مرجعية النجف الدينية وقوة تأثيرها بعد 2003

Tuesday 28th of June 2022 11:00:47 PM ,
العدد : 5215
الصفحة : آراء وأفكار ,

 حيدر نزار السيد سلمان

يضيف الاضطهاد والظلّم والتهميش إلى الجماعة تماسكًا وقوّة, ويشدّ أفرادها إلى هويّتهم المميّزة كهويَّة فرعيَّة رابطًا من الشعور بالحماية والروح التضامنية والاتساق مع الإرادة العامِّة لهذه الجماعة حتى في ما يتعارض مع آيديولوجيَّته السِّياسيَّة والفكريَّة,

ويتجاوز في خضوعه للنسقية الجماعيَّة تطوره الثقافيّ والعلميّ ورؤيَّته المختلفة للعالم والآخر المتناقضة مع رؤيَّة الجماعة سيَّما في مجال العقيدة الدِّينيَّة المذهبيَّة, وينضمّ الفرد للجماعة والخضوع لهيمنة رمزياتها الثقافيَّة والدِّينيَّة والاندكاك بطقوسها المعبِّرة عن روحها وتأريَّخها العقائدي وجامعها المشترك رغم علمانيَّته وحداثة فكره وسلوكه أو رغم عدم إيمانه بالكثير من متبنيات الجماعة العقائديَّة والطقوسيَّة غير أن الشعور بالتمييز والإقصاء على أسس عصبويَّة تقليديَّة تمارسها السلطة وتعتمدها في تصرفاتها كمعايير للترقي والنفاذ ضمن التراتبية الاجتماعيَّة, والمشاركة في إدارة السلطة والشأن العامّ واستبدال موازين العدالة والمساواة, ومبادئ المواطنة والفضاء الوطني الجامع بالروابط التقليديَّة كالدِّين والمذهب والقبيلة والمنطقة كلّها عوامل باعثة على التراجع والانكفاء نحو الجماعة بوصفها ضامنًا تعزِّزه المشتركات في تحمل عبء التمييز والظلّم وطبقًا, ولذلك يتبلور الشعور الجماعيّ بالتوحد والقبول بالرمزيات والمواقف والمتبنيات والسير مع الجماعة حفاظًا على الهويَّة من جانب, وكموقف دفاعي والبحث عن حلول نابذة للظلّم والاضطهاد من جانب آخر, وهذا يشمل أفراد الجماعة التي أقصيت عن المشاركة السِّياسيَّة والتعبير الثقافيّ والناقمين على ما تعانيه جماعتهم .

كان شيعة العراق قبل ٢٠٠٣ يشكِّلون وحدة اجتماعيَّة متماسكة إلى درجة صريحة من الصلابة والتكتل الجماعيّ المعبِّر عن هذا التوحد بالمشاركات في النشاطات الطقوسيَّة, والأمل بتغيير الأوضاع السِّياسيَّة والسخط على النظام السياسيّ ومقاطعة فعالياته على نواح عدّة والأهمّ في هذا الاندكاك بالجماعة يتمظهر بالالتفاف خلف المرجعيَّة الدِّينيَّة ممثِّلة بالمرجع الأعلى في النجف بوصفه يمثَّل الوجدان الشيعيّ, ورمزيَّة الجماعة في اتخاذ المواقف والتفسيرات لمختلف الشؤون, فهي المعبِّر عن تطلعاتهم ورؤيَّتهم للعالم وللسلطة وللآخر ، وبكلِّ الأحوال كانت المرجعيَّة الدِّينيَّة قائدًا وروحًا أبوية تشمل الشِّيعة بالإرشاد والتوجيه والنصح والرعاية بدلالة فقدان القيادات السِّياسيَّة والتنظيمات الممثِّلة للشِّيعة في ظلِّ أنظمة سياسيَّة متهمة بالطائفيَّة مرة وحكم الأقلية مرة أخرى، ولعلَّ هذا وغيره جعل من المرجعيَّة ملاذًا ووسيلة للخلاص الدنيوي والتعامل مع المستجدات والحوادث الواقعة ( مع النظر إلى الطابع الوطنيّ الذي سارت عليه ورسخته في الوعي العامّ بخطابها ذي الإطار العراقيّ ومواقفها وفتاواها ). واستندت هذه الروابط على خاصيَّة التقليد الشيعيَّة بصيغتها المؤكّدة على التضامن والطاعة والرجوع للمرجع الدينيّ بكلِّ شؤون الحياة, والمثير أنَّ علمانيّين ويساريين كانوا من المصغين للمرجعيَّة في الكثير من المواقف .

وطبقًا لما سبق من وصف تلخيصي لحال مرجعيَّة النجف الدِّينيَّة قبل ٢٠٠٣ فإنَّ ما سيؤول إليه الحال بعد هذا التَّأريِّخ حسب منطق التساؤل والمقاربة الزمنية يظهر لنا التحولات السِّياسيَّة التي ألقت بظلالها على أوضاع مرجعيَّة النجف الدِّينيَّة حيث تحول الشِّيعة من حال الإقصاء والتهميش إلى أهل سلطة وحكام للبلاد، وبعيدًا عن تداعيات الحكم ومسيرته المتعثرة فإنَّ سمات الجماعة التضامنية تراجعت كثيرًا وتفككت عدّة روابط وعُرى بينها وبين مرجعيَّة النجف, وحلَّ الاختلاف بالمواقف محلَّ التوافق, ومن الممكن القول أنَّ المدّة الزمنية التي تعيشها المرجعيَّة بعد ٢٠٠٣ هي أصعب المراحل بتأريَّخها أمام التحديات الجديدة التي لا بدَّ لها من التدخل فيها وإعطاء رأيها بالأحداث كناطق تأريخيّ باسم الجماعة. ومن نافل القول أنَّ البروز الواسع للأحزاب والتيارات السِّياسيَّة الشيعيَّة أضعف دور المرجعيَّة, وظهرت كمنافس لتمثيل الجماعة رغم ادعاءاتها بطاعة النجف وتطبيق رؤيتها, بيد أنَّ تشكل المصالح السِّياسيَّة وإرادة الاستئثار بالسلطة, وعمل هذه الأحزاب لمصالحها الخاصّة جعلها تبتعد كثيرًا عن السيِّاق المعهود في الأخذ برأي وإرشادات المرجع الدِّينيّ بل ومخالفته بغطاء براغماتيّ إذا تعارض مع مصالحها. وفي هذا السيِّاق يمكن سرد عشرات الأمثلة الدّالة على التعارض، وبكلِّ الأحوال ألحقت التحولات الجديدة ضررًا بموقع مرجعيَّة النجف الدِّينيَّة وهي التي كانت مرهوبة الجانب ومهابة من الأنظمة السِّياسيَّة المتعاقبة التي كانت تخشى من مواقفها, وتتودد لها بغية تحييدها خشية من قاعدتها الجماهيريَّة الصلّبة بفعل تأثيرها الروحي على الرغم من الاختلاف المذهبي مع هؤلاء الحكام وبغضهم لها لكن كانوا واقعيين بادراك لقوتها الشعبيَّة .

زاد من الثلم الحاصل بعد ٢٠٠٣ تصدير عدد ليس بالقليل من الأشخاص أنفسهم كمراجع دين رغم عدم كفاءتهم الفقهيَّة والعلميَّة. لكن الانفتاح الكبير ساهم في ظهورهم بالإضافة إلى نزعات الترؤس والقيادة الدِّينيَّة, والارتباطات السِّياسيَّة لهؤلاء بقوى سلطوية أو كداعمين آيديولوجيين للسلطة، فتشتت المقلدون بينهم والأقسى من ذلك التناقضات الفكريَّة الخطيرة بينهم حول قضايا تعدّ من صُلب العقيدة الشيعيَّة كمسألة التقليد مثلًا ، وأنتج هذا كلَّه تآكلًا في جسد الجماعة وروحها التضامنية, وتحول الولاء ليس على الأساس العقائديّ والشعور الواحد بالمظلومية ومواجهة سطوة السلطة بل على أساس المصالح عند الكثيرين, والأخطر من هذا يتمثل بالمقاربات غير المنصفة بين مرجعيَّة النجف والسلطويين الشِّيعة الذين لحقت بهم وسمعتهم شوائب الفساد, واستغلال وظائف السلطة لأغراض المنافع الشخصية والحزبية, وتأتي هذه المقاربات عند الكثير من الناس رغم تأكيدات المرجعيَّة وبياناتها الناقدة للسلوك السياسيّ لهؤلاء ورفضها لهم, ومقاطعتهم ووقوفها الصريح القوي إلى جانب الاحتجاجات الشعبية ضدّ أهل الحكم ونفورها من تصرفاتهم ولعناتها على إخفاقاتهم .

دائمًا ما تثار تساؤلات حول عدم اتخاذ المرجعيَّة الدِّينيَّة لمواقف معينة أو مطالبات شعبية داعية لتدخلها في قضايا خطيرة أو اجتماعيَّة, وهذا نابع من الثَّقافة التي كرَّست المرجعيَّة كراع أبوي في فترات التهميش والظلّم, وصوت لضمير الجماعة بيد أنَّ العارف بالمبادئ العامّة التي تستند عليها مرجعيَّة النجف وفلسفتها الفقهيَّة يدرك خطورة تدخلها المانع لها من التدخل فهي لا تريد أنْ تؤسس لولاية فقيه عامّة شموليَّة للمستقبل, وفي الوقت نفسه تنهل من تأريِّخها الطويل الذي يزودّها بخبرات من الحكمة والعقلانيَّة والحذر التأني فالتَّأريِّخ أوجد ميراثًا من الحذر يعتمد عليه سلوكها في القضايا العامّة ومواقفها سيَّما في المجال السياسيّ, وقد يظهرها الحذر بمظهر اللامبالاة غير أنَّها تتابع وتراقب بدقة .

ما يمكن قوله أنَّ تبوأ الشِّيعة للسلطة أضعف فيهم روح الجماعة من جانب. وأضعف من الالتفاف المبهر خلف المرجعيَّة الدِّينيَّة وتماسكهم من جانب آخر. ويعود السبب في جزء من هذا الحال الى إخفاق أهل الحكم من جميع المكونات سيَّما الشِّيعة ببناء دولة عادلة صالحة بمؤسسات حاكمة فاعلة وازدهار اقتصادي وسيادة مبادئ العدالة والمساواة والمواطنة, وهي المطالب التي كانت ولا تزال تُرشد بها مرجعيَّة النجف بإلحاح وتفان, بالإضافة الى اعتماد القانون في حلِّ الخلافات وهو ما لم يحصل فاندفعت القوى السلطوية في صراعات مدمرة بحثًا عن مصالحها ومراكزها السلطوية, وبالمقابل ألحقت أضرارًا كبيرة بمرجعيَّة النجف الدِّينيَّة وموقعها ، واستغل بعض السياسيين وهم الضعف هذا وأصبحوا أكثر مراوغة واحتيال لاستغفال الجمهور المنقسم بالولاء بين مرجعيَّة دينيَّة, وبين أحزاب وقوى سياسيَّة سلطوية استعملت المال والنفوذ لإنشاء علاقة تخادم زبائنية انسل فيها جمهور غير قليل من هيمنة مرجعيَّة النجف الدِّينيَّة ليقع تحت هيمنة أحزاب تنافسها بفرض الهيمنة والخضوع, وترى في هذه المرجعيَّة عقبة أمام طموحاتها وغرائزها السلطوية ساعدها في ذلك ولاءاتها الخارجيَّة ممَّا أوهم السلطويين الشِّيعة أنَّ مرجعيَّة النجف فقدت قوّة تأثيرها مقابل ضعف استجابة الجمهور لها بيد أنَّ هذا وهمٌّ عظيم تدفع ثمنه أحزاب السلطة من خلال تآكل في قواعدها الشعبيَّة ومنطلقاتها الاجتماعيَّة ، فالمرجعية تبقى ذات تأثير فعال ومالكة قدرة على الاستجابة للتحديات.