تعب أوربي من الاستمرار في الحرب

Thursday 23rd of June 2022 12:23:10 AM ,
العدد : 5211
الصفحة : آراء وأفكار ,

 د. جاسم الصفار

وصل ثلاثة من قادة الدول الغربية الرائدة - فرنسا وألمانيا وإيطاليا – ورابعهم الرئيس الروماني إلى كييف، يوم الخميس 16 يونيو. ما هي أهداف هذه الزيارة، وما الذي دعا قادة غربيين كبار الى تنفيذها تضامنيا، في ظروف حرجة اقتصاديا وسياسيا تمر فيها أوربا، وهل سينجح ضيوف كييف في تحقيق ما سعوا اليه، وما هو موقف الثنائي الأنجلوسكسوني (أمريكا وبريطانيا) من هذه الزيارة؟

على الملأ، خلال الاجتماعات في كييف، قيلت كل الكلمات الضرورية، وتم تأكيد جميع الوعود السابقة.... ستتلقى روسيا عقوبات جديدة، وستحصل أوكرانيا دعمًا عسكريًا واقتصاديًا إضافيًا، وسيتم تسريع النظر في مسألة منح أوكرانيا الوضع الرسمي لعضو مرشح في الاتحاد الأوروبي، وما الى ذلك من تصريحات بروتوكولية لا تحرج زيلينسكي ولا تكشف عن الأغراض الحقيقية للزيارة.

من المرجح، بحسب عدد من المصادر الغربية، كانت هناك بالتأكيد أهداف أخرى للزيارة. وان الجزء الأهم وغير المعلن من المباحثات مع زيلينسكي كان عن إمكانية الشروع بمباحثات مع موسكو للوصول الى اتفاق سلام، حتى وان تطلب ذلك تقديم بعض التنازلات للطرف الروسي، وان تعذر ذلك فلا بأس في هدنة مؤقتة.

هناك سببان على الأقل لهذا العرض من جانب الضيوف الأوروبيين. أولاً، لا يسع قادة فرنسا وألمانيا وإيطاليا سوى القلق بشأن ديناميكيات الأحداث في ساحة المعركة. في الأسابيع الأخيرة، تحدث الغرب كثيرًا عن الخسائر المتزايدة للقوات المسلحة لأوكرانيا والنجاحات العسكرية للجيش الروسي وقوات دانيتسك ولوكانسك. ثانيًا، التحولات الناشئة في المزاج الشعبي في البلدان الأوروبية الكبيرة، حيث أصبح الإرهاق المتزايد من الصراع المستمر في شرق أوروبا، مصدر قلق أكثر فأكثر. إذا أدت هذه التحولات إلى انقسام في المجتمعات الأوروبية، فسيكون من المستحيل الحفاظ على الإجماع الحالي بشأن القضية الأوكرانية على مستوى النخبة.

وتجدر الإشارة الى إن الاتحاد الأوروبي بحاجة ماسة إلى تحسين فوري في امدادات الطاقة. وهذا ما لا يمكن أن يحصل دون اذابة الجليد في العلاقات مع موسكو بعد موافقة زيلينسكي على وقف الأعمال الحربية والاستسلام لشروط المنتصرين، على أن يتم ذلك بسرعة. فقد أصبح إيقاف صيانة نورد ستريم 1، الذي بدأته شركة غازبروم، تذكيرًا لأوروبا بالأزمة المنتظرة بعد انتهاء الصيف. خاصة وان في 8 يونيو، وقع انفجار وحريق في مصنع فريبورت للغاز الطبيعي المسال على خليج المكسيك، والذي كان يوفر حوالي 20٪ من صادرات الغاز الطبيعي إلى أوروبا من الولايات المتحدة. وستستمر أعمال الإصلاح هناك حتى نهاية العام. كل شيء يتجه نحو حقيقة أن الوعود الأمريكية بملء أوروبا بالغاز ستذهب هباءً تدريجياً، مما دعا مجلة “دير شبيغل” الألمانية الى التساؤل عن نتيجة الانغماس في الغوغائية على خلفية العقوبات الغربية الشاملة ضد روسيا.

لا يستبعد المراقبون أن يفشل الضيوف في اقناع زيلينسكي ببدء عملية مصالحة مع موسكو، تقضي على مستقبله السياسي وترفع عنه الحماية الامريكية البريطانية. توقع فيكتور أندروسيف، مستشار وزير الداخلية الأوكراني، علانية وبنبرة ساخطة أن الضيوف سيقدمون “طلبًا للعودة إلى المفاوضات مع بوتين”. وفي يوم الأربعاء - عشية زيارة القادة الأوروبيين إلى كييف - دعا القائد السابق للقوات المسلحة لحلف شمال الأطلسي في أوروبا ويسلي كلارك الحلف إلى التدخل المباشر في الصراع في أوكرانيا.

ولم يكن الجنرال الأمريكي المتقاعد وحيدا في رأيه. فقد وجهت دعوة مماثلة يوم الأربعاء من قبل نائب رئيس الوزراء البولندي للشؤون الأمنية، ورئيس حزب القانون والعدالة الحاكم والزعيم الفعلي للبلاد، ياروسلاف كاتشينسكي. في مقابلة مع صحيفة Gazeta Polska، قال إنه بدون تدخل الناتو المباشر لن يكون من الممكن إيقاف روسيا في أوكرانيا، وهذا سيعني إخفاقًا تامًا للغرب الجماعي بأكمله، مؤكدا أنه “يرجى الأخذ في الاعتبار أن هزيمة الغرب، وفي المقام الأول أمريكا، في أوكرانيا ستكون شيئًا أكثر خطورة من فيتنام، ناهيك عن أفغانستان».

يدرك الغرب أنه إذا لم يتغير مسار الأحداث في أوكرانيا، فإن الصراع سيؤدي حتمًا إلى هزيمة كييف عسكريًا. لذلك، فإن الساسة الغربيون يجتهدون بحثًا عن كيفية تجنب ذلك، “كما يقول ستانيسلاف تكاتشينكو، الأستاذ في قسم الدراسات الأوروبية في كلية العلاقات الدولية في جامعة سانت بطرسبرغ. وبحسبه فإن النخب السياسية الغربية، بشكل عام، تعارض خططًا مثل تلك التي اقترحها كاتشينسكي وكلارك.

يشار إلى أن الشخصيات الأولى من دول الناتو أصدرت يوم الأربعاء بيانات اعترفت فيها بشكل أساسي بأنه من العبث الاعتماد على انتصار أوكرانيا في حربها مع روسيا. يذكر أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كان قد صرح بأن على رئيس الدولة الأوكرانية، فلاديمير زيلينسكي، أن يبدأ مفاوضات مع روسيا. “أنا على اتصال دائم مع زيلينسكي ... وكررت أننا، نحن الأوروبيين، نشترك في قارة واحدة، والجغرافيا عنيدة، ولن تذهب روسيا إلى أي مكان بعيد عن هذه القارة، فهي جزءًا منها. روسيا قوة قوية، لذلك، لم أشارك مطلقًا في النهج الذي بموجبه يتعين علينا اليوم أن نبدأ حربًا مع روسيا «.

الألمان، من جهتهم، يؤيدون الحوار مع روسيا. وفقًا لاستطلاع حديث أجراه معهد فورسا Forsa، يعتقد 83٪ من المستطلعين في ألمانيا أن المستشار أولاف شولتز يحتاج إلى مواصلة الحوار مع الزعيم الروسي فلاديمير بوتين. كما أظهرت نتائج دراسة حديثة أخرى أجراها المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أن 35٪ من الأوروبيين يرغبون في “سلام مبكر في أوكرانيا”، وأن ما لا يزيد عن 22٪ من الأوروبيين الذين شملهم الاستطلاع يؤيدون استمرار الحرب.

يوم الثلاثاء 14 يونيو، أعرب أليكسي أريستوفيتش، مستشار رئيس مكتب الرئيس الأوكراني، عن أسفه لأن الغرب يضع لنفسه “أهدافًا أقل طموحًا” فيما يتعلق بروسيا مما كان عليه قبل شهرين. وأشار إلى أن رئيس البنتاغون، لويد أوستن، دعا وقتها إلى هزيمة الجيش الروسي. حقيقة أن نتيجة الحرب سوف يتم تحديدها “على أرض المعركة” قالها أيضًا سياسيون غربيون كبار آخرون - من رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إلى رئيس دبلوماسية الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل، على افتراض أن أوكرانيا هي التي ستنتصر فيها.

وبحسب أريستوفيتش، نقلاً عن موقع Strana.ia، فإن كل شيء يُفسَّر بالمعارضة الداخلية في الغرب، بعد أن وصلت العقوبات الغربية الى حدها الأعلى وأصبحت عبئاً ثقيلا على الاقتصاد الأوربي، فضلاً عن الوصول الى قناعة بأن دول الناتو غير قادرة على توفير تدفق الأسلحة اللازمة لأوكرانيا.

وإذا كان بإمكان القادة الأوروبيين التردد والبدء في الميل نحو نوع من التسوية، فلن يكون لدى الرئيس الأمريكي جو بايدن، على الأقل حتى انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر، أي سبب لتغيير موقفه المتشدد الحالي في الصراع الروسي الأوكراني. وهو يدرك تماما، أن خصومه السياسيون ينتظرون ذريعة لاتهامه بأنه مستعد “لتسليم” أوكرانيا لبوتين، تمامًا كما “سلم” أفغانستان إلى حركة طالبان.

أما بالنسبة لبريطانيا، فإنها، بلا شك، ستزيد بشكل حاد من دورها في مواجهة الغرب مع روسيا. قال رئيس الوزراء بوريس جونسون إن الصراع بين أوكرانيا والاتحاد الروسي يمكن أن يكون طويلاً، ولن ينتهي الا بشروط أوكرانية.

بعد زيارته غير المخطط لها سابقا الى كييف، والتي قام بها مباشرة بعد مغادرة قادة أوربا العاصمة الأوكرانية، حث جونسون في مقال نشره في الصانداي تايمز الغرب على ألا يتعب من أوكرانيا، مؤكدا، في المقال، على أن الصراع مع روسيا يمكن أن يكون طويل الأمد، ولكن لا ينبغي بأي حال أن ينتهي بالشروط الروسية - وإلا فإن إراقة دماء جديدة أمر لا مفر منه، ولكن خارج أوكرانيا. وفقًا لجونسون، يجب على الغرب حل ثلاث مشاكل اساسية. أولا، من الضروري تزويد الجيش الأوكراني بالأسلحة والذخيرة اللازمة. ثانيًا، يجب على الغرب مساعدة أوكرانيا ماليًا حتى تستمر مؤسسات الدولة في العمل. وأخيرًا، من الضروري ضمان نقل القمح والذرة الأوكرانيين برا وبحرا.

تبدو مقالة جونسن وكأنها نوع من الحوار غير المباشر مع مؤيدي النهج الواقعي في الاتحاد الأوروبي - فرنسا وإيطاليا وألمانيا. في الوقت نفسه، فإن مقال رئيس الوزراء البريطاني موجه إلى قمة الناتو المقبلة في نهاية الشهر، والتي يتوقع فيها مناقشة زيادة المساعدات الى أوكرانيا.

أخيرا، يبدو، من متابعتي لمسار الاحداث في روسيا وأوكرانيا في أبعادها العسكرية والسياسية والاقتصادية، أن روسيا هي التي ستقرر بنفسها، أين ومتى ستضع حدا لهذه الحرب، وأنها مصممة على أن تنجزها وفقا لشروطها الخاصة. وهي تدرك تماما، إن هزيمة الغرب الجماعي في “حرب الاستنزاف”، كما أطلق عليها الرئيس بايدن اليوم 21 يونيو، ستفتح الباب على تغيرات كبيرة في دول التحالف الغربي.