يتحسّس مقعده كل صباح

Tuesday 3rd of September 2013 10:01:00 PM ,
العدد : 2883
الصفحة : الأعمدة , علي حسين

بدأت مثل كثيرين غيري، قراءة روجيه غارودي في نهاية السبعينات، ليس فقط كتبه في شرح الماركسية ونقده العنيف لبعض حراسها المتجهمين، وانما دراساته في مجال الأدب، وكان يسعدني في ذلك الوقت أن اجد كتابا جديدا له.. وفي مرات عديدة كنت أعيد قراءة روايته الوحيدة "مَن اكون في اعتقادكم". غارودي المتعدد الثقافات كان بالنسبة لي مثل السحرة الذين قرأت عنهم في الف ليلة وليلة، مرة اراه كاتبا ساخرا، وفجأة يتحول الى فيلسوف، لايقبل أفكار المعلمين الكبار، بل يحاول نقضها.
عندما توفي قبل اشهر في ريف باريس عن 98 عاما، كان قد عاش قرناً من التحولات السياسية والفكرية، باعتباره من الاساتذة المرموقين للفلسفة في العالم، وظل يقول دائما: إن الأثر الفلسفي سيظل مرجعية فكرية، فيما تتحول الاعمال الادبية الى مجرد قصص للتسلية.. اليوم لا أحد يعود الى كلاسيكيات غارودي الفلسفية، بينما روايته الوحيدة تعود الى الواجهة.. ففي خبر بثته وكالات الانباء، اكدت دار غاليمار الفرنسية ان رواية الفيلسوف الوحيدة حققت مبيعات جعلتها في صدارة الكتب الأكثر مبيعا لهذا العام، لماذا..؟ لا يُجيبنا الناشر.. لكننا حتما نتذكر نبوءة سارتر عندما كتب يوما "من ان كلمات الفيلسوف يزول مفعولها عندما لا يعود لها غرض، في حين أن كلمات الاديب أشياء طبيعية تنمو كما تنمو الأشجار والعشب".
أتذكر أنني أعدت قراءة رواية غارودي أكثر من مرة.. أحياناً اراجع فصولا فيها وأحايين اخرى اقتبس منها اشياءً واشياءً، وقد وقعت في سحرها وما أزال اعتبرها واحدة من كتبي المفضلة.. وفي كل مرة أجد نفسي إزاء حكاية عن جيل يريد ان يجد له مكانا تحت شمس البلاد.. في تقديمه للرواية يقول غارودي: "إن بطلي الرئيسي ينتمي إلى جيل يبهرني.. الجيل الذي يعاني أحلام جيفارا، وقلق الحكام المتسلطين".
يعيش بطل غارودي مع رفاقه لحظات مطاردة شرسة من قبل افراد في الشرطة، الذين يريدون منهم ان يتخلوا عن افكارهم، ويقول لرفاقه مشجعاً: "إن أخطر الاعداء هو الخوف، والأمر الجوهري هو ألا ننتظر المنقذ.. إن البشر لا يموتون حقاً إلا إذا فقدوا مبرراتهم في الحياة، وهذا وحده ما يجعلني أعيش بعد".
في واحدة من أجمل حواراته يحاول غارودي من خلال أبطاله ان يعلمنا معنى ان يتربى الظلم والطغيان والخوف في احضاننا "في هذا العصر ارى ان الظلم قد توزع على الجميع.. ولا دواء للخوف إلا بإعلاء شأن الحق ومحاربة الجور الأبدي، وان نخلق السعادة بغية الاحتجاج على عالم تسوده التعاسة.. انا أطالب البشر بإعادة اكتشاف تضامنهم ليشنوا حربا على قدرهم البغيض".
في مدن الخوف يصر الساسة والمسؤولون ان تعيش الناس مع ساسة يحوِّلون الحق إلى ضلالة والحياة إلى جحيم يكتوي بنارها معظم العراقيين، كم مثيراً للاشمئزاز أن الساسة الذين كانوا يطالبون بالحرية نراهم اليوم يمارسون الوحشية والاستبداد نفسه، في مدن الخوف تغيب العدالة وتصبح الديمقراطية مجرد واجهة لسرقة احلام الناس ومستقبلهم، لتتحول إلى شعارات وخطب يلقيها علينا صباح كل يوم مجموعة من الانتهازيين واللصوص والمزورين، ديمقراطية شعارها التفاهة والسفاهة والبلادة والانتهازية، ومضمونها إقصاء الكفاءات والخبرات واحتضان أصحاب الصوت العالي والصاخب؟!
كم ضاع من زمن على هذا الشعب الذي يريدون له ان يظل خانعاً ذليلا تحت أقدام الساسة، وان يجرَّد من إرادته وخياراته.. كم ضاع من أعمارنا في ظل حكومة وبرلمان صوروا للناس أن الوعي والحرية والتقدم، انما هي خروج على سلطة الدِّين وإرادة "القائد المنقذ"، وأن الديموقراطية "اختراع امبريالي"؟!
عندما خرج المالكي يخطب قبل تظاهرات شباط، قلت في نفسي، لقد أفاق، او استُفيق، وسيرى وجوه العراقيين وزمنهم الضائع، ويطلب منهم العمل معا لبناء بلد المواطنة، لا بلد الطائفة والعشيرة والأهل، ولكنه في كل تظاهرة يصر على ان يذكرنا بخطاب قائد الشرطة في رواية غارودي "انهم يريدون تدميرنا.. فعصيانهم واحتجاجاتهم تجعلني اتحسس مقعدي كل صباح".