الأدب الروسي: حظر وتعتيم وحرب ثقافية باردة

Wednesday 22nd of March 2023 12:05:19 AM ,
العدد : 5394 (نسخة الكترونية)
الصفحة : عام ,

لطفية الدليمي

يتّفق معظم النقّاد والمشتغلين في حقول الادب والرواية وتاريخ الافكار والثقافة أنّ الادب الروسي - وبخاصة في الحقبة القيصرية – هو أحد الروافد الحيوية التي ساهمت في تشكيل الرواية العالمية.

كلّ الكُتّاب العالميين (حتى لو كانوا من أولئك الموصوفين بغُلاة مروّجي فكر مابعد الحداثة) صرّحوا بأنهم شرعوا في القراءة الادبية الجادة المقترنة بالمتعة بعد أن وقعت أعمال الكُتّاب الروس العظام (تولستوي، دوستويفسكي، غوغول، تشيكوف،،،) بين أيديهم. أظنُّ أننا نتفقُ في أنّ هؤلاء الكتّاب يمثلون الجوهرة في تاج الادب الروسي الذي طاله الكثير من العبث الايديولوجي في إطار مايسمى (الواقعية الاشتراكية) في حقبة الاتحاد السوفييتي. المثال العالمي يصحُّ في عالمنا العربي ؛ إذ من النادر للغاية أن نعثر على محبّ للأدب في العالم العربي لم يبدأ سلسلة قراءاته الادبية بقراءة أحد روائع الترجمات العربية للادب الروسي. هل بيننا من يمكن أن ينسى الجهود العظيمة لمترجمي الأدب الروسي إلى العربية من أمثال سامي الدروبي و ضياء نافع و حياة شرارة وغائب طعمة فرمان،،،؟

كم كان ناباكوف محقا عندما وصف الادب الروسي بأنه (الالعاب النارية التي أضاءت عالم الادب العالمي بأنوارها المبهرة) ولم يكن منقادا انقيادا عاطفيا لما تمليه جيناته الروسية او إلى ما تفرضه عليه نوستالجيا الطفولة والشباب، فقوله ذاك يمثل استحقاقا كاملا ومنصفا للادب الروسي.

كثيرون منّا قرأوا في مقتبل شبابهم أو فيما بعدُ - الأدب العالمي بكلّ كلاسيكياته المعروفة ؛ لكن تبقى للادب الروسي في الحقبة القيصرية سطوته الكبرى ولذّته السحرية. إذا كان كلّ الأدباء الروس قد خرجوا من معطف غوغول فلن يكون من قبيل المبالغة أنّ القرّاء العالميين خرجوا من جُبّة تولستوي. ثمّة عنصر روحي غريب في الادب الروسي إبان الحقبة القيصرية يجعل هذا الادب عصياً على التجاوز بفعل مقادير الزمن، كما يجعل من القراءات الأولى لذلك الأدب لصيقة بالروح والعقل. هل يمكن أن ننسى (آنا كارينينا)؟ هل يمكن أن نتغافل عن (راسكولنيكوف) دوستويفسكي؟ حتى لو أعدنا قراءة أعمال الأدب الروسي الاولى التي قرأناها من قبلُ فسنقرؤها بكلّ الشغف الروحي والانغماس الكامل في عوالمها كما فعلنا من قبلُ. ربما لهذا السبب صارت هذه الأعمال شاخصاً رئيسياً في صناعة روح الأمة الروسية التي ماكان في استطاعة المتغيرات السياسية اللاحقة أن تدجّنها أو تدخلها عنوة في إطار آيديولوجي ضيق لايتسع لها ولاترتاحُ إليه.

عانت روسيا – الأمّة إستحالات جيوسياسية كبرى نجمت عن سطوة الاتحاد السوفييتي الجبارة لكونه قوة عظمى أعادت رسم المشهد العالمي على كلّ الاصعدة، ثمّ حصل ماحصل في بداية تسعينات القرن الماضي عندما تفكّكت المنظومة السوفييتية (أو جرى تفكيكها بالاصح) بفعل ألاعيب عتاة السياسة العالمية وتخاذل بعض الروس من داخل قلب الأمة الروسية. يلاحظ المتابع لشأن الأدب الروسي أنّ ترجمات إبداعات الأدب الروسي إلى العربية إبان الحقبة السوفييتية كانت معقولة وإن إنطوت على أسماء محدّدة ذوات توجهات تخدم الرؤية الفلسفية والسياسية لمنظومة الحكم (وهذا ماتفعله كلّ منظومات الحكم بأساليب مختلفة حتى لو تلفّعت بمسميات من قبيل الليبرالية)، فضلاً عن تخصّص بعض المترجمين العرب في ترجمة الادب الروسي ؛ لكنْ حصلت قطيعة ترجمية مع حقبة مابعد الإتحاد السوفييتي بحيث صار الأدب الروسي ثقباً أسود للقارئ العربي الذي ماعاد يعرفُ كيف إنعكست مفاعيل انكفاء الاتحاد الروسي إلى حدود (فدرالية روسية) على طبيعة العيش وتفكير الروس ورؤيتهم للعالم، وكذلك كيف إنخذلت أرواحهم التي كانت تتوق لخطف لذّات العالم بدل الوقوف في طوابير طويلة لنيل بعض (الزبدة) مثلاً، ثم اكتشفوا الحقيقة الصارخة: سياسات السوق الحرة أكذوبة كبرى مثل كلّ الآيديولوجيات، وأنّ غير القادرين على صناعة حياة فضلى لهم بإرادتهم الذاتية لن يقدّم لهم الآخرون سوى أكياس من (الملابس المستعملة) بعد أن أوهموهم بفراديس موعودة ماكانت إلا سراباً.

لابدّ في هذا الشأن من التنويه بجهود مترجمين عرب معاصرين للأدب الروسي، ولعلّ في مقدّمتهم الدكتور (تحسين رزاق عزيز) الذي يعملُ بجهود حثيثة في ترجمة عيّنات منتخبة من الأدب الروسي المعاصر بما يمكن أن يقدّم صورة معقولة عن طبيعة الحراك السائد في هذا الأدب الذي نشرت دار (المدى) العراقية أعمالاً عديدة ممثلة له، منها: (صبية من متروبول) للروائية لودميلا بيتروشفيسكايا، (ميديا وأبناؤها) و (الجنازة المرحة) للكاتبة لودميلا أولينسكايا، (لاوروس) و (الطيار) للكاتب يفغيني فودولازكين، (ذهبُ العصيان) للكاتب أليكسي إيفانوف.

قراءة أعمال أحفاد تولستوي المعاصرين تجربة رائعة، وأراها تتقدّمُ كثيراً على أعمال روائية عالمية معاصرة بدت لي عقب الانتهاء من قراءتها ضرباً من ملاعبة العبث لأنها تفتقد ذلك الزاد الروحي المُشبِع الذي مكّن الروائيين الروس المعاصرين من الجلوس إلى مائدة تولستوي العظيم ومشاركتنا بأطايب الصنائع الأدبية.

في مقابل أحفاد تولستوي وديستويفسكي، المخلصين لجماليات الفن الروائي، شاع في العقديْن الاخيرين من الحقبة السوفييتية نمطٌ روائي يمكن وصفه بالانتماء إلى ثقافة القيعان المجتمعية Underground Culture. يختصُّ هذا النمط الروائي بخصيصتين مميزتين: محاولة الايغال في تعتيم صورة العوالم الديستوبية للمجتمع السوفييتي بما يجعل الفن الروائي منطوياً على حمولة سياسية مباشرة، وتكثيف المفردات اليومية السائدة وعدّها بديلاً موضوعياً وجمالياً عن اللغة الرفيعة. ربما يكون فلاديمير سوروكين Vladimir Sorokin، مهندس النفط الروسي المولود عام 1955، الممثل الأخلص لهذه الثقافة. لاينفي سوروكين إخلاصه وتمثيله للثقافة الديستوبية الحالكة، وتسويغه لفعلته هذه أنّ تاريخ القرن العشرين يضمّ الكثير من الكليشيهات الثقافية الجاهزة التي يمكن أن تضبّب وقائع التاريخ الحقيقية.

يرى سوروكين أنّ روسيا لم تدفن ماضيها كما فعلت ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية، وأنّ من أهمّ واجباته هو تعرية الماضي السوفييتي تمهيداً لدفنه، وهذا مااعتمده في رواياته الاولى وبخاصة في ثلاثية الثلج Ice Triology، ثم في يوم أوبريتشنيك Day of the Opritechnik، ثم في العاصفة الثلجية The Blizzard، وكلها ذات محمولات سياسية معارضة للسياسة الرسمية الروسية (ومنها السياسة البوتينية).

جاءت الحملة العسكرية الروسية على أوكرانيا لتعجّل في وتيرة ضخّ الزيت على نار الحرب (الثقافية) الباردة التي عاودها الغرب بالضد من روسيا، وكان من نتائج هذه الحرب الثقافية تسريع وتيرة ترجمة بعض الاعمال الروائية الروسية (المعارضة للسياسة البوتينية) إلى الانكليزية، وهكذا شهدنا في بضعة شهور قليلة من بدء النزاع الروسي – الاوكراني ترجمة عمليْن لسوروكين إلى الانكليزية:

- العمل الأول عنوانه تيلوريا Telluria، وهو رواية مستقبلية / فنتازية / ديستوبية / كولاجية تضمّ خمسين فصلاً لارابطة روائية بينها، يتراوح طول الفصل الواحد من بضع كلمات في مقطع واحد مفرد إلى عشرة أو عشرين صفحة. يمثل مركّب التيليريوم - ذي المواصفات شبيهة عقار LSD الذي يعدُّ أحد المكيفات العقلية الفعالة – العنصر الرابط بين كلّ أجزاء الرواية.

- العمل الثاني عنوانه قلوبهم الاربعة Their Four Hearts، وهو عمل روائي ساخر يحكي عن مناسيب العنف والطاقة الجنسية المخبوءة في أرواح مواطني الدولة السوفييتية (الشمولية). ثمة أربعة أبطال روائيين: رجل عجوز، شاب يافع، رجل، إمرأة، يجمع هؤلاء مسعى غامض ينطوي على أفعال جنسية وحشية ذات طبيعة عشوائية تشملُ غرباء غير معروفين لهؤلاء الأربعة وحتى أعضاء من أسَرِهِم، وفي ثنايا هذه الافعال العنفية يتحاور الاربعة بشأن قضايا كثيرة تخصُّ الحياة داخل الدولة السوفييتية.

في مقابل هذا التيسير واسع النطاق لأعمال سوروكين صرنا نشهدُ تعتيما وحظرا مقصودا على أدب تولستوي ودوستويفسكي وأحفادهم. هل يسعى الغربيون لإحلال سوروكين محلّ أعاظم الأدباء الروس؟ أظنّهم يسعون لذلك. هم لايبتغون الجدارة الادبية ولايلتفتون إليها بقدر مايريدون تحجيم القدرة الروسية على كلّ الجبهات (الاقتصادية والعسكرية على وجه التخصيص). هل سينحج الغربيون في مسعاهم؟ أظنّ الأمر رهيناً بقدرتهم ورغبتهم في دفع فواتير الزمّار*، وقبل هذا بوجود روسٍ يرغبون في القيام بدور الزمّار.

* الاشارة هنا إلى كتاب (من الذي دفع للزمّار: المخابرات المركزية الامريكية والحرب الباردة الثقافية Who Paid the Piper?: CIA and the Cultural Cold War

لمؤلفته فرانسيس ستونر سوندرز. الكتاب منشور عام 2000، وقد ظهرت ترجمته العربية عن المركز القومي للترجمة.