استلهام روح المدينة الحية في أعمال الفنان حميد شريف

Sunday 19th of March 2023 11:08:16 PM ,
العدد : 5393
الصفحة : عام ,

كريم سعدون *

يعيش الفنان غربته حتى وهو في موطنه لبحثه الدائب عن الخلاصات وانشغاله بالتفكير في الكيفية التي ينتج فيها فنه المكتنز بوعيه بها، وذلك لشعوره بأختلافه عن كل مايحيط به،

بدءاً من وجوده الذي يشعر بتراجعه عن حلمه بمكان يصممه وفقا لما يريده، مكان فاضل يسوده الفكر الانساني المتسامح الذي يكون مرجعاً لحياةٍ يتقبل فيها الآخر ويتعايش معه، وهو في ذلك يتشرّب المكان الذي هو فيه ويحفظ موجوداته التي تفرز له العلامات القابلة للاستقرار في الذاكرة والنمو فيها فيتشكل منها خزينا غير قابلٍ للمحو أو الاندثار بل يظل الفنان في ارتباطه بأي مكانٍ جديد يأوي وجوده، باحثا فيه عن كل مايعزز ذلك ويقيم المقارنات والمقاربات .

اِن الفنان غريب في وسط يعرف تفاصيله بدقةٍ سواء في تفاصيل الحياة البسيطة منها أو الأكثرها تعقيدا، لذلك فان الشعور بغربته ينجم من عدم قدرته على غض طرفه عن الألم الذي يهيمن عليها، وبالمقابل لايملك حلولا جاهزة أزاء آلة القسوة التي يملكها الفكر الاحادي المهيمن، والارادة بمواجهته من خلال الانجاز الفني، لم تعد ممكنة، ولايوجد مايكفي من القدرة على مجابهته، والممكن الوحيد الذي يستطيعه هو الهجرة الى المكان الذي يوفر له جوا من الحرية والتسامح ليستطيع في ظله أن ينجز مايريده، فهناك الكثير من الفنانين والمبدعين بعامة من هاجر بسبب الاوضاع التي كانت تسود في بلدهم حيث يهيمن اليأس من الأملِ في الخلاص.

والتشكيلي حميد شريف، الذي ولد في كركوك وعاش طفولته وشبابه فيها، هو واحدٌ من الذين هاجروا منها وأصبح مقيماً في مدينة اخرى قد شعر ان فيها مايمكن ان يولّد مقاربات بينها وبين كركوك التي تتمتع بمزايا خاصة بفعل تركيبتها الثقافية المتنوعة ولاحتفاظها بأرث تاريخي عريق، كما انها حظيت بحراك ثقافي متميّز سُجل لها. لهذه المدينة بيئة متنوعة ايضا وتشكل قلعتها مركز المدينة الحي، حيث تعدُّ سجلاً تأريخياً يبدأ من معمارها الى ساكنيها، ولاغرابة اذا وجدَ السلام صفة تتصف به المنطقة ويتعايش الناس فيها بحميمية، ما أثر على طبيعتهم ورقّقَ سلوكهم وانعكس على طبيعة تفكيرهم فالمدينة زاخرة بالسياسة كما بالدين وجَوّها المشبع بنفحات الصوفية اَثر بشكل خاص على طبيعة الكثيرين ومنهم الفنان شريف ومنجزه التشكيلي كما نجد ذلك عند الكثير من اقرانه في بحثهم الثقافي والفني، فتحول حبه لمدينته الى طبيعة تحرك اِتجاه التفكير في كل مايمت بصلة الى انسانية مشبعة بالمحبة للطبيعة والانسان، ووجد في الفن ما يحقق له بيئة مثالية لغرس أفكاره فيها. وهكذا يبحث حميد شريف عن ما يجعل العمل الفني مَحْمَلاً لفكر يستلهم حاجات الانسان وتطلعاته، فهو مؤمن بأن للفن وظيفته السامية، تلك الوظيفة التي تبتعد به من كونه ممارسة لعمل الفنان وقدرته على انجاز لوحة مُحمَّلة بمواصفات نجاحها، الى عمل مُشبعٍ بفكر ووعي نافد. ركز في عمله على ايجاد مركزٍ لبحثه في طبيعة المكان والكيفية التي يتلمسها في بنية اعماله وكان عليه ان يجد ادواته الخاصة التي تخدمه في هذا المسار ويتلمسه عبر اداء تقني يحافظ فيه على روح المكان الذي يفتقده ويؤسس له اسلوبيا على سطح لوحته، لذا انصبَّ عمله كما أراه على كيفية الحفاظ على روح المكان الذي لازال يحتفظ به في ذاكرته المشبعة به اصلا، ويحقق بذلك ابقاء جذوة المكان متوهجة فيها. والحقيقة ان الابتعاد عن المكان الاول يوفر له متسعا في الذاكرة ينهل من المكان الجديد ارثاً مضافاً، الا ان ذلك لايزيح ولو بنسبة معينة أثر المكان الاول وخصوصا عراقته وغِناه .

تتشابه بعض المدن فيما بينها ويمكن ايجاد ذلك عبر عقد مقاربات، فحميد شريف وجد في فلورنسا المدينة التي يسكنها الآن الاقرب الى روح كركوك ، معمارها وحميمية طرقاتها، وعندما زرته فيها قبل سنوات، دُهشت لمدى ذلك القرب، اذ وجدت الأثر الذي تركه الزمن على جدرانها العتيقة مشابها للاثر الموجود على جدران معمار القلعة في كركوك ومبانيها، فالجدران فيهما مَحمَلاً للتاريخ، وهنا وجد الفنان شريف فيها ضالته التي تدفعه الى استحضار كل ما علق في ذاكرته من ذلك المكان لينهل منها العلامات التي يستدرجها الى متن اللوحة، يدفعه الحرص لاحتضانه وخوفه من فقدانه واندثاره ، وجدت ذلك في اعماله الكبيرة الحجم التي شاهدتها في مرسمه الخاص في فلورنسا وهو موضع ضمن بناء عتيق تفوح منه رائحة التاريخ، وما أنجزه فيه من أعمال دفعه الى مايشبه البوح بمآل الانسان الذي يتعرض الى محاولات مقصودة لتعرية روحه ونزع كل مايتصل بثقافته الخاصة منه، وشريف في أعماله كأنه يستعير دور الحارس لمدينته الذي ينام على حلمه بها.

يشتغل الفنان على سطح لوحته كما لو يحتضن جلد مدينته فهو يمارس بناء سطحه وتعريته بالحذف والتقشيط لكي يصل فيه الى ما يغذي رغبته في استعادة ولو جزء مما يحبه ويحافظ عليه في داخله ويقدمه بتكوين يُبرز منه بثبات قيم الجمال الذي يريد اشاعته فيها، تلك القيم التي تتصل بفكرة الوجود الانساني المهدد، اي ان حميد شريف، لسعة انشغاله بذلك فأنه يتخذ من مدينته ملاذا لافكاره، فهو مثلا يحضّر ألوانه كما لو يحضرها الصانع بيديه فهو يريد ان يضع فيها شيئاً منه ويستعير من موجودات بيئتها صوراً تسند تكوين العمل الفني وتغنيه ويحافظ في الوقت ذاته على تركيز بؤرته الى مايُشبع افكاره ويعمل على تقويل العلامات فيه ، فالبيئة التي تحضر في أعماله الفنية يريد لها ان تشبه الانسان الذي يفكر به، رقيقة وجميلة وتمنح نفسها بيسر الى المتلقي والمهتم، كما ان الألوان التي يختارها فانه يعمل على تعتيقها ليجعلها الاقرب الى صورة المدينة التي يحب طالما هي التي تحتضن خلاصات تاريخية وجمالية، ويريد ان يكون اكثر صدقا في استحضار روحها في العمل ويجعل استذكارها تمثيلاً لصدق الافكار التي يريد ايصالها والعمل على ان تكون مكونات لوحاته محملة بها، وكما ذكرت فأنه لايريد ان يقدم عملاً يتصف بالجمال وانما يريد منه ان يحمل افكاراً تسمو بقيمة الانسان ومحبته ويجعله مثل تعويذةٍ للتذكير بمعاناتهِ من التسلط والقسر والتنمّر.

ان الاستعارات من حياة المدينة تجد صدى لها في كل اعماله وحتى في التخطيطات التي يعملها، فهي شئ خفي، كما الضوء في عتمةٍ، ولا يجد حميد شريف فكاكاً منها بل انها تشكل دوما الروح التي ترقِّق نظرته للعالم وعلاقته بالانسان وتطبع اعماله بها .

*فنان تشكيلي – السويد