البلاغة وجمال الحقيقة

Saturday 13th of April 2013 09:01:00 PM ,
العدد : 2774
الصفحة : عام ,

حين درسونا البلاغة، وحين قرأنا من بعد عنها، وكذا إعراب الجملة وتركيبها ...، لم نكن نعلم ما وراء هذه الدروس إلا الإتقان الحِرَفي لبناء الجملة وإلا أن يحظى التعبير بجمال الصياغة.لكننا، وبعد سنين طويلة، لم نسأل لماذا هذا الاهتمام باختيار المفردة، ولماذا


حين درسونا البلاغة، وحين قرأنا من بعد عنها، وكذا إعراب الجملة وتركيبها ...، لم نكن نعلم ما وراء هذه الدروس إلا الإتقان الحِرَفي لبناء الجملة وإلا أن يحظى التعبير بجمال الصياغة.
لكننا، وبعد سنين طويلة، لم نسأل لماذا هذا الاهتمام باختيار المفردة، ولماذا الحذف ولماذا التقديم والتأخير ولماذا الإزاحة ولماذا نرتضي الخروج عن المتفق عليه بحجة المجاورة وسوى هذه مما في الدرس النحوي والدرس البلاغي من أمور يعرفها الدارسون.

اليوم، ونحن بأعمار ثقافية أخرى وبوعي علمي آخر، لم يعد الإتقان الحِرَفي، أو إتقان الصنعة، غرضاً نهائياً للبلاغة. المسألة اليوم نفسرها بأن الإنسان وقد رأى وتعقدت الرؤية، صار يريد المزيد من الأمانة في التعبير عن ذاته والتعبير الأذكى عن وجوده في الكون. ما عادت مهمة اللغة مقصورة على الخطاب اليومي أو الإشارة الى الاحتياجات الخارجية ومفردات العيش. كبر الانتباه الى خفايا الذات ودقائقها وازدادت الحاجة الى الدقة في كشف الأفكار ونزوعات الروح والإشارة الى اللامرئي ، لا لوجوده الذي قد يكون لحسب. فالحاجة الآن هي الى الإفصاح التام والدقيق عن المُضمَر ولقد اقتضى ذلك حاجة الى "لغة خاصة" في اللغة، قادرة على كشف كل ذلك. سعة القاموس اللغوي لم تعد كافية، ابتدعت، او صنعت مفردات واتُفِق على تعابير لا علاقة لها بالمعجم السائد. يمكننا ان نلاحظ التفاصيل الدقيقة للعواطف البشرية ومفردات الحضارة في الأدب الفرنسي مثلا. وكما لاحظنا من قبل العواطف الأساسية المتضخَّمة عند شكسبير. ودقة تفاصيل المجتمع الرعوي والحياة الصحراوية وضياع الإنسان في الشاسع، في القصيدة العربية الجاهلية أو – بفرق معلوم- في الملاحم الإغريقية. معلوم ان العصر الحديث وسَّع من قدرات الإتقان واصطناع او ابتداع المفردة "الدقيقة" او استعارتها من لغات أخرى إن لم تتيسر.
ولكن لماذا كل هذه؟
الجواب: إن كل المعرفة اليوم وكل حركة الحياة الثقافية، في جانب من شطرها المادي، ترتبط بالقوة المركزية للـ "دالّ اللغوي". وقد وصل الإنسان في احترامه لذاته حد شعوره بأنه صار المالك الأول للسيطرة على الكون وله النفوذ الواسع فيه. وصرنا نتصور اننا نحن الذين نصنع الوجود الحي بما يمنحه الدال اللغوي. فلا شيء بالنسبة للوعي الحالي خارج النص أو خارج الخطاب أو خارج اللغة. "اللغة بيت الوجود .." ولا ندرك شيئاً إلا عن طريق اللغة.
طبعاً ظهر من المفكرين من أراد أن يثلم هذه السعة، فقال بوجود واقع خارجنا لا يعبأ بوجودنا ولا بلغتنا. وهذا رأي "سيريل" الذي أولاً توسع في معنى "وجود"، ثانيا: تجاوز وظيفية اللغة الى عقلنة المضمون اللغوي.
لكنه استدرك، منتبهاً أو غير منتبه، فأكمل: "ولا يتعذر علينا ان نقارب ذلك الواقع الخارجي .." وهنا نعود للسؤال كيف نقارب ذلك الوجود؟ الجواب: باللغة التي  لا تقلل اهتمامنا من شأن الكلام ولا من القصد العقلي. بهذا أرى اننا ارتبطنا مرة ثانية بالمضمون الأول الذي أراد ان يبعدنا عنه!
لا أريد أن اظل في الجفاف النظري، ولكني ارى فيما أوردناه، ان ثمة طلباً للمزيد من الإدراك وللمزيد من احترام الاستجابات الفطرية، ولمزيد، وهذا موضوعنا، من الفن الموصل الى ما لا يُرى داخل الإنسان كما للتعبير عما حوله.
ولكي تتولى صناعةُ التعبير ذلك، لابد من التمكّن من فنون القول والتفنن الجديد به. وهذا ما نسميه بالإبداع في التعبير وهو الجانب الأكثر وضوحاً في الإبداع الأدبي، حيث اللغة تتوهج بالاستعارية وبما فيها من انزياح وتكثيف واعتام فلم تعد اللغة بهذا أداة تعبير بسيطة بل صارت شاغلاً إبداعيا بالنسبة للأدب ومحوراً لشواغل الفلسفة. باختصار نحن ضمن وجود لغوي تتحرك فيه ذواتنا الثقافية والفكرية، وفي هذا الوجود اللغوي تواصلاتنا الاجتماعية.
احترامنا للفن الأدبي ليس احتراما لظاهرية مصطلح ولكنه احترام عميق وإدراك عميق لضرورة التعبير والأكثر اتقاناً، حدَّ ان يكون جميلاً، للوصول وللتماس وللفهم !
هكذا افهم الأساليب وهكذا افهم البلاغة اليوم. وبهذا، ونحن في القرن الحادي والعشرين، نلتقي بما رآه السلف، وان هم تحدثوا عن ذلك ببساطة. لم يضبّب التعقيد عليهم الرؤية. كل شيء بالنسبة لهم كان واضحا فتحدثوا بهدوء عنه.
هذا الوجود في اللغة كان سبباً لإرباكات. فاختلاف "نوعية الوجود اللغوي يسبب دائما وبشكل يومي خروجاً عن الحس العام Commonsense  يولد ظاهرة مدانة بسبب سوء الفهم من جانب ومُضَحّى من اجلها بسبب عمق الفهم من جانب آخر. هنا بدأ الاختلاف او التضاد الذي سيكتسب أشكالا وصيغاً مادية: ردع ، ضرب، قتال، طلب، كيد ... الخ. والسبب في الأساس ظاهرة او ناتج لغوي. الاستعارية الخطيرة، المجاز، سببت الإرباك. ظاهرة الحلاج مثلا. فهو حين أحس باللافهم وبالخطر من جرائه ومن جراء مجتزءات خطابه، توجه لأستاذه الجنيد البغدادي. لكن الجنيد نهرَهُ، وربما طرده قائلا: مالك وهذا الكلام وما جدواه؟
هذا لايعني ان الجنيد لم يفهم أقوال الحلاج، ولكنه أراد ان يقول له ان الناس حولك لا يفهمونه فما جدوى القول ولِمَ التعرض لتبعات سوء الفهم او خطئه.. لكن الكلام لاجدوى منه بالنسبة لجنيد المحافظ هو صرخات تعبير كاشفة او فاضحة بالنسبة للحلاج الشاطح او المتمرد! المسألة في الأساس لغوية. ولو كان "الرأي العام"، السلطة، الوسط الشرعي، فهموا الكلام كما أراد، او كما هو في ذهن الحلاج، لما حصل تعذيب ولما حصل من بعد صلب وحرق. درجات العقاب كما ترون ترسم درجات سوء الفهم ..
لكن ما هو المنطلق الملائم، ما هو المنهج البحثي الملائم لكشف ما يعكسه وما يستقبله الواقع في عملية تداول اللغة ؟ اننا نخسر الكثير من منظومة "القصد العقلي" بسبب عدم الالفة مع التركيب اللغوي الاستيعابي. هذه اللغة الاستعارية توفر أوجها في فهم النص الأدبي او الرسالة او عموم الخطاب. بعض الرُسل قتلوا بسبب لا فهم مضمون الرسالة التي حملوها من ملوكهم او مرسليهم، بسبب ما اوحت به الرسالة خلاف ارادة مرسلها. اذن ثمة وجود خارج وجودنا اللغوي يتدخل، ليُحدِث خرقا. يرى عنفا او عدواناً فيواجهه بعنف اكثر مباشرةً .. ولو واجهتَ أي حاكم او أي سلطة بموضوعة حرية الكلام والتعبير او حرية الفكر، لأبدى منتهى السماحة. لكنه في ممارسة ذلك لغوياً يفقد توازنه وينحرف باتجاه الردع! السبب ليس هو الفكر الآخر ولكنه الوجود العدواني المضمر الذي حفزته اللغة. "الظاهراتية الداخلية" قلبت السلوكية الخارجية. ان وجوداً "اجتماعيا" آخر ولدته الحاضنة اللغوية في الممارسة. هنا ترتبك الانساق الاجتماعية داخل الوجود اللغوي، وهو عملياً بالنسبة للفرد، الوجود الاكثر اتساعا وتفاصيل وذاتية.
شبكة العلاقات الاجتماعية تقوم أساسا على شبكة من العلاقات اللغوية بين الأفراد وهي تتخذ خصوصيات في التبلور وصولاً الى أوساط الهيمنة او النفوذ او العلاقات الوجدانية. العاشق يفهم لغة حبيبته لا كما يفهما الاب او الغريب. ورجل الامن يفهم لغة الشيوعي، مثلا، غير ما يفهمها المفكر الحر او رفيقه. ولذلك نقول ان كلية اللغة وسعة المساحة التي تتحرك فيها اللغة، او الناس كوجود لغوي، يستوجبان عناية خاصة في رسم العبارة واختيار المفردة، أي في صياغة التركيب اللغوي.
ولأننا امام تفاهمات في شؤون الحياة وامام وجود داخلي شخصي وآخر مقارب او مضاد، عادياً كان او متبصّراً، اذن يقتضي الابداع الادبي، وهو ابداع تعبيري، أن يمتاز بعبارة افضل تركيباً، اجمل صياغة واكثر تأثيراً. وهنا نعود الى الدرس البلاغي الذي ابتدأنا به وهو وحده الكفيل بتمكيننا أو بتبصيرنا باسرار البلاغة وكيف نضمن وجودا لغويا اكثر سلامة وتكاملا.
بعضنا يسهل عليه تريد قول لكاتب او شاعر في حال استياء او تمرد آني، فيُسقِط البلاغةَ من اجل العفوية والاطلاق الحر. ذلك الكاتب او المبدع لم يقلل من شأن البلاغة وما قصد ذلك هو اراد عدم تزييف الإرادة الإنسانية بألفاظ غير دالة، بالزخرف اللفظي. لم يُرد تعابير منمقة لا حقيقة ورائها. أظننا نستاء يوميا من أولائك المنشئين، المعبَّأين بالالفاظ دونما فكرة مهمةٍ او معنى!
هذا النوع من اللغة غالبا ما يستعمله المزيفون من الساسة او الدعاة، يكسبون به، آنياً، إصغاء العوام ويخسرون فيه احترام أصحاب البصيرة والفهم. البلاغة لا ترتضي الخطاب الزائف، هي تفضحه بسحب المعنى منه!