القضاء الدستوري .. بين مطرقة متطلبات التغيير وسندان الفراغ التشريعي

Wednesday 21st of September 2022 10:38:59 PM ,
العدد : 5269
الصفحة : آراء وأفكار ,

د. فلاح اسماعيل حاجم

مما لا شك فيه أن المتغير الوحيد في العلاقات الاجتماعية - السياسية هو المتغيرالتشريعي. تلك حقيقة باتت محسومة ولا جدال فيها. انطلاقا من ذلك لابد أن يكون مصير القواعد المنظمة لتلك العلاقات في ترابط مصيري معها. وربما يكون هذا الترابط الدافع الى صياغة القواعد القانونية المنظمة لتلك العلاقات بالشكل الذي يجعلها مؤهلة لاحتواء تلك المتغيرات وسابقة لها،

بالشكل الذي لا يدع مجالا لتخلف القواعد القانونية ووقوعها في ما بات معروفا بالفراغ التشريعي، الذي يفضي بطبيعة الحال، اذا ما كان يخص التشريع الاسمى وهو الدستور الى الانسداد السياسي والمأزق الدستوري، الذي نعيش تجلياته بكل وضوح في الحالة العراقية الراهنة، حيث تقف القواعد الدستورية عاجزة عن معالجة الاشكالات، التي طالما واجهت الدول والشعوب، بما في ذلك القريبة جغرافيا من بلدنا (مصر وتونس مثالا قائما).

ان واحدا من الاشكالات المهمة التي تعتري التشريع، والتي عادة ما تواجه القضاء الدستوري اثناء تأديته لمسؤولياته هو الفراغ التشريعي. على انه لابد من التنبيه قبل وضع موضوعة الفراغ التشريعي على طاولة التشريح الى أنه ليس هنالك من تشريع مكتمل ، حتى في تلك البلدان التي قطعت شوطا كبيرا في مجال بناء دولة المؤسسات الرصينة.

وينبغي الاشارة ايضا الى أن وجود الفراغ الدستوري متأت من عوامل مختلفة، ربما يقف في المقدمة منها تخلف التشريعات (الدستورية ضمناً) ذات الطبيعة المحافظة عن مسايرة العلاقات الاجتماعية المتطورة و الديناميكية، والتناقض في عملية الصراع، التي عادة ما ترافق تطور تلك العلاقات، هذا اضافة الى الامكانيات المحدودة لدى المشرع ذاته بسبب حداثة التجربة وندرة المؤهلات، وهي المشكلة التي عادة ما تواجه الديمقراطيات حديثة العهد وغياب المتخصصين (التكنوقراط) في صفوف المشرعين ومستشاريهم. وهنا اجد مناسبا الاشارة الى أن واحدا من مسببات ذلك هو انتهاج اسلوب المحاصصة كاسلوب لتقاسم السلطات والمواقع المهمة في مؤسسات الدولة، وهي المعضلة التي تعاني منها منظومة بناء الدولة في العراق، الأمر الذي يقود ايضا، بطبيعة الحال، الى التأثير على مستوى مهنية المسؤول-المشرع على وجه الخصوص وابتعاده عن التخطيط السليم لتأمين متطلبات التطور الاجتماعي وحاجاته الآنية والاستراتيجية. وليس أقل خطرا مما تقدم وجود عيوب في تقنية التشريع وغياب التحليل المهني المناسب لدى المتخصصين الحقوقيين، ناهيك عن محاولات التشويه (المتعمد أو لغياب الخبرة) لأساليب وطرائق وضع اطر مناسبة لتنظيم المصالح المتصارعة من جانب اللوبيات المختلفة وغيرها من الفعاليات الاجتماعية (النقابات ومنظمات المجتمع المدني مثالا) .

ومما لا شك فيه ايضا أن الفراغ التشريعي يعتبر من بين عيوب التنظيم القانوني للعلاقات الاجتماعية، تلك العيوب التي تؤدي في حصيلتها النهائية، ليس فقط الى خرق حقوق المواطنين وحرياتهم الاساسية، بل انها تؤشر ايضا الى احداث خلل في عمل المؤسسات الدستورية، وهو الأمر الذي يظهر لنا بكل جلاء في الحالة العراقية الراهنة، حيث يقف الدستور والتشريعات الأخرى عاجزة عن حل الانسداد السياسي وترتيب العلاقة بين اطرف الصراع المتنازعة. وليس أدل على ذلك من الصعوبات التي تواجه واحدة من اهم السلطات الرقابية ألا وهي مؤسسة القضاء الدستوري، التي جعلها الفراغ التشريعي، وخصوصا فيما يتعلق بقواعده الاكثر سمواً وهو الدستور، مسلوبة الارادة تجاه الاستعصاء الكبير الذي تواجهه منظومة السلطة، ذلك الاستعصاء الذي كاد يعصف بالركن الثالث من اركان الدولة وهو السلطة. وهنا اجد لزاما التذكير بما اعلنه السيد فائق زيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى، الذي أشار الى أن «الخروقات الدستورية او الافعال غير المقبولة اجتماعيا واخلاقيا لا يمكن للقاضي مساءلة مرتكبها سواء مؤسسات او افراد الا بوجود نص صريح يعاقب عليها وفق الشروط القانونية التي ينظمها النص الدستوري او القانوني، ومثال على ذلك ان القضاء يدرك تماما الاثار السلبية للخروقات الدستورية التي حصلت بعد الانتخابات التشريعية في تشرين الاول سنة 2021 المتمثلة بعدم الالتزام بالتوقيتات الدستورية في تشكيل السلطة التنفيذية بشقيها رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء بحسب نص المادة (66) من الدستور، ورغم وضوح هذا الخرق الدستوري الا ان القضاء لم يكن قادرا على معالجة هذا الخرق او مساءلة مرتكبيه بسبب عدم وجود نص دستوري يجيز له ذلك، وهذا ما لمسناه جليا في قرار المحكمة الاتحادية العليا العدد 132 وموحداتها 17 دعوى/اتحادية/2022 الصادر بتاريخ 7 /9 /2022 بخصوص دعوى طلب حل مجلس النواب اذ رغم ان القضاء يتفق مع المدعي في تلك الدعوى واقعيا بوجود خروقات دستورية مرتكبة من قبل مجلس النواب وشخص تلك الخروقات بشكل واضح الا ان القضاء الدستوري رد الدعوى بطلب حل مجلس النواب لان جزاء هذا الخرق (حل المجلس) اوكلته المادة (64) من الدستور الى مجلس النواب ذاته بان يحل المجلس بالاغلبية المطلقة لعدد اعضائه اما بناء على طلب من ثلث اعضائه او طلب من رئيس مجلس الوزراء وبموافقة رئيس الجمهورية .

ونحن بصدد الحديث عن الفراغ التشريعي وحدود صلاحيات القضاء الدستوري في هذا الجانب لابد من الاشارة الى أن اجهزة القضاء الدستوري لا تمتلك صلاحية خاصة بتقييم دستورية الفراغ التشريعي. مع ذلك فان هذه المشكلة غالبا ما تبرز كقضية مصاحبة لقضية اساسية أخرى يتم النظر فيها من قبل المحكمة حول دستورية، أو عدم دستورية تشريع ما. بالارتباط مع ذلك تجدر الاشارة إلى أن القضاء الدستوري ينطلق عند تحديد موقفه، الذي يتمثل في أن الفراغ في قانون ما من الممكن أن يشكل اساساً ومنطلقاً للتحقق من مدى دستورية ذلك القانون، خصوصا اذا ما ادى ذلك الفراغ الى خرق، أو امكانية خرق حقوق دستورية محددة.

وربما يكون الحديث عن الفراغ التشريعي منقوصا دون التنويه إلى ان اساليب معالجة هذا الموضوع تختلف من منظومة قانونية الى أخرى. ففي دول ما يطلق عليها المنظومة الاوربية عادة ما يتم ازالة الفراغ التشريعي من خلال المشرع ذاته، فيما يذهب القضاء الدستوري، الذي لا يمتلك حق رفض الدعاوى بهذا الشأن الى استخدام تقنيات اخرى لانفاذ القانون مثل الرجوع الى تشريعات شبيهة، بما في ذلك القانون الفرعي، في محاولة للتغلب على الفراغ التشريعي.

اما في دول المنظومة الانجلو-سكسونية (common law) حيث موطن ولادة وتطبيق (السوابق القضائية) كثيرا ما تتكرر حالات يلجأ القاضي نفسه الى معالجة الفراغ التشريعي، اذ يقوم بدور المشرع من خلال خلق السابقة القضائية. وهنا لابد من الاشارة الى انه في ظروف العولمة ليس من الصعوبة ملاحظة تقارب وتلاقح المنظومات القانونية، الامر الذي يجعل من الفوارق امرا بسيطا. وينبغي الاشارة هنا أيضا الى الدور المتزايد لقرارات الاجهزة التنفيذية لدول المنظومة المذكورة، في حين يتكرر الحديث عن زيادة دور السوابق في القرارات القضائية وعن اهمية خلق القاعدة القانونية من قبل المحاكم العليا، وخصوصا قرارات المحاكم الدستورية، الأمر الذي يدفع الكثير من المتخصصين (المحافظين) الى معارضة التحديث والدعوة الى الالتزام بروح النصوص القانونية وفق مبدأ (لا اجتهاد في موضع النص) .

انني أرى ان الحالة العراقية الراهنة تستدعي التفكير جديا بتحديث التشريعات العراقية وفي مقدمتها الدستور، وخصوصا بعض قواعده «المعرقلة لتشكيل السلطات الدستورية والتي سببت حالة الانسداد السياسي وما رافقها من احداث مؤسفة بان يتم النص على جزاء مخالفة اي نص دستوري بنفس النص بصياغة واضحة غير قابلة للاجتهاد او التأويل. وبالشكل الذي يتجاوب مع متطلبات التغيير، مع الاخذ بالاعتبار ما تفرضه العولمة وثورة المعلومات من واقع جديد، سواء على المستوى المحلي أو الاقليمي والدولي، بالاضافة الى ضرورة النظر عند ذلك من خلال موشور المصلحة الوطنية العليا واللجوء الى المبادئ التي يتضمنها الدستور، وهي تسمو، دون شك، على كافة القواعد الأخرى.

*

- مقالة للسيد فائق زيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى تحت عنوان (القضاء.. بين مطرقة الواقع وسندان النصوص) منشورة على موقع المجلس hoc.iq .