب الذين لم يصابوا من أثر الارتطام حتفهم بسبب الحريق. تنفجر خزانات الوقود وتشتعل فيها النيران بسبب الارتطام، وبالإضافة إلى التأثير الحراري للحريق، يتعرض الركاب أيضاً للموت بالاختناق نتيجة استنشاق الدخان والغازات السامة المنبعثة بسبب اشتعال المواد البلاستيكية المستخدمة في المقاعد وغيرها. بعض الركاب يصاب بكسور بالأرجل فلا يستطيعون الحركة للوصول إلى مخارج النجاة، فيموتون في أماكنهم من الآثار المترتبة على الحريق. وبسبب التدافع يتعرض الضعفاء منهم لإصابات، أو للموت بسبب الوقوع في ممرات الطائرة ودهسهم بالرجل، أو الموت اختناقاً بسبب تراكم الآخرين فوقهم وتعذر التمدد الطبيعي للصدر اللازم لعملية التنفس.