التفلسف المُضاد في رواية متجر المنتحرين»

Sunday 19th of June 2022 11:03:19 PM ,
العدد : 5208
الصفحة : عام ,

كه يلان محمد

المًشكلة الفلسفية الوحيدة التي تستحقُ أن تناقش برأي ألبير كامو هي مُشكلة الانتحار والإجابة عليها منوطة بالحكم إذا كانت الحياة جديرةً أنْ تعاش أو لا

وبالطبع أنَّ مصدرُ الإشكالية هو بحث الإنسان عن المعنى لواقعه في عالمٍ يتطلبُ الاستمرار في تياره الجارف وجود عزاءٍ. إضافةً إلى ماتضجُ به الحياةُ من الإثارة والإغراء،ولكن أكثر مايلفتُ الانتباه بغموضه هو النهاية التي تقعُ خارج منطقة الشك،ولايمكنُ تعَقُلها ببساطةٍ،ربما يمُثلُ الانتحارُ رغبةً لقطعِ المسافة الفاصلة بين العدمين أو هروباً من التوتر القائم بين تطلعات الفرد وبيئة مخيبة للآمال.

ويضعُ “باسكال” خيار الاستعجال بالنهاية ضمن مساعي الانسان اللاواعية لإدراك السعادة. ومن المعلوم أنَّ عدداَ من الفنانين والأدباء ورجال الفكر قد انتهت حياتهم بالانتحار كأنَّ هذا القرار بتحديد الخاتمة لايخلو من مؤثرات مغرية بقدر ماهو قاسٍ وصادمُُ ومن المتوقع بأنَّ يشحنَ الكلامُ عن موضوع الانتحار مزاج المرء بالسوداوية والاكتئاب ولاعجبَ في ذلك لأنَّ الفكرةَ قد تكونُ معديةً وتكمنُ العبقرية الفنية في الخروج عن المتواضع عليه كما ترى ذلك في رواية “متجر المنتحرين “ للكاتب الفرنسي “جان تولي” إذ يتناولُ ظاهرة الانتحار منطلقاً من خط مغايرٍ عن الأعمال التي لاتنزاحُ عن المنحى النمطي في سردنة الظواهر والأزمات الوجودية. من الخطأ القولُ بأنَّ الكتابةَ عن المواضيع الإشكالية تتطلبُ تعدين صياغات مُعقدة وحياكة أغلفة من الغموض الموشوم بالكابوسية لأنَّ البساطة في مناقشةِ مفهوم شائك داخلَ إطار العمل الإبداعي تعدُ قمة الإبداع. يقولُ مونتاني “ما يُقرأُ بسهولة نادراً مايُكتبُ بسهولة” تعتبرُ السخرية آليةً نوعيةً لاختراق الأرضية المغروسة بالأحاجي واللامعقول المتستر بالألفاظ المُتفخمة هذا ناهيك عن فعالية اللمحات الساخرة في تحويل مؤشر المزاج من الإرهاق نحو المرح ومن الثقالة إلى الخفة. إذن فإنَّ السخرية هي اختراعُ عظيم للروح على حد تعبير الشاعر المكسيكي “أوكتافيوباث”بناءً على هذا المبدأ يسبكُ “تولي” حبكة روايته متواليةً أحداثها بايقاع مُتَشَوِقٍ.

حكمة الابتسامة

يتمُ التواصل مع المنجز الإبداعي من خلال مُفردة العنوانِ وماتثيرهُ لدى المتلقي من الاحتمالات بشأنِ المحتوى وايحاءاته المتراسلة مع العتبة الأولى. والأهم في اللفظ المركب “متجر المنتحرين” الوظيفة الإشهارية المحايثة مع المنزع التجاري السائد من جانب والغرابة الصافعة لذائقة المتابع من جانب آخر. ولايغادرُ الذهنُ مساحة الغلاف حتى تبدأُ حركة السرد في فضاء المتجر. لايُفصلُ الراوي في وصفِ المكان بل يهمهُ تقديم لمحةٍ عن أجوائه الغارقة في عتمةٍ لايخففها سوى أضواء واهنةٍ. ثمَّ ينتقلُ إلى مراقبة الشخصيات المتحركة في المتجر إذ تقتربُ سيدةُ مسنة من عربةٍ يرقدُ فيها رضيعُ تُعلقُ على ماتراهُ قائلةً “أوه إنَّه يبتسم” واللافتُ أنَّ الأمَ وهي صاحبة المتجر تعترضُ على كلام الزبونة موضحةً بأنَّ إبنها لايبتسمُ بل يعاني من تقلص في زاوية الفم ويستمرُ الحوارُ المسكون بالتوتر بين شخصيتين فيما تؤكدُ المرأةُ على صحة ما بدا لها ترفضُ صاحبةُ المتجر تصديقَ ماسمعتهُ معبرةً عن استغرابها لأنَّ الابتسامةَ في عائلة “توفاش” حالةُ غير مألوفة. وما يلبثُ حتى يتدخلَ ميشيما معايناً وجه الطفل بدوره ينكرُ أن يكون ابنه مبتسماً ومايظهرُ على وجهه ليس إلا تقلصات نتيجة عن مغص. ثُمَّ يكشفُ الحوارُ أنَّ الزبونة تريدُ إنهاء حياته منتحرةً لذلك ارتادت المتجر لشراء الحبل. وما من ميشيما جتى يسألها عن السقف هل هو عالٍ كفايةً مقترحاً عليها مترين من الحبل وهو من لحاء القنب. طبعاً هذا المشهد يعينُ منحى النص بوقعه الصادم وكسره لأفق التوقع عند القاريء المحدد خيالهُ بموجهات حساسية تابعةٍ لهوية مناخٍ إبداعي آخر. لاتغيبُ رشقاتُ ساخرة من مفاصلِ الرواية تفتتحُ الوحدة الثانية بتأنيب الأمِ لإبنها لأنَّ الأخير يودعُ الحرفاء بصيغة غير مناسبةٍ مع طبيعة المتجر فلايجوزُ القول للزبون إلى اللقاء لأنَّ من يمرُ على المكان لن يعودَ. وتسترسلُ صاحبةُ المتجر في ترشيح العبارات البديلة. ”إنَّه يوم سيء سيدتي “ أو “أتمنى أن تنتقل إلى عالم أفضل ياسيدي” يتمُ تداولها مكانَ “صباح الخير” كما لايصحُ بث الابتسامة بوجه رواد المتجر. وبذلك يتكونُ مُعجمُ خاص يعبرُ عن نفسيةٍ مستعدةٍ للانفصال عن الحياة. ينجحُ الكاتبُ في توظيفِ تقنية الحذف ينتقلُ في الوحدة الثانية إلى متابعة آلان الذي أثار الخلاف وهو رضيع بين والديه والزبونة بحركة وجهه إذ أصبح يتحركُ في المتجر غير أنَّه إبن عاقُ لايتقيدُ بمباديء العمل. ولاتفارقُ الإبتسامة وجهه لذلك رأت السيدة توفاش بأنَّ ارتداء الكمامة ربما يكونُ حلاً لهذه المشكلة. ولاتوافقُ اختيارات الإبن في الرسم مذاق الأم ولاتفهمُ ميله لرؤية الصفاء واللون الأزرق في السماء ويتجاهل الغيوم الداكنة والتلوث في البيئة. كأنَّ المناعة النفسية تحميه من اصطدام بالمرويات والمشاهد القاتمة وهو يسمعُ إلى الأخبارِ لايلفتُ انتباهه سوى عدد الناجيين من سقوط الطائرة. أو ظهور المذيعة بتسريحتها الجديدة وهكذا يخالفُ آلان بروحيته الإيجابية وإستماعه إلى الأغاني المرحة مايسودُ في الأسرة من أنفاس مُكتئبةٍ. تعترفُ لوكريشا بأنَّ إنجاب الأبن الصغير لم يكن ضمن البرنامج،لكن أبصر النور نتيجة سوء الإجراءات الطبية.

منتحرين

تحفلُ هذه الرواية بأسماء أعلامٍ تحيلُ إلى الانتحار فبدءاً من الأب ميشيما الذي يذكرُ بالأديب الياياني يوكو ميشيما مروراً باسماء الأبناء مارلين تيمناً بمارلين مونرو ومن ثم الابن البكر فانسان الذي يعيد بفان كوخ إلى مسرح الأحداث كذلك آلان لاينقطعُ عن السلسلة ينفضُ الغبار عن العالم البريطاني آلان تورنغ الذي انتحر بالتفاحة المسمومة. ومن الواضح أنَّ هؤلاء من نادي المنتحرين واختلفت لديهم الأدوات لطي سجل أيامهم وتتوالي مع مضي السرد عناوين الشوارع والمدارس والمطاعم التي تتقاطعُ مع سياسة المتجر الرامية إلى تقديم وصفات الانتحار يُشار إلى أن أثير الرواية يفيضُ بالحديث عن آليات الانتحار بالسمِ والسيف والحبل والرصاص والقوالب الاسمنتية المزودة بحلقةٍ تُغلقُ عند الكاحل تجرُ المنتحر الواقف على حافة النهر إلى الأعماق. ويرصدُ السردُ الفرق بين الرجل والمرأة في بعض تفاصيل الانتحار قد يكون الهراكيري يناسبُ المزاج الذكوري فيما تختارُ الأنثى الانتحار باستنشاق السم أو لمسه. والطريف في الأمر أنَّ اللحمَ المطبوخ في الأسرة لايكون إلا لضأن منتحر كما يطوعُ المشاعر العاطفية واللحظات الناضحة بالرومانسية لتوفير مزيد من فرصة الانتحار. إذ يمتدُ طابور الزبائن أمام مارلين لتمهرهم بقبلة مسمومة. باستثناء حبيبها حارس المقبرة إرنست لاتبادلهُ القبلة رفضاً لتواطؤ مع ملاك الموت. إذن فيما تضربُ السوداوية حصاراً على قصة المتجر فإنَّ إرادة الحياة لاتغيبُ فإنَّ ابتسامة آلان ونظرته إلى النصف الممتليء من الكأس تطعمُ الرواية بخفة وتتسربُ من خلال شخصيته الدعابة إلى مكانٍ ربما كان معبداً ومن ثمَّ شهد تحولاتٍ قبل أن يستقبلَ مرتاديه تحت يافطة جديدة “متجر مفتوح لمساعدتك على الموت” حققَ الكاتبُ توازناً في تغطية المزاجين المتنافرين دون أن يقعَ في مطب تدبيج العبارات الإنشائية عن التفاؤل ومايشدُ المتلقي إلى طينة النص هو مفاجأته بالانشقاق الذي يشهدُه منحى السرد وتغريد مختلفٍ في معزوفة الشخصيات والأماكن المطبوعة بدمغة الانتحار. لاتخلوُ وقائع الرواية من نفحات فانتازية وهذا مايجنبها من الرتابة. لاينزلُ منجز جان تولي في صف أعمال كابوسية أو لامعقول بل هو تفلسف مُضاد لإشكالية الانتحار.