المعالجة الستراتيجية أولوية لمكافحة الفساد

Wednesday 23rd of November 2022 11:22:03 PM ,
العدد : 5313
الصفحة : آراء وأفكار ,

د. أحمد عبد الرزاق شكارة

إن مكافحة الفساد تعد أولوية في البرنامج الحكومي للسيد محمد شياع السوداني كونها ركزت على الفساد بشقيه الاداري والمالي “لما لهذه الظاهرة من تهديد خطير على مجمل الخطط والبرامج والسياسات التي تنفذها أي حكومة،

سواء الحكومة الاتحادية أو الحكومات المحلية”. تشخيص دقيق بحق يتسق مع جهود مكثفة للحكومة العراقية للسيد محمد شياع السوداني في تطبيق برنامج وزاري طموح أحد محاوره إعادة هيكلة مؤسسات الدولة خاصة التي تعنى بمحاربة الفساد بإعتبارها حربا ضروس موازية للحرب ضد الارهاب كونهما وجهان لعملة واحدة. ترتيبا على ما تقدم لابد لشعبنا من أن يشهد – بزمن قياسي- إجراءات حكومية حقيقية تجسدها منجزات حيوية تتسق مع برنامج واقعي للتعبئة الحكومية والشعبية الواسعة لقوى الخير ضد قوى الشر بإتجاه تصعيد واضح للمواجهة ضد منظومة الفساد التي وصلت لمرحلة متقدمة لاينفع معها سوى العلاج الستراتيجي بكل ابعاده خاصة القانونية - المجتمعية – الثقافية، الاقتصادية – المالية. ضمن هذا السياق لايمكننا تصور تحجيم الفساد الاداري والمالي دون جهود مركزة ومستدامة شفافة للمحاسبة القضائية الوطنية والدولية الفاعلة للفاسدين الكبار الذي أهدروا اموال الدولة العراقية بمئات التريليونات من الدولارات بضمنها ماعرف ب”صفقة القرن” التي أضاعت تأمينات ضرائبية للشركات النفطية بصورة لايمكن تصورها في افلام السينما الهوليودية. علما بإن مكافحة سرقة وتهريب كميات كبيرة من النفط عبر منافذ عراقية (كركوك وشمال العراق) لازالت هي الاخرى تستحق جهدا قضائيا فاعلا بأنتظار الحسم. جهود أخرى في مجالات مكافحة الفساد السياسي – الاداري والمالي (ملف البنك المركزي والمصارف) – الخدمي وفي قطاعات الزراعة والصناعة بل وفي ملف الامن الوطني وغيرها من شؤون الدولة الحيوية حيث وصلت عوائد مواردها المهربة إلى ارقام فلكية – لايمكن التكهن بدقتها - توازي جزءا مهما من موازنات دول الجوار مثل الاردن. سياق يتوازى مع إحكام الضرورة الاستثنائية لاسترداد اموال الدولة من كافة الملذات والمناطق الامنة دون التخلي عن المحاسبة القانونية لكل من أتهم بإرتكاب جرائم اقتصادية - مالية كبرى تنعكس سلبا على اقتصادنا ومجتمعنا بل وعلى سمعة وهيبة وسيادة الدولة.

السؤال المنطقي الاول : هل سنرى محاسبة حقيقية وبكل شفافية لكل التفصيلات الخاصة عقود صفقات الفساد الكبرى مع كل من يقف وراء تهريب الاموال التي تصل إلى مايقارب اكثر من 550 مليار دولار. ساسة و رجال اعمال تجاوزوا كل الخطوط الحمر بل وكل القيم الدينية والاخلاقية بعيدا عن حماية الاموال الضرورية للعراق. آن آوان أن يردعهم القضاء كي ينالوا جزائهم العادل. حقا إن الخطوات الحازمة التي اطلقتها السلطات الحكومية المعنية تعد فقط الجزء الواضح من غاطس جبل الجليد الكامن للفساد مثلا في المكاتب الاقتصادية للاحزاب. علما بأن اعداد ملفات الفساد الكبرى تصاعدت إلى درجة تجعل المحاسبة النهائية للفاسدين ايا كانت مراتبهم ومناصبهم مسألة ليست ميسورة في الامد القريب وبالتالي حسنا اتجهت حكومة السوداني لإجراءات المساندة من المحيط الدولي من قبل بضع شركات المحاسبة الرصينة.

من منظور حياتي مدرك مجتمعيا لازال التساؤل التالي ماثلا للعيان : من يحرس الحراس Who guard the guards?؟؟ كيف نتوقع أن يستعيد شعبنا رونق نظامه السياسي الديمقراطي الحقيقي طالما من أوكلت إليه مهمة حماية المال بعيدا عن المحاسبة المشددة بل يعد محصنا ضدها. لعل من المناسب الاشارة إلى أن السيد السوداني في بدء جهوده لمكافحة الفساد منذ اول جلسة لرئاسة الوزراء دعى وزرائه لتقديم كشوف حساب عن ذممهم المالية خلال اسبوع واحد وقد كان سباقا لتقديم مثل هذا الكشف “أمر يحسب له”.علنا نجد مثل هذا الانموذج النزيه في الحكم الرشيد إنعكاسا للطاقم الوزاري والاداري. لعل فتح هيئة النزاهة الجديدة ملف الفساد للارصدة المالية المهربة للبنان وغيرها من دول هربت اموال عراقية ضخمة لملاذات آمنة يكون بشارة خير. كما أن استقدام الهيئة لعدد من كبار مسؤولي الدولة للتحقيق في ما نسب لهم من تضخم في مواردهم المالية مسألة تعد جزءا لايتجزأ من الحرب المستدامة ضد الفساد والارهاب والجريمة المنظمة.

من منظور مكمل لابد أن نعترف بإن العراق برغم تبنيه النظام الديمقراطي إلا أنه لازال بعيدا عن الامتثال لمضمونه الحقيقي كون مؤسساته السياسية التنفيذية – الادارية والتشريعية – بإستثناء القضائية- لازالت تعاني من ضعف وهشاشة واضحة خاصة في إجراءات الشفافية، المراقبة والمحاسبة “ الحوكمة القانونية”. ما يعني أولوية إعادة البرمجة للاهداف، وللهيكلة المؤسسية إذ بدونها لن نرى نظاما إداريا وسياسيا فاعلا مجديا يستجيب لمطالب الشعب العراقي الاساسية.

حالة أوصلتنا لمرحلة عجز إداري فاضح حتى عن تقديم أبسط الخدمات الاساسية وعلى رأسها مثلا في المجال الخدمي المتسع الاغراض بضمنه انتشال فئات شعبنا الضعيفة المعرضة لمخاطر الاوبئة و الامراض ومن آفة الجهل مرورا بالفقر المدقع في العديد من محافظاتنا. يضاف إليها مساحة واسعة للنازحين بدون وجود خدمات أساسية وصلت أعدادهم للملايين. علما بإن نسب البطالة هي الاخرى وصلت إلى أكثر من 25- 30‌% بضمنها المتخصصة التي لازالت بإنتظار فرص العمل المنتج في القطاع الخاص حيث أن القطاع الحكومي اضحى متخما (أكثر من 37‌% من مجمل قوة العمل) ولايستوعب المزيد مشكلا “بطالة مقنعة”. المفارقة تبرز ايضا في قطاع النفط إذ تصل العمالة العراقية فقط (1‌% من مجمل العمالة الكلية). ترتيبا على ذلك تبرز الحاجة إلى جهود مبدعة لتطوير القطاع الخاص تصحيحا للمسار التنموي ألانساني المستدام. جدير بالاشارة إلى أننا نشهد بشكل يكاد يكون يومي نماذج معاكسة تعبرعن شلل إداري واضح في عدد مهم من مفاصل الدولة التي يشوبها الفساد والبيروقراطية الجامدة في التعامل مع الانسان العراقي. لعل من المناسب التذكير بأنه طالما لم يتم تسجيل تقدم واضح في الاستجابة للمشكلات الحياتية فإن الازمات في قطاعات الاقتصاد الوطني ستتصاعد الامر الذي يفترض ان تقوم وبشكل عاجل كل وزارة بتقديم خطة عمل “خارطة طريق” واضحة لبرنامجها السنوي مفصحة عن إمكاناتها المادية والبشرية المدربة والمتخصصة بهدف تأسيس مشروعات إصلاحية تنموية منتجة ومبدعة. توجهات كهذه تقربنا نسبيا من مسار ومؤشرات الحكم الرشيد Good Governance بغض النظرعن طبيعة النظام السياسي السائد إن كان برلمانيا أم رئاسيا أو شبه رئاسي. إن الحوكمة القانونية – المؤسسية ستمكن البلاد من تقديم مراجعة دورية اساسية لاوضاع مؤسساتنا بما يتناسب مع محاربة كل اشكال الفساد الممتزج بالمحاصصة المقيتة. من منظور مكمل إستراتيجي نلحظ غياب نسبة مهمة من مساحة علائق التعاون والتنسيق بين كل اقاليم العراق في مجالات حياتية وجودية. مسألة اوصلتنا لمرحلة تستدعي وبشكل عاجل لضرورة إحكام وإنفاذ مقتضيات الامن الوطني إستعدادا لمواجهة رادعة وفقا لقواعد القانون الدولي لمعالجة كل ثلم للسيادة الوطنية من قبل دول الجوار(تركيا وايران) وغيرها من أجراءات تقويمية لإنفاذ الامن للمواطنين. بعبارة أخرى لابد للعراق من توطيد أمنه على اراضيه كي تتمتع كافة اقاليم البلاد بالامن والاستقرار الضروري لإنعاش الاقتصاد الوطني معززا بالسلم المجتمعي مايسهم بسد ثغرات تستهدف إضعاف السيادة العراقية. في جزئية أرتيت اقتباسها من كتاب “الطاغية والطغيان في تاريخ العراق القديم والحديث” للاستاذ شامل عبد القادر ورد ت عبارة تعد مرآة عاكسة نسبيا لأوضاعنا : “العراقي يحترم الحاكم – الطاغية الذي (يعرف) بعفته وأنفته من جمع المال أو تقريب افراد عائلته وعشيرته...

وفي التاريخ أمثلة كثيرة من هذا النوع..والعراقيون يحتقرون حكامهم الذين يعتمدون افقارهم وتجويعهم بينما يجدون أقارب الطاغية يسمنون “. نرجو أن لانصل لمثل هكذا حال مآساوي. إذن لابد من مواكبة التغيرات الايجابية لبناء وتحديث قطاعات الدولة مع إعطاء اولوية لحماية المناطق الرخوة إستراتيجيا وثقافيا بخاصة وأن ثقافة الفساد اضحت متجذرة.إن متغيرات العصر الحديث تتطلب أتساقا وتسارعا في مسار المكافحة المستدامة للفساد بعيدا عن دور الدولة الريعية “النفطية إلى ابعد الحدود مع إهتمام كبير بأطلاق المبادرات الابداعية بهدف بناء دولة المواطنة الحقة التي تعمد أستثمار الموارد المتجددة للطاقة. علما بإن التحديات التقنية الكبرى تستدعي التكييف والتماهي معها، لذا آن لنا التساؤل : أين نظام الاتمتة “الرقمنة” التي تمكن كافة مؤسستنا خاصة المالية والاقتصادية من أداء ادوارها ووظائفها بصورة تكاملية، فاعلة وكفوءة ضمن شبكة أتصالات ومعلومات متبادلة خلاصتها تقديم الجيد المفيد مع توفير الجهد، الوقت والمال؟. إن التغيير المؤسسي المرجو سيتبلور إيجابا إذا ما نهجت الدولة مسار التنمية الانسانية المستدامة تستقي المعلومات والمعارف من أحدث المصادرالمعتمدة هدفها تغيير ذهنية وعقلية من يدير مبادرات ومشروعات الاعمال الاقتصادية من نخب الادارية والسياسية والاقتصادية والثقافية بصورة تحدث “نقلة نوعية” في جودة الاداء ما يمكن البلاد من تحقيق الإهداف الستراتيجية العليا. ترتيبا على ما تقدم مع تجذر التفكير السليم بوجوب الاستناد إلى الحوكمة القانونية والادارة الديمقراطية السليمة ستذبل تدريجا إمكانات اللجان الاقتصادية لكل التكتلات الحزبية الفاسدة التي تعتاش على : الازمات، التطرف، الفوضى، المحاصصة، وعلى استخدام العنف المجتمعي او السياسي او غيرها من أساليب مقيتة. الامر الذي يمثل حالة الانسجام المجتمعي – المدني والحياة الديمقراطية الحقيقية تعزيزا للكرامة الانسانية ولسيادة الدولة.

أخيرا : من المناسب القول بإن المعادلة التي نرنو الوصول لها في مجال مكافحة الفساد تآسيا بدول أخرى حجمت الفساد لدرجات بعيدة (النروج، نيوزلندة، السويد، سويسرا والدانمارك) ترتبط قبل كل شيئ بمدى تصاعد منسوب الوعي والادراك الفردي والمجتمعي ضد الفساد كونه يشكل خسارة كبرى مادية ومعنوية لايجب تقبلها لمجرد أن الاخرين أرتضوها مسارا تقليديا أومسربا ملائما لأنتعاش فسادهم.