مطر على قبر السياب
عبدالكريم كاظم
توطئة
و اهداء
إلى كامل شياع مرة أخرى ...
يا صديقي في كل مرة اجد نفسي مطالباً بالتوضيح من أجل عدم
التباس القصد و أن أهمس في أذنيك لشرح ما حدث قبل فوات
الأوان ، المسألة ببساطة لقد ضاق علينا الهامش و صارت
الكلمات تحاكم قائليها و تشوه سيرة الماء بينما نحن نضحك
في السر و العلن و بعد ذلك نجلس بعيداً كي نتبارى في وصف
أحزاننا عسى أن نصل إلى مصالحة جديدة مع أرواحنا ، ليتني
كنت هامشاً ، فمن المحرج عادة أن يكتب المرء عن نفسه أو
لصديقه أو عن ذكريات قديمة صغيرة ، أو حتى أحلامه الطموحة
التي يتركها وراءه كلما تقدم به العمر. كل هذه تبدو أشياء
هامشية لا تهم احداً إلا صاحبها ، ربما الحديث عن الحياة
أو الصداقة يكاد يكون حديثاً واحداً ذاك لأنني لست مولعاً
بالتفسير و لكن المحطات العابرة هي التي تستوقفني ، سنظل
نتبارى في وصف أحزاننا و ندافع عن ما تحمله من النبل.و
عليك أن لا تنس أن ما يشدُّ انتباهنا دائماً تلك الضفة ،
ضفة الحلم التي نتقي بها خشونة الصلف و الأقنعة السرية
التي تخفي تلك الوجوه الخاوية من كل رصيد و القابعة هناك
في أقصى الخيبة ، كثيراً ما يلذ لنا أن نتحدث عن طفولة
الحلم و أن نعيد في أذهاننا رسم الصورة التي طويناها و نحن
نحلم بلون الورد و هو يطوق عنق العراق .
مدخل
أول
خطاب إلى الشاعر
لعلها هي المرة الأولى التي أكتب فيها لك منذ أن غادرتنا
ذات يوم حزين في المستشفى الأميري / الكويت ، و لعلها ــ
أيضاً ــ المرة الأولى التي أكتب فيها لشاعر من بلدي
العراق الذي أتعطش لرؤياه و تمنعني من العودة إليه أمور
كثيرة ، نحن العراقيين نعرف تماماً متى وَدَعْنا بدر شاكر
السياب و لكنني أرى أنه قد حاول توديعنا أكثر من مرة و هو
يستدرجنا إلى قصائده المألوفة و المسكونة بالغياب .أنني
هنا في مدينة شتوتغارت الالمانية و في ضجيج شوارعها و
مصانعها ووحشية موسيقاها الصاخبة أحس شوقاً مخيفاً بتعبير
الاسباني لوركا يهز خلاياي و حنيناً خطيراً و جارفاً إلى
لمحة و لو خاطفة لمدخل مدينتي بغداد رغم الحرائق و الدمار.
صديقي و شاعري الكبير أحس بفراغ هائل رغم كل ما حولي من
البشر و بوحدة لا يستطيع أي مخلوق مهما كان قريباً
اقتحامها و لأنني غريب هكذا سأبقى و لأن الذين يحيطون بي
لا يربطني بهم ذاك الارتباط الروحي الذي بمقدوري أن أتعصب
له ــ رغم مقتي الشديد لكل اشكال التعصب ــ و لكن صدقني يا
صديقي الشاعر من أنني لا أستطيع أن أكذب عليك و أنكر
سعادتي بهذه الغربة، أنني في الواقع و أرجو منك أن تتفهمني
حين أبوح لك و بجرأة من أن الشمس هنا هي أجمل مما هي عليه
في العراق و قد أختلف معك فيما ذهبت اليه و أجد لك في
الوقت ذاته الكثير من المبررات حتى و أن كنت غير مقتنع بها
ذاك لأنها ــ و أعني هنا بالشمس ــ أقل تأثيراً في نفسي
.مثلما أنا سعيد بغربتي هنا من غربتي في بلدي ويا للمفارقة
فاقسى انواع الغربة تلك التي يحس بها المرء في بلده ، لقد
تركت العراق منذ أكثر من عقد و نيف و تقطعت بيننا السبل ،
لكن رغم هذا مازلنا نعوي ونخدش الشوارع و المدن بهذا
العواء المقرف ، هل تصدق لو قلت لك ... لقد أصبح كل ما
نحمله في أرواحنا و نفوسنا عن العراق مجرد ذكريات قديمة؟
قد لا تتقبل صراحتي لكنك حتماً تتفهمها ، لقد تقطعت خيوطي
مع العراق و لم أعد متصلاً به أن ذلك له حجم الخيانة ، و
ما يسعفني هنا ما قلته في قصيدتك ( غريب على الخليج ) :
إني لأعجب كيف يمكن ان يخون الخائنون !
أيخون إنسان بلاده ؟
إن خان معنى أن يكون، فكيف يمكن أن يكون ؟
صديقي الهائل هل تتهمني بالشيزوفرينيا لو قلت لك أنني في
نزاع مرير مع شوقي و بانتظار أن يهزمني كي أعود إلى العراق
كعودة الابن العاق إلى حضن أمـه، لقد أصاب أهلي ـ هناك ـ
الذهول و أدركهم الوهن و تجاوزتهم السنوات بقفزات شيطانية
خاطفة بسرعة الضوء و بمنتهى البلاهة و العماء كما لم تعد
بغداد تلك المدينة التي أرضعتنا الحنان و الشعر ، فقد بدأت
أحس نحوها بالتطفل ،هل تتخيل ذلك ؟ ليس بوسعي أن أشطر قلبي
نصفين فلا مكان للنصف الآخر من القلب هناك و لا مجال لي
للخيار هنا أو هناك فما بينهما حرف الكاف الكافرة كما يقول
مظفر وليست لدي الرغبة و القدرة على الارتباط بأي مجتمع،
يبدو أنني سأظل غريباً و مرارة الغربة ستملأ روحي قبل
فمي.، هل أنا مخطئ يا بدر ؟ ربما سأعود إلى بلدي يوماً
ما...من يدري ؟ بالمناسبة دواوين شعرك لا تفارقني و أحب أن
أبلغك من أنني في صدد إعداد دراسة طويلة عن مجموعتك
الشعرية ( المعبد الغريق ) خصوصاً ذاك الشباك الذي تقول
عنه:
شباكُ وفيقةَ في القرية
نشوانُ يُطل على الساحة
و في موضع آخر من القصيدة تقول أيضاً :
تمثلت عينيك يا حفرتين
تطلان سحراً على العالم
على ضفة الموت بوابتين
تلوحان للقادم.
هل أنتهيت من كتابة قصيدتك الأخيرة ؟ كي أحتفل مع نفسي
فالقصائد كما تعرف ليست كلمات فقط بل هي كائنات حية بتعبير
هوغو و مشاغبة أيضاً.
لقد حاولت مراراً أن أتخلص من وساوسي لأتفرغ إلى الحياة ــ
حياتي ــ و لكنني في كل مرة أجد نفسي و قد عدت حاملاً
خيبتي و هنا يأخذني الحزن خصوصاً حين يتضح الأمر المتعلق
في كل محاولة بشساعة المسافة ما بيننا فيفضحني البوح و
أعود مجدداً إلى متابعة لعبة الكتمان أنت تعلم جيداً أن
الشعر لا يأتي من عملية البحث عن الشعر فهو حاجة نهرب
اليها حين يحاصرنا الخريف و يطل علينا الموت كعجوز تجلس
عند مطلع القصيدة أو على أنقاض موتانا الذين نعرفهم و لا
نعرفهم ، إلى أين سيُوصلنا المشي على أطراف الكلمات و أنت
تعلم أيضاً أن موتنا ــ و هنا لا أعني الموت بمفهومه
المادي بل الانصهار مع الكلمات ــ خارج السياقات المألوفة
حتى و نحن نعثر على بداية النص / الموت الذي نعاشرهُ و
يعاشرنا فيا لروعة الورق الأبيض حين تغمره الكلمات التي
تأخذ بنا إلى سريتها دون ان ندري ، صديقي العزيز هناك
أنباء قد تُزعجــك بعض الشيء و ربما تجعلك لا تفكر بالعودة
إلينا مرة أخرى ،لقد تحولت مقهى البرلمان في شارع الرشيد
إلى مطعم و البريطانيون عادوا إلى البصرة بينما الأمريكان
يتجولون في شوارع بغداد فتشبث بموتك مثلما أوصاك صديقك
المحب دوماً الشاعر محمد الماغوط .
مدخل ثانٍ
منزل الأقنان في قرية جيكور
كل لغة هي واقع مركب إلى حد الارباك و غير متناسق و هذا
أمر يقرره اللغويون القدامى و المحدثون على حد سواء لكنني
لا أريد أن أخوض في هذه النظريات المجردة و لكن هناك
فضاءات رحبة تمتد في كل المضامين و الدلالات و الرموز التي
تحملها اللغة ، ما أردت قوله... هو أن الشاعر يتنقل من
خلال لغته بشكل مستمر و يقطع أشواطاً لانهائية و ينخرط في
صراعات مريرة من أجل الوصول إلى سرير القصيدة لينام قرير
العين على مقربة منها و ربما يذهب الشاعر إلى أبعد من ذلك
و هو يتنقل بسرعة فائقة من خلال لغته أثناء عملية الكتابة
و علينا أن نتوقف قليلاً على باب التأمل و نستمع إلى
ماكتبه الشاعر الكبير بدر شاكر السياب في مطلع قصيدته
الخرافية الجمال أنشودة المطر و هنا أدعو الكثير ممن
يعرفون السياب إلى أن يرشدوني على صورة أخرى بموازاة هذه
الصورة التي تجسد النخيل و الليل و الحبيبة في شط العرب أو
أي من الشواطئ الأخرى...
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
هذه الصورة الشعرية الباذخة الجمال تجعل الكثير ممن يهتمون
بالشعر ـ قراءة ونقداً ـ على ان يمعنوا النظر جيداً في كل
ما يتعلق بمديات الشاعر الحسية كي يقدموا لنا المبررات
التوصيفية ـ النقدية لحالاته الصوفية التي أصابته و جعلته
يصل بنا إلى أقصى حالات التجلي الشعري المثقلة بعوالم
نابضة تتخطى النص نفسه نحو مدارات خارجة عنه و متصلة به و
هنا أجد لزاماً عليّ أن أستعين بما قاله الكاتب الأرجنتيني
البرتو مانغيل في كتابه المعنون ( يوميات قارئ ) ..
(القارئ الحقيقي لا وطن له ، فوطن القارئ هو وطن الأدباء
الذين يقرأ لهم ) .
ماذا صنع
السياب بنا ؟
شعره ينطق الحب و
بهذا نستطيع القول أن نبوءة ( نوفاليس ) قد تحققت من خلال
شعر السياب و القائلــة : ( الحب صامت ، الشعر وحده يجعله
ناطقاً.) و لذلك نستطيع القول أيضاً ان الشاعر و العاشق
كلاهما منتج كلمة و هي كلمة متدفقة بالضروة و ذات ضراوة
عمدت إلى تسليم ماهيتها إلى شاعر/عاشق مستعص على الانكسار
تحت وطأة ظروفه ، منيع في مواجهة اغراءات واقع مدموغ
باليتم و الاعاقة و الغربة ، فلقد بقي السياب يلاحقنا
بشعره و يمنحنا بين الفينة و الفينة باقة أزهار و يدعونا
إلى الانغماس عميقاً مع الأشياء الحميمة التي تحيط بنا و
عدم الانسحاب من الحياة مهما كلفنا الامر ، و قد لقننا
درساً في الوفاء ليس للعراق و حسب بل ( لشمسه و ظلامـه ) و
صار لنا شعراء و شعراء خرجوا من معطفه البالي بينما رئته
تتمزق من البرد. يرتبط عالم السياب الشعري بملاحم و قصص و
أساطير العراق و العالم ، فأصداء شعره و توظيفاته للاساطير
واضحة و راسخة في مخيلة القارئ فقد حقق ألقاً ناصعاً
منسجماً إلى ما لا نهاية مع هذا العالم الذي يطفو فوق
الوقائع التاريخية و الاساطير المتأصلة فيه بشكل عميق مما
أكسب شاعريته بعداً جمالياً لا حدود له و جعلها السمة
المتحكمة بعناصر العملية الشعرية .
هل كان السياب
عاشقاً ؟
لقد أقترن الحب
بالنار منذ القدم و هنا أود ان أشير إلى المثل العراقي
الشهير الذي يتحدث عن النار .. ( نارك و لا جنة هلـي ) و
هذا الامر يقودنا إلى التساؤل ماالذي يدفع الابطال ــ في
الاساطيرــ إلى مصائرهم ؟ نستطيع هنا أن نلاحظ الشاعر
الفرنسي أراجون حين قرر أن يصبح ( مجنون ألسا ) و لكن
الشاعر قيس بن الملوح لم يختر مصيره و لم يمتلك في الوقت
ذاته وسائل للدفاع عن نفسه غير الشعر بالرغم من إختلاف سبل
الحب بين الشاعرين كما أن هناك أمثلة تاريخية و معاصرة في
هذا المضمار اورد بعض الاسماء هنا على سبيل المثال لا
الحصر .. ( رابعة العدوية،سافو، جميل بن معمر، ايلوار،
جوليت ، نيرودا.. الخ. و لولا الحواجز و الفواصل لما كان
الحب، فهو التطرف بامتياز و هو الحماقة العظمى التي تستحق
الخلود و الا فكيف يغير أنف كليوباترا وجه التاريخ ؟ و ما
الذي فعلته السيدة ( جولي / سيدة التفاحات الأربع )
بالشاعر الراحل يوسف الصائغ وما تفسيرنا لما فعله
الشاعرديك الجن الحمصي بعشيقته و كيف قام ( فلورنيتنو
اريثا ) عاشق غابريل غارسيا ماركيز في رواية الحب في زمن
الكوليرا بهذه الممارسة التي جعلته يجر بقدميه اصفاداً
زنتها خمسة ارطال من اجل قضية حب و الذي كان يبعث كل ستة
أشهر زهرة كاميليا بيضاء لعشيقته تعبيراً عن وفائه
والتزامه؟ كذلك نستطيع أن نقرأ ما كتبه السياب في قصيدته
المسماة ( وغداً سألقاها ) من مجموعته الشعرية شناشيل ابنة
الجلبي لنرى كيف كان يتحرق عشقاً و التي يقول في مطلعها :
و غداً سألقاها
سأشدها شداً فتهمس بـي
رحماك..
ثم تقول عيناها :
مزق نهودي ،
ضمَّ أوّاهــا
و هناك قصيدة أخرى من المجموعة ذاتها أعلاه بعنوان ( كيف
لم أحبك ) نسمعه يقول فيها متحسراً لضياع معشوقته في زحمة
الايام :
كيف ضيعتك في زحمة أيامي الطويلة ؟
لم أحل الثوبَ عن نهديك في ليلة صيف مقمرة ؟!
و هذا البيت أيضاً من قصيدته المسماة ( خيالك )
تمنيتُ لو كنتِ ريحاً تمـرُّ
على الظل ولهى فلا تعذَل
و لا أستطيع أن أنسى أو أتغاضى عن تلك المقدمة القصيرة
التي قدم بها قصيدته المعنونة ( عودة الديوان ) التي يقول
فيها :
إلى ديواني العائد من تجواله بين العذارى.. إلى ذلك الزورق
المنتقل بين موج النهود أرفع زفرتي.. .
و حتى في قصيدته .. ( هل كان حباً ) :
هل تُسمين الذي ألقى هياماً ؟
أم جنوناً بالأماني ؟
أم غراما ؟
هل كان السياب
متشائماً ؟
في إحدى رسائله
لصديقه الاديب عاصم الجندي يقول فيها معلقا بصورة لا تخلو
من نبرة التحدي عن حالتي الموت والتشائم: ( لا تظن أنني
متشائم العكس هو الصحيح لكن موقفي من الموت قد تغير لم أعد
أخاف منه ليأت متى شاء أشعر أنني عشت طويلاً : لقد رافقت
جلجامش في مغامراته و صاحبت عوليس في ضياعه و عشت التاريخ
العربي كلـه ألا يكفي هذا ) مثلما ياتي الموت تأتي الحياة
، و لكن هناك ثمة حياة أخرى حافلة بالجمال تزحف باتجاه
الشعر تتم عملية اغوائها و الايقاع بها من قبل الشاعر الذي
لا يتوقف عن مطالبته إياها بالمزيد لاكثر من سبب حتى أنه
يستطيع رسم ملامح هذا الأغواء باخلاص شعري و بصيرة حاذقة
وبهذا تتجه هذه الحياة إلى خلق رؤية شعرية سيابية و هذه
طريقة أخرى معروفة لدى شاعرنا تمنحنا تعارضاً تاماً مع
النظرة التقليدية للاشياء التي تحيط بنا دون أدنى شك و
عليه يمكن لنا أن نجزم أن السياب قد تدرب على التعامل مع
حالتي الموت و التشائم إلى الحد الذي تغير موقفه منهما، و
لكن كيف لنا أن ننسى أن هناك الكثير من قصائد السياب معبأة
بالموت خصوصاً تلك التي كتبها و هو على فراش المرض في
مستشفى سان ماري بلندن ، فهل كان السياب ينتظر موته الخاص
وراء جدران هذه المستشفى بعيداً عن وطنه و بيته و أطفاله ؟
لنصغي إلى هذا المقطع من قصيدة منزل الأقنان لنرى الجانب
المحايد الذي تعمده السياب في التعامل مع الموت فكل كلمة
من هذا المقطع تجرُّ وراءها نوعاً من المهادنة و الرضا
المتعمدين و حافلة في الوقت نفسه ببناء شعري يصل إلى أقصى
درجات البذخ الصوفي المغموس بالفلسفة المعرية ، لنتأمل هذا
المقطع من قصيدة سفر أيوب/1
لك الحمد مهما استطال البلاء
و مهما استبد الالم
لك الحمد ، أن الرزايا عطاء
و إن المصيبات بعض الكرم
ألم تعطني أنت هذا الظلام
و أعطيتني أنت هذا السحر
فهل تشكر الأرض قطر المطر
و تغضب إن لم يجدها الغمام
هذه العذابات تصل أحياناً إلى ذروتها و لكنها في الوقت
نفسه تجعل من الشاعر أن يعود مثقلاً بالعديد من المحاولات
اللامجدية التي يؤديها بمنتهى التعب و الشفافية و بطريقة
تليق بشاعريته الكبيرة و ابداعه اللامحدود و هذا الأمر
يوضحه المقطع التالي :
و لكن أيوب إن صاح ،
صاح :
لك الحمد ، إن الرزايا ندى
و إن الجراح هدايا الحبيب
أضم إلى الصدر باقاتها
هداياك في خافقي لا تغيب
هداياك مقبولة هاتها.
نبرة الألم التي يطلقها الشاعر أهي تحد لفكرة الصبر ،
طريقاً للخلاص و الاغتسال من الذنوب أم فهم صوفي خالص
يتناغم مع تطلعات الشاعر في هذه اللحظة المربكة ، فالألم
يظل على الدوام مصاحباً الشاعر و لا يستطيع أن يفعل إزاءه
أي شئ سوى أن يصيح :
أشد جراحي و أهتف بالعائدين..
ألا فانظروا و احسدوني فهذي هدايا حبيبي
و إن مست النار حر الجبين
توهمتها قبلة منك مجبولة من لهيب.
و كأنني بهذا المقطع أصغي إلى رابعة العدوية و لزوميات أبي
العلاء المعري و حتى مزامير أيوب وتحديداً في قوله (
هداياك مقبولة هاتها ) ففكرة الهدايا الإلهية فكرة معروفة
ترد في المزامير على لسان المسيح على الرغم من أن السياب
هنا يوظفها بطريقته الشعرية المعهودة و بمعناها الصوفي
الحافل بالدلالات و الإيحاءات الروحية و مصراً في الوقت
نفسه على التحدي لفكرة الألم كما أسلفت و هنا أيضاً يعلمنا
السياب على كيفية الإنصات لتلك الاصوات التي نسمعها في
شعره من إجل إقرار حقيقة الوجود المؤلم حد الإفراط الذي
يلغي بدوره أي فرصة ممكنة للاختيار.
|