الجامعات العراقية وتحديات المجتمع

Wednesday 31st of July 2013 10:01:00 PM ,
العدد : 2858
الصفحة : آراء وأفكار ,

سؤال أطرحه على أساتذة الجامعات العراقية قبل أن أوجهه للمسؤولين في وزارة التعليم العالي: من المسؤول عن حالة الكساد الأكاديمي في أقسام الجامعات العراقية؟السؤال معقد بعض الشيء وخصوصا إذا ما خرج لنا أحد الاساتذة صارخاً "أي كساد هذا تتكلمون عنه فالجامعا

سؤال أطرحه على أساتذة الجامعات العراقية قبل أن أوجهه للمسؤولين في وزارة التعليم العالي: من المسؤول عن حالة الكساد الأكاديمي في أقسام الجامعات العراقية؟
السؤال معقد بعض الشيء وخصوصا إذا ما خرج لنا أحد الاساتذة صارخاً "أي كساد هذا تتكلمون عنه فالجامعات العراقية هي أفضل الجامعات في الشرق الأوسط؟" وغيره من الكلام والأوهام التي يعيشها البعض ليعمى بذلك عن رؤية مواضع الخلل.

إن الجامعات هي مراكز الإشعاع الفكري وبواتق الإنصهار المعرفي وبوابات التغيير الإجتماعي والعلمي وعجلة البلاد التي تسير من خلالها في ميادين الرقي بين الأمم وهذه المسؤولية الكبيرة لا بد من حملها بلا توانٍ او تخاذلٍ وإلا تراجعت الأمة وفقدت مكانتها وهيبتها. كانت الجامعات العراقية من أفضل الجامعات في العالم ومحط رحال الكثير من الطلبة العرب الذين إنتهى بهم المطاف بعد التخرج في مواقع مرموقة سواء في المؤسسات الحكومية أو الشركات الأهلية. غير أن تلك المكانة المرموقة لم تبق كما كانت عليه ثلاثون عاماً مضت في خضم التحديات الجديدة التي يعيشها الواقع العراقي والعربي والمنافسة الشديدة التي أخرجت العراق من مصاف الدول المصدرة للعلوم. العالم العربي اليوم يغص بالجامعات الكبرى سواء كانت حكومية أم أهلية إضافة إلى الجامعات الأوربية والأمريكية التي فتحت لها مواقع في الخليج العربي ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. هذا التوسع الأفقي رافقه توسعاً عمودياً على مستوى البرامج الأكاديمية التي تطرحها تلك الجامعات إضافة إلى المراكز البحثية المتخصصة في شتى الميادين. لا توجد لدي أرقام أقدمها هنا ولكن يمكن مقارنة التخصصات التي تقدمها جامعة البصرة على سبيل المثال مع أية جامعة في المملكة العربية السعودية أو مصر أو الأردن أو سلطنة عمان و قطر للتعرف على الفروقات في طبيعة التخصصات المتوفرة وكذلك طبيعة المواد التي يطرحها كل تخصص. وليس فقط التخصصات التي تطرحها تلك الجامعات بل ووضوح الرؤية لدى تلك الجامعات من حيث الغاية من التخصص والمستقبل الذي سيؤول إليه الخريج وكل ذلك ينصب في قابلية التخصص على تقديم الحلول للمشاكل الإجتماعية والوطنية.
السؤال الذي أوجهه للأكاديميين العراقيين وأنا من ضمنهم هو لماذا لا يقدم الأكاديميون مقترحات للوزارة وخطط مدروسة لإستحداث أقسام وتخصصات جديدة تخدم التطوروالتدهورالذي يشهده العراق في شتى ميادينه؟
لنأخذ على سبيل المثال حالة الفقر الأكاديمي (Academic impoverishment) الذي تعيشه جامعة البصرة كإنموذج للجامعات العراقية ولكونها تخدم شريحة كبيرة من الطلبة الذين يفدون على الدراسة فيها من شتى المحافظات ومن دول العالم العربي وإن كان ذلك في سابق عهدها.
نظرة واحدة على التخصصات المتوفرة في الجامعة تكفي لبث الرعب في قلب الناظر فتلك التخصصات التي ولدت مع ولادة الجامعة هي لازالت نفسها تلك التخصصات والأقسام ولنتحدث على وجه الدقة حول التخصصات الإنسانية. تقدم جامعة البصرة شهادة البكلوريوس في القانون والاداب والتربية والإدارة والإقتصاد وتندرج تحت هذه الكليات تخصصات اللغة العربية واللغة الأنجليزية والتاريخ والفلسفة والجغرافية والترجمة والمكتبات وتكاد تخصصات كلية التربية تكون مطابقة لتخصصات كلية الآداب من ناحية الحقول الإنسانية إضافة إلى تخصصات علم النفس التربوي فيما تقدم كلية الإدارة والإقتصاد تخصصات المحاسبة والإدارة والإقتصاد والإحصاء والمالية. الأسئلةالتي تطرح هنا هي: 
هل هذه التخصصات قادرة على تلبية إحتياجات المجتمع من الخدمات التي هو بحاجة لها؟ 
أبسط مثال على ذلك هو هل تستطيع الجامعة أن تقدم للمجتمع خريجين متخصصين ذوي جودة عالية في دراسات علم نفس الطفل وتنمية الطفولة المبكرة للتغلب على المصاعب الجمة التي يواجهها الأطفال في المنازل والمدارس والشوارع وخصوصا جراء تعرض أحد أفراد أسرتهم للقتل امام أعينهم أو تعرضهم أنفسهم للأذى جراء الأنفجارات وغيرها من الصدمات النفسية والجسدية؟ 
هل تستطيع الجامعة أن تستحدث قسماً أو مركزاً لدراسة التطرف والإرهاب ومحاولة البحث في أسبابه ومحاولة إستقطاب الطلبة العرب والأجانب ليكونوا نواة للتلاقح الفكري لإيجاد الحلول التي تعاني منها جميع الشعوب العربية الغارقة في دوامات العنف والتطرف؟
هل فكرت الجامعة بإستحداث قسم للدراسات الإجتماعية والتنمية البشرية للبحث في أسباب البطالة المستشرية بين الشباب والعوامل المنتجة للفقر بين فئات الشعب؟ 
هل بإمكان أقسام اللغة العربية في كليات الاداب والتربية أن تستحدث قسماً لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها تستقطب الطلبة الأجانب الراغبين في دراسة اللغة العربية والثقافة الإسلامية وتكون إنطلاقة للتبادل الثقافي الثنائي بين العراق والعالم على غرار ما تقدمه جامعة قطر؟ 
هنالك الكثير من الأسئلة بقدر المشاكل التي يواجهها المجتمع العراقي من تصحر وبطالة وأزمات نفسية وتشوهات خلقية وتلوثات بيئية وشحة المياه الصالحة للشرب وإمدادات الكهرباء والطاقة والتطرف والعنف وزواج القاصرين (ذكوراً وإناثاً) وغيرها كثير تركتها مؤسسات التعليم العالي لكي يتناولها خطباء المساجد والمنابر ليخوضوا بها بدون أي معرفة قائمة على علم موضوعي ودراسات تحليلية من شأنها وضع اليد على مواضع الخلل بعيداً عن إستجداء العطف والتقرب للناس من خلال إنتقادات السلطة. وقد أصبحت هذه المشاكل مادة إعلامية دسمة للقنوات المناوئة للحكومة والقنوات الصديقة يأخذون منها ما يسد رمقهم الإعلامي أما المواطن فلا يحصل إلا على جرعات من التخدير وإيهام بأن صوته ومشكلته قد وصلت إلى السيد المسؤول. 
ونحن إن لم نكن قادرين على تحديد تلك المشاكل فسوف لن نتمكن من تحليلها وحلها وسنرزح تحت وطأتها إلى أبد الآبدين. فمن خلال تجربتي كمشرف أكاديمي في الولايات المتحدة أجد أن الجامعات الأمريكية تبدع في إستحداث التخصصات العلمية والإنسانية لتواكب بذلك التطور الذي يعيشه المجتمع والعالم. ففي جامعة كنت ستيت على سبيل المثال إستغلت الجامعة حادثة مقتل الطلبة على يد الحرس الوطني خلال أكبر إضراب طلابي في تاريخ أمريكا في مايو ويونيو 1970، احتجاجا على غزو كمبوديا من قبل أمريكا وقامت بتأسيس مركزاً لفض النزاعات إستجابة لتلك المشكلة التي حدثت ولضمان عدم تكرارها في المستقبل. واليوم تقوم بعض الجامعات الأمريكية وكليات المجتمع بإستحداث تخصصات أمن الفضاء الإلكتروني Cyberspace Security بعد المبادرات التي قدمها الرئيس أوباما وبعد تعرض المؤسسات الأمريكية لعمليات القرصنة التي طالتها من الصين وإيران وغيرها وللتحضير كذلك لأي حرب كونية جديدة يكون قوامها الشبكة الإلكترونية.
إن العراق فتح أبوابه اليوم لأبنائه للدراسة في الخارج وهذا ما يبعث على السعادة والأمل في أن يتمكن هؤلاء الطلبة من إحداث التغيير عند عودتهم لبلدهم بعد تخرجهم لبث الحياة في المؤسسات التربوية والعلمية والإجتماعية ويجلون عنها صدأ الزمان وجور الحكام وطغيان البند السابع. وهنا أود أن أنتهز فرصة هذا المقال في التعبير عن الإحباط الذي ينتاب شريحة واسعة من الأكاديميين العراقيين في الخارج الذين إنتهوا في القارة الأمريكية وأوربا بحثاً عن الأمن لأنفسهم وذويهم. لازالت الحكومة العراقية تتعامل مع هؤلاء العراقيين وكأنهم ليسوا من أبناء البلد وليس لهم حق في بلدهم الذين ضحوا من أجله وإن إنتهى بهم المطاف خارجاً. أليس من حق هؤلاء كعراقيين أن تمد إليهم الحكومة يد العون ليتمكنوا من إكمال دراستهم العليا وإرسال أبناءهم للجامعات لكي يحصلوا على التعليم أسوة بأبناء باقي الجاليات العربية؟ يوم من الأيام سيعود هؤلاء المغتربين لخدمة بلدهم كما عاد سياسيوا اليوم وإن تربعوا على عروش الحكم في العراق الجديد.

– أكاديمي عراقي مقيم في الولايات المتحدة