حديث السياسة والثقافة وتشوّه المفاهيم

Sunday 28th of July 2013 10:01:00 PM ,
العدد : 2855
الصفحة : آراء وأفكار ,

كثيراً ما يثير حديث السياسة اليوم السخط، والضجر، لأنه حديث في سياسة عائمة، وبلا تحققات، والسياسيون في سوانح هذا الحديث اقرب ما يكونون الى موظفي الدمج في السلك السياسي، اذ ان الكثير من طروحاتهم ومواقفهم ورؤاهم تكشف عن هذه الهشاشة في النظر الى الوظيفة

كثيراً ما يثير حديث السياسة اليوم السخط، والضجر، لأنه حديث في سياسة عائمة، وبلا تحققات، والسياسيون في سوانح هذا الحديث اقرب ما يكونون الى موظفي الدمج في السلك السياسي، اذ ان الكثير من طروحاتهم ومواقفهم ورؤاهم تكشف عن هذه الهشاشة في النظر الى الوظيفة السياسية، والى عدم ادراك سياقاتها المهنية، وحتى معرفة خطورتها.

واذا أدركنا ان هذه الوظيفة الادارية والتنظيمية والقيادية تفترض الكثير من المؤهلات، والخبرات، فعن أي خبرات نتحدث عن ظاهرة السياسي النمطي اليوم؟ وهل يمكن لهذا السياسي ان يتعاطى مع تحديات الواقع، ومع اشكاليات الصراع السسيوسياسي؟ اظن ان الاجابة ستكون مثيرة للاستغراب، ليس لان الواقع فرض مجموعة من الموجهات الاضطرارية والضاغطة، او لان الواقع يعيش ازمة اختلاط الاوراق، بل لان (صناعة السياسي) لم تعط الاهمية اللازمة، لا على مستوى التوصيف المهني او حتى الوظيفي، ولا على المستوى الاجرائي الذي يرتبط بوجود مؤسسات وبرامج ومراكز بحوث وتدريب تكون مسؤولة عن هذه الصناعة الثقيلة، وعن تأهيل السياسيين على كل المستويات لتسنم مسؤولياتهم باستحقاق مهني، لان السياسة تعني الان مصير الدولة والأمة، وتعني بادارة شؤون الناس وحفظ حياتهم ومصالحهم، وان الارباك والخطأ والاهمال في هذا السياق يعني تعريض الدولة لأخطار سياسية وامنية واقتصادية، وكذلك تعريض الكثير من الناس لأزمات شتى، وهو ما حاصل فعلا، فالكثير من الملفات تدار بطريقة غريبة، ولا مهنية، بما فيها ملفات الأمن الوطني والأمن السياسي والغذائي والأمن الأمني!! وهو ما نلمس بعض تداعياته من خلال هذه المآزق الخطيرة التي تعيش ادارتها تلك الملفات.
الاسئلة المضادة التي تتجوهر ازاء هذا الحدث تبدأ: بـ (مَن المسؤول؟) وكيف يمكن ضبط مسار هذه المسؤولية؟ وهل يمكن ان نصنع رأيا عاما سياسيا للمكاشفة والمراجعة؟ وهل يمكن ان تدرك الاحزاب السياسية او فرقاء مجلس النواب ذلك لكي يتصدوا لهذا المأزق؟ وهل يمكن للدولة ان تشرعن وجود مراكز تخصصية وباشراف خبراء دوليين لإعداد السياسيين، على المستوى المهني والتدريبي؟
هذه الاسئلة لا تعني احداً بعينه، لان الجميع الآن عند الحافة، وعند خطوط ساخنة لمواجهة ازمة آخذة بالتضخم، بدءا من تمثلها لشروط التصنيع الداخلي للازمة، او لتأثراتها الإقليمية او الدولية، وانتهاءً بصور الازمة التي قد تكون مدفوعة الثمن، لكن برغم ذلك فان هشاشة البيئة السسيو سياسية هي العنصر الاساس في تمظهر هذه الظاهرة، وفي تضخيمها وبالتالي تشويه اية صورة حقيقية للسياسي المهني، السياسي القائد، والسياسي العضوي.
الثقافة والسياسة
غياب المشروع الإنقاذي في مرحلة التحول الديمقراطي، يعكس اساساً غياب المشروع الثقافي، مشروع التعليم والتنمية والعلم والفن، اذ يمكن لهذا المشروع ان يكون عنصرا فاعلا في صناعة (الاطمئنانات)الوطنية من جانب، وفي انسنة الثقافة وقيمها باتجاه مواجهة ثقافات الرعب والتكفير والارهاب والغلو من جانب آخر. وفي هذا السياق فان حديث الثقافة سيظل حديثا مفتوحا على الكثير من التأويلات ما دامت السياسة تنتج المزيد من الأزمات..وما دام السياسيون اللامهنيون يضعون الأوهام فوق الحقائق، ويلغمطون على الناس معرفة ما يجري حولهم، او حتى تضليلهم بحلول غائمة وشبحية.
نعرف جيدا ان الثقافة ابنة الاطمئنان والاستقرار، لكنها بالمقابل من اكثر الفعاليات تاثيرا على معطيات اية ازمة، وعلى التاثير في مسارها وتوجهاتها، او حتى ازاحة الكثير من اقنعتها، او ربما فضح ما تحمله من (اكراهات مضمرة) او ترحيل المفتعل من الازمات من هذه الزاوية الى تلك.
 السياسة الاجرائية، او البرامج السياسية بمعنى أدق، هي الأكثر حاجة الى البرامج الثقافية، او الثقافة بوصفها مفهوما او وعيا او سلوكا، واقصد الثقافة هنا المشاريع والبرامج والقيم والافكار والحوارات والتنمية والعمران، اذ ستكون هذه المعطيات بمستوى السياقات التي تضبط مسار العملية السياسية، وابراز مهنيتها وعقلانيتها، وضرورتها في ان تحفظ الأمن الوطني والسيادة، ومشروع بناء الدولة، وحماية حقوقها الوطنية والدولية، مثلما هي صورتها في تنفيذ وادارة البرامج الوطنية، بما يضمن للناس حقوقهم وحرياتهم ورعاية مصالحهم، وفي حفظ امنهم، وفي تعزيز الاسس القانونية للعدالة والسلم المجتمعي ضد اي استلاب، وفي تمكينهم من اشباع حاجاتهم الحسية والانسانية والفكرية العميقة.
من اكثر حلقات الثقافة وبرامجها تعرضا للتشويه والتهويم وسوء الاستعمال هي المفاهيم، خاصة تلك المفاهيم التي تدخل بشكل مباشر في مجالات السياسة وفي اجندات السياسيين، وفي مجالات سجالهم اليومي الذي نشاهد فوضاه في الإعلاميات وفي جلسات مجلس النواب، اذ كثيرا ما تثار المشكلات حول قضايا خلافية ذات مصالح وحسابات معروفة، وان تصوراتهم عن هذه الخلافات تأخذ محنى إقصائيا، او تشويها وتشكيكا، وبما يجعل مؤسسات الدولة (التشريعية والتنفيذية والقضائية) امام احكام وقراءات شتى، بما فيها النصوص الدستورية.. ولعل من اخطر هذه القضايا الخلافية يتمثل بالنظر الى مفهوم الامن الوطني، والعلاقات الدولية، فضلا عن ما يتعلق بالحقوق والمصالح والخدمات وكيفية توظيف الموازنات في سياقاتها اللازمة، اذ ان الخلاف يتحول الى ما أشبه التغالب السياسي، او التماهي مع دوافع التخاصم والتناشز السياسي، خاصة في ما يتعلق بالتعاطي مع مفهوم الحكم وتوزيع الأدوار، والنظر الى مفاهيم الديمقراطية والحرية والسلم الاهلي والحقوق والتنمية والعمران وغيرها.
التصور الشعبي عن الديمقراطية بات محفوفاً بالكثير من المكاره، لان الكثير من السياسيين يمارسون الافصاح عن وعيهم الثقافي للديمقراطية بطريقة ملتبسة، وكذلك افصاحهم غير الواضح والمجزوء في النظر للحرية، اذ كثيرا ما يشوب هذا النظر اللغط استيهامات ونزعات تشوه الضرورة السياسية والقيمية والقانونية للحرية، والأنكى من ذلك تلك النظرة الغرائبية لمفاهيم الحقوق والمصالح والسلم الاهلي، اذ كثيرا ما نجد الازدواجية وسوء التعبير عن المعنى الحقيقي والمهني لها، او التجاوز على ما تعنيه الديمقراطية من قيم تحترم التنوع والتعدد والخيارات، وكذلك نظرتهم للسلم الاهلي، اذ تبدو هذه النظرة مشوشة، وضيقة وتنحاز الى افكار وممارسات تنتمي مرحلة ما قبل الدولة وليس للدولة، تلك التي تقتضي العمل والالتزام والشرعنة على وفق سياقات الدستور وليس على وفق المصالح الفئوية الضيقة او الجماعات العصوبية، وما نشاهد الان من مشاهد مثيرة للتقزز، حين نجد سياسيين يمارسون دور التحريض وتهييج وتجييش الشارع ضد هذا الطرف او ذاك، او حتى الدعوة للانقسام او تهديد الدولة بالعنف، كل هذا يحدث تحت يافطة الفهم الملتبس وغير المهني لمفهوم الدولة، ولمفهوم الديمقراطية، ولوجود السياسي الذي يقدم نموذجاً سيئاً لمهنيتها، ولسوء معرفته بمسلكيات وظيفته التي تقتضي التجاوز على(العصبويات) وتبني المشروع الوطني والمهني، وفهم آليات العمل داخل بنية مؤسسة الدولة العراقية الجديدة، وليس(مؤسسة) الجماعة او الطائفة.
ان الاهتمام بصناعة السياسي وتاهيل البنية السياسية مهنيا ووظيفيا يمثل احد ابرز الحاجات التي ترتبط بصناعة الدولة، وهذا يعني تحديد معايير واسس وحتى قوانين تحكم سيرورة هذا السياسي على مستوى الاهلية والوظيفة والخبرة والتحصيل العلمي وشهادات الكفاءة والتدريب في مراكز متخصصة تشرعن وجودها الدولة. لان الاهتمام النوعي بهذه الصناعة يعني السيطرة النوعية على القوة الفاعلة في ادارة الشأن السياسي اولا، وتخليص البيئة السياسية من السياسي العصبوي الذي تحركه القوة الخارجة عن بنية المشروع السياسي ثانيا، وللتعريف بالسياسي المهني الذي يحترمه الجمهور ويثق بمشاريعه الانتخابية او بالتزماته الوظيفية ثالثا..
وطبعا هذه الصناعة ترتبط اساسا بالصناعة الثقافية/ السياسية، اقصد المعرفة باسس العمل السياسي على مستوى النظرية، او على مستوى الاستعمالات، اذ ان السياسي في هذا السياق سيكون القوة الاكثر فاعلية في حماية مشروع الدولة من المحاصصة الطائفية، وفي اعطاء التحول الديمقراطي سماته الاجرائية والبرامجية، وفي حماية مصالح الناس الرمزية والقيمية، خاصة وان ماتعانيه الدولة العراقية الناشئة من شكوك والتباسات وضعت الكثير من الجماعات في خانة القوة المهددة للدولة، وهو مايقتضي ضرورة ادراك خطورة تنامي مثل هذه التموضعات التي قد تتحول الى اكبر قوة طاردة لمشروع الدولة ولصيانة سلمها المجتمعي وامنها الوطني والثقافي والمعيشي...