الجسد أم العقل؟

Tuesday 16th of October 2012 08:29:00 PM ,
العدد : 2624
الصفحة : الأعمدة , احمد المهنا

أيهما يعد الميدان الرئيسي لعمل الحكومة: أجساد الناس أم عقولهم؟ يمثل هذا السؤال احدى العلامات الفارقة للأزمنة الحديثة. فهو لم يطرح بهذه الدرجة من الحدة في العصور القديمة ولا في الوسيطة. وحده العصر الحديث فعل ذلك.
وفي الجواب على هذا السؤال يكمن الفرق الجذري بين الحكومة في الأنظمة الديمقراطية الليبرالية أو الحرة، وبين الحكومات في سائر الأنظمة الأخرى من تسلطية ودكتاتورية وشمولية. او بين الفكر الليبرالي، وبين الفكر الآيديولوجي أيا كان نوعه.
يصدر الفكر العقائدي او الآيديولوجي عن نظرة فحواها أن هناك خطأ أو فسادا ما في أفكار المجتمع واخلاقه، أي في عقله. وان واجب الحكومة الرئيسي يتمثل باصلاح ذلك "العقل" الخاطىء او الفاسد. مثال على ذلك قول حسن البنا:" ان واجبنا كاخوان مسلمين هو أن نعمل من أجل اصلاح النفوس، القلوب، العقول بشدها الى الله ..ثم نقوم بتنظيم مجتمعنا كي يصبح مؤهلا لمجتمع الفضيلة الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. عندئذ ستنهض دولة الخير".
اذن شغل الحكومة، حسب البنا، يتركز على اصلاح أفكار وأخلاق المجتمع. عقل المجتمع وأخلاقه فاسدان ومهمة الحكومة هي اصلاحهما. هو اذن ضد المجتمع الذي يعيش فيه قبل أن يكون ضد الأجانب مثل الاستعمار وخلافه. ولأن أمل "الاخوان" يتركز على مجتمعهم، وليس على الأعداء الخارجيين، فإن عملهم أو بالأحرى غضبهم كذلك يتركز على مجتمعهم. نفس منهج التفكير، مع اختلاف المضمون، موجود بأي آيديولوجيا أو عقيدة، علمانية أو "دينية". ولذلك فان الشغل الرئيسي لهذه العقائد، وللحكومات التي تريد انشاءها، ينصب على "عمليات العقل".
على العكس من ذلك فان شغل الحكومة في الديمقراطية الحرة، وليست كل ديمقراطية حرة أو ليبرالية، ينصب على "أعمال الجسد". وليست هناك للجسم عقيدة أو آيديولوجيا وانما حقوق متى ما روعيت ولُبيت سلم الجسم وسلم معه العقل. توماس جيفرسون، الرئيس الثالث للولايات المتحدة، يوضح ذلك بقوله:" لن تلحق بي أية اساءة اذا قال جاري ان هنك عشرين الها، أو لا يوجد اله على الاطلاق. فهذا لن يأخذ ما في جيبي ولن يكسر رجلي". بهذه العبارات يحدد جيفرسون ثلاثة أشياء مهمة هي الحرية الفكرية، الممتلكات، والجسد. وبالتالي يعتبر أن المهمات الرئيسية للحكومة هي حماية هذه الأشياء الثلاثة التي هي، بتعبير آخر، أرواح الناس وممتلكاتهم وحرياتهم.
هكذا يكون دور الحكومة مقصورا على "أعمال الجسد". ان شغلها ليس تحسين الأخلاق ولا تغيير الأفكار، وانما حماية الأرواح والممتلكات والحريات، وهي الأشياء الثلاثة التي ستحدد وتفصل معانيها ومضامينها العديدة في "الاعلان العالمي لحقوق الانسان" الداخل في دستورنا والخارج من حياتنا، أو المعترف به نظريا والمديوس عليه بالقنادر عمليا.
وقد عرف جيفرسون بتقديره العميق لدور الدين في حياة البشر. وكان أحد أهم اسهاماته "مشروع قانون تثبيت الحرية الدينية" الذي شرع في الولايات المتحدة عام 1786. وهو قانون أسبغ على الأديان في المجتمع طابع "الطائفية الرسمية". بمعنى اعتراف الدولة بالأديان جميعا على قدم المساواة. ولكي لا تؤثر الخلافات الطائفية على الشعب، يمكن تهدئتها من خلال تجاهل الحكومة لها. فهذه الخلافات طبيعية ومفيدة ومحترمة، ولكن بشرط ابعادها عن مسرح السياسة ومجال الحكومة، كي لا تهدد السلم الاجتماعي ولا تضر الأمن الوطني كما تفعل "الطائفية السياسية".
وهذه البلوى الأخيرة، اي الطائفية السياسية، تركز، شأن كل آيديولوجيا، على "العقل"، لتجعله أثرا بعد عين. فهي عقيدة إعدام الثقة بالعقل، وبالتالي بالإنسان. وهل يمكن أن يسعد شعب بحكومة تستصغر عقله وتشين أخلاقه؟ لا بالطبع اذا كان واعيا. ونعم اذا سقط فريسة التضليل والتجهيل وغسيل الأدمغة. فالمعرفة كرامة والجهالة إهانة.