دستويفسكي وتشيخوف

Monday 15th of April 2013 09:01:00 PM ,
العدد : 2776
الصفحة : عام ,

دستويفسكي وتشيخوف – عملاقان من عمالقة الأدب الروسي,وهما يمثلان بالأساس في الوقت الحاضر هذا الأدب خارج روسيا , فعندما يدور الحديث عن الأدب الروسي في العالم , يطرح النقاد والباحثون وحتى القراء على حد سواء اسميهما قبل كل أسماء الأدباء الروس الآخري

دستويفسكي وتشيخوف – عملاقان من عمالقة الأدب الروسي,وهما يمثلان بالأساس في الوقت الحاضر هذا الأدب خارج روسيا , فعندما يدور الحديث عن الأدب الروسي في العالم , يطرح النقاد والباحثون وحتى القراء على حد سواء اسميهما قبل كل أسماء الأدباء الروس الآخرين, فهما الأكثر شهرة والأكثر ترجمة , بل إنهما يشغلان مكانة خاصة ومتميزة في مسيرة آداب كثيرة في العالم, بما فيها التأثير على تلك الآداب العالمية وتطورها. وكم يبدو غريبا انهما بعيدان عن بعضهما البعض في مسيرة الأدب الروسي نفسه, بل يمكن القول انه من الصعب ان نجد أديبين أكثر بعدا عن بعضهما مثل دستويفسكي وتشيخوف , فابطال دستويفسكي يجسدون الأزمة الروحية المتوترة للإنسان, وحياتهم دائما مفعمة بالجريمة والحوارات الفكرية والفلسفية المعمقة, اما أبطال تشيخوف فانهم أناس عاديون , يذهبون يوميا الى العمل ويتناولون طعامهم ولا تحدث في مسيرة حياتهم جرائم وأحداث هائلة, بل حتى يمكن القول انه لا يحدث لهم اي شيء مهم وكبير.

ولد دستويفسكي عام 1821, واصدر روايته الشهيرة والمعروفة عالميا – ( الجريمة والعقاب) عام 1866, عندما كان عمر تشيخوف 6 سنوات فقط, واصدر روايته العالمية – ( الاخوة كارامازوف) عام 1880 , عندما كان تشيخوف ( الذي ولد عام 1860) قد أنهى المدرسة ويحاول ان يبدأ دراسته في الكلية الطبية لجامعة موسكو, وتوفي دستويفسكي عام 1881, عندما نشر تشيخوف بعض القصص القصيرة الفكاهية في مجلات روسية هزلية من الدرجة الثانية ليس الا. ولا توجد إشارة تؤكد ان دستويفسكي قد اطلع عليها او سمع باسم تشيخوف أصلا, اذ كان في تلك الفترة واحدا من اكبر الأدباء والمفكرين الروس, وفي الوقت نفسه واحدا من أشهرهم عالميا. اما تشيخوف , الذي ولد عام 1860 وبدأ النشر عام 1880 كما اشرنا في اعلاه,فانه اصبح معروفا في أواخر القرن التاسع عشر ليس الا, وليس بالشكل الذي يمكن مقارنته بدستويفسكي بتاتا.
ان الأجواء المتباينة والسمات المختلفة بين الأديبين قد أدت بالطبع الى عدم ميل تشيخوف الى دستويفسكي, ولكن هذا لا يعني بتاتا ومطلقا عدم إقرار تشيخوف بعظمة دستويفسكي والاعتراف به وبمكانته المتميزة في الأدب وبشخصيته الفذٌة و تأثيره في مسيرة الثقافة والفكر.
لقد كتب تشيخوف في 5 آذار/ مارت عام 1889 الى سفورين رسالة جاء فيها ما يأتي –( اشتريت في مخزنكم دستويفسكي, وأقرأ الآن. جيد, لكنه يكتب بشكل مطوٌل وبلا تواضع, وهناك الكثير من الادعاءات..). وجوابا على سؤال المخرج المسرحي الشهير نيميروفتش- دانجنكو عن رأيه برواية ( الجريمة والعقاب ) قال تشيخوف, انها لم تحدث لديه ( انطباعا كبيرا), وقد كان جواب تشيخوف صارما . وفي 30 كانون أول/ديسمبر من عام 1902 كتب تشيخوف الى محرر مجلة ( عالم الفن ) دياغيليف, وهي المجلة التي كانت تنشر طوال 1900- 1902 على صفحاتها اجزاء من كتاب ميرجكوفسكي ( الأديب والناقد المعروف في تاريخ الأدب الروسي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين, واحد ابرز شخصيات المدرسة الرمزية الروسية) الموسوم – ( تولستوي ودستويفكي), وهو كتاب نقدي كبير ويعد عملا متميزا في تاريخ النقد الأدبي الروسي,كتب تشيخوف ما يأتي – ( ان الثقافة الحالية الآن هي بداية عمل باسم المستقبل العظيم, عمل سوف يستمر لعدة عشرات آلاف السنين من اجل ان تعرف الإنسانية في المستقبل البعيد حقيقة الرب الأصيل, دون ان تبحث عن ذلك في دستويفسكي,كي تعرفه بوضوح كما تعرف ان اثنين في اثنين تساوي أربعة).لقد كتب تشيخوف ذلك جوابا على ما كان يدعو إليه ميرجكوفسكي وبقية المناصرين للمدرسة الرمزية لتأليه دستويفسكي وعبادة شخصيته باعتباره (نبي الوعي الديني )كما كانوا يطلقون عليه. ومن المناسب هنا الإشارة الى ان النقد الأدبي في العصر الفضي ( اي عشرينيات القرن العشرين) كان يميل بشكل واضح الى جانب دستويفسكي ويفضلونه على تشيخوف, ومن بينهم ميرجكوفسكي نفسه وغيبيوس وأخماتوفا وصولا الى باسترناك ونابوكوف.
ومع كل ذلك, يؤكد الكثير من النقاد والباحثين في الأدب الروسي , الى انه من الخطأ وضع دستويفسكي وتشيخوف كأديبين متضادين او مناقضين بعضهما للبعض , بل بالعكس, فانهم يعتبرون تشيخوف الوريث الشرعي لدستويفسكي , وانه استخدم هذا الميراث ليس كتلميذ يحاكي أستاذه ويحاول ان يقلده, بل باعتباره فنانا حرا أصيلا, اي تعامل معه إبداعيا, ويشير هؤلاء النقاد الى قصة تشيخوف الموسومة – ( الراهب الأسود ), وهي قصة متميزة فعلا في مسيرة إبداع تشيخوف , ومليئة بالأجواء الدستويفسكية, وعدا تلك القصة, فانهم يؤكدون – وهم على حق – ان ابطال تشيخوف ايضا , مثل ابطال دستويفسكي  يبحثون عن ( الحقيقة الأصيلة) للحياة, والتي تكمن طبعا في ( الإيمان ), وان الفرق بين دستويفسكي وتشيخوف هو ان ( الإيمان) بالنسبة لدستويفسكي هو إيمان مسيحي ديني ليس الا, اما عند تشيخوف فانه أوسع بكثير وهو يكمن في حقيقة أفكار الوجود الإنساني وأهدافه, اي ان أبطالهما يتوحدون في عملية البحث, الا انهم يتميزون في اساليب هذا البحث , اذ ان ابطال تشيخوف يبحثون عن أهداف العصر الحديث, عصر ما بعد دستويفسكي , العصر الذي لم يعد ملائما للإنسان ان يبحث فيه عن ايمان يستند الى نصوص لا تتناغم ولا تنسجم مع متطلبات الإنسان في العصر الحديث.
تشيخوف لا يقل عظمة عن دستويفسكي في طرح المشاكل الإنسانية ومعاناة الروح الإنسانية, ولكنه يعالجها بأسلوبه الخاص به, باعتباره فنانا مختلفا عن دستويفسكي, ولهذا فان إبداعهما لا زال حيٌا ويثير الباحثين والقراء على حد سواء في داخل روسيا وخارجها أيضا, بما في ذلك عالمنا العربي.