الدبلوماسية العراقية بعد 2003: إعادة توجيه أم ضياع البوصلة؟

Tuesday 9th of August 2022 11:54:43 PM ,
العدد : 5239 (نسخة الكترونية)
الصفحة : آراء وأفكار ,

 حسن الجنابي**

(الحلقة- 12) *

هناك من يعتقد، وقد يكون محقّاً، بأن النية لضرب العراق وتحطيم قدراته العسكرية كانت مبيّتة. ولكن هذا لن يبرر منح الفرصة للمتربصين بالعراق «على طبق من ذهب» والمقامرة والتعنت أمام أكبر تعبئة عسكرية لأكبر قوة في العالم جرت أمام الأعين وليس في الخفاء.

وهي الى جانب كونها حملة كانت تتمتع الى حدّ ما بغطاء الشرعية الدولية، فقد تجحفلت لديها جيوش من حوالي 35 دولة بضمنها 9 دول عربية (السعودية ومصر والمغرب وسوريا وقطر البحرين وعمان والإمارات والكويت) بلغ تعداد أفرادها (750) الفاً، وتحت إمرتها (1800) طائرة حربية و(3600) دبابة وأكثر من (150) قطعة بحرية وأغلب تلك القطع تستخدم أحدث ما انتجته التكنولوجية العسكرية حينها.

صحيح ان الولايات المتحدة وبدعم بريطاني حاولت استصدار قرار أممي جديد من مجلس الأمن الدولي بتخويل الحرب قبيل انتهاء المدة التي حددها قرار 678، ولكن التلويح الفرنسي وكذلك الروسي، باستخدام حق النقض، قوّض المحاولة الأمريكية برغم حصولها على تأييد ثلثي عدد أعضاء مجلس الأمن آنذاك، فاكتفت بما تضمنه نص القرار 678. ولو استمر الضغط الأمريكي حينها وأستخدم حق النقض لكان من شأنه ان يضع ما يعتقد أنه شرعية الحرب وفق القرار 678 نفسه تحت الإستفهام.

وللأمانة فقد أخبرني أحد الدبلوماسيين المطلعين حينها بأن الموقف الروسي والفرنسي المعارض للحرب لإخراج القوات العراقية من الكويت كان مقابل وعود نفطية مغرية، جرى توقيعها مع الجانب الروسي ولم توقع مع الجانب الفرنسي في انتظار رفع العقوبات الإقتصادية عن العراق. وهو يعتقد بأن التطمينات الفرنسية والروسية ساهمت بتعنت صدام حسين وعدم انسحابه في المدة المحددة بقرار 678.

أما بخصوص الرأي أو الافتراض القائل بأن العراق لم يكن قادراً على سحب قطعاته بكاملها ضمن الوقت المحدد في القرار678 لسنة 1990، خوفاً من ضربها أثناء الإنسحاب وتدميرها، فقد كان من شأن الإعلان عن النية في سحب تلك القوات، وحتى في اللحظات الأخيرة من منتصف ليلة 15 كانون الثاني عام 1991 أن يغير، ولا نقول يوقف، الحراك الهائل والسعي نحو الحرب، وكان سيضع غطائها الشرعي تحت الشكوك. وبالنتيجة فقد كانت القوات العراقية بكل صنوفها صيداً سهلاً وهي منتشرة في مواضعها، ولم تسجل اشتباكات خطيرة مع القوات الأمريكية خلال الحرب. أما ضربها على الطريق الجنوبي السريع أثناء انسحابها في نهاية الحرب فقد يصنف باعتباره جريمة حرب لأنها كانت بحكم المستسلمة ولا تمثل خطراً على الأطراف المشتركة بالقتال، وهنا باعتقادي برزت النية المبيتة في تحطيم الجيش العراقي، بدل ان يكتفى بتصفية صدام حسين نفسه لوضع نهاية للخطر الذي كان يمثله على السلم العالمي.

وبدون الخوض التفصيلي بشأن “مشروعية” قصف قوات التحالف المدمر للقوات العراقية المنسحبة (أقرأ المهزومة أيضاً) فإن القانون الدولي الإنساني، واتفاقيات جنيف الخاصة جزء أساسي منه، وهي تعنى بتغطية الحروب وواجب حماية الأسرى والمدنيين وجميع الأشخاص الذين لا يمثلون خطراً في الأعمال العدائية، وتهدف الى تجنب همجية الحروب وحماية اؤلئك الذين توقفوا عن المشاركة في الحرب. ومن الواضح بان القوات العراقية المنسحبة من الكويت لم تعد مشاركة بالحرب وقد القت سلاحها او تركت الأسلحة وانسحبت. ولذلك فأنا اعتقد، وبرغم المسؤولية التي لا لبس فيها التي يتحملها صدام حسين عن جريمتي احتلال الكويت والحرب، فإن الهمجية التي أظهرتها قوات التحالف في تدمير الفرق العسكرية والأفراد المنسحبين تمثل انتهاكاُ صارخاً لقوانين الحرب التي تنظمها اتفاقيات جنيف 1949.

من المستغرب، بل الأكثر غرابة، ما ورد في مذكرات جيمس بيكر، على لسان الأمير بندر بن سلطان سفير السعودية في واشنطن حينها، هو الخوف السعودي من نجاح مبادرة الفرصة الأخيرة لجورج بوش التي كانت قد تسفر عن سحب القوات العراقية من الكويت، مما يعني بقاء القدرات العسكرية العراقية دون تدمير. لذلك سعى السفير السعودي، المتنفذ كثيراً في واشنطن، الى ثني جيمس بيكر عن زيارة بغداد المقترحة واللقاء بصدام حسين، كجزء من مبادرة جورج بوش، وتخويفه من إحتمال قيام صدام حسين بإحتجازه رهينةً في بغداد. ويقرّ جيمس بيكر بأن استعداده لزيارة بغداد كان قد تضاءل كثيراً بعد لقاءه مع بندر بن سلطان!

من غرائب السياسة في المنطقة العربية المبتلاة بكل عوامل التوتر والصراعات، وعلى خلفية الصراع العربي الإسرائيلي وانتهاك الحقوق الفلسطينية، هو أن حجم التآمر العربي كان فاقعاً وكبيراً ضد نفسه، إن صح التعبير. فالدول “الثورية” التي حكمها انقلابيون عسكر بشعارات القومية وتحرير فلسطين ومعاداة الغرب، كانت منهمكة في القتال والتنافس في أكثر من ساحة بين بعضها البعض الآخر ، كالعراق وسوريا وليبيا، الى جانب صراعها الإيديولوجي والسياسي مع الدول المحافظة والملَكية، ومع مصر السادات بعد زيارة القدس وما تبع ذلك.

وعند إندلاع الحرب العراقية-الإيرانية “لحماية البوابة الشرقية” مولّت الدول المحافظة، دول الخليج بالأخص، تلك الحرب وفتحتْ لها خزائنها وموانئها ومطاراتها فاستمرت الحرب ثمانية أعوام كمحرقة بشرية دون تحقيق شيء ملموس على الخارطة عدا الخسائر البشرية والمادية. وأن الممولين العرب للحرب العراقية-الأيرانية هم أنفسهم من قام بتمويل حرب التحالف الدولي ضد العراق لتحرير الكويت. ويورد جيمس بيكر في مذكراته بعض الأرقام عن تمويل الحرب لعام 1991 منها تمويل سعودي بلغ (1.1) مليار دولار شهرياً إضافة الى مليار و800 مليون مساعدة لتركيا وصناعاتها الدفاعية على مدى خمسة سنوات، و(800) مليون دولار مساعدة الى دول اوربا الشرقية لتعويض ارتفاع اسعار الطاقة بسبب الحرب، وتمويل كويتي بلغ (400) مليون دولار شهريا كلفة مباشرة لبقاء القوات في الصحراء، الى جانب (950) مليون دولار الى تركيا ودول شرق اوربا... وغير ذلك.

كانت الدبلوماسية العراقية منذ احتلال الكويت حتى سقوط نظام صدام حسبن فاشلة بامتياز. قد لا يعود هذا الفشل لضعف في الإمكانيات، وهو وارد نتيجة قَصْر الوظائف على الحزبيين والموالين، بل يرتبط أساساً بطبيعة الحكم الدكتاتوري الذي انعدمت فيه أية نافذة حرة للتفاعل من خلالها مع آراء صدام حسين الحَجَرية بشأن العالم والأحداث. فهو لا يسمع إلا نفسه، وأتخيله يعطي تعليماته الباتة والقاطعة مرّةً واحدة وبصورة لا تشي بأن أمرها قابل للمراجعة. ومع الأجواء الأمنية المحيطة به والمعنية بحراسته، ربما حتى من الهواء، فإن خوف القائمين على تنفيذ أوامره من العودة اليه لتغيير رأيه النافذ يكون متوقعاً بل وتلقائياً، وهو ما يمنعهم قطعاً من المغامرة في محاولة إثبات خطأ آرائه.

من أكثر النماذج المعروفة عن تعاطيه مع حوادث من هذا النوع هو القتل الشنيع لوزير الصحة د. رياض حسين، المعروف بقربه من أحمد حسن البكر حينها، والذي كانت له آراء لم يستسغْها صدام حسين، فأعفاه من منصبه ومن ثم أعتقل وقتل دون توجيه تهمة، أي أنه لم يعرض على محكمة، وكان ذلك في أواخر عام 1982 (يتيح محرك غوغل الإطلاع على شهادات بعض أفراد عائلته).

*أجزاء من كتاب عن وزارة الخارجية سينشر قريباً

**وزير وسفير سابق