بناء المدينة في العراق وأثر عامل التأريخ

Friday 25th of January 2013 08:00:00 PM ,
العدد : 2708
الصفحة : تشكيل وعمارة ,

بعيدا ً عن العوامل التي تؤثر على مسيرة بناء المدينة بشكل أفقي ،أي بصورة معاصرة ومتزامنة كتوسع المدينة والخدمات والعوامل الاقتصادية والسياسية والبيئية فإن هناك عوامل أخرى تؤثر على عملية البناء هذه باتجاه عمودي بموازاة محور الزمن الذي يتعاقب على المدين

بعيدا ً عن العوامل التي تؤثر على مسيرة بناء المدينة بشكل أفقي ،أي بصورة معاصرة ومتزامنة كتوسع المدينة والخدمات والعوامل الاقتصادية والسياسية والبيئية فإن هناك عوامل أخرى تؤثر على عملية البناء هذه باتجاه عمودي بموازاة محور الزمن الذي يتعاقب على المدينة والتغيرات التي تطرأ عليها. ويظل عامل التاريخ ملازما ً لكل هذه التغيرات ولكن بظهور متفاوت وبمديات شاسعة الاختلاف، وقد يبدو في حالات عديدة أنه يختفي ويندثر تحت طبقات المدينة المتعاقبة، وفي حالات أخرى يُعمد إلى دفنه فيها، وهذا هو الذي يحاول فعله الكثير من الأنظمة المستبدة لكنه لا يلبث أن يعاود الظهور مرة أو مرات ، وأحيانا ً بشكل بالغ القوة والتأثير. وقد يظن البعض أن تأريخ المدينة يسير في اتجاهه العمودي بشكل تصاعدي ،غير أن واقع الأمر ليس كذلك فتأريخ المدينة قد يعود في حركته وقد يتراجع أحيانا ً.

وإذا كانت العوامل الأفقية لبناء المدينة تعطي أشارات بيّنة لمدى تطور المدينة ورقيها – والعكس أيضا ً فهي تعطي إشارات أخرى على تخلف المدينة وتأخرها – فإن العوامل العمودية وبالخصوص عامل التأريخ يعطي إشارات واضحة على مدى عراقة المدينة وغناها وثراء التجربة البشرية فيها ومدى استغلال الطاقات الكامنة فيها البشرية والفكرية والطبيعية. وإن تصنيف العوامل المؤثرة في بناء المدينة إلى أفقية وعمودية لا يعني الفصل في ما بينهما ،فهي تتداخل مع بعضها ويؤثر بعضها في الأخرى على الدوام، وإذا اقتصرنا في الحديث عن عامل التأريخ فإنه يؤثر على كل مراحل بناء وتوسع وتطور المدينة بشكل ملحوظ عادة إيجابا ً وسلبا ً. 

يؤثر عامل التأريخ على بناء المدينة إيجابا ً من خلال خلق نقاط وبؤر ومراكز حضرية تأريخية مهمة في المدينة تشكل في الغالب أهم وأغنى قطاعات ونقاط المدينة، توصف عادة بقلب المدينة. يعدها المخطط الأمريكي المعروف ( Kevin Lynch ) أحد وأهم الأجزاء الخمسة التي تشكل عموم هيكل المدينة ( City Structure ) التي يستخدمها في أسلوبه الذي أوجده لدراسة وقراءة وتحليل المدينة في كتابه ( The Image of the City ) وكتب أخرى له، ويضع Lynch هذا الجزء من المدينة تحت عنوان ( Landmarks ) أي المعلم الحضري أو المديني أو ما يوصف أحيانا ً بالبؤر المهمة ( Focal Points ). وغالبا ً ما ترتبط هذه النقاط الحضرية المهمة بعامل التأريخ الذي إما أن يكون ضاربا ً في القدم والذي يمنح هذه النقاط الأهلية للبقاء، أو أن يكون مرتبطاً بحدث تأريخي معاصر يؤهله للصمود أمام التغيرات التي قد تجتاح هيكل المدينة في حاضرها ومستقبلها.

قد لا تشكل هذه النقاط التأريخية سوى جزء صغير من  المدينة مقارنة بهيكلها الحضري الواسع ،مثل المدينة القديمة في النجف الأشرف، وقلعتي أربيل وكركوك في مدينتيهما، أو تكون على شكل مبنى أو مجمع واحد كالإمامين الكاظمين في الكاظمية والإمام الأعظم في الأعظمية – لم يكن من اليسير معاملة بغداد كهيكل حضري واحد أو تحديد قلب تأريخي واحد لها لتعدد مراكزها التأريخية وثراء المدينة واحتوائها على نقاط مهمة كثيرة كان من المفترض أن تشكل معا ً شبكة أثرية تأريخية متكاملة تساهم في تشكيل وعضد وأحكام هيكل المدينة الواسع والمبعثر حاليا ً – هذا الدور يمكن ملاحظة أثره بقوة في ربط مكونات المدينة ووحدتها في مدن التأريخ العريق كمثل روما.

من الآثار الإيجابية الأخرى لعامل التأريخ في المدينة هو خلق نقاط جذب سياحية فاعلة لكل زائري المدينة بالإضافة إلى سكانها، ولارتباط هذه النقاط بتأريخ المدينة فإنها دائما ما تمتلك قيمة استثنائية مقارنة بنقاط المدينة الأخرى، وطالما أدرك التخطيط الحضري علاقة هذه النقاط التأريخية بالوظائف الحضرية الأخرى أو ما يسمى استخدام الأرض (  Land Use ) فيعمد إلى ربطها بشكل وثيق بوظائف أو استخدامات ( Utilities ) مهمة أخرى ،كالتجارية ( Commercial ) أو السياحية ( Tourist ) أو الترفيهية ( Recreational  ) أو الصناعات الحرفية ( Craftsmanship ) أو الثقافية ( Cultural ) .أما النقاط ذات الوظائف الدينية ( Religious  ) فعادة ما يأتي ارتباطها بالنقاط التأريخية طبيعيا ً ودون تدخل التخطيط الحضري ولكن عليه الاستفادة منها بشكل فاعل.

إن استعراض المراكز التأريخية لمدن العراق يشير بوضوح إلى ارتباطها بالعامل التجاري فقط ،كارتباط أسواق الكاظمية بضريح الكاظمين وارتباط شارع النهر في بغداد بالمواقع التأريخية هناك، كالمدرسة المستنصرية وخان مرجان وجامع الخفافين وغيرها ،وارتباط سوق النجف الكبير بضريح الإمام علي (ع)، في حين يكون ارتباط الاستخدامات الحضرية الأخرى ( Urban Utilities )،كالترفيهية والثقافية بالمراكز التأريخية ضعيفا ً أو يكاد يكون معدوما ً، وهي إشارات واضحة إلى  النظرة قصيرة المدى للتخطيط المنفذ حاليا ً في مدننا وإلى هوس الربح المادي السريع.

لعامل التأريخ دور سلبي أيضا ً في عملية بناء المدينة ،فهو عادة ما يشكل عائقا ً أمام توسع بعض أجزاء المدينة ويؤلف نقاطاً حساسة يصعب التعامل معها أثناء أحداث تغييرات في هيكل المدينة، وهو أمر يتطلب خبرات وكفاءات ملائمة للتوفيق بين تعارض هذا العامل مع حركة المدينة، وهو الأمر نفسه الذي يجعل النقاط التأريخية في المدينة عرضة لأطماع رؤوس الأموال ( Capitals) التي تحاول استثمار المراكز الحضرية دون الالتفات إلى القيمة التأريخية والحضارية لأجزاء المدينة هذه وخاصة حين يغيب التخطيط الحضري العقلاني والمدرك، أو أن يكون ضعيفا ً أمام هيمنة هذه القوى الرأسمالية أو قابلا ً للتسيير من قبلها.

إن عامل التأريخ كغيره من العوامل الأخرى المؤثرة في بناء المدينة له آثار  إيجابية وسلبية وإن كيفية الاستفادة من الأولى وتجنب الأخرى يعتمد بشكل كبير على إدراك وتفهم التخطيط الحضري لهذه الآثار وكيفية التعامل معها وإيجاد الحلول والمقترحات القابلة  للتطبيق.

هناك أمر تجدر الإشارة والتأكيد عليه في ما يخص عامل التأريخ وهو أن شخصية المدينة ( City Identity ) وموقعها الحضاري والقاعدة التي ترتكز عليها المدينة في نموها وتطورها، كل هذه تعتمد بشكل أساس على الإرث التأريخي ( Historical Heritage ) الذي تمتلكه المدينة، وعلى درجة الحفاظ ( Conservation ) عليه، وطريقة التعامل مع هذا الإرث، ومدى احترام المدينة لإرثها التأريخي هذا، وسبل الاستفادة منه ليس فقط بشكل مادي وتجاري واقتصادي وإنما أبعد من ذلك بكثير عن طريق خلق بيئة ( Environment ) قريبة من نفوس ساكنيها من خلال توثيق العلاقة بين المدينة وساكنيها نفسيا ً وثقافيا ً ومكانيا ً، هذا المفهوم الذي يعتبر من أهم مفاهيم التخطيط الحضري المعاصر، أي ما يسمى الارتباط بالمكان ( Place Attachment ). ولهذا المفهوم آثار ايجابية عديدة حتى من الناحية الاقتصادية، ويتضمن في ما يتضمنه خلق العلاقات العاطفية بين المدينة وسكانها ورفع مستوى الإحساس بالارتباط بالمدينة وبالمسؤولية تجاهها ورفع روح المشاركة والفعالية في تحسين البيئة والحفاظ عليها والتعامل مع المدينة تماما ً، كالتعامل مع السكن الخاص، ويساهم عامل الارتباط بالمكان في رفع درجة نظافة البيئة ويقلل من احتمالية الانتقال وتغيير السكن المكلف والمربك لنظام المدينة كما يرفع من جمالية المدينة من خلال المشاركة في تشجيرها والتعامل معها بذوق، بالإضافة إلى أنه يرفع من المستوى الصحي والنفسي لسكان المدينة ويخفض من مستوى الإجهاد ( Stress ) والإنهاك ( Exhaustion ) الناجم من زخم المعلومات الحاصل فيها. 

فمن منّا يخاف على مدينته ويحافظ عليها كما يخاف على بيته؟ ومن منّا ينعم بالرضا في ما يخص سكناه؟ ومن منّا يعشق المشي في شوارع مدينته دون أن يصاب بالإحباط؟ ومن منّا يفكر في زيارة المواقع الأثرية لمدينته؟ ومن منّا يكنّ الاحترام لتأريخها؟

تتنافس أغلب مدن العالم حاليا ً حول صياغة شخصياتها ومواقعها من خلال تأريخها، وبعيدا ً عن المدن التي ترتكز على إرث تأريخي هائل يتجذر إلى عدة آلاف من السنين ،مثل روما وأثينا وبكين فإن هناك مدنا ً لا يمتد عمقها التأريخي أكثر من بضعة قرون ، مثل نيويورك وسدني تحاول صناعة تأريخها بشكل صارخ لتقف في مصاف مدن العالم العريق وقد يكلف هذا الأمر هذه المدن كلفا ً بشرية ومادية باهظة لكنها لا تتوانى في محاولاتها. فما الذي تفعله مدن التأريخ  الأولى ومصانع الحضارة والمدنية الأقدم – باتفاق كل الدراسات والتنقيبات – أمثال سومر وأور وأكد وبابل وآشور والمدائن ومن ثم الكوفة والبصرة وبغداد وواسط والموصل وعانة وأربيل والنجف وكربلاء وغيرها؟

ماذا تبقى لذي قار من أور؟ وماذا تبقى للموصل من آشور؟ وماذا تبقى لبابل من بابل؟

إن الإرث التأريخي الذي تملكه مدن العراق بقدمه وثرائه وتنوعه لا يمكن العثور على نظير له، غير أن الإهمال وعدم الاحترام وغض النظر عن هذا الإرث هي الأخرى لا نظير لها.

*مهندس عمارة وتخطيط حضري