أبو رغال بابلي: غوبارو

Tuesday 28th of March 2023 11:35:28 PM ,
العدد : 5399 (نسخة الكترونية)
الصفحة : آراء وأفكار ,

د. حسين الهنداوي

4-4

آخر ملوك امبراطورية بابل الحديثة واكثرهم غموضا هو نبونائيد الذي تفيد المصادر بانه بلغ عرش بابل في عام 556 ق.م، بمؤامرة من كهنة إله القمر "سين" الا انها لم تحقق غايتهم باعلاء مكانته على مكانة اله البلاد الأكبر وحاميها مردوخ، ما اجبر الملك بعد بضع سنوات على ترك مقاليد حكم بابل بيد ابنه الشاب والهجرة إلى قلب الصحراء متفرغا لعبادة "سين".

بيد ان نبونائيد ظل ملكا عن بعد لامبراطورية بابل بين 556 ق.م وحتى سقوطها في عام 539 ق.م بيد الفرس الاخمينيين الذين زعموا بانهم جاءوا الى بابل لحمايتها من ملكها المجنون الذي صارت ثقافته الواسعة وهوسه الديني وبالا عليه وعلى حضارة عظيمة بأكملها اذ يتحمل مسؤولية كبرى عن تدميرها وهي في خضم العطاء. فمن جهة ترك هذا الملك عاصمة دولته لنحو عشر سنوات مفضلا العيش في مدينة تيماء تاركا مقاليد إدارة البلاد بيد ابنه بيل شاصر الذي قيل بانه كان فاسدا، فتدهورت أمورها وتفسخت ادارتها في ايامه وعم الفساد. ومن جهة أخرى القرار الاعتباطي الذي اتخذه هذا الملك بتغيير دين البلاد واستبدال الهتها التقليدية الرئيسية الحامية والظافرة سابقا بديانة جديدة لمجرد انه آمن بها بسبب أصله الارامي وكون بعض آبائه من كبار الكهنة في معبد إله القمر. وتفيد المعلومات النادرة المتوفرة لدينا الآن، فان نبونائيد الذي عرف بعمق وسعة اهتماماته المعمارية والثقافية والتاريخية، اتهم سابقيه من الحكام بالابتعاد عن نهج مؤسس الإمبراطورية نبوبلاصر وباني مجدها نبوخذ نصر معتبرا ان هذا الابتعاد أدى الى تدهور أحوال البلاد خلال فترة حكمهم. لكن خصومه يتهمونه بإهانة آلهة الإباء والاجداد، بتفضيله آلهة الآشوريين على آلهة الكلدان وبإلغاء الإحتفالات الخاصة ببابل وخاصة بعيد رأس السنة البابلية (أكيتو)، ما اثار غضب وتمرد السكان وخاصة رجال الدين نتيجة ذلك. لكن ورغم ان الملك نبونائيد سيتعرض الى الاعتقال والنفي من قبل الفرس كما أشار المؤرخ الكلداني البابلي بيروسا وحتى القتل في وقت لاحق، الا ان فشله في إدارة شؤون الإمبراطورية سيستخدم ذريعة من قبل الفرس في تبرير الدمار الذي الحقوه ببابل بالزعم ان قوات كورش المحتلة جاءت لإنقاذ البابليين ديانتهم من اخطار حاكم أهانهم بإهانة ألهتهم.

النهاية: معركة أوبيس

معركة أوبيس هي واقعة عسكرية معقدة واستثنائية الاهمية في تغيير مجرى تاريخ العالم القديم، جرت في شهر ايلول من عام 539 ق.م، بالقرب من مدينة أوبيس (سلوقيا) المنقرضة حاليا وتقع شمالي بغداد في منطقة مطلة على نهر دجلة (قرب سلمان باك حاليا) التي تبعد بنحو 80 كلم شمال شرق مدينة بابل عاصمة الإمبراطورية. وحصلت المعركة بلا قتال اذ لا معلومات تذكر عن وقوع المعركة ولا حديث عن خسائر فيها، باستثناء ما ذكرته المصادر البابلية عن حصول مجزرة قامت بها القوات الاخمينية ضد البابليين أسمتها المخطوطات البابلية بـ"مجزرة شعب أكد".

هكذا بالضبط كانت معركة أوبيس التي باغت فيها الجيش الفارسي الأخميني العرمرم بقيادة كورش الكبير القوة البابلية المحدودة المرابطة شمالي بابل بقيادة الملك الضعيف بيل شاصر المكلف من ابيه الملك نبونائيد بإدارة حكم بابل المحاطة آنئذ بكل الاخطار الخارجية والداخلية. لم تكن اذن هناك مواجهة بين امبراطوريتين كما يزعم البعض، بل لم تكن هناك مواجهة ما بين جيشين اصلا اذ لم يخض الجيش الفارسي الاخميني فيها أي قتال. ما حصل هو مؤامرة وضيعة بكل معنى الكلمة ابتدأت وانتهت باغتيال الملك البابلي بيل شاصر في فراش نومه على الأرجح من قبل معاونه المباشر غوبارو (كوبرياس) الذي تؤكد المعلومات الاصلية الى انه وضع للجيش الفارسي الاخميني خطة احتلال بابل بل قيل انه قاد الجيش الفارسي بنفسه محققا لكورش نصراً عظيما لم يحلم به مطلقا من قبل، وهو ليس فقط التخلص من الإمبراطورية البابلية العدو الرهيب دائما، بل لان هذا النصر مكنهم بعد فترة قصيرة من إحكام سيطرتهم على بقية المناطق المحيطة بأوبيس التي مثلت موقعاً إستراتيجياً مهماً في الدفاع عن بابل، كما مكنهم من التقدم لاحتلال سيبار، ثم فرض الحصار على بابل نفسها التي سيتم لهم احتلالها بعد فترة قصيرة نتيجة انهيار مقاومتها من الداخل نتيجة خدعة حربية وضعها ونفذها غوبارو نفسه وتجاوز عقبة الجدار الدفاعي الذي بناه نبوخذ نصر الثاني حول المدينة ما قلب نتيجة المعركة لصالحهم. وكان متأخرا جدا قرار الملك نبونائيد بالعودة سريعا إلى بابل اثر سماعه بخيانة قائد جيشه. فعودته جاءت بعد فوات الأوان، حيث كان قد نجحوا سلفا في اختراق الدفاعات البابلية في أوبيس وباشروا احتلال بابل. ولم تنفعه دهشته من تنصل كورش من اتفاق سلام معقود بينهما قبلئذ. فنبونائيد كان قد تنصل سلفاً من حليفيه السابقين ملكي الميديين في فارس والليديين في آسيا الصغرى لصالح انتصار كورش عليهما الى جانب خطئه الجسيم الآخر بانهاك الجيش البابلي عبر ارسال قسم منه الى حران النائية جدا للعمل في بناء معبد للإله (سين) طلبته منه أمه الطاعنة في السن هناك، وقسم الى تيماء الواقعة على بعد نحو ألف كيلومتر الى الجنوب من بابل ليبني له معبدا وقصرا وعاصمة فيها حيث قرر ان يستقر بعد قتل ملكها "يتر".

اما عن فصول القصة في الجانب الاخميني فهي ببساطة ذاتها في كل مكان وزمان: قبائل فاقم تكاثرها جوعها فاجتمعت تحت قيادة امير مغامر وبراغماتي وجريء (كورش او هولاكو او الاسكندر او شارلمان..) لتندفع في مهاجمة الحضارة المجاورة فتدمرها بكل الهمجية المتاحة بحثا عن الثروة والسطوة والسلطان ثم، ودون إرادة منها بذلك او وعي مباشر أصلا، تتماهى مع بقايا ضحاياها المستنفذة القوة أصلا فترث دون ان تدري اخلاقها ومعارفها وامراضها أيضا.

بيد انه ليس ممكنا اغفال جوهر هذا الحدث التاريخي العظيم وامثاله. فهو ليس مجرد هجمة لقوة اجنبية طامعة او خيانة لمسؤول عسكري بابلي من أصول ميدية او فارسية كما يشار أحيانا. بل نعتقد على العكس، ان كافة المؤشرات الموضوعية تشير الى ان تلك معركة اوبيس كانت عبارة عن خدعة حربية بارعة بالفعل الا انها عبّرت بشكل خاص عن لزوم وفاة "رجل مريض" آخر لم يعد امامه سوى الرحيل عاجلا ام آجلا. فكورش ما كان لينجح في القضاء على الإمبراطورية البابلية تلك لولا انها كانت قد دخلت مرحلة احتضارها الحتمي بعد ان استنفذت كل مبررات وجودها وتحولت الى عقبة كأداء اما تطور التاريخي البشري المحلي والعالمي.

اما علائم الدخول في مرحلة الاحتضار، فترمز لها السهولة التي تم بها القضاء على الإمبراطورية البابلية الحديثة، وابرزها ما يلي:

- تردي الأوضاع الاقتصادية والسياسية ونعذر معالجتها لجسامة الخسائر البشرية والأعباء المادية والمعنوية وسواها المترتبة عن الحروب والفتوحات العسكرية.

- دخول الملك نبونائيد في "معركة كسر عظم" مع المؤسسة الدينية والمجتمع بفرض خياري تغيير دين البلاد او اهمال شؤونها ما أدى الى خلل عميق في النظام الحاكم.

- تكاثر الاقوام والجماعات المعادية والخصوم الذين وجدوا مصلحة مشتركة للتحالف مع كورش من اجل الإطاحة بالامبراطورية كاليهود والاشوريين والميديين والمصريين والاخمينيين ودون المبالغة في دورهم في الانتصار العسكري الفارسي وأيضا دون نسيان فشل بابل في مصالحة وارضاء الجماعات السكانية الخاضعة لاحتلالها وهو ما حاول القيام به ودفع رأسه ثمنا له الملك اميل مردوخ الذي قام بفك اسر كبار الاسرى اليهود بما فيهم ملك مملكة يهوذا السابق يهوياكين وعامله باحترام رغم انه نجل الملك البابلي الذي وضعهم في الاسر نبوخذ نصر.

- فشل البابليين في حل الخلافات الدينية الداخلية وما اسفرت عنه من تفاقم ومن تصادم بين السلطتين السياسية والدينية.

- تفاقم سلطة الكهنة الى حد تجاوز سلطة الملك في الفترة الأخيرة حتى صار في وسعهم خلعه او قتله اذا ارادوا ذلك وبإسم الاله على عكس ما كان الحال في عهدي نبوبلاصر ونبوخذ نصر، حينما كان الملك هو الذي يخلع ويقتل الكهنة أي رجال الدين بإسم السماء.