الافتتاحية:عفواً سيادة الرئيس:حان الوقت للحل الشامل وليس لأنصاف الحلول والمراوغة المعتادة

Friday 14th of December 2012 08:00:00 PM ,
العدد : 2676
الصفحة : مقالات رئيس التحرير , فخري كريم

فخري كريم

يُقيّم الناس ايجابياً الجهد السياسي الذي يبذله الرئيس لتهدئة الأجواء وإيجاد مخارج للازمات التي تعصف بالبلد وتهدد بعواقب وخيمة  لا يخرج منها أحد مرفوع الرأس.

وفي هذه المرة ايضاً يرى الناس في التحرك الاخير للرئيس ما يخفف من قلقهم، رغم شكوكهم بما يبيته رئيس مجلس الوزراء، لكثرة وعوده واتفاقاته وتنصله منها بخفة.

لكن ما يلفت ان التركيز ظل يحتل المساحة الأوسع من الازمة بين اقليم كردستان والقائد العام للقوات المسلحة، وما اصبح يعرف بأزمة "قوات دجلة" وما تنطوي عليه من مخاطر اشتعال الفتيل لقتال مدمر.

ورغم اهمية هذا المسعى وضرورته وحيويته لانهاء التراشق السياسي بين الحكومة المركزية والاقليم، فان ابراز هذا الجانب العرضي من الازمة  يجب ان لا يكون على حساب الازمة السياسية العامة التي هي في الأساس أزمة ادارة حكم  تتمثل في الانفراد والتسلط والتعدي على الحريات والخروقات الفاضحة للدستور والاتفاقيات وفي التدهور المستمر في احوال البلاد الاقتصادية وأوضاع المواطنين المعاشية والخدمية، وفي الانفلات الأمني واستفحال البطالة والفساد والنهب، وهي كلها تنذر بتكريس دكتاتورية منفلته ستُدخل العراق من جديد في ظلمات الطغيان والتصفيات والغاء ارادة الشعب ومصادرة سيادة البلاد وانتهاك حرماتها.

 

ان ما يشوب العلاقة بين اربيل وبغداد، مع ما فيها من عناصر تتطلب التصحيح والمعالجة الموضوعية وفقاً لمبادئ الدستور ومقتضياته، ما هو الا تفصيل من بنية منظومة ازمة  الحكم والفوضى المتحكمة في مساراته، وانعكاس مباشر لغياب المؤسسات الديمقراطية  والتشويه المتعمد لمكونات الدولة التي لم تستكمل، ويراد لها ان تستكمل بما يجعلها اساساً للدكتاتورية وحكم الفرد المختار بإرادة فظة.

واذا كان مطلوباً محاصرة كل ما يُبقي على احتمال اشتعال الفتيل، فان من الضروري ان يتحول ذلك الى معالجة جوهر الازمة ومبناها  وتفكيك عناصرها وتصفية جذورها، وهو ما لا يمكن ان يتم من دون تطويق دستوري كامل للتغوّل الذي أمسى واضحاً في سلوك رئيس مجلس الوزراء وتدابيره واجراءاته ونهجه.

وليس من باب القول المجرد، الاشارة الى ان ما يقوم به الرئيس في مواجهة الازمة الجديدة، يأتي في سياق عشرات المحاولات التي قام بها منذ الولاية الاولى للمالكي ولم تسفر سوى عن وعودٍ وكلامٍ معسول  تمخضت كلها عن نكث ومحاولات للتخدير وكسب الوقت. واذا استعاد الرئيس شريط ذكرياته في التعامل مع رئيس مجلس الوزراء فانه سيدرك بوعي ان ما يهم المالكي بالدرجة الاولى  تحصين موقعه وان اقتضت منه الاستفاضة بالوعود والالتزامات، وتخدير الطرف الآخر بالمجاملات. وبات بيِّناً للعيان ان هدف المالكي هو تضييع الوقت  والسباق مع الزمن وصولاً الى الاستحقاق الانتخابي التشريعي، متوسلاً خلالها بكل ما يمكنه من ممارسة تشتيت القوى والتكتلات والانفراد بكل جماعة واستدراجها الى مستنقع الافساد واغداق الغنائم والامتيازات على ضعاف النفوس منهم، وتوثيق ذلك  كوسيلة للرضوخ والتواطؤ.

ولا يمكن ان يكون الرئيس، بل كل المشاركين في العملية السياسية، في غياب عن هذه الممارسات  وعدم ادراكٍ لمظاهرها. لقد عمل المالكي طوال ولايته الأولى وشطراً من ولايته الثانية  في استهداف الكتلة العراقية والتضييق على التيار الصدري، وما ان أُجهضت حركة سحب الثقة عنه، حتى استشاط غضباً، وأمعن في نهش كل القوى والعناصر التي كانت في اساس سحب الثقة، ونجح بوسائل الوعيد والاغراء في لجم مجاميع معروفة وعناصر بعينها متوسلاً ايضاً بملفاته العتيقة. لكن اخطر تحول في سلوكه تمثل في استدارته الماراثونية عن اقرب حلفائه الذين هم من جاء به في الدورتين الحكوميتين، عبر تأبينه العلني للتحالف الشيعي - الكردي! ولا يكمن الخطر في هذا التأبين بحد ذاته، بل في كشفه المستور عن مفهومه المختل لمعنى ومبنى التحالفات السياسية نفسها، وهذا المفهوم بأبعاده الفكرية والنفسية يفضح الخلل المركب الذي ينطوي عليه المالكي، واتضحت مساماته خلال الفترة الاخيرة بأوضح ما تكون. فرئيس الوزراء  يرى ببساطة ان التحالف السياسي بين قوتين او اكثر يستلزمه استهداف "عدو" متربص.! ولا معنىً للتحالف في غياب هذا التحالف او تراجع خطره! 

وليس في مفهوم المالكي ان التحالف السياسي، ويبدو انه يخلط بين التحالف في جبهات الحرب وفي منظومة العمل السياسي الداخلي، انما هو اطارٌ لحشد طاقات الشعب والبلاد للبناء والاعمار وتكريس مؤسسات الدولة واركان النظام الديمقراطية،وفي الحالة الملموسة التي شهدها العراق ما بعد انهيار الدكتاتورية، التصدي للارهاب وتحرير البلاد من الاحتلال ونتائجه.  

ان رئيس الجمهورية وهو المنوط به حماية الدستور تحت القسم، لا بد ان يأخذ هذا المفهوم بحد ذاته، باعتباره خطراً مباشراً على وحدة نسيج المجتمع العراقي ووحدة العراق التي يغامر بها رئيس مجلس الوزراء دون مواربة وعلى استعداد علني للتضحية بها لخدمة غطرسته وغلوائه ومطامعه وهوسه بالسلطة وما تعد به من امتيازات. وأي تغافل عن هذه الحقيقة المرة سيؤدي بالعملية السياسية الى مهالك لا احد بمستطاعه التنبؤ بعواقبها الوخيمة ومساراتها المهلكة. وليس هناك من هو اكثر علماً منه  بمن لعب دوراً مفصلياً في مواجهة الانحدار الى متاهات الحرب الاهلية والقتل على الهوية والحرص على حفظ ارواح وادوار المكونات العراقية المغيبة، وبمن كان يصب الزيت في اتونها. ومع تحفظي على سياسة المحاصصة الطائفية واستهدافاتها  فان من المشروع الاشارة بوضوح الى ان السيد المالكي كان هو في موقع المواجهة مع من يحاول يوميا ايهامهم واسترضاءهم بوسائله المفضوحة، بينما كان الطرف الاخر في التحالف يبدي اقصى الحرص حماية للجميع من الاقصاء والتهميش وخلافه. 

ان دعوة الرئيس الى التهدئة واعتماد الحوار تنطلق من قناعة بان غير ذلك مدعاة للتهلكة ينبغي تجنبها، لكن اسباب التهلكة يمكن ان تكمن، كما السم الزعاف، في الابقاء على العناصر الاساسية التي تشكل هي وليس غيرها، قوام الازمة وجوهرها واطرها.

ولهذا لابد ان يجري التوقف عند قضية "قوات دجلة" وما له علاقة بالمناطق المستقطعة والخلاف بين بغداد واربيل، بل ينبغي التأكيد هذه المرة على مستقبل العراق الديمقراطي وبناء مؤسسات الدولة الضامنة لها، وتحجيم تغوّل من يجلس على كرسي رئيس الوزراء اليوم او في قابل الايام، وكل القضايا التي تتعلق بخرق الدستور والتلاعب بثروات البلاد والفساد والبطانات المتفسخة والتركيبات المشوهة غير الدستورية للجيش والقوات الامنية والمخابراتية التي باتت بتركيبتها القيادية خطراً جديا على مستقبلنا الديمقراطي ومبادئ حقوق الانسان.

ان التركيز لإطفاء نار الحرائق يتم فقط بتحقيق ما تضمنته رسالة الحوار التي وُجهت الى التحالف الوطني الذي يبدو انه رأى في التزام الصمت ابلغ جواب! 

عفواً سيادة الرئيس، ان الوضع المتدهور لا يحتمل تبادل القبل والابتسامات، بل قد تزيد في هذه المرة من  مرارات الناس وتثير قلقهم اكثر من كل مرة..!