للوقت رائحة..وللوجع أكثر من رائحة

Saturday 18th of March 2023 11:10:42 PM ,
العدد : 5392
الصفحة : عام ,

سعاد الجزائري

رواية هاشم مطر التي حملت عنوان (رائحة الوقت) هي ملحمة القهر والأغتراب القسري العراقي، ففيها أحداث وتواريخ عشناها وعاشها أصدقاء وأقرباء لنا، سردها هاشم بلغة المعايشة وبوجعها ممزوجة بذلك الخوف الذي فتت عظام البشر وهم أحياء وتلبس آلاف العراقيين الذين أصبحوا ملايين لاحقا فصار الواحد منا يرتجف من ظله فقد يخونه ويغدر به يوما ما.

صوّر هاشم بكاميرته الروائية عمق ظلمة المصائب التي جسدها في القسم الاول من الرواية عندما يعبر مجموعة ضمت نساء وأطفال وشيوخ وشباب، أسموهم آنذاك بالتبعية، شكلوا سلسلتهم البشرية لتلتقي دمائهم عبر سلسلة الاوردة فيتسرب الأمان بين عروقهم عندما عبروا في ممرات ضيقة تنحسر بين جبل أقسى من صخوره ووادي تسمع من أعماقه صدى الموت وأنين الذين ابتلعتهم ظلمة عمقه.

الرواية تتنقل من فاجعة فراق الى آخر أشد قسوة ووحشة، فبطلته التي تنحشر في شاحنة مع جمع مذهول فقد كلمته وأمله وحبه، تصرخ مريم التي (سقطت من صمتها الى شهقة روحها، وشدت أصابعها بقوة وتمسكت بمشبك الحديد الذي بدا مطاوعا..........لوّحت لعلي (حبيبها) ثم صاحت: انا هنا يا علي..خلف هذه اللوحة الكئيبة.. تعال خذني..لماذا تصمت كأبي الهول..تحرك).. لكن شاحنة الاغتراب تستمر بالابتعاد، وشاحنة الحرب تستمر بابتلاع أرواح الشباب..

صور الفراق والغياب المستمر، الموت والذل الذي يرافق المهاجر في كل محطة ترحال، كلها مجتمعة ترافق مسيرة الرواية - الوثيقة منذ الوجع الاول حتى انقطاع النفس.

إن انتقال الرأوي من حدث لآخر، ومن زمن يجمع توقيتين الى زمن ضائع ومصير مجهول، و الانتقال من بطل الى آخر، تتم هذه الانتقالات بسلاسة وأنسيابية مدهشة، وهو ينقلنا معه ليضعنا داخل الجرح عند النزف وفي إرتجاف الخوف، لانك بعد صفحات من قراءة الرواية تدخل بين صفحاتها وتصبح أحد ابطالها، لان وجعهم يحتلك بالكامل وتبقة اسيرا وغريبا بصحبتهم.

ربما لأني هُجرت قسرا فقد شعرت بالاختناق لأكثر من مرة، وأنا اقرأ رائحة الوقت، لأني أعرف جيدا أن أحداث هذه الرواية ليست من وحي خيال الراوي بل هي تفاصيل حقيقية لسيرة هروب جماعي تمت لأسباب وفي أزمان مختلفة، تنحصر بين اوائل السبعينيات وحتى منتصف الثمانينات وما بعدها.

هاشم الذي أنحاز شخصيا الى كتاباته، لكنه بهذا العمل وجد طرقه الخاصة وبلغة رائعة يتقن كيف يوظفها، فقد فلسف الأحداث والأشياء وفق رؤيته وقوانينه في التوصيف، فهو يقول: "كثرة الجمال معناه أن الحياة في طريقها الى النهاية" وأن "الحزن جزء من الجمال".

وهو يجد بذرة الأمل مع ازدحام الخيبات وشدة الضعف والانهيار، فيقف خلف بطلته مريم وهي تشق طريق العبور نحو المجهول ليريها، (كيف يتحول القدر مع كل كلمة الى خطوة، ومع ملامح الامنيات كيف يتحول الخوف الى أمان، وكيف تخرج الشجاعة من اليأس).

(رائحة الوقت) توثيق لمآسينا منذ التهجير الوحشي (للتبعية)، مرورا بأهوال السجون والاغتيالات ووحشية التعذيب وانتهاء بغربتنا التي شرع فيها الغرباء أبوابهم لينقذونا من وطننا.

وبهذا العمل رد واقعي وليس خيالي للذين قالوا؛ أنكم غرباء عنا، فقد عشتم بنعيم ورفاهية وعدتم للوطن لتتفرجوا بعين سائح على الذين ظلوا، والكثير منهم أجبر على البقاء رغم القهر الذي تعرضوا له، والبقاء هنا له أشكاله وأسبابه المختلفة فلو توفرت خيارات لترك مغتربا الكثير ممن بقي أسيرا داخل وطنه.

أن كل ما كتبه هاشم في (رائحة الوقت) هو سيرة وعذاب حياة الذين غادروا قسرا وليس اختياريا، وتاريخ هذه الحوادث ليس ببعيد والشهود أحياء ومازالت ندوب زمن القسوة مدموغا على جلودهم وارواحهم، واثناء القراءة تشعر بأنك تنتقل من الوجع الى الجرح ومن الغربة الى الوحشة.

في مجموعتي القصصية الثانية عنونت احدى قصصي بـ (رائحة الموت)، عندما تشم الام رائحة غريبة في بيتهم فتصاب بهوس النظافة، وتعرفت على مصدرها لاحقا، عندما سيق أبنها الى ساحة الحرب دون تدريب ليعدم هناك..فكانت رائحة الموت، التي سبقت غيابه الاخير، وكذلك للوقت رائحته في الرواية، فهو يمتدد ويتقلص وفقا لغربة المكان، او قسوة الحدث، وربما للاجدوى الوقت، فرائحته تلاحق الغريب وقد تتغير وفقا لذلك، فتلك الرائحة هي دليل الغريب المغيب عن زمنه ووقته حاملا وحشته وغربته متنقلا بين رائحة وقته وغياب زمنه وبوصلته..