من استطاع مغادرة بغداد فليفعل!

Wednesday 5th of December 2012 08:00:00 PM ,
العدد : 2667
الصفحة : الأعمدة , سرمد الطائي

بغضب شديد ظل العراقيون يعكسون على مدار الساعات الماضية غضبا شديدا بسبب تقرير دولي وضع بغداد في ذيل مدن العالم وذكر انها الاسوأ كمكان للعيش. اما انا فأتصفح الجرائد الفارسية لأقرأ ان وزير الصحة الايراني يقول لمواطنيه: اذا استطعتم ان تتركوا طهران خلال الايام المقبلة، فافعلوا ذلك دون تردد، (وسأوضح السبب لاحقا).

شباب كثيرون يشعرون بالحيف، فهم مرة يسخرون من بغداد، واخرى من "حكمة القيادة"، وثالثة يبكون عليها. قلت للشباب الحزانى على تويتر، ان صدام حسين بسياساته وعنترياته الزائفة، اجبر بغداد على اغماض عينيها، حزنا او شعورا بنكسة لا تحتمل. اما بعد صدام فلم يأت من يستطيع اقناع هذه المدينة بأن تفتح عينيها مرة اخرى، لتعود زاهية كما كانت. انها اليوم تخشى فتح عيونها ثانية، وتتردد في التوقيتات والظروف، ولا يعجبها ان ترى وجهها في المرآة، لانه بوضعه الاخير لا ينتمي لاسمها او رسمها.

معظم اهلها التاريخيين غادروها، اما المجموعات البشرية التي انا منها فتتكوم اليوم بين سيطرات السلطان، وتتذمر وتشعر بالعجز. "على من نعترض هذه المرة، وهل هناك زعيم يستحق ان نثور عليه؟" هذا آخر تصريح سمعته من رجل يبيع الدخان.

في هذه الاثناء، لا ادري لماذا كل هذا الغضب الذي يمارسه المالكي اذا كانت اربيل موافقة على مبادرة النجيفي وكان المالكي موافقا ايضا. ألم يسبق له ان وافق على مقترح القوات المشتركة ووافقت اربيل ثم عاد ورفض كل شيء وتحدث بلغة التهديد؟ وفي هذه الاثناء وبينما يستعد النجيفي لتطوير المبادرة وتفعيلها، فإن السلطان يطرد وزيرا تركيا من اجواء اربيل!

وفي الحقيقة فاذا كانت المشكلة هي الموقف المتوتر بين البيشمركة وقيادة دجلة، فهي مشكلة ليست معقدة كثيرا. لكن المشكلة الحقيقية ازمة بلا دواء. ان بغداد (المدينة) تعلم، (وللمدن الكبيرة حاسة سادسة ازاء مصائرها) ان الازمة التي ترتهنها حاليا بلا دواء، ولذلك فهي ترفض ان تفتح عينيها. ماذا سترى لو فتحت عيونها يا ترى؟

المدينة كانت تحدق في صدام حسين كمجنون، وكان قد انهى حربه مع بلاد فارس، لكنه لم يتوج سلطانا على العرب ولم ترتعد فرائصهم منه. حين كلمهم في مؤتمر 90 وطلب من الكويت اسقاط الديون لم يقبل العرب اقدامه ويطلبوا العذر بل ناقشوه ودعوه الى حوار. حوار؟ الزعيم يسأل نفسه: كيف تجرؤوا على ذلك ولماذا لم يركعوا عند اقدامي؟ ثم ظل يحلم بحرب جديدة تعيد اليه الاضواء، وكان له ما اراد، وكانت هناك اضواء بطعم موت وبروق من السماء مخلوطة بالنار، دفعت بغداد الى اغماض جفنيها حتى هذه اللحظة.

المدينة لم تفتح عينا بعد رحيل صدام حسين ولم تشعر بدرجة كافية من الفرح. فالزعماء الجدد لازالوا يضمرون رعونة مماثلة، يتكلمون بوجوه عابسة ويغلقون هواتفهم ويرون في احلامهم زعامة غير مشروعة لم يخلقوا لها. يسألني بائع الدخان وكأنه يعلم ان بغداد لم تعد تشتهي اي برق يومض من السماء ليجعل صورة الزعيم تتلامع: هل هناك حاكم يستحق ان نثور عليه اليوم؟

ان الامر معقد جدا، لكن الامر الواضح هو ان سلاطيننا ليسوا نشازا في الشرق الاوسط. ان نظاما كالذي يحكم ايران ينفق امواله ووقته على حلم زعامة غير مشروعة في الشرق الاوسط، ويترك ابناءه ومدنه يشيخون في عالم بلا رحمة. وزير صحة ايران يدق جرس انذار من نسبة تلوث الهواء. استقبل ضعف العدد المعتاد من مرضى القلب خلال ايام وأمر بتعطيل المدارس وطلب من سكان طهران (وهم احلى اهل الشرق الاوسط)، ان يغادروها اذا استطاعوا، حتى يتغير اتجاه الريح! ظل السلطان الايراني يصر على ان يصنع سياراته بنفسه، ولم تكن مطابقة للمعايير فأفسدت الهواء. لم يصلح علاقته بالعالم فلم تتطور مصانعه ولا معاييره. اخذ شعبه نحو اتجاه مجهول ونصح اهل العاصمة بمغاردتها وراح يحدق في اتجاه الريح.

المدن التاريخية في المنطقة من حلب حتى الاسكندرية، تتعرض كما قلت بالامس، الى اغتصاب او فعل جنسي عنيف يقوم به الحاكم كي يشعر بنشوة نصر وهمي. السلطان المهزوم لا بد ان يتلذذ ولو بالوهم. والاوهام تجعلنا ننسى الكارثة الحقيقية ونظل مشغولين بكيفية تهدئة نوبات جنون السلاطين. العراق منذ شهر لم يناقش كوارثه، وأمانة العاصمة تستعد لغرق بغداد ثانية، لكن كل الدولة "تحت السلاح" تحسبا لجنون سلطانها.

نزوات السلاطين تغتصب المدن، وتتركها مغمضة العينين لتفوز كل سنة بجائزة "اسوأ مكان في العالم". هل سيقودنا عجز السياسات في النهاية الى تقليد الوزير الايراني لنقول لاهل عاصمة غارقة بالوحل والطين والدم وجنون العظمة: من استطاع ان يغادر بغداد فليفعل؟