مرور عقدين على الاحتلال الأمريكي للعراق

Sunday 19th of March 2023 10:56:32 PM ,
العدد : 5393
الصفحة : آراء وأفكار ,

بلقيس شرارة

منذ 11 أيلول عام 2001، عندما نُسف برجا مركز التجارة العالمية في نيويورك، من قبل اعضاء منظمة القاعدة، وقُتل أكثر من 3000 شخص، غيّرت هذه الحادثة أمريكا والعالم. وغدت محط انشغال العالم على الصعيد الإعلامي، يوم انقسم التاريخ بين ما قبل وما بعد الحادث. وطغت صورة البرجين على المشهد الدولي العام، وجاءت أحداث ايلول للتأمل في الواقع العربي والثقافة العربية وتضخيم الصورة النمطية عن العرب والمسلمين.

فبدأ الحديث في البداية يدور في الفضائيات عن الحرب على الإرهاب، وبدأ الرئيس "بوش، ألابن" بمقولة: "من ليس معنا فهو ضدنا"، ومن ثم تغير الحديث وأصبح عن العراق وعن صدام حسين، وعن تغيير خارطة الشرق الأوسط. هذا بالرغم من ان القائمين في العمل إحدى عشرة شخصاً منهم، كانوا من السعوديين والاربعة الآخرين من جنسيات مختلفة، وليس بينهم عراقي. وما زال آنذاك كل من بن لادن والملا عمر طليقين، وهما العقلين المدبرين خلف نسف المركز التجاري العالمي في نيويورك.

ثم تحول الحديث إلى أن العراق يمتلك الأسلحة النووية، فاتُخذ قراراً من قبل هيئة الأمم بالتفتيش عن تلك الأسلحة في العراق. وبالفعل بُعث ممثلين عن هيئة الأمم برئاسة (هانز بلكس/ Hans Blix) إلى العراق وقضوا بعض الوقت ولم يجدوا أية أسلحة نووية، فكان تقرير هيئة الأمم أنه لا يوجد سلاح نووي في العراق. ولكن القيادة الأمريكية قررت مسبقاً غزو العراق، وتحتاج إلى نوع من التأييد في هذا العمل. وبدأت الحملة الإعلامية المنظمة، التي اقرت ان جيش صدام حسين هو ثالث جيش في العالم من حيث القوة والعدد. ويظهر انه صدق هذه المقولة: حيث وجه صدام حسين عندما بدأت الحملة على احتلال العراق كلامه لكبار العسكريين عندما زاروه في مقره، بقوله: (إن العراقيون مستعدون للدفاع عن بلدهم ولو اضطروا إلى "القتال بالخناجر"، و" لو دُمّر نصف وسائلكم في الدفاع الجوي ستقاتلون بالنصف الآخر، وإذا دُمّر النصف الآخر ستقاتلون بالخناجر... عدوكم ضعيف وأنتم أقوى منه والسبب أنكم على حق وهو على باطل" ... سنقاتلهم بقصب الأهوار والحجارة والصواريخ والطائرات وبكل ما لدينا وسنهزمهم). "جريدة الحياة، 9 نيسان 2002".

والتقى في تلك المدة "توني بلير" رئيس وزراء بريطانيا آنذاك، بالرئيس بوش، والقى كلمة: "علينا أن نكون جاهزين للتحرك عندما نتعرض لتهديدات ارهابية أو أسلحة دمار شامل، وإذا لزم الأمر يجب أن يكون التحرك عسكرياً، وهنا أيضاً إذا كان الأمر ضرورياً ومبرراً يجب أن يؤدي إلى قلب النظام". ووصف توني بلير نظام صدام (بالكريه فظ وقمعي، تتعرض فيه المعارضة للتعذيب والإعدام). جريدة الحياة، 9 نيسان 2002".

وكان هنالك انقسام بين النواب في المجلس البريطاني، إذ لم يكونوا مقتنعين بهذا المنطق، وكذلك الشعب البريطاني، وعلى اثرها خرجت المظاهرات في لندن، التي قُدر عددها بمليون شخص، بشعارات ضد الحرب على العراق. ثم اعلن توني بلير رئيس وزراء بريطانيا آنذاك انهم حصلوا على معلومات تدل من ان صدام حسين باستطاعته ان يضرب الغرب باسلحة متطورة خلال ثلاث أرباع الساعة. وكانت الحكومة البريطانيا من أكثر المؤيدين للغزو.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى بدأوا بمقولة جديدة وهي ان يغيروا المنطقة التي تدار بالحكم الدكتاتوري في الشرق الأوسط إلى حكم ديمقراطي، وكأن بمجرد أن يقرر جورج بوش "الأبن"، بجلب الحكم الديمقراطي للمنطقة، ستنتشر في المنطقة ويحل السلام والوئام، هكذا انتشرت هذه المِقولة في العالم الغربي، وبهذه البساطة، صّدق الجميع من أن بعد حكم اربعين عام في العراق من قبل حزب البعث وصدام حسين بقبضته الحديدية، ستنتشر وتزهو الديمقراطية، كما ينتشر وينتعش العشب بعد المطر. فالديمقراطية كما يقول الكاتب والروائي عبد الرحمن منيف : "هي الاساس ليس لفهم المشاكل، وانما للتعامل معها، وبمقدار حضورها كممارسة يومية، وكقواعد وتقاليد، تضعنا في مواجهة مباشرة مع المسؤولية، وتضطرنا، مجتمعين، للبحث عن عرض المزيد".

وبدأت الحرب من دون تأييد مجلس الأمن، فقط من جانب الولايات المتحدة وانكلترا وعدد من الدول الأوربية. حتى فرنسا برآسة جاك شيراك، لم تكن مؤيدة للحرب، وإنما كان مصراً على الحل الوحيد الذي يقضي باعطاء العراق فرصة أخيرة بالتعامل مع القرار الذي يشدد على ضرورة نزع السلاح العراقي والسماح بعودة المفتشين الدوليين بأسرع وقت ممكن.

وبدأ القصف في 20 آذار 2003، وكانت أول بناية تقصف هي بناية الاتصالات، البرق والبريد، الني صممها رفعة في ستينيات القرن الماضي، والتي هي المرة الثانية التي تقصف بها من قبل الأمريكان، إذ كانت المرة الأولى عند ما اجتاح صدام حسين "الكويت" عام 1990.

وانهار الجيش العراقي الذي قالوا عنه أنه ثالث جيش في العالم خلال أسابيع، وانتهت الحرب بانتصار الأمريكيين خلال ثلاثة أسابيع، ودخلوا بغداد، وهرب صدام وعائلته، إلى أماكن مختلفة في العراق وخارجه. وكانت اسهل حرب قام بها الجيش الأمريكي، فلم يتوقعوا ان ينهار الجيش العراقي بهذه السرعة .

وإذا ما قارنا الاحتلال البريطاني أثناء الحرب العالمية الأولى، حيث استعمروا العراق لأسباب اقتصادية والهيمنة على النفط، وكانت هنالك مقاومة شديدة وثورة ضد الاحتلال دامت أعوام، لكن بالرغم من هذا فقد ادخل البريطانيون على المجتمع العراقي لأول مرة العقل التنويري والديمقراطي الذي تناقضه المصالح الاستعمارية، كما اسهموا في تأسيس الجيش العراقي ودولة عراقية برلمانية حديثة على اساس مدني وليس طائفي، وزرع في نفوس العراقيين أهمية التعليم من أجل المعرفة فأسسوا نظاماً مدرسياً وجامعياً حديثاً، شبيهاً بالنظام التعليمي البريطاني، واعادوا فتح كلية الحقوق في بغداد، كما جاء مع الجيش البريطاني مستشارين لتنظيم قوانين البلاد، ومستشرقين وآثاريين قاموا في التنقيب في جنوب العراق وشماله.

بينما نرى أن الأمريكيين لم يكن عندهم خطة عندما احتلوا العراق، و أول ما قام به (بول بريمر/ Paul Bremer) عندماعُين الحاكم المدني، حل الجيش العراقي والشرطة، وأحدث هذا الفراغ نوع من الفوضى التي عمت البلاد، إذ اعتبر ان الجيش والشرطة هما جزء من حزب البعث، ولم يهتم المسؤولون من الأمركيين الذين احتلوا العراق، بالمحافظة على الابنية المهمة وانما حافظوا على وزارة النفط فقط، أما الدوائر المهمة فقد تُركت للنهب والسلب والحرق من قبل جمهور جاهل في الحفاظ على تراثه، فنهبت قصور صدام، و وزارة التخطيط التي صممها المعمار الإيطالي جيو بونتي التي لم تسلم من النهب والحرق. وأصبحت الآثار العراقية لقمة سائغة للصوص الذين اختاروا دول الجوار، عندما نهب المتحف العراقي ومركز الوثائق في بغداد والمكتبة الوطنية، ومتحف الفن الحديث، ومكتبة الأوقاف التي تعتبر من المكتبات المهمة في العراق، لأن كثير من العراقيين كانوا يوصون بمكتباتهم الخاصة إلى مكتبة الأوقاف، ومنها ما تحتوي على مخطوطات مهمة ونادرة في الوقت نفسه، ولو وضعت دبابة واحدة أمام هذه المؤسسات والمكتبات لمنع الذي حصل. فقد نهب التراث الانساني من متحف بغداد الذي يرجع الى بناء اقدم حضارة في العالم. هذا ما حل في بلاد وادي الرافدين مهد الحضارات الأولى التي ولدت على ارضها القوانين البشرية الأولى وشهدت ظهور ابرز مَعْلم حضاري في تاريخ الانسانية وهو الكتابة. وشريعة حمورابي هي اول تطبيق عملي للحد من السلطة المطلقة، وهي اول شريعة في ذلك العصر تلبي حاجات المجتمع وتعالجها من الناحية الادارية والسياسة والاقتصادية والاجتماعية.

والى الان ما زال عدد كبير من القطع الأثرية التي نُهبت لم يستطع المتحف الحصول عليها أو استرجاعها، ونفس الشيء بالنسبة للمخطوطات التي نُهبت، أو تلفت والصور الحديثة التي بيعت باسعار بخيسة في دول الجوار.

وبدل من ان تحل الديمقراطية كما ادعوا قبل احتلال العراق، وتأسيس سلطة مدنية، فقد خلقوا ما يسمى بعصر الطوائف، وأعادوا العراق إلى العصور الوسطى، حيث أدخل الدين كجزء من السياسة وأصبحت السلطة الدينية، لها أهمية في جميع مرافق الحياة اليومية إن كانت اجتماعية أو سياسية. وبدأت بتكوين أعضاء مجلس الحكم على أساس طائفي، الذي ظل عاماً كاملاً في الحكم، فعين اعضاء المجلس حسب الانتماء الطائفي والعرقي، وخصصت مقاعد معينة للطائفة الشيعية وأخرى للطائفة السنية والأكراد وغيرهم من الفئات. واتخذت المنطقة الخضراء مقراً الى مجلس الحكم الموقت، وبعض السفارات، وأصبحت حصناً، منفصلاً عن المدينة بغداد.

كما اصبح المرجع الأعلى في النجف "آية الله السيستاني"، الذي حاول ان يبعد نفسه عن السياسة، لكن بالرغم من هذا، فإن معظم السياسين المسؤولين كانوا يذهبون لإستشارته، حتى إن الحاكم الأمريكي، بريمر حاول مرات عديدة زيارته ولم ينجح، لكن كانت هنالك اتصالات غير مباشرة بينهم. كما كان يبدي رأيه بصورة غير مباشرة، مثل رفضه إلى الدستور الموقت، ولا يمكن كتابة دستور من دون برلمان منتخب.

بعد بضعة اشهر، بدأت آفة الإرهاب تضرب مفاصل العراق، وقد بدأت بتفجير السفارة الأردنية، ولم يكن هنالك جيش، أما الشرطة فقد اعيد تكوينها من جديد ولم تكن مؤهلة للتصدي الى الارهابيين الذين اجتاحوا العراق، وبعدها تم تفجير مقر هيئة الأمم مستهدفين العاملين فيه وقتل عشرون منهم وعلى رأسهم المبعوث الأممي (فيرا ديميللو/Vieira de Mello ). كما بدأ التخلص من الكفاءت العلمية فاغتيل عدد من علماء الذرة، واضطر البعض الآخر لترك العراق، وبدأت هجرة العقول بازدياد.

تفجير مقر هيئة الأمم في بغداد 2003

وعلى اثر التقسيم، الذي اتبع في الانتخابات الأولى التي جرت بعد عام على تأسيس مجلس الحكم في عام 2005، فلم تكن انتخابات علمانية حسب الكفاءت، وإنما حسب الانتماء الطائفي، ولو حاول بعض الاشخاص وكانوا من القلة في ان يمثلوا المجتمع المدني، لكنهم بائوا بالفشل، لقلة عددهم في المجلس النيابي. ومنذ ذلك التاريخ جرت عدة انتخابات، حتى عام 2021، ولم تسلم جميعها من اتهامات التزوير والخروقات، والصراع على المناصب وتوزيعها حسب المحاصصة الدينية والطائفية والعرقية.

وفي نهاية عام 2011، أي بعد سبع سنوات من الاحتلال، وأثناء حكم الرئيس الأمريكي " باراك أوباما/ Barack Obama" بعد أن فشلوا في بناء البلد، تم انسحاب الجيش الأمريكي من العراق، حسب الاتفاقية الثنائية التي وقعت عام 2008.

وفي عام 2014، ظهرت فئات ارهابية منظمة وممولة، مدعين بتأسيس دولة اسلامية، واطلق عليهم "داعش"، أي الدولة الاسلامية في العراق والشام، وهو تنظيم مسلح يهدف اعضاءه حسب إدعائهم إلى إعادة "الخلافة الاسلامية وتطبيق الشريعة". وأول ما قاموا به، هو تدمير الآثار التي تعود لعصور قديمة، منها الآشورية والبابلية المدرجة ضمن التراث العالمي التابعة لمنظمة اليونسكو في مدينة الحضر وآشور، ولم ينجى حتى متحف الموصل من تدمير الآثار التي احتوى عليها وكان مصيره كمصير متحف بغداد قبل عقد تقريباً.

والآن بعد مرور عشرين عاماً على الغزو الأمريكي، فالحكومة ضعيفة، ليس باستطاعتها محاسبة الفساد الذي استشرى في البلد وهيمن على جميع مفاصل الحياة. وأصبح العراق من أضعف بلدان المنطقة، تتدخل في شؤونه بلدان الجوار متى شاءت. وأصبحت الفئات التي جاءت بعد 2003 إلى الحكم باسم الديمقراطية، هي نفسها في معظم الانتخابات التي جرت في العراق خلال العقدين الماضيين، كما اصبح لكل طائفة مليشيات مسلحة تجوب الشوارع، إذ انعدمت القوانين في البلد، فانعدمت كلمة المواطنة في بلد مثل العراق اليوم. هذه هي الديمقراطية التي بشّر بها الأمريكيون منذ عقدين، وما زلتُ أتذكر ما قاله أحد الصحفيين الأمريكيين، عندما قرر الرئيس بوش"الأبن" غزو العراق عام 2002، "نحن لا نبني وإنما ندمّر". وسياسة فرّق تَسْد، تنطبق تماماً على السياسة الأمريكية التي اتُبعت في غزو العراق، وما آل إليه من تدمير بنية المجتمع.