الشاعر شاكر لعيبي.. والفصل بين داخل وخارج(عراقيين)

Saturday 18th of March 2023 11:24:22 PM ,
العدد : 5392
الصفحة : عام ,

د. نادية هناوي

لفعل التذكر أبعاد زمانية تجعل الماضي حاضراً وتمضي بالحاضر نحو المستقبل قدماً، وبما يجعل الفاعلية المكانية مستمرة بدوامية السيرورة الزمانية.

وبسبب ذلك صارت للمذكرات أهمية كبيرة في تسطير صفحات تاريخية شخصية، يمكن لها أن تكون عامة بوصفها وثائق خطية كتبها شهود عيان على واقع أو معترك ما. ولأن من الممكن الارتكان إلى الشفاهية في استذكار الأفعال والأقوال سهلت عملية تدوين المذكرات التي هي نتاج الذاكرة الحية، فكيف الحال بالشاعر الذي أداته اللغة وبإمكانه أن يطوعها لتعبر عما عاش أو تخيل؟.

يبدو أن الشعراء الذين هاجروا إلى بلدان بعيدة واختاروا المنافي أو وجدوا أنفسهم منفيين هم الأكثر اكتراثا بالتاريخ الأدبي تأكيدا لإبداعيتهم ربما تعويضاً عن هوية ضائعة وبحثاً عن الوجود في مهجر لا يرحم وربما هو سقف الحرية الذي يعيشون تحت ظله والذي يسمح لهم أن يدونوا تاريخهم الشخصي في مذكرات وشهادات وسير من دون أن يضعوا في حسابهم تابوات بعينها بلا خشية من حساب أو عقاب.

وأخذ الشعراء العراقيون ـ المهاجرون والمهجرون المنفيون ـ على عاتقهم توثيق ماضي حياتهم في العراق وكيف تفتقت فيه قرائحهم الشعرية وعرفت أسماؤهم محليا وربما عربيا. ومن ثم لم يضف إليهم المهجر أو المنفى جديدا، ولم يقدّم لهم أكثر مما أخذوه حين كانوا في بلدهم وحصلوا لاسمائهم مكانا على خارطة الشعر العراقي كما هو الحال مع الشاعر فاضل العزاوي وسعدي يوسف وصادق الصائغ وغيرهم. ولقد كان الشعراء أصحاب الشهادات السيرية ـ واغلبهم من المهاجرين والمغتربين ـ هم أول من أطلقوا مقولة الفصل بين الداخل العراقي والخارج العراقي وحاولوا إشاعتها من خلال تركيزهم على أسباب غربتهم وما تعرضوا إليه من ضغوط أدت بهم إلى الغربة. وتثير مقولة الفصل مشاحنات وبغضاء بين من يقول بعدم إبداعية من بقي في الداخل وبين من يعول على شاعرية من هاجر.

وقد كتب فاضل العزاوي شهادة قصد بها تجييل شعراء العقد السابع الستيني فكان ذلك مدعاة إلى أن يقدم غيره شهادات تقول بالقطيعة مع هذا الجيل العقدي وإعلان جيلية العقد الثامن( السبعيني) ومنهم شاكر لعيبي في كتابه( الشاعر الغريب في المكان الغريب: التجربة الشعرية في سبعينات العراق) والصادر عن دار المدى 2003 وفيه عبّر عن القطيعة بالفصل بين شعراء داخل العراق وخارجه، مؤكدا أن الهجرة الجماعية ساهمت في اشتداد وطأة اللبس الجيلي بين شعراء الستينيات ومن جاء بعدهم فضلا عن غياب من كان حاضرا داخل العراق أيضا وصعوبة التحاور بين الاجيال والسبب برأيه عدم قيام النقد العراقي بدوره في متابعة شعراء السبعينيات.

وقد عد نفسه واحدا من شعراء(الجيل السبعيني) المدافع عنهم ضد الجيل السابق( الجيل الستيني الشرس والحيوي الذي أتيحت له كل الظروف في داخل العراق كما في خارجه للبقاء سيدا في المشهد الشعري هكذا سينمو الانطباع العام الزاعم بان الشعر العراقي قد كف عن التطور بعد سنوات الستينيات..ثمة في الثقافة العراقية تبشير بموت جميع الشعر المنتج بعد الستينيات)ص6

وبسبب الاختلافات الايديولوجية غدا الواقع الشعري بوليسيا فيه الشعر عمل جبار؛ النجاح فيه لا يتحقق سوى بالتدافع بالمناكب والأيدي. والغاية من ورائه ليست جمالية بقدر ما هي حزبية تتمثل في الاستحواذ على الآخر وترويضه وكسبه. والمثال الذي ضربه شاكر لعيبي على هذا الواقع التعبوي هو الشاعر سامي مهدي.

ويعلن شاكر لعيبي رفضه مسألة اتخاذ العقدية معيارا بينما هو يأخذ بها على المستوى العملي، وعليها يبني تحليلاته وتقسيماته ويبرر هذا التناقض بين النظر والتطبيق بالقول:( ان إطلاقنا صفة جيل السبعينات مرات في هذا البحث على هذه الفترة، يستجيب للشائع المعروف من اجل مناقشته فحسب ولا يتعارض مع قناعتنا بخطأ التقسيمات العشرية للأجيال في العراق المعاصر)ص9. وكما أن الشعراء المجيلين رفضوا نظريا القطيعة مع الجيل السابق، كذلك شاكر لعيبي رفضها نظريا، مبينا أن تلاقي المراحل الشعرية إنما يكون في تحولات شعرائها ومن ثم لا انقطاع فيها لكونها ممتدة باستمرار بطريقة التجاوز والتجاور من المرحلة الحديثة إلى نهاية الأربعينات كمرحلة أولى لها ملامحها المشتركة أما (جيل الرواد وما يسمى بالخمسينيين فيشكلان تقريبا نهجا متماثلا في إنضاج وتطوير القصيدة العراقية الحديثة) ص21 بيد أنه للأسف سيحيد عن هذه الرؤية الموضوعية حين يتوغل في عرض تجارب شعراء عدهم سبعينيين هم من أقرانه وأصدقائه. وعلى الرغم من أن بعضا منهم استمر في العقدين اللاحقين يكتب الشعر وبعضهم الآخر ظل على مستوى شعري واحد في العقد السبعيني، فإن شاكر لعيبي ضخَّم صورهم وفي هذا تضخيم ضمني لصورته من خلالهم، متحيزا إلى جيله الذي وصفه بالمتسامي على الصراع المتميز بالاحترام والتعقل وعدم التهور متقاطعاً مع السابقين( منذ بداية سنوات السبعينات ستطلع في أفضل النماذج الشعرية العراقية نبرة تحترم الانجاز المتراكم ولا تزعم امتلاكها لوحدها مثل الستينات، العصمة والمعرفة الشعريتين، لم تكن هناك رغبة بالتجاوز وإنما هي بأهمية الإضافة) ص27 ولا يتوانى من كيل التهم لـ(الشعر الستيني) مقابل تضخيم صورة (الشعر السبعيني) لأنه (كان الأكثر جرأة والأعلى لوعة..وقد أنجبنا نصوصا مشبعة بطقس جمالي وروحاني على قدر كبير من الاختلاف) ص141، لكن الأهم من ذلك كله قطيعة أخرى أظهرها شاكر لعيبي تتمثل في الفصل المكاني بين شعراء ما سماه( الجيل السبعيني ) داخل العراق وخارجه، وكان من تبعات هذا الفهم المكاني أن أثر في شهادة الشاعر شاكر لعيبي، فترشح منها ما يأتي:

ـــ التحيز إلى شعراء بعينهم مثل هاشم شفيق وخليل الاسدي ووليد جمعة الذين يصفهم شاكر لعيبي بجيل الترف والدلال وجيل الهوية الشعرية الكامنة بينما يصب جام غضبه على شعراء يصفهم بشعراء السلطة: ( تبرهن التجربة العراقية أمرا بالغ الغرابة هو ان السلطة تمتلك في الحقيقة ذائقة شعرية خاصة وان الشعر يرن بقوة في أبهائها..لقد نوقشت ويا للعجب بعض القصائد في الجبهة الوطنية التي كانت تضم القوى السياسية الوطنية.. وذلك بناء على اعتراضات من الدولة مثل نص للشاعر عبد الرحمن طهمازي) ص111ـ112 وإذ يكون للسلطة شعراؤها فهم بالتأكيد أقل بكثير من شعراء لا علاقة لهم بها ولم يسعوا إلى أن يكونوا ذوي سلطة.

ـــ شطر الثقافة العراقية إلى شطرين يعني تشظيها انطلاقا من الفهم الذي يقدمه الشاعر شاكر لعيبي لمعنى الشطر، وهو وجود شكلين: داخلي أثرت فيه الحرب والحصار فلم يكن هناك مجال للإبداع، وخارجي تأثر بالحرية والانفتاح فأبدع وتميز. وهو تصور غير دقيق إن لم نقل مشوه فأما الثقافة في الداخل فإنها كإنتاج زادت كميا بسبب الحرب وإن لم تُفرز نوعيا تجارب كتلك التي أفرزتها العقود السابقة. أما الحصار فكان أقل وطأة بكل مساوئه لانه جاء بعد حرب مريرة ولأن الادباء تأقلموا وكيفوا إبداعهم تكيفا استمرت فيه عجلة الإبداع متواصلة. وأما على مستوى الثقافة في الخارج فلم يكن اثر الحرية والانفتاح ظاهرا على إبداع الشعراء والساردين ممن خرجوا من العراق وهم مبدعون فلم يستطع المهجر ان يضيف إليهم جديدا يذكر في الأعم الأغلب.

ولو كانوا مثل شعراء لبنان في المهجر الأمريكي لكان حقيقا ان نقول بانشطار ثقافتنا إلى داخل وخارج ولكن هذا لم يحصل وها هو الجيل الثالث من عراقيي المهجر ولا وجود لتجييل شعري فيه شعراء يكتبون باللغة العربية ويشار إليهم بالبنان.

ــــ اتهام النقد العراقي بتناسي هذا( الجيل السبعيني) في المهجر وعدم الكتابة عن شعراء مهاجرين يقول:( لقد لجم النقد.. الذي يفترض اتساع افقه في المعالجة وحريته في النظر) ص117 ويتعجب أن كتب نقاد عرب عن المنفيين بينما تناسى الناقد العراقي ذكرهم. وهذا برأيه (خلل بنيوي أخلاقي لدى النقاد الذين رسخوا الصورة الرسمية للشعر العراقي فسطعت نجومية كثيرين إعلاميا في الصحافة والتلفزيون ويمثل حاتم الصكر مشكلة حقيقية عن أخلاقية الناقد بحيث يبدو ان جل الشعراء الذين يستشهد بهم يشكلون بالنسبة إليه عقدة حقيقية بسبب إصراره على استبعادهم من ذاكرته حتى يومنا هذا) ويضيف شاكر لعيبي مبرئا ساحته من أن يكون قصده في هذه الشهادة النيل من شعراء الداخل( ليس في نيتنا ان ندين أحدا قدر ما نحاول توصيف الظاهرة النقدية المصاحبة للشعر السبعيني) ص204.

ـــ يُحسب لشاكر لعيبي في شهادته هذه إشارته إلى شاعرات وكاتبات عراقيات، وتأكيده أنهن لم يخرجن بوفرة إلا منذ سنوات التسعينيات لكن هذه الإشارة لم تكن لتقدم صورة وافية عنهن وإنما لإعطاء صورة تشبيهية تقارن حالهن بحال شعراء الخارج الذين هم مثلهن( شاعر غريب في مكان غريب).

إجمالا نقول: لا وجود لداخل وخارج في الشعرية العراقية، وإنما هي التحولات التي تعد الفيصل في تقييم التجارب أو فرزها. وهذه التحولات هي من القوة والنفاذ ما يشي بأنها ليست مرهونة بمقياس السنوات العشر لا أكثر ولا أقل، فذلك يخالف منطق الأشياء في التطور والنماء وإنما هي متغيرات الفن الموضوعية والشكلية وما تفرضه ظروف المرحلة التاريخية ومتطلبات التجارب الشعرية نفسها من محتمات. أما الاستثناءات في طفرات النمو والولادة والانقراض فلا يؤخذ بها من الناحية العلمية لأن النتائج تبنى على الاعم الاشمل لا الاستثناءات فضلا عن أن الشعرية العراقية لم تعرف القطيعة بين الاجيال، بل هي ممتدة النمو والتطور بلا قفزات ثلاثية أو طفرات نوعية فوضوية غير طبيعية.