(حَجَرُ الفيلسوف) و (الوجودية الجديدة): كولن ويلسون في ترجمات جديدة

Tuesday 30th of May 2023 10:38:49 PM ,
العدد : 5440 (نسخة الكترونية)
الصفحة : عام ,

لطفية الدليمي

يذكّرُني الروائي – الفيلسوف الراحل (كولن ويلسون) بشعراء (الواحدة) في تراثنا الشعري العربي. لاتكاد تذكرُ إسم (كولن ويلسون) حتى يُذكَرَ كتابه (اللامنتمي) بكيفية آلية.

الفارق أنّ شعراء الواحدة العرب كتبوا قصيدة واحدة (أو ربما كتبوا سواها؛ غير أنّ ماوصلَنا منهم هو قصيدة واحدة شائعة)؛ في حين أنّ ويلسون كتب ماينوف على المائة كتاب في حياته. قد يرى بعضنا تسويغاً لهذا في نقص ترجمة أعماله، وهذا لاأراه تسويغاً مقبولاً لأنّ ويلسون شهد شيوعاً كبيراً ومقروئية عالية في العالم العربي، ويمكن للمرء الاطلاع على العديد من ترجمات كتبه ورواياته التي كتبها بعد نشره (اللامنتمي)؛ لكن ليس بينها عملٌ إقترن عضوياً بإسم (ويلسون) مثلما فعل (اللامنتمي).

أظنُّ أنّ (ويلسون) كان ضحية الانتلجنسيا البريطانية التي - لو أرادت – فبوسعها رفع أيّ إسمٍ أدبي مستجد إلى المثابات العالية المتاخمة للنجوم، ولو شاءت لأرسلته إلى قعر الجحيم!!. الامر لايخلو من بقايا غطرسة كولونيالية وبخاصة أنّ بقايا هذه الغطرسة كانت راسخة ولم تتفتّت بعدُ عندما لمع إسم (ويلسون) بعد أواسط العقد الخمسيني من القرن العشرين. ربما لو وُجِد ويلسون في زماننا هذا ماكان سيلقى الصدود الاكاديمي الذي قوبل به يومذاك. علينا أن لانتناسى حقيقة أنّ ويلسون يتحمّلُ قدراً غير قليل من مسؤولية إخراجه المبكّر من فردوس الانتلجنسيا البريطانية العنيدة؛ إذ كيف تقبل هذه الانتلجنسيا كاتباً يصف شكسبير بأنّه لايستحقُّ مكانته الادبية التاريخية، وأنّ (فرنسيس بيكون) هو من كتب أعماله؟ شكسبير – شئنا أم لم نشأ - صار علامة مميزة في المُعْتَمَد الادبي البريطاني والعالمي فضلاً عن رمزيته في الحس القومي البريطاني، وليس من الكياسة الشخصية والمجتمعية توصيفه بأوصاف دفع ويلسون ثمنها غالياً.

يبدو لي أنّ الانتلجنسيا العربية تتقفّى أثر الانتلجنسيات العالمية (ومنها البريطانية)؛ فقد شهد عمله الاوّل (اللامنتمي) رواجاً كبيراً، ونالت أعماله التالية رواجاً مقبولاً؛ ثمّ راح بعض النقّاد يصفه بأنّه (مقراء بلا معدة) في إشارة إلى إلتهامه للكتب من غير قدرة على تحويل هذه القراءات إلى أنساق ثقافية منظّمة. لاأرى هذا الامر صحيحاً. نعم، تتفاوت مستويات الكتب التي كتبها ويلسون تفاوتاً بيّناً لأسباب كثيرة؛ لكن مِنْ بين هذه الكتب أعمالٌ رائعة منها (فنّ الرواية) المترجم إلى العربية. أقول بوضوح أنّ هذا الكتاب فريدٌ في نوعه؛ فقد قدّم فيه ويلسون مقاربة سايكولوجية غير مسبوقة في كتابة الرواية تختلف نوعياً عن الآراء التقليدية السائدة. علينا دوماً أن نقرّر بذاتنا حجم الجدّة والاصالة في أعمال أيّ كاتب بدلاً من الركون السهل إلى الآراء الجاهزة والمعلّبة. هذه بعضُ مقتضيات النزاهة والمروءة كما أرى.

* * *

إجتهد الاستاذ (عمّار ثويني) منذ سنوات عدّة في ترجمة بعض ميراث (ويلسون) الفكري، وأحسبُ أنّ جهده هذا يصبُّ في صالح الكشف عن البؤر المهمّة في فكر ويلسون. ترجم الاستاذ ثويني قبل بضع سنوات كتاب (عالم العنف)، ثمّ أردفه قبل سنة تقريباً بترجمة كتاب (تمهيد إلى الوجودية الجديدة)، وهاهو أخيراُ يصدِرُ ترجمة رواية (حجر الفيلسوف) الصادرة حديثاً عن دار نشر (كتّاب) في الامارات العربية المتحدة. لابدّ لكلّ ساعٍ للتأشير على الاعمال الرصينة الاشادةُ بجهود الاستاذ ثويني الترجمية التي تمتاز بالصبر على العمل ومحاولة تجويده إلى حدود مرموقة.

(حجرُ الفيلسوف) هي الرواية الثامنة لكولن ويلسون، ولم تكن كتابتها فعلاً إرادياً خالصاً بل كانت ردّة فعل: عندما نشر ويلسون كتابه المسمّى (قوّة الحلم The Power to Dream) – الذي تُرجِم إلى العربية بعنوان المعقول واللامعقول في الادب الحديث – كتب عبارة في ختام تناوله للكاتب إج. بي. لوفكرافت H. P. Lovecraft وصفه فيها بالكاتب غير الجيّد؛ الامر الذي دفع صديق لوفكرافت وناشر كتبه أوغست ديلريث لتحدّي ويلسون في كتابة رواية تتقفّى خطى روايات لوفكرافت. قَبَل ويلسون التحدّي فكانت النتيجة روايتيْن بدل واحدة: الأولى هي طفيليات العقل Mind Parasites نُشِرَت عام 1967 (ترجمها الدكتور محمد درويش إلى العربية في ثمانينيات القرن الماضي)، والثانية هي حجر الفيلسوف The Philosopher›s Stone التي ترجمها الاستاذ عمّار ثويني وصدرت حديثاً.

عُرِف عن لوفكرافت تفرّده بكتابة نمط من الرواية خاص به حدّ أن يسمّى رواية لوفكرافتية Lovecraftian Novel. المعالم الخاصة بهذه الرواية هو الشعور بالتصاغر إزاء الوجود الكوني، وأنّ الانسان والارض معاً ليسا سوى ذرّات غبارية مصيرها التدمير المؤكّد والزوال المحتوم. رأى بعض النقّاد الادبيين أنّ لوفكرافت، ولأسباب صحية خاصة به، كان يعكس في رواياته كراهية متأصلة لديه للجنس البشري Misanthropy؛ لكنه من جانب آخر آمن كثيراً بقدرات علم تحسين النسل البشري؛ فكيف تتفق رؤية تحسين النسل البشري مع كراهيته؟ هذه موضوعة إشكالية بالتأكيد وتتطلّبُ بحثاً معمّقاً.

ليس ثمّة حبكة في الرواية. يكشف سارد الرواية ومنذ طفولته المبكّرة قدرات عقلية متفوّقة إلى حدّ رأى فيه التعليم النظامي، المدرسي والجامعي، إضاعة لوقت ثمين يجب إستغلاله في إنشغالات أكثر فائدة:

" القليل من عقول الصف الامامي لمئات السنين الماضية ماكانوا مدينين بأي شيء للجامعات. كان طالباً في كامبردج لكنه غادرها بطلبٍ منه شخصياً في السنة الجامعية الثانية ليواصل دراساته في المنزل.... عارض بحماس فكرة التخصّص في كلّ مجال في العلم أو الرياضيات بنحو مؤكّد........ . "

ليس صعباً على القارئ المتمرّس أن يحدس بوجود تماهٍ بين ويلسون وهذه الشخصية التي تٌبدي سماتٍ نيتشوية ترى في تجاوز فكرة (العادي) و (الشائع) و (التقليدي) نزوعاً بطولياً في الحياة.

بعدما حصل الراوي على تركة مالية مجزية من صديقه المتوفّى الذي رعاه طويلاً بات مُتاحاً له العيشُ براحة ودراسة أيّ شيء يستهويه وبخاصة فكرة إطالة عمر الانسان. كانت قناعته أنّ الانسان يموت – ببساطة – بسبب الملل والاستسلام للخواء الناجم عن إنعدام الدوافع الفكرية والنفسية لعيش حياة ثرية منتجة وخلاقة. ليس في الرواية ملامح بشرية لشخصيات كتلك التي نعرفها. ثمّة أفكار وحسب. أفكارٌ في كلّ الموضوعات: الفلسفة والموسيقى والتاريخ والرياضيات والاقتصاد؛ بل حتى يمكن للقارئ حساب عدد ذلك الحشد الهائل من الشخصيات الفكرية المؤثرة في تشكيل عالمنا وقد تجاوزت المائتين في هذه الرواية!! الافكار والفنتازيا والسمات النيتشوية للإنسان هي العمود الفقري الذي يتأسّسُ عليه هذا الجسم الروائي الذي شيّده ويلسون.

هاكم أمثلة ثلاثة على طبيعة الافكار المتداولة في النصف الاول من الرواية:

" قال عقلي: ما الذي تقوم به أيها الغبي؟ هذه استعارة حقيقية وليست أدبية. ليس مِنْ شخصٍ يعيشً الآن وسيكون حياً بعد مئة عام من الآن. لقد قبضتُ على الواقع: حقيقة موتي، فخنقني الرعب... "

" هاندل هو الملحّن الاعظم في العالم. تبدّل الحديث بعدها ونسيتُ كيف تمحور حول رياضيات المجموعات غير المتناهية. شعرتُ بالسعادة عندما اكتشفتُ أنني فهمتُ المعضلات التي ناقشها برتراند رسل في مبادئ الرياضيات.... "

" شعر (لييل) أنّ أغلب الرجال – بمن فيهم اللامعون – يهدرون مصادرهم الفكرية. كان يرغب بالاشارة إلى أنّ السير وليام روان هاملتون كان بمقدوره التحدّث بدزينة من اللغات في عمر التاسعة، وأنّ جون ستوارت مل قرأ جميع حوارات أفلاطون باليونانية عندما كان في السابعة.... آمن أنّ التقييدات التي تحيط بنا تتعلّقُ بالكسل والجهل والجُبْن. "

تبدأ الحكاية الحقيقية في هذه الرواية من منتصفها تقريباً عندما يلتقي السارد مع رجلٍ يدعى (ليتلواي)، ثم يبدأ الاثنان بدراسة فعالية الدماغ – الامر الذي يقودهما إلى محاولة تجريب زرع سبائك مخترعة حديثاً في جماجم عيّنة منتخبة من الناس. بعد أن لاحظ الاثنان ظهور نتائج متفرّدة لدى تلك العيّنة يعمدان إلى زراعة تلك السبيكة في دماغيهما فيحوزان قدرات عقلية فائقة.

هل أنّ (حجر الفيلسوف) رواية لوفكرافتية حقيقية؟ هي لوفكرافتية من كونها تنزع نزوعاً واضحاً لتأكيد الفلسفة النيتشوية للحياة. كان لوفكرافت تلميذاً مكرّساً لنيتشه؛ في حين كان ويلسون أحد أكبر عشّاق كتابات برناردشو الذي سعى بدوره في أعماله لإشاعة الافكار النيتشوية التي يتربّع الانسان الخارق (السوبرمان) على عرشها. لكن يجب أن نؤكّد أنّ جرعة الافكار المجرّدة والطروحات الفلسفية هي أكبر بكثير عند ويلسون بالمقارنة مع لوفكرافت.

* * *

أما بشأن كتاب (تمهيد للوجودية الجديدة) فأظنّني قد أسهبتُ في الحديث عنه في مقالات سابقة لي عن (كولن ويلسون) أو في سياق فصول محدّدة من ترجمتي لسيرته الذاتية (حلمُ غاية ما). كلُّ من قرأ هذه السيرة سيجد في نفسه دافعاً أكبر لقراءة أعمال ويلسون التي لم تترجم إلى العربية وقت صدور هذه السيرة (عام 2015) عن دار المدى. ربما ليس أفضل من العبارات التالية المستلّة من المقالات التقديمية في الكشف عن طبيعة الكتاب:

" إذا كانت الوجودية الجديدة وريثة لأي فلسفة فإنها الرومانتيكية؛ فكل واحدة تتشاطر مع الأخرى حافزًا جريئًا وخلّاقًا إضافة إلى حلم متقد للخلود ورغبة على قدم المساواة لوصول الإنسان إلى مقام الآلهة. تحمل الوجودية الجديدة تشابهًا مع نيتشه وغوته بنحو أكثر من سارتر وكامو ".

" إن الوجودية الجديدة اختراق فكري، شيء جديد بالكامل. شيّد ولسون عند بناء هذه الوجودية صروحه على التراث والأفكار التي أحبها والمتعلقة بالوجودية’ القديمة ‘؛ لكنه فعل ذلك لكي يسلط الضوء على اخفاق الفلسفات القديمة في تشكيل طريقة أو أداة قادرة على تعليمنا كيف نعيش بشكل أحسن وأن نسّخر أفضل إمكانياتنا.

تتمثل فرضية ولسون الأساسية أن الإنسان المثالي الذي تصّوره الرومانتيكيون لم يولد بعد؛ فمازال علينا اجتياز ممر ضمن مسار داخلي يحررنا من مخاوف وهواجس الماضي... "

" كان كولن ولسون مبهورًا بلحظات الإضاءة والإلهام هذه التي تلوح فيها الحياة والعالم ثريًّا بنحو لاحدّ لما يتعلق بالمعنى والإمكانات. لكنه لم يكن راضيًا ببساطة ليعترف بها ويجربها ثم يأذن لها بالتواري في ضوء اليوم الاعتيادي؛ فينوح على زوالها مثل رومانتيكيي القرن التاسع عشر، أو يقبل بها باتزان مثل وجوديي القرن العشرين التقليديين. عوضًا عن ذلك، وجد في هذه اللحظات لمحات للمرحلة الثانية من التطور الأعلى، كإشارات لحالة أكثر ارتقاء ينبغي أن يكون فيها البشر حقًّا - الذين لم يوجدوا بعد وفقًا لرأيه - قادرين على العيش في كل الأوقات...... "

لو ألقينا نظرة سريعة على عناوين فصول الكتاب لشهدنا كيف تتناغم هذه العناوين مع الرؤية الويلسونية التي عرضها ويلسون في سيرته الذاتية وكذلك في كتب سابقة له. عناوين الفصول هي: أزمة الفكر، مقاربتي للمعضلة، الوجودية القديمة، ماهو علم الظواهر؟، معنى ثورة هوسرل، الصورة الجديدة للكون، الوجودية الجديدة، الانسان وسط الضباب، إمتداد الوعي، داخل الغرفة المظلمة، اللغة والقيم، الوعي اليومي كاذب، قوّة الطيف.

* * *

كلُّ من أحبّ الفلسفة والافكار المجرّدة – وأحسبُني واحدة منهم - سيجد في هذه الرواية وهذا الكتاب نمطاً يتناغم مع ذائقته الفكرية والفلسفية، وسوف يتحسّسُ فيهما إنعطافة مطلوبة تتمايز عن السرديات السهلة التي لاتكاد تكون أكثر من (حدّوتات) يومية أو أفكار شائعة لاتنطوي على أية قيمة إثرائية لحياة القارئ. أعتقد أنّ قيمة هاتين الترجمتيْن الجديدتيْن للأستاذ (عمّار ثويني) قبل كل شيء تكمن في إثباتها أنّ ويلسون كان قارئاً نهماً للكتب، ومتمثلاً مميزاً للأفكار التي يقرأ، فضلاً عن أنّ معدته كانت تهضمُ مايقرأ هضماً جيداً!!