أكتب لكم من أربيل!

Saturday 25th of March 2023 08:58:45 PM ,
العدد : 5396
الصفحة : آراء وأفكار ,

هاشم صالح

أود أولا أن أشكر مؤسسة المدى ورئيسها الأستاذ فخري كريم على هذه الدعوة الكريمة التي أتاحت لي أن أشارك في هذا المعرض الكبير وأن أرى العراق بأم عيني لأول مرة:

هب النسيم وهبت الأشواق

وهفا اليكم قلبه الخفاق

لي في العراق عصابةٌ لولاهم

ما كان محبوباً الي عراق

لا دجلةٌ لولاهم وهي التي

عذبت، تروق ولا الفرات يذاق

(محمد مهدي الجواهري)

يطيب لي منذ البداية أن أضع مقالتي كلها تحت راية هذا الشاعر العظيم، شاعر العراق الأكبر. وعلى ذكر الجواهري وبما أن الشيء بالشيء يذكر فاسمحوا لي أيضا أن أعود في الزمن قليلا أو كثيرا الى الوراء لكي أروي القصة التالية: في عام 1944 أي في منتصف القرن الماضي (منتصف القرن العشرين) أقيم مهرجان ضخم في العاصمة السورية دمشق بغية الاحتفال بذكرى أبي العلاء المعري. وقد تنادى اليه أقطاب المثقفين والشعراء الكبار من شتى الأقطار. كان هناك فطاحل كبار من أمثال بدوي الجبل وعمر أبو ريشة وآخرين عديدين. ومن العراق جاء محمد مهدي الجواهري مع وفد كامل. وكان هناك آخرون من الأردن ولبنان وفلسطين الخ. ومن مصر قدم الدكتور طه حسين بطبيعة الحال على رأس وفد كبير. وهل يمكن أن يقام مهرجان لتكريم المعري من دون حضور طه حسين؟ مستحيل. عيب. لا يجوز. أليس هو معري العصر؟ ألا يتماهى فيه الى درجة الانصهار؟ المهم أنه عندما جاء دور الجواهري صعد الى المنصة وألقى قصيدة عصماء مطلعها:

قف بالمعرة وامسح خدها التربا

واستوح من طوق الدنيا بما وهبا

واستوح من طبب الدنيا بحكمته

ومن على جرحها من روحه سكبا

حتى وصل الى هذا البيت:

لثورة الفكر تاريخ يحدثنا

بأن ألف مسيح دونها صلبا

يقال بأن طه حسين عندما سمع هذا البيت لم يتمالك نفسه فقام فورا وعانق الجواهري بحرارة. وهذا شيء غير مستغرب على الاطلاق لأن طه حسين يعرف معنى الفكر وثورات الفكر. وقد دفع ثمنها غاليا. ومعلوم أنه اشتبك مع التقليديين والمحافظين أو قل اشتبكوا معه في معارك فكرية ضخمة سجلتها كتب التاريخ. ومعلوم أنه حاول تنوير الشعب المصري وبقية الشعوب العربية والاسلامية عندما أصدر كتابه الشهير: “مستقبل الثقافة في مصر”. وهو كتاب لا يزال مهما حتى الآن على الرغم من مرور 85 سنة على صدوره. بل ويمكن اعتباره بمثابة البيان الأول للتنوير العربي كله وليس فقط للتنوير المصري.

يسعدني أن أتحدث أمامكم هنا، في هذا البلد الكبير، في هذا االبلد العظيم: العراق، ومن كردستان العراق بالذات. هنا على هذه الأرض الطيبة جرت معركة المعارك، أم المعارك ضد الظلاميين الداعشيين. أقول هذا الكلام وأنا أتذكر بالطبع تلك المعركة الكبرى التي خاضها الشعب الكردي البطل سواء في كوباني (عين العرب) في سوريا أو في سنجار وجبل سنجار في العراق، هذا ناهيك عن الموصل والرقة. وهي معارك حبس العالم كله أنفاسه انتظارا لنتائجها.. ونحن جميعا مدينون بالحريات التي نتمتع بها الآن لهذه المعارك البطولية التي خيضت ضد قوى التطرف الأعمى والظلام المطبق والوحشية المطلقة. نحن مدينون لأولئك الرجال البواسل الذين سقطوا في أرض الوغى دفاعا عن الحق والعدل والشرف. بل ليس فقط الرجال وانما النساء الباسلات أيضا. كم كن عظيمات! أمامهن أركع وأنحني. أشعر بالسعادة اذ أقول هذا الكلام هنا، في اربيل، في عاصمة كردستان العراق. لقد حصلت في سنجار غير البعيدة كثيرا من هنا جريمة كبرى، مجزرة مروعة، لم تحصل حتى في أحلك لحظات العصور الوسطى. وقد روتها كتب عديدة في جميع اللغات. وهي كتب وشهادات بالكاد أستطيع اكمال قراءتها نظرا لهول ما ترويه من قصص عما ارتكبه الدواعش من فظائع بحق اخواننا الأيزيديين المستباحين ظلما وعدوانا في عقر دارهم. كل هذا أصبح معروفا للقاصي والداني. وكل هذا هز الضمير العالمي هزا.

بعد أن وصلت في الحديث الى هذه النقطة أود أن أقول لكم ما يلي: لن تكون المعركة الفكرية بأقل صعوبة من المعركة العسكرية التي جرت هنا على أرض العراق والمنطقة كلها. لن تكون أقل شراسة وضراوة. لا ينبغي أن نستسهل معارك الفكر وصولات الفكر. البعض يعتقد أنها سهلة أو تحصيل حاصل. على العكس انها صعبة بل وأكثر من صعبة. وربما استغرقت منا طيلة العشرين أو الثلاثين سنة قادمة: أي حتى أفق 2050 على الأقل. لماذا؟ لأن التحرير الفكري يعني النضال ضد ألف سنة من الجمود العقائدي والتكلس والتحنط والتحجر.. لماذا تبدو داعش قوية؟ لأنه يقف وراءها تاريخ كامل من الانحطاط الظلامي أو الظلام الانحطاطي، ولأن كل هذه الأفكار السوداء مترسخة في العقلية الجماعية والبيئة الحاضنة على مدار ألف سنة متواصلة. من يستطيع أن يزيل ذلك؟ من يستطيع أن يقتلع العقلية الداعشية من الأرواح والنفوس. سوف يكون ذلك أصعب من اقتلاع جحافلهم من كوباني أو الموصل أو الرقة أو جبل سنجار! وسوف يتطلب وقتا أطول بكثير. والمشكلة الكبرى هي أن التعاطف مع داعش لا يشمل فقط الجماهير الأمية الجاهلة الواقعة كليا تحت تأثير الظلاميين ورجال الدين والا لهان الأمر. وانما قد يشمل أيضا العديد من المثقفين بمن فيهم أولئك العائشون في أرقى عواصم الغرب كلندن وباريس وسواهما. نعم ان معركة الفكر صعبة وقاسية وتتطلب وقتا طويلا حتى تعطي نتائج ملموسة. والسؤال المطروح هنا هو التالي:

هل حظي تراثنا الاسلامي العظيم بالدراسات التجديدية التي يستحقها؟ هل حظي بذات الدراسات الابتكارية التي حظي بها التراث المسيحي في أوروبا مثلا؟ هل طبقت عليه أحدث المناهج العلمية والتاريخية والفلسفية وأضاءته من الداخل بشكل غير مسبوق كما حصل للتراث المسيحي؟ والجواب للأسف الشديد هو: لا. ما عدا محاولة أركون البطولية لا أكاد أجد شيئا يذكر. ولكن ينبغي أن أضيف اليه عبد الوهاب المؤدب وقلة قليلة من الآخرين. ولهذا السبب فان عالمنا العربي والكردي والاسلامي كله ابتلي بظهور الدواعش وكل حركات التطرف والظلام. كيف يمكن أن نخوض المعركة التنويرية في السنوات القادمة؟ كيف يمكن أن ننجزها لكيلا نتفاجأ بظواهر داعشية مرة أخرى؟ ينبغي تفكيك المنظومة الأصولية برمتها ومن أساسات أساساتها. لا يوجد حل آخر. بالمناسبة أركون هو الذي فكك بكل تمكن واقتدار الانغلاقات اللاهوتية في الاسلام ونجح في انجاز التحرير الفكري الأعظم المنتظر منذ عقود ان لم يكن منذ قرون. وقد فعل ذلك من خلال تركيزه الشديد على تفكيك ما يدعوه بالسياج العقائدي اللاهوتي المغلق على ذاته: أي القفص الطائفي أو السجن المذهبي الذي نجد أنفسنا منغلقين داخله شئنا أم أبينا منذ نعومة أظفارنا.. لقد فككه من الداخل بطريقة ذكية، مرنة، مقنعة جدا. وعلى حد علمي فهو أول من استطاع تحقيق هذه المعجزة الفكرية. وعلى هذا النحو قدم أكبر خدمة للاسلام والمسلمين. لقد حررهم من أنفسهم، من دوغمائياتهم المتحجرة، من انسداداتهم التاريخية المزمنة. باختصار شديد: لقد صالح الاسلام مع الحداثة والحداثة مع الاسلام! وقد شرحت ذلك مطولا في كتابي الجديد الذي فوجئت بصدوره أثناء تواجدي في المعرض وشكل ذلك لي سعادة حقيقية. وهو بعنوان: “من التنوير الأوروبي الى التنوير العربي”. هذا من جهة. وأما من جهة أخرى فقد طالبت أثناء تواجدي داخل أرجاء معرض اربيل الكبير بأن ننقل الى اللغة العربية كنوز الاستشراق الأكاديمي الرفيع. تحرير التراث حصل على يد الاستشراق يا جماعة! تحرير التراث الاسلامي جاهز وناجز وهو موجود في بطون الكتب الفرنسية والانكليزية والألمانية. وبالتالي فلنكف عن مهاجمة الاستشراق على مدار الساعة. لنكف عن شتمه بمناسبة وبدون مناسبة. لقد أصبحنا أضحوكة للعالم كله. ولكن من يتجرأ على ترجمتها؟ يلزمنا مأمون جديد! لماذا؟ لكي يخلع المشروعية العليا على هذه الترجمات الضخمة ويعيد فتح بيت الحكمة مرة أخرى وربما في بغداد أيضا. وذلك لأنه حتى الترجمة ممنوعة! لماذا ممنوعة؟ لأنها تخص موضوعا حساسا جدا: هو التراث الديني، أي قدس الأقداس! لو حصل هذا لأصبح مليار ونصف المليار مسلم على أبواب المرحلة التنويرية فورا. وبالتالي فيكفي أن نترجم أمهات الكتب الأكاديمية والموسوعات الاستشراقية الكبرى لكي تشع الأنوار علينا، لكي ندخل عصر الأنوار. بعد أن وصلت بالحديث الى هذه النقطة سوف أقول ما يلي: المثقفون العرب وأنا من بينهم عاجزون بامكانياتهم الخاصة وحدها عن تحرير التراث من انغلاقاته التراثية المتحجرة. ينبغي أن نعترف بالحقيقة: نحن لا نمتلك ناصية المناهج الحديثة في البحث العلمي ولا نسيطر بالشكل الكافي على المفاهيم والمصطلحات. ما عدا محمد أركون وبعض الآخرين لا أعرف أحدا. كم أرجو أن أكون مخطئا!..

يتهمنا أعداء التنوير بأننا ضد الدين. ونحن نرد عليهم قائلين: نحن لسنا ضد الدين، وانما ضد المفهوم الظلامي والتكفيري للدين. نقطة على السطر. متى سيفهم مثقفو الاخوان المسلمين وتوابعهم ذلك؟ متى سيتخلصون من الحرس القديم وعقليته الضيقة المتحجرة؟ أنا أقول للمتطرفين: أنتم ضد الدين. أنتم أعداء الدين الحقيقيون. أنتم الذين شوهتم صورة الاسلام الحنيف في شتى أنحاء الأرض ولمدة خمسين سنة قادمة على الأقل! من سيدفع فاتورة هذا التشويه لدين عالمي كبير جاء رحمة للعالمين لا نقمة عليهم ولا ترويعاً لهم؟

أخيرا ماذا يمكن أن أقول عن مشاعري وانطباعاتي عن هذا المعرض الجميل وأجوائه العربية- الكردية المحببة؟ يمكن أن أقول عكس ما قاله طه حسين لغالي شكري في آخر مقابلة له قبيل وفاته: “أودعكم بالكثير من الألم والقليل من الأمل”. وأما أنا فأقول: أودعك يا اربيل العزيزة، يا اربيل المثقفة، يا اربيل الحاضر والحضارة، بالكثير من الأمل والقليل من الألم!...