شكراً لك علمتنا التمرد

Saturday 26th of September 2009 02:11:00 AM ,
العدد :
الصفحة : ملحق منارات ,

شاكر الأنباريسلمان لمام، ينتمي الى قبيلة بني لام، التي ينتسب اليها ايضاً جمعة اللامي، وهو من كتب الروايات والقصص عن تاريخ هذه القبيلة وتسكن الاهوار جنوب العراق، وفي مدينة الناصرية تحديداً. سلمان لمام كان واحداً من زملائنا في جامعة السليمانية، وهي من مدن كردستان العراق. كان يدرس الهندسة الزراعية، وهو شاب اسمر يشبه إلهاً سومرياً. قصير، سمين قليلاً، صعلوك حقيقي من صعاليك الجامعة. اما أنا فكنت ادرس الهندسة المدنية، ايام كان المهندس واحداً من نخبة المجتمع.

ما كان يميز سلمان لمام اكثر من غيره، ليس مواصفاته الجسدية، ولا شبهه بالسومريين، وانما حفظه لكل شعر محمد الماغوط تقريباً. كان مهووساً بمحمد الماغوط. يفطر على قصائده ويتغدى بطرائفه ويتعشى بذكره. ولم نكن نعرف لماذا. كان يترنم بقصائده في المقاهي وفي جلسات الشراب وعند اروقة الكلية، وفي السفرات الجامعية، حتى اوشكنا نؤمن ان سلمان ?مام القادم من الهور، وكيل الماغوط الثقافي في جامعة السليمانية. ليس هنا الغرابة ايضاً. المسألة ان سلمان لمام راح يعيش حياته اليومية طبقاً لفلسفة الماغوط، المتشائمة من الواقع العربي، المتشكية من الحظ البائس وغياب العدالة السموية، والكفاف البشري في الحياة. لازمة سلمان الدائمة هي: \"سأرفع رسالة الى الله، ممهورة بعذاب البشر، لكن جل ما أخشاه ان يكون الله أمياً\". ربما لم تكن القصيدة هكذا بالضبط، لاني اعتمد الآن على ذاكرتي، الا ان جوهر القصيدة هو ذاك. يردد لمام هذا المقطع كلما رسب في الامتحان او غابت عنه محاضرة مهم? او افلس وبدأ الجوع يعضه ولا يجد من يستدين منه. اعتقد ان سلمان لمام استسهل قصائد الماغوط، لذلك كان يقف الى جانبه، معجباً ومحازباً، كلما جاءت المساجلات لتقارن بين أدونيس ومحمد الماغوط، في جلساتنا الخمرية التي كنا نجريها في نادي نقابة المهندسين، وهو ناد يقع وسط المدينة. والسليمانية لمن لا يعرفها، مدينة محاطة بالجبال، اسماء جبالها هي بيره مكرون وكويجة وقرداغ، وكانت في ذلك الوقت تشتعل بالنار ليلاً. نراها ونحن جلوس الى كأس من العرق المستكي، نتجادل حول محمد الماغوط ومحمود درويش وأدونيس وسعدي يوسف وقصيدة النثر الوليدة آنذاك. ذات مرة حرف سلمان لمام واحدة من قصا?د الماغوط التمردية وقال بصوت عال: \"أنا الشاعر من جبل بيره مكرون الى قرداغ\". فما كان من أحد الشعراء الاكراد، الجالسين الى طاولة قريبة منا، الا ان رد عليه بصوت اجش: اخرس ايها الصعلوك. وكادت ان تقع مشاجرة حول قصيدة الماغوط في الظاهر، لكن الحقيقة هي وجود الحساسيات القومية وتوتر الوضع في كردستان العراق، والتعريب الجاري على قدم ساق. وكاد المسكين سلمان لمام ان يذهب ضحية للماغوط الذي كان وقتها يعب العرق اما في بيروت واما في دمشق، من دون ان يعرف ان شباباً لم تصل اعمارهم الى الخامسة والعشرين، في مدينة تختبىء وسط الج?ال، يخوضون حروباً حول قصائده. وما كان يشعل النقاش وقتذاك سؤال هل ان قصائد الماغوط يمكن اعتبارها شعراً ام لا؟ كونها ليست موزونة ولا تتكىء على تراث القصيدة العربية؟ وهل يكتب الماغوط بهذه الطريقة لأنه لا يعرف الاوزان ليس الا؟ او هل يمكن كتابة القصيدة من فكرة عارية فقط؟ ولما كان معظم اصدقائنا، وفي مقدمهم سلمان لمام، لا يعرفون الوزن لكنهم يحبون الشعر، فقد هبوا يكتبون قصيدة النثر على شاكلة محمد الماغوط. يكتبونها في مقهى الجامعة، وفي الحدائق العامة، وقبل النوم على الاسرة، وفي المراحيض قبل ان يستمنوا. ومادتها كانت الجوارب والتبغ والنساء والجوع?والبذاءات اليومية والشعارات السياسية، التي تنتقم من خنوع ما هو سائد وعاهر. تركنا محاضراتنا ودروسنا وكتبنا، وانغمرنا حتى الآذان بقصائد الشعر. وكان الماغوط عملاقاً بيننا. شيء يشبه الاسطورة، غامضاً، عنيفاً، يفتح نيرانه على الارصفة والشوارع والمدن والحكام والفسق والسأم اليومي الضارب الاطناب على المدن العربية. تبغ وارصفة وخمرة وموت، يقول بروح متصوفة شيئاً من هذا القبيل. وكنا ندخن علبتين في اليوم، ونجلس على الارصفة، وننظر بريبة الى العسكر والحزبيين والجرائد الصفراء، بمحرريها الذين يركلهم رئيس التحرير على أقفيتهم من دون ان ينبسوا بحرف. الماغوط هو المتمرد الاوحد في تلك الشلة، بتلك المدينة. وكان سلمان لمام بكرشه الصغير، سنة بعد سنة، يروم بلوغ مرتبة محمد الماغوط. تحول سلمان الى ماغوط صغير، فهجر كتبه ودراسته، ولم يعد يأتي الى المحاضرات. سحره الماغوط بقصائده وعبثه وحياته المنفلتة، فكتب على غرفته في القسم الداخلي شعار رامبو: \"من الغباء ان تبلى سراويلنا على مقاعد الدراسة\". وحين رسب لمام سنتين متتاليتين، ولم تنفع قصائد الماغوط في معالجة الاحباط البشري، ولا غيرت العالم، سحب لمام الى الخدمة الالزامية من شاربيه. صار جندياً مكلفاً، يأتمر بأوامر عريف بالكاد انهى دورة محو الأمية، يعاقبه اكثر الاحيان بالزحف في الطين او حش الحلفاء في ساحات المعسكر. زارنا ذات يوم في نهاية عهدنا بالجامعة وسكرنا في نقابة المهندسين. صار سلمان شخصاً مهدماً، مروضاً، وقال لنا بعدما سكر، ادرسوا، ادرسوا، حتى لو اكلتم الحجار، فالحياة معقدة اكثر من الشعر. سمعت بعدما قامت الحرب العراقية - الايرانية ان سلمان لمام قتل في واحد من الهجومات الصيفية على عبادان. وكان ان أكلت أنا الحجار لكنني لم انس الشعر، ولا الماغوط. طوفت في ارض