باليت المدى: حين تَبعتُ العربة

Sunday 3rd of July 2022 11:14:56 PM ,
العدد : 5218 (نسخة الكترونية)
الصفحة : الأعمدة , ستار كاووش

 ستار كاووش

هل فكَّرَ أحدكم بالمشي في طريق قطعهُ رجلٌ مهم قبل أربعة قرون؟ والمفارقة إن هذا الرجل، قد قطع الطريق في حياته وبعد مماته أيضاً! كيف حدثَ ذلك؟ سأحدثكم عن هذا الأمر بعد أن عزمتُ على القيام بهذه المحاولة وقررتُ الإمساك باللحظات الأخيرة للرسام روبنز، الذي وقفتُ بالضبط بمحاذاة السرير الذي توفي فيه،

ثم تَتَبعتُ الطريق من لحظة خروج نعشه من البيت وصولاً للمكان الذي دُفِنَ فيه في ذلك الزمن البعيد. هكذا كانت محاولتي بملاحقة هذه الفترة التي مرَّ بها الرسام بعد وفاته مباشرة. فتحتُ الخارطة الصغيرة التي بحوزتي، ورأيتُ إن الطريق يمكن مشيه خلال نصف ساعة، إضافة الى إن النهار كان في بدايته، والوقت مازال سانحاً للقيام بهذه الجولة. ودعتُ السرير الأحمر الفارغ في بيت الفنان روبنز، ووقفتُ أمام باب مرسمه متأملاً الساحة المكتضة بالناس، وتخيلتُ كيف خرج نعشه من هنا قبلَ أربعمائة سنة، يحيط به صديقه الرسام فان دايك من جانب، ومن الجانب الآخر وقفَ الفنان جودران بشعره الطويل وقامته المديدة. نظر الرسامان الى بعضهما ومدّا يديهما لتحسس نعش صديقهما واستاذهما الكبير تتبعهما زوجة الرسام وأبناءه وبناته، ووقفَ عمدة مدينة أنتفيربن مطأطيء الرأس، ماسكاً قبعته السوداء بيديه، في حين تجمع الكثير من الرسامين ومحبي روبنز لوداعه الأخير، هكذا تخيلتُ مشهد المدينة التي وقفت كلها في وداع الفنان العظيم وقررت المضي مع هذه المجموعة وأنا أتقمصُ شخصاً بملابس تعود لطراز القرن السابع عشر. وكي يكتمل المشهد المهيب، تخيلتُ أيضاً كيف وضعوا نعش الأستاذ في عربة تجرها أربعة خيول فريسلاندية سوداء بلونها الفاحم وحوافرها التي تحيطها لبدة من الشعر الأسود، لتمضي العربة المحاطة بإكليل كبير من الزنبق الأبيض نحو الكنيسة. تَبَعتُها بنظراتي ببطئ ثم مضيتُ في أثرها وهي تسير على ذات الطريق الذي سارت فيه قبل أربعة قرون. ولحسن الحظ فإن طُرُق المدينة وجاداتها مازالت هي ذاتها تقريباً منذ ذلك الوقت. بقيتُ أتتبع العربة، لأعطفَ بعد بضع دقائق الى جهة اليسار، مشيتُ قليلاً ليفضي الشارع الى ساحة خرونبلاتس التي تُسورها بعض المصاطب الخشبية. وظهرت المفاجئة حين داهمني في عمق الساحة تمثال روبنز ذاته، بمعطفه الذي علَّقهُ على أحد كتفيه، باسطاً يده وكإنه يرشدني الى الطريق المؤدي الى مكانه الأخير، هكذا بدا الفنان واقفاً بقوة وثقة وطمأنينة، حتى خلته بوقفته الترفة ويده المفتوحة، كإنه ينتظرني في هذه المدينة القديمة ويتأكد من إني أسير في الطريق الصحيح، وسط المدينة التي جعلها قبلة لمحبي الفن والتاريخ والثقافة والكمال الجمالي. حييتُ الأستاذ وقلت له، إطمئن أنا أعرف الطريق، قبلَ أن أُكمل سيري نحو الكنيسة. وما أن خطوتُ بضع خطوات، حتى داهمتني رائحة القهوة المنبعثة من مقهى قديمة فَرَشَتْ طاولاتها في باحة جانبية تظللها أشجار التفاح ومظلات زرقاء واسعة، وخلفَ إحدى الطاولات إجتمعت مجموعة من النساء المكتنزات مع شرابهن المفضل، فإبتسمتُ لهذه المصادفة وأنا أردد مع نفسي كلمة (روبنيانز) وهي كلمة شائعة مشتقة من إسم روبنز يطلقها الهولنديون على النساء الممتلئات اللواتي يشبهن نساء روبنز المتوهجات، فإخترتُ طاولة دائرية صغيرة وجلستُ أتصفح الكتيب الذي جلبته معي من بيت هذا الفنان العظيم، فيما أحضرت النادلة بعد لحظات فنجان كاباتشينو وقطعة من كعك (بوتر كوك) الشهير في بلجيكا. بعد هذه الإستراحة القصيرة، مضيتُ أتتبع العربة الهلامية التي تلاشت مع التاريخ، لأصل الى ضريح روبنز، الذي إختاره بنفسه ليكون المثوى الأخير له ولأفراد عائلته. دخلتُ فوجدتُ نفسي وسط فضاء واسع مليء بالأعمال الفنية التي توزعتْ على الجدران والسقوف وحتى الأرضيات، وحوَّلَتْ المكان الى متحف مهيب، مثل أغلب الكنائس الكاثوليكية التي تهتم بالرسم والايقونات والنحت والتزيين والفن بشكل عام، خِلافَ كنائس البروتستانت التي لا يعني لها الرسم والنحت والزجاج المعشق بالرصاص شيئاً، ولم تكتفِ بذلك بل كانت تعتبر ذلك بدعة وحطمت الكثير من الأعمال الفنية التي في الكنائس الكاثوليكية، ومنها هذه الكنيسة التي هُشِّمَتْ الكثير نوافذها الزجاجية الملونة بالرسومات وكذلك حصلَ مع التماثيل والعديد من اللوحات قبل سنوات بعيدة. لم أتتبع التسلسل الطبيعي لمشاهدة المحتويات كما يفعل باقي الزائرين، بل توجهت مباشرة نحو المكان الخلفي الى اليسار، وهناك ظهر ضريح روبنز، الذي عُلِّقَتْ فوقه واحدة من لوحاته، ولهذه اللوحة حكاية أيضاً، حيث كلفه برسمها أحد الأشخاص، لكن بعد الانتهاء من الرسم لم يحضر الشخص الذي دفع تكاليف اللوحة، لِتَظلَّ في المرسم كل السنوات الباقية من حياة روبنز، الذي تعوَّدَ على رؤيتها وصارت قريبة منه، حتى أوصى بأن تُعلَّق فوق ضريحه، وهذا ما يفسر قياسات الجدار المعمول بعناية ليناسب تماماً قياس اللوحة. مكثتُ بعض الوقت أتأمل النهاية الخالدة لهذا الرجل الذي أَحَبَّهُ كل الفنانين، وتجولتُ قليلاً في المكان، تأملت النوافذ الملونة التي تجاوز إرتفاعها عشرة أمتار، ووقفتُ أمام الكثير من اللوحات والإيقونات. بعدها إتجهتُ نحو رجل ستيني يعمل هناك، كان قد قضى معي ساعة كاملة للحديث عن تاريخ هذا المكان. ورغم إنه كان منشغلاً مع مجموعة من الزائرين، لكنه إستدار بمودة حين إقتربتُ منه، فمددتُ له يدي مصافحاً وشاكراً لحديثه الشيق. وقبل أن أخطو نحو الخارج، توجهتُ نحو طاولة جانبية، إستقرَّ عليها صندوق صغير يشبه الحَصّالة، ووضعتُ فيه بعض النقود التي ستذهب للأعمال الخيرية، حسب ما مكتوب على الكارت الموجود على الطاولة.