جذور العنف في العراق ومآلاته

Saturday 19th of November 2022 10:56:19 PM ,
العدد : 5309
الصفحة : آراء وأفكار ,

فرات المحسن

دائما ما يصنف العراق عند بعض مؤسسات البحوث العالمية، ضمن أكثر بلدان العالم عنفا، حيث تبلغ مؤشرات الجريمة فيه مستويات كبيرة ومقلقة،وهذا لوحده يعطي الانطباع السيئ وغير المشجع، لدخول الشركات حتى غير الرصينة منها ومثلها أعضاء المنظمات الدولية، ليصل الأمر لامتناع الفرق الرياضية وأعضاء السلك الدبلوماسي وحتى مراسلي الصحف ووكالات الأنباء، خوفا من الابتزاز والخطف والقتل.

وان جازف وحضر هؤلاء فالخوف يصاحبهم بشكل دائم، وتختفي لديهم روح المجازفة للخروج والتجوال في الشوارع دون حمايات. وعلى ذات المنوال بات جميع رجال السلطة في العراق،الذين تكتظ بهم وحماياتهم المدججين بالسلاح شوارع المدن العراقية وبمظهرهم الخائف المرتبك، يبثون الرعب والخوف بين الناس.

 

فمع انتشار السلاح المنفلت والمليشيات المسلحة والبطالة والمخدرات والإجحاف الكبير بحق النساء وانعدام المساواة الإنسانية ويضاف لكل ذلك تعدد مصادر القرار السياسي والأمني في مؤسسات السلطة، وتضارب مصالح العاملين فيها، جعل من العنف السمة الطاغية في المشهد العراقي اليومي، مما سبب ويسبب حالة من الفوضى والإرباك، ليس فقط على مستوى إدارة الدولة، بقدر ما يفرش ظله ورعبه بين أوساط الشعب العراقي التي باتت تعاني من ضروب العسف والعنف المسلط عليها.

ليس من الصعب إيجاد قواسم مشتركة أو متلازمات،يمكن تعقبها واكتشافها، ومن خلالها نستطيع البحث والتقصى لمعرفة أسباب العنف المستشري بين أوساط المجتمع العراقي بنموذجيه السياسي والمجتمعي، والذي تجلى كظواهر وأعراض عامة موجعة ومفجعة، لم توسم بعض الأفراد بلوثاتها فقط، وإنما مثلت في الكثير من الأوقات أرثا جمعيا عند بعض المجموعات وأيضا عند أحزاب سياسية.

مع تصاعد العنف وتنوع طبيعته ونماذجه، يتعرض الناس للاستغلال والقمع الشديدين، ولا يجد الإنسان المعنف المقموع في الغالب، وسيلة لمواجهة العنف بغير اجترار مآسيه وقهره في مجموعة من التعابير والمكنونات التي ينفس فيها عن ذاته،من مثل الشعر والأغنية والقصص،أو التنفيس عن مظلوميته من خلال المناسبات الاجتماعية والدينية (الفواتح والتعازي وإطالة أيام الحزن)،وتبرز أيضا وبحده في أوساط المجتمع المعنف طباع الازدواجية الأخلاقية والنفاق الاجتماعي وحالات الانفصام في التعامل الحياتي اليومي (إخفاء الهوية واستشراء الكذب والدسائس والنميمة والتقية).

ويتعرض الإنسان خلال فترات من حياته للعنف اليومي المنزلي أو في الشارع والمدرسة والعمل، وربما هو بالذات من يمارس العنف ضد الآخرين، كردة فعل لما يتعرض له من تنمر وقمع. وتتعرض قطاعات واسعة من الشعب للعنف الممنهج من قبل السلطة الحاكمة، التي تذله في أبسط وسائل العيش، ابتداءً من توفير الخدمات وصولا إلى توزيع الحصة التموينية أو البحث عن فرصة عمل.ويواجه العديد من الضغوط لكتم شكواه وتعابيره وبما يتعرض له من إجحاف، ويلاقيه من تعنيف خلال بحثه الدءوب لإيجاد ما يضمن له كرامته ورزق يومه وعائلته. ولا يجد في السلطة ما يوفر له الأمان ويبعد عنه العوز والخوف والتفكير بالرعب الذي يترصده يوميا وانسداد الأفق أمام مستقبل مجهول.

لذا فعدم توفر مثل هذه العوامل والمطالب اليومية، المطمئنة لحالته النفسية والجسدية، تجعله شخصا متذمرا شاكيا صارخا، تتوق نفسه للانتقام من (شيء ما) ربما يعرفه وفي نفس الوقت يجهله، ولكنه يعرف أن في داخله يقبع ويعيش معه، بمقدار ما تختزنه روحه من مشاعر الظلم الذي يحيق به، ولن يكون هناك معادل للانتقام والتنفيس عن هذا الكامن اليومي، غير ممارسة العنف، ويجد في داخله مبررا نفسيا لذلك، انتقاما من تصرفات السلطة، وهذا العنف ممكن أن يتخذ أيضا شكل السلوك الرضوخي أو الميول التدميرية للذات، أو مقاومة سلبية تتمثل بالتذمر وتصعيد عدم الثقة والطعن بكل ما يأتي من مؤسسات الدولة،والعمل على تخريب بعض آلاتها أو مؤسساتها وأدواتها انتقاما، ومثل هذا النوع من العنف شائع اليوم بين بعض أوساط الشعب العراقي كردود فعل بالضد من السلوك السيئ لمؤسسات السلطة.

مع كل ذلك العنف المتصاعد، يخطر في البال طرق وجرائم الإرهاب وانتشار استخدام السلاح المنفلت والوقائع الجرمية اليومية، كمثال للطبيعة العنيفة في المجتمع العراقي، وجراء هذه الصورة والتوصيف، أطلقت عليه سمة المجتمع العنفي، وهذا الأمر وبفضل وسائل الإعلام، بات وكأنه واقع حال لايمكن العبور من فوقه أوتجاوزه، وإنما أصبح مع الأسف الشديد وسما قبيحا يطلقه البعض على الشعب العراقي، وهذا بطبيعته محاولة تعنيف واتهام للطعن بقيم وأعراف شعب بكامله دون استثناءات.

ولكن لو تمعنا جيدا في العمق التاريخي لذلك التوصيف الموجع، نجده يمثل أرثا ثقيلا وارتدادا لضغوط مورست على الناس على مدى تاريخ طويل من عمر هذه الكتلة البشرية والبقعة الجغرافية الواسعة.

وللبحث في جذور العنف ومسبباته، نحتاج في المقدمة إلى التفريق بين العنف المجتمعي والعنف السياسي. فما يحدث في العراق من إرهاب وتنازع وصراع قوى يومي ما هو إلا نموذج لعنف لا يمكن عزله عن طبيعة الخصومات السياسية والاقتصادية،وضمن صراع محتدم ومحاولات لإزاحة الأخر وإبعاده عن التأثير بالأحداث، لغرض السيطرة على الموارد والمنافع ومراكز القوة والقرار.وهذا ما طغي إعلاميا على العنف المجتمعي واحتل الواجهة، بالرغم من استشراء العنف المجتمعي بشكل كبير وصارخ.

يمكن القول إن ممارسة العنف تمتد بعيدا في تاريخ العراق كرقعة جغرافية وتاريخ وطن، ومازال هذا الأمر بصوره المتعددة حاسما في تأثيره على طباع الكثير من أبناء الشعب العراقي، وكان ومازال يشكل بين فترة وأخرى ارتدادات وهزات مجتمعية،أصبحت عند البعض إرثا ثقافيا وفكرا جمعيا.

نظرة فاحصة لتاريخ العنف في العراق تضطرنا للعودة إلى الجذور أو الآماد التاريخية لهذه الأرض المتنوعة في جغرافيتها ومواردها.فارض بلاد الرافدين دائما ما كانت مركزا وصرة الشرق الأدنى، ومحور حركته، وفي عمق التاريخ نشأت في هذه الأرض، ووفدت عليها أقوام وقبائل وتجمعات بشرية سيطرت على أراضٍ واسعة منه وحواليه.

أرض الرافدين كانت تعني للعديد من القبائل وأقوامالشرق، أرض الماء والكلأ، لذا كانت مرتجى ومنال الهجرات الكبرى. وكان هؤلاء الأقوام رعاة ومحاربين يأتون لغزو أراضي وادي الرافدين، بحثا عن مصادر الخيرات التي يتمتع بها هذا الإقليم. وفي رحلتهم إلى هذه الأرض،ما كان أمامهم سوى طريقة واحدة، وهي إزاحة من سبقهم، ليحتلوا الأرض والمراعى ومصادر الماء، وتلك الإزاحة لن تكون بغير نزاع تستخدم فيه لغة العنف كحل ناجز، أي قتل الخصوم وسبيهم واغتصاب ثرواتهم.

ولم تتوقف هذه الإزاحات حتى بعد نشوء الدويلات، ومن ثم الإمبراطوريات وما سمي بعصر السلالات. فكانت ارض بلاد النهرين مركزا لصراعات دموية، سفح فوق أديمها دم الملايين من البشر. وتداولت الإمبراطوريات الأدوار في مسك الأرض بقوة التنازع والعنف المفرط منذ (السومريون، الاكديون،الجوتيون، الأموريون، العيلاميون،البابليون،الاشوريون،الاليخانيون، الميديون، الساسنيون وغيرهم).

واستمر الحال على منوال هذا الصراع المميت بعد ظهور الإسلام، الذي انتشرت دعوته أيضا بذات فعل الإزاحة. وأعقبه صراع الخلافات الأموية والعباسية بما تمتعت سلطاتها وجيوشها من قسوة وبطش، وعلى عهد الخلافتين ظهرت الفتن الكبرى التي قتل فيها الآلاف، لا بل لو كانت هناك إحصائيات لقلنا الملايين بسبب النزعات الدينية الفكرية السياسية. ودائما ما كان أغلب هذا الصراع الدموي، تدور رحاه في قلب الشرق الأدنى حيث أرض النهرين، وعلى امتداد مسيرة النهرين من المنبع حتى المصب.ولذا سميت ارض الرافدين في بعض الأدبيات التاريخية بأرض الفتن، واتهم بشرها بعدم الاقتناع والشغب والعناد والتطرف والانقلابية والمزاجية.

عد زمن تداول الإمساك بمدن أرض الرافدين من قبل الدولة العثمانية وجارتها الدولة الصفوية الفارسية،إضافة للتنازع والاقتتال، قمة التردي وارتفاع وتائر العنف والقسوة وانفلات الأوضاع السياسية والاجتماعية والصراع المذهبي، ورافقت كل تلك المآسي، الفيضانات والقحط وتفشي الأمراض والأوبئة ومنها الطاعون والكوليرا التي راح ضحيتها الآلاف.

في جميع تلك الفترات التاريخية وبظهور الكيانات التي بنيت على ارض الرافدين، مورست على الناس أبشع الأساليب وأقذرها في العنف والإقصاء والتغييب، لتغيير مذاهبهم وحتى قومياتهم (تاريخ العراق بين احتلالين، تأليف المؤرخ عباس العزاوي) فانقسمت بغداد في العديد من فترات حياتها كمدينة، إلى محلات وأزقة متصارعة، والتجأ الناس للعشيرة كحامية، ونشأت لغة التغالب والطعن بالأخر وتبخيس قيمته.

وكان الاختلاف المذهبي والقومي مع تعدد الطوائف، التي تنزع جميعها لإثبات هويتها على حساب باقي الهويات الفرعية، العامل الأكثر حدة في استشراء العنف. فالعراق مجتمع متعدد الهويات. والصراع فيه قديم، ودائما ما يكمن تحت رماد، وجذوة الصراعات لم تنطفئ بعد، وهي قابلة للاشتعال، إن لم توجد صيغ جامعة توفر مصادر العيش الكريم للجميع،وتوزيع عادل لثروات البلد وزرع الثقة بين الناس بمختلف مشاربهم.ويعد هذا التنازع والخصومات أهم مسببات عدم ظهور الهوية الوطنية بشكلها الناجز. ومن المسببات في عدم ظهور الهوية الوطنية الموحدة، انعدام وجود السوق الاقتصادية المشتركة وهذه لوحدها في جميع الأحوال والمسميات، ان وجدت ستكون محرك لمنافع تبادلية مشتركة، ورافعة لوجود كيان موحد ودافع حقيقي لفكرة المصالحة وإبعاد لغة وثقافة العنف لحل الخلافات.فمتى نرى سلطة قادرة على استخدام خيار التوزيع العادل للثروة وبناء الثقة بين أوساط الشعب وبث خيار الصلح والسلم المجتمعي للخروج من دوامة العنف، أم نستمر في دوامة ذات الدور التاريخي الذي سلكه الأسلاف في استشراء وتصعيد لغة العنف.