المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

من اللغات القديمة الى الموسيقى.. علي الشوك يتحدث لـ(المدى): الرواية هي التي تستهويني !

 

حوار :د/ جمانة القروي
يعد علي الشوك واحدا من ابرز الباحثين في قضايا التراث،و الموسيقى واللغات القديمة والأدب،ومتخصص في علم الرياضيات " اكاديميا".. وهو أحد أولئك الذين رحلوا عن العراق منذ اكثر من ثلاثة عقود إلا أن الوطن لم يغادر ذاكرتهم يوما..و مازالت بصمات دجلة، وافياء النخيل، ومرأبع بغداد واضحة المعالم عليهم..لقد عكس الأستاذ علي الشوك حبه ولهفته لبغداد في روايته " الأوبرا والكلب " عندما ذكر كل تفاصيل بغداد من شوارع، ومقاهٍ، ومخازن واكلات و أسماء لشخصيات بغدادية أصيلة..
في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي ولد الأستاذ على الشوك في بغداد في منطقة كرادة مريم بجانب الكرخ حيث قضى فيها معظم سنوات طفولته وشبابه،عاش طفولة مريحة وليست سعيدة " كما يحلو له التعبير "،كان موضع حب واعتزاز عائلته وأقاربه، ربما لأنه كان من المجدين والنابهين في المدرسة.اكمل دراسته الابتدائية في مدرستي كرادة مريم والمنصور، ثم انتقل مع عائلته إلى كر بلاء،إلا انهم سرعان ما عادوا إلى بغداد بعد عام واحد فقط، ليكمل دراسته في مدرسة الرصافة.. ثم واصل دراسته الثانوية في "الإعدادية المركزية ".. يتذكر الأستاذ علي الشوك وصوته يكتسي مسحة من الحزن قائلا:
"لقد حاول أبي مرارا حرماني من الذهاب إلى المدرسة، وذلك بتأثير أو ضغط من أصدقائه في الجامع اولئك الذين كانوا يعتبرون أن المدرسة تعلم الكفر.. لكن والدتي كانت تحميني وتوفر لي مصاريف ونفقات الدراسة والظروف الملائمة لها أيضا بالإضافة إلى تشجيعها المستمر..ولها وحدها يعود الفضل فيما وصلت إليه الآن "..
في عام 1947 حصل الأستاذ علي الشوك على بعثة إلى الولايات المتحدة الأمريكية للدراسة هناك..عن هذه المرحلة يقول " لقد كنت ضمن 150 طالب بعثة دراسية
إلى أمريكا، وقد سافرنا إلى بيروت أولا للدراسة لمدة سنتين في الجامعة الأمريكية، وبعدها تم إرسالنا إلى أمريكا، لإكمال الدراسة هناك..كان من المفروض أن ادرس الهندسة المعمارية، إلا أني وجدت نفسي لا أستطيع دراسة موضوع كهذا، لذلك غيرت دراستي إلى الرياضيات.. ثم عدت إلى العراق لأعمل في مهنة تدريس مادة الرياضيات لأكثر من 20 عاما "..
* ولكن أين التراث من الرياضيات...؟
- لاحت على وجهه الذي يطفح بالطيبة والتواضع.. ابتسامة، قبل أن يقول :" هذا صحيح.. ولكني شغفت بمطالعة التراث والتاريخ والفلك و أصول اللغات منذ سنوات صباي وشبابي.. وقد كانت لي اهتمامات لغوية وقراءات كثيرة وواسعة و اهتمامات ثقافية متعددة بالرغم من أنى حصلت على اقل درجة في امتحان اللغة العربية في الثانوية.. إلا أن هذا لم يمنعني من الكتابة نتيجة لفيض المعلومات التي خزنتها في ذاكرتي ثم وجدت نفسي أدون واكتب هذه المعلومات.".
* هل أخبرتنا متى وبالتحديد بدأت الكتابة والنشر؟؟
-"دعينا عن محاولاتي وتجاربي الأولى فقد كان البعض منها اقرب إلى الشعر، وبغض النظر أن بعضها وجد طريقه للنشر.. إلا أن الأعمال الجادة نسبيا كانت في أواخر الخمسينيات، وكان ذلك نتيجة حتمية لقراءاتي التراثية الكثيرة مثل كتاب الأغاني، والعقد الفريد وغيرهما.. ما بين عامي 1952-1953 بدأت بالنشر.. لكن في عام 1958 وبعد صدور كتاب " وعاظ السلاطين " للدكتور علي الوردي.. أثار لدَي نوعاً من الرغبة في الكتابة عنه لأني وجدت فيه أشياء إيجابية وأخرى سلبية وقد نشرت ثلاث حلقات في جريدة الحرية،عن هذا الموضوع وهو برأيي أول عمل جاد لي، "..
كنت أحاول حثه على مواصلة الحديث لذلك قلت له..وبعد ذلك،.. فأجاب: في عام 1959 وبعد ثورة 14 تموز صدرت " مجلة المثقف " حيث كنت أحد أعضاء تحريرها والناشطين فيها، فالكثير من مقالاتي كانت تنشر فيها، إلا أني لم اقتصر على النشر فيها فحسب وإنما نشر لي العديد من الكتابات في صحف أخرى..
* أذن متى صدر أول كتاب لك، وما قصته ؟
اخذ نفسا عميقا وهو يفرك جبينه متذكرا..."
- أنا بالحقيقة كنت قد كتبت انطباعات ومقالات وخواطر، ولم يكن وارداً في ذهني تأليف كتاب..إلا أن موضوع "الدادائية" استرعى انتباهي، ولم اكن اعرف عنها شيئا، لذلك لم اترك كتاباً أو كراساً يخص هذا الموضوع إلا و قرأته.. وبذلك فاضت المعلومات عندي فوجدت أنه لابد من كتابة كتاب عن هذا الموضوع، وكان أول كتاب صدر لي باسم " الدادائية بين الأمس واليوم " عام 1970 في بيروت.. ربما هناك من لا يعرف ما هي الدادائية، ولماذا بالتحديد بين الأمس واليوم ؟.. "الدادائية،مذهب فني يدعو إلى الفوضوية وإلغاء الفن.. وقد جاءت كرد فعل من الحرب العالمية الأولى وما حدث فيها من مجازر وسفك للدماء،.. أما لماذا بين الأمس واليوم، فبحكم قراءاتي التراثية العربية، كنت اقف عند الكثير من الأشياء الغريبة في تراثنا العربي بما يرقى إلى السريالية والدادائية أو الفوضوية، فربطت بينها وبين ما ظهر لاحقا، كما وجدت أن لبعض الشعراء العرب تصرفات لا تختلف عن تصرفات الفوضويين الدادائيين في القرن العشرين "...
مما يميز الأستاذ علي الشوك.. قدرته على قراءة العديد من الكتب في آن واحد وفي مختلف المواضيع ربما تتجاوز أحيانا سبعة إلى ثمانية كتب.. كذلك باستطاعته كتابة ثلاثة إلى أربعة مواضيع مرة واحدة..حيث يقوم بكتابة موضوع إلى نصفه، وموضوع آخر يبدأ بمقدمته أو هوامشه، ونجد موضوعا ربما في نهايته إلا انه لم يكتمل بعد.. لذلك فانه في أثناء، أو وقت صدور كتابه " الدادائية بين الأمس واليوم" كان يعمل على كتابه " الأطروحة الفنتازية ".. عن هذا الكتاب الفريد من نوعه وفكرته يحدثنا قائلا: " هذا الكتاب يسجل علاقتي بالرياضيات من جهة ومن جهة أخرى يسجل محاولاتي لقراءة مظاهر الحياة المختلفة بلغة المعادلات الرياضية.. فالأطروحة الفنتازية هي عبارة عن صور، ومعادلات، وكلام ".. حتى البعيدين عن المعادلات الرياضية جعلهم يتابعون قراءة الكتاب وذلك لما ينطوي عليه الكتاب من روح النكتة.. أما قصة هذا الكتاب فيقول الأستاذ على الشوك "في بداية السبعينيات من القرن الماضي خطر لي كتابة قصيدة حلزونية، كان من المفروض أن تنشر في مجلة "أقلام " أو "ألف باء " في الصفحة الوسطى، ولا اعرف هل فعلا نشرت أم لا؟ ولكن المهم في الأمر هو أني فكرت بتوسيعها وتطويرها ونشرها في كتاب.. لقد صدر كتاب الأطروحة الفنتازية بعد صدور كتاب الدادائية رغم انهما كتبا في الوقت نفسه،ولظروف عديدة لم يتم طبعهما معا، لقد تولت وزارة الثقافة والاعلام طبعه ليرى النور عام 1971 ...يستطرد متذكرا.. لقد صدر لي أيضا كتيب بعنوان " الموسيقى الإلكترونية "وقد صدر عن الموسوعة الصغيرة من وزارة الثقافة والاعلام وهو آخر ما طبع لي في العراق وكان ذلك عام 1978..
* نجد انك تناولت في العديد مما كتبت، اللغات وأصولها فما هي الحكاية ؟
اخذ ينظر إلى الأفق البعيد متذكرا.. وهو مازال يشبك يديه، وليعود بذاكرته إلى سنوات ماضية..
- في عام 1976 بدأ اهتمامي بما يسمى " علم اشتقاق الكلمات " حيث جذبني واستدرجني هذا الموضوع، وقبلها أثناء وجودي في بيروت كان للدكتور" أنيس فريحه " قد بذر عندي الرغبة للرجوع إلى جذور المفردات.. ولاحقا وفي مجمل قراءاتي وقع في يدي كتاب اسمه "مغامرات لغوية "، لكاتب عراقي اسمه عبد الحق فاضل.. يزعم فيه أن اللغة العربية هي اصل جميع اللغات وله نظريته الخاصة في ذلك دون أن تكون مبنية على حد أدنى من أصول البحث العلمي، كان النفس القومي فيه مسيطر عليه، لذلك استفز فيَ روح التصدي.. فقرأت وقرأت لأجد واكتشف أن اللغة العربية ليست هي الأم وإنما بنت اللغة السامية، وحتى هذه ليست أساسية وإنما هي جزء من اللغات السامية الحامية، وضمن ما قرأت كتاب لويس عوض "فقه اللغة "، وفيه يعتبر اللغة العربية بنت اللغة الهندية الأوربية، أو هي تابعة للغات الهندية الأوربية..وتملكني شعور التوسع والتوغل اكثر في هذا الموضوع لكي استوفيه تماما ومن مصادر مختلفة...
اخذ نفسا عميقا واستكمل قائلا : " عملت بحثا حول العلاقة بين الجذور اللغوية، اللغات الهندية الأوربية واللغات السامية الحامية، قدمته إلى وزارة الثقافة والأعلام لطبعه، إلا انهم رفضوا ذلك لأنهم اختلفوا معي في تسمية اللغات.. تزامن رفض طبع هذا البحث مع تفاقم الأوضاع السياسية في العراق...
في عام 1979 غادر الأستاذ علي الشوك العراق مرغما بعد أن حاول البعثيون شد الخناق عليه للانتماء لحزبهم، ورفض بشدة الانتساب إلى ما يسمى" بمكتب المعلمين البعثي" وانتقل من مدرسة إلى أخرى رافضا العديد من قرارات النقل، ولما لم يُجد ذلك نفعا، ولأنه كان أمينا على مبادئه وأفكاره اضطر لترك عائلته وكل ذكرياته ورحل إلى براغ التي كانت محطة ترحاله الأولى وليمكث فيها عامين...لكنه ما لبث أن شد رحاله من جديد إلى المجر عندما حصل على عمل في منظمة التحرير الفلسطينية استمر فيه إلى عام 1995. عن هذه السنوات يقول " كانت حياتي ضيقة جدا ومحدودة المجالات، ولكن " من جد وجد " لذلك لم أتوقف يوما عن متابعة وقراءة ما كنت أريده، والحصول على المصادر التي كانت تهمني.. لم أتقن اللغة المجرية على الرغم من أني ابحث في اللغات وأصولها -وهنا يضحك ثم يكمل كلامه- إلا أني محدود الموهبة في تعلم اللغات الأخرى"...
* نستطيع أن نقول أن أهم ومعظم ما كتبت كان في لندن، فهل حدثتنا عن هذه المرحلة ؟
- " عندما جئت إلى لندن في عام 1995 تفتحت لي آفاق واسعة ورحبة، واصبح لديَِ مجال للاطلاع على المصادر التي كانت تهمني قراءتها..لقد انصب اهتمامي على موضوع العلاقات اللغوية العالمية.. كانت تلك المخطوطة عن اللغات التي لم اتخلَ
عنها والتي حاولت أن انشر بعضا منها في بغداد في منتصف السبعينيات.. ومع توفر أول فرصة لذلك،نفضت الغبار عنها تماما لتكون أشبه بنواة بحوثي الأخرى في مجال اللغة. فبين أعوام 1996
– 2000 ظهرت لي ثلاثة كتب تتحدث عن اللغات.. الأول باسم "ملامح من التلاقح الحضاري بين الشرق والغرب"..ثم "جولة في أقاليم اللغة والأسطورة " وبعد ذلك "كيمياء الكلمات".. حيث تطرقت إلى مواضيع الميثولوجيا اليونانية والسومرية والبابلية القديمة والربط بينها، وفي نفس الوقت تم تعزيزها ببعض الاستطرادات اللغوية، ومن خلال ذلك اصبح لديَ نوع من البحث الذي يعتمد اللغة كعامل مهم في إثبات بعض الحقائق التاريخية.."
في أثناء ذلك وفي غضونه لم تنقطع متابعات الأستاذ علي الشوك الأدبية والموسيقية، حيث نشرت له العديد من المقالات النقدية والخواطر في مجلة المدى، وجريدة الحياة، واهم ما نشر له كان في مجلة الكرمل بين 10- 15 مقالة.. أما عن كتاب الثورة العلمية الحديثة وما بعدها فيقول " لأني أساسا رجل علمي، لم أتوقف عن متابعة المستجدات العلمية خصوصا في مجال الفيزياء وعلم الفلك فكنت اقف على معلومات وأشياء غريبة، لذلك وجدت أنه لابد من صدور كتاب بهذا الشأن، وفعلا كان " الثورة العلمية وما بعدها..في 2004 "، وهو بمثابة تمهيد لكتاب آخر قيد الإنجاز، كتب ونشر العديد من فصوله عن مأزق العلم في الوقت الحاضر ولاسيما الفيزياء والفلك..
* سألته عن روايته "الأوبرا والكلب " التي نشرت عام1999 وكيف خاض هذه التجربة ؟
-" أنا قارئ متعدد الاهتمامات، والرواية من بين اكثر المواضيع التي تستهويني، واجد متعة كبيرة في قراءتها، وولعي بالموسيقى لا يقل عن ولعي بالرواية أن لم يفقه، ولعل كتابة " الأوبرا والكلب " جاءت للجمع بين هاتين الرغبتين وان أحيا في عالمي الرواية والموسيقى في آن معا.. "
في عام 2003 صدر للأستاذ علي الشوك كتاب بعنوان "أسرار الموسيقى " ويعتبر أحد أهم ما كتب عن الموسيقى لما يحويه من معلومات قيمة عن أصول الموسيقى العربية والآلتها،كذلك أصول الموسيقى الغربية والآلتها، ويتضمن أيضا شرحاً لتكوين الآلات الموسيقية وتطورها على مر العصور، بالإضافة إلى شرح اللغة الموسيقية...
* ماذا تكتب الآن، وماذا نقرأ لك عن قريب ؟
- لقد بدأت بكتابة مشروع روايتي الثانية منذ اكثر من نصف عام، كمحاولة للهروب من كابوس الكآبة والأوضاع العراقية الكالحة في آفاقها.. كما اكتب أيضا في مواضيع أخرى مختلفة تتراوح بين الفيزياء والموسيقى والفلك، وكل ما يخطر لي على البال..."
حينما أيقنت أن الأستاذ علي الشوك تعب من الحديث الذي شارف على الانتهاء، ورغم ذلك كان لابد من سؤاله، هل أنت نادم على شئ ما في حياتك ؟ تتمنى لو تستطيع تحقيقه ؟ هنا لاح الأسى على وجهه الذي تركت السنوات أثرها عليه..
"أنا نادم لأني لم ادرس الموسيقى وعلم الفلك.. كان بوسعي ممارسة العزف على البيانو، الآلة التي اعشقها، رغم أني لا املك أذناً موسيقية، لكن ذلك لا يحول دون تعلم العزف، وقد حاولت وتوقفت لأسباب لا علاقة لها بالفشل.. كنت أريد أن أتمكن من العزف وحتى ارتجال الموسيقى، لأجل متعتي الذاتية، وليس لغرض آخر.. فأنا اعتقد " مثل الملكة اليزابيث الأولى " أن العزف على الموسيقى يساعد في طرد الكآبة.! "


دكتاتور في قفص انسكلوبيديا القسوة

صلاح حسن

لو قيض لصدام حسين ان يتحدث بصراحة امام محلل نفسي عن حياته الشخصية فماذا ترى يقول ؟ هل يستطيع ان يتذكر كل مآسيه عندما كان طفلا مشردا حافي القدمين ؟ وهل يتذكر كيف كان يخيط ملابسه الممزقة بسعف النخيل لانه لم يكن يملك ابرة او خيطا ؟ وماذا عن ابيه المقتول في محاولة السطو الفاشلة ؟ وامه التي كانت تبيع الحصى في احدى خرائب قرية العوجة مسقط رأسه؟
هل يتذكر كيف حصل على المسدس الذي اراد ان يغتال به معلمه في المدرسة يوم كان في الثانية عشرة ؟ هل يجرؤ ويفصح عن تلك العلاقة الغريبة التي كانت تربطه برجل من اشقياء كرخ بغداد يوم كان شابا غضا ؟
لن يكون بمقدوره ان يتذكر أي شيء من ذلك لانه شطب هذه الجراح النفسية من قاموسه ودوًن قاموسا اخر من دماء ضحاياه بمصاف انسكلوبيدا القسوة. لقد ظل يقاوم هذه الذكريات طوال حياته التي بدأ عدها التنازلي، غير ان هذه الذاكرة المكلومة كانت تنفلت من وثاقها بين وقت واخر وتعلن عصيانها امام رجل لم يكن يسمع سوى كلمة نعم، رجل كان يخيف حتى الهواء، رجل كان الحجر يتوارى من الطريق الذي يمر به. ولكي يلجم هذه الذكريات التي تسحق نرجستيه لا بد له من رؤية الدم.. الكثير من الدم لكي يغرق هذه الذاكرة التي تكلف دماء تراق كل ساعة حتى لكأنها تريد اغراق ذاكرة البلد برمته.
لن يكون بمقدوره ان يتحدث عن أي شيء من هذا الطراز فهو لم يخلق لهذا النمط من الحوادث، انه مخلوق لاجتراح اعمال لم تخطر بمخيلة اية ميتافيزيقيا. لهذا كان عليه ان يسفح المزيد من الدماء كلما يوخزه جرحه النرجسي. يقول انه لم يضرب احدا بيديه، انه لا يكذب لان كل الذين مروا في جحيمه تمزقوا بفعل مسدسه المصنوع من الذهب. اما اعداؤه الشخصيون فان جحيمهم لا تدركه اللغة ولايحتويه قاموس فهو لديه بحيرة اسماك خاصة في احد قصوره في بغداد وعلى جانب هذه البحيرة مثرمة لحم كبيرة، نعم، مثرمة جهنمية يفرم بها اجساد اعدائه الشخصيين ويقدمها لاسماكه في البحيرة وفي اليوم التالي يصطاد بعض الاسماك ويأكلها بشهية نادرة. انتقامه به شيء من العبقرية فهو يفكر ويبتكر طرقا في التدمير فريدة ومدهشة في ساديتها. انه لايقتل، بل يقهر الارادة انه يمحق ويبيد وآثاره في كل مكان.
لن يكون بمقدوره ان يعترف لانه ببساطة لا يستطيع حتى وان حاول لانه يعتقد انه هو اليقين المطلق وسلطته تنزيل مقدس وما يحدث الان في القفص خاطر غبي وكابوس اخرق سيزول بسرعة ، انه هو ولا شيء بعده. اما ضحاياه.. ضحايا جرحه النرجسي فهم اقل من أي شيء او هم ازيد قليلا من لا شيء ومحقهم واجب مفروض.
الشراسة تلهث في عيونه، ذات يوم فكر حارسه الخاص
كريم الجبوري - بقتله لكي يتخلص من وطأة الشراسة التي تبرق من حدقتيه ( لاول مرة يظهر صدام بدون الدرع الواقي لانه اراد ان يسبح ففكرت بقتله وفي اللحظة ذاتها وكأن صدام سمع ما افكر به.. نظر اليً نظرة لن انساها طوال حياتي فقررت الهرب ). ذات يوم زار مدينة المسيب فرحب به شيوخها بالدم، نحروا له الذبائح وقدموا النذور ثم اراد احد الشيوخ ان يسأله وطلب منه ان يأمنه على حياته قبل ان يسأل فقال له انت آمن، قال الشيخ : سيدي لماذا لا ترتاح الا حينما ترى الدم ؟ وكان الجواب رصاصتين في القلب واعلان عن انتهاء الزيارة.
اذا غضب فذلك يوم قيامة ارحم منه جحيم رب العالمين، يطلب مرافقوه من الزائرين مهما كانوا الا ينظروا في عينيه، الا يطيلوا النظر في عينيه.. ومن يجرؤ ان ينظر الى وجهه القمطرير ؟؟ كاد القاضي الذي يحاكمه ان ينهض له حينما دخل الى قاعة المحكمة.! الحفرة والقفص جعلا الشعاع الخارق في عينيه يتحول الى فص رماد يكاد ان ينفلش بين سؤال واخر.
حين يتحدث ينثر صوته الشوك في المكان وتهرب العافية الى الفراغ قبل ان يغتالها. يزهر من حوله الموت ويركض في قدميه الحتف الى حيث يشير.. يده آلة العدم ويشير الى كل مكان حيث يبقى العدم وتنهزم الحياة.
ولكن، لم يعد بمقدوره سوى التذمر من قذارته، انه ينتن ويخيس وليس هناك غير البذاءة سلاحا تنقصه الحكمة ورعونة كاملة لعقل قاصر لا يستحق الجنون.


مزامير متأخرة
 

عبد الخالق كيطان
 

بين عام وعام
ينبري لك أحدهم بكيل شتائم
فيفسد عليك الليلة.
***

سأمدد قدمي، إذن
أغطس بهدوء في الماء الفاتر
وأتفكر طرقاً جديدة للتحمل.
***

لم تكن غير أبله على الدوام
هكذا يجرجرون سوءاتهم أمامك
ولا تملك غير الانذهال
***

من البداهة
أن يعدوا قناعاتنا مجرد سخافة
نتبادل معهم النظرات باستغراب عميق
ثم نفترق.
***

دائماً يحدث الأمر ذاته
صاحب العاهة يقف على رأسك
معيراً بعاهته، فتتجاهله.
***

أبرقت إلى صاحبي،
الذي هو بمثابة معلم،
كان ردّه:
إن القلوب الرحيمة هي قلوبنا.
***

ورجعت وحدي في الليلة المدماة
ركضت بقوة وأنا أتلفت
كنت هارباً
هارباً بحق
ورائي فصيل من كائنات مخيفة.
***

أنا لم أفسد قانون الطبيعة لمجرد صفحي عن أرعن أو مأخوذ بذنبه...
طلبت له المغفرة
وغرقت في تأملاتي.
***

أحوج ما أكون إلى الآخرة
أريد أن أتيه فيها
فأنسى القصص الرذيلة إلى الأبد
***

حسن أيها الأصدقاء الحزانى
نحن نجلس على صخرة ومن حولنا قطيع الغنم
نردد بيننا الحكم والحكايا
وإذا ما جاء الخطاؤون
فدعوهم يرجموننا حتى آخر رمق
عندها ستشعرون كم كانوا مساكين
مساكين وضعفاء لا يجيدون سوى قذف الحجارة.
***

وإذ أغلق الدم المنهمر من أعلى رأسي عيني
وعدت لا أرى من حولي شيئاً غير الأحمر القاني
أدركت بوجل كم نحتاج من الشجاعة
فقط لنعلن عن خطيئتنا.
***

نعم، ليس في الأمر غرابة تذكر
إذ لطالما سمّرت عينيك على الساعة التي أمامك
ودقيقة إثر دقيقة
تشتهي أن يحدث شيء
شيء لا ترجع بعده إلى عادة النظر إلى الساعة
حين يكون كل شيء بحكم المنتهي
***

ما هذا؟
ماذا يحدث؟
أخرج من حانة منتصف الليل
أسقط على رأسي في صندوق القمامة الذي كان مهيأً لي
الصندوق الذي هو حشد أوغاد.
***

بغتة يتحول المهاجرون إلى سكاكين صدئة
تذكرت قصيدة قرأتها قبل سنوات
عن وصايا شاعر لمواطنيه المهاجرين
بأن يحرصوا على الإصغاء إلى الموسيقى
بدلاً عن التغني بعود الثقاب
***


سدني في
27/12/2005


مطر على قبر السياب

عبدالكريم كاظم

توطئة و اهداء
إلى كامل شياع مرة أخرى ...

يا صديقي في كل مرة اجد نفسي مطالباً بالتوضيح من أجل عدم التباس القصد و أن أهمس في أذنيك لشرح ما حدث قبل فوات الأوان ، المسألة ببساطة لقد ضاق علينا الهامش و صارت الكلمات تحاكم قائليها و تشوه سيرة الماء بينما نحن نضحك في السر و العلن و بعد ذلك نجلس بعيداً كي نتبارى في وصف أحزاننا عسى أن نصل إلى مصالحة جديدة مع أرواحنا ، ليتني كنت هامشاً ، فمن المحرج عادة أن يكتب المرء عن نفسه أو لصديقه أو عن ذكريات قديمة صغيرة ، أو حتى أحلامه الطموحة التي يتركها وراءه كلما تقدم به العمر. كل هذه تبدو أشياء هامشية لا تهم احداً إلا صاحبها ، ربما الحديث عن الحياة أو الصداقة يكاد يكون حديثاً واحداً ذاك لأنني لست مولعاً بالتفسير و لكن المحطات العابرة هي التي تستوقفني ، سنظل نتبارى في وصف أحزاننا و ندافع عن ما تحمله من النبل.و عليك أن لا تنس أن ما يشدُّ انتباهنا دائماً تلك الضفة ، ضفة الحلم التي نتقي بها خشونة الصلف و الأقنعة السرية التي تخفي تلك الوجوه الخاوية من كل رصيد و القابعة هناك في أقصى الخيبة ، كثيراً ما يلذ لنا أن نتحدث عن طفولة الحلم و أن نعيد في أذهاننا رسم الصورة التي طويناها و نحن نحلم بلون الورد و هو يطوق عنق العراق .

 

مدخل أول
خطاب إلى الشاعر

لعلها هي المرة الأولى التي أكتب فيها لك منذ أن غادرتنا ذات يوم حزين في المستشفى الأميري / الكويت ، و لعلها ــ أيضاً ــ المرة الأولى التي أكتب فيها لشاعر من بلدي العراق الذي أتعطش لرؤياه و تمنعني من العودة إليه أمور كثيرة ، نحن العراقيين نعرف تماماً متى وَدَعْنا بدر شاكر السياب و لكنني أرى أنه قد حاول توديعنا أكثر من مرة و هو يستدرجنا إلى قصائده المألوفة و المسكونة بالغياب .أنني هنا في مدينة شتوتغارت الالمانية و في ضجيج شوارعها و مصانعها ووحشية موسيقاها الصاخبة أحس شوقاً مخيفاً بتعبير الاسباني لوركا يهز خلاياي و حنيناً خطيراً و جارفاً إلى لمحة و لو خاطفة لمدخل مدينتي بغداد رغم الحرائق و الدمار.
صديقي و شاعري الكبير أحس بفراغ هائل رغم كل ما حولي من البشر و بوحدة لا يستطيع أي مخلوق مهما كان قريباً اقتحامها و لأنني غريب هكذا سأبقى و لأن الذين يحيطون بي لا يربطني بهم ذاك الارتباط الروحي الذي بمقدوري أن أتعصب له ــ رغم مقتي الشديد لكل اشكال التعصب ــ و لكن صدقني يا صديقي الشاعر من أنني لا أستطيع أن أكذب عليك و أنكر سعادتي بهذه الغربة، أنني في الواقع و أرجو منك أن تتفهمني حين أبوح لك و بجرأة من أن الشمس هنا هي أجمل مما هي عليه في العراق و قد أختلف معك فيما ذهبت اليه و أجد لك في الوقت ذاته الكثير من المبررات حتى و أن كنت غير مقتنع بها ذاك لأنها ــ و أعني هنا بالشمس ــ أقل تأثيراً في نفسي .مثلما أنا سعيد بغربتي هنا من غربتي في بلدي ويا للمفارقة فاقسى انواع الغربة تلك التي يحس بها المرء في بلده ، لقد تركت العراق منذ أكثر من عقد و نيف و تقطعت بيننا السبل ، لكن رغم هذا مازلنا نعوي ونخدش الشوارع و المدن بهذا العواء المقرف ، هل تصدق لو قلت لك ... لقد أصبح كل ما نحمله في أرواحنا و نفوسنا عن العراق مجرد ذكريات قديمة؟ قد لا تتقبل صراحتي لكنك حتماً تتفهمها ، لقد تقطعت خيوطي مع العراق و لم أعد متصلاً به أن ذلك له حجم الخيانة ، و ما يسعفني هنا ما قلته في قصيدتك ( غريب على الخليج ) :
إني لأعجب كيف يمكن ان يخون الخائنون !
أيخون إنسان بلاده ؟
إن خان معنى أن يكون، فكيف يمكن أن يكون ؟
صديقي الهائل هل تتهمني بالشيزوفرينيا لو قلت لك أنني في نزاع مرير مع شوقي و بانتظار أن يهزمني كي أعود إلى العراق كعودة الابن العاق إلى حضن أمـه، لقد أصاب أهلي ـ هناك ـ الذهول و أدركهم الوهن و تجاوزتهم السنوات بقفزات شيطانية خاطفة بسرعة الضوء و بمنتهى البلاهة و العماء كما لم تعد بغداد تلك المدينة التي أرضعتنا الحنان و الشعر ، فقد بدأت أحس نحوها بالتطفل ،هل تتخيل ذلك ؟ ليس بوسعي أن أشطر قلبي نصفين فلا مكان للنصف الآخر من القلب هناك و لا مجال لي للخيار هنا أو هناك فما بينهما حرف الكاف الكافرة كما يقول مظفر وليست لدي الرغبة و القدرة على الارتباط بأي مجتمع، يبدو أنني سأظل غريباً و مرارة الغربة ستملأ روحي قبل فمي.، هل أنا مخطئ يا بدر ؟ ربما سأعود إلى بلدي يوماً ما...من يدري ؟ بالمناسبة دواوين شعرك لا تفارقني و أحب أن أبلغك من أنني في صدد إعداد دراسة طويلة عن مجموعتك الشعرية ( المعبد الغريق ) خصوصاً ذاك الشباك الذي تقول عنه:
شباكُ وفيقةَ في القرية
نشوانُ يُطل على الساحة
و في موضع آخر من القصيدة تقول أيضاً :
تمثلت عينيك يا حفرتين
تطلان سحراً على العالم
على ضفة الموت بوابتين
تلوحان للقادم.
هل أنتهيت من كتابة قصيدتك الأخيرة ؟ كي أحتفل مع نفسي فالقصائد كما تعرف ليست كلمات فقط بل هي كائنات حية بتعبير هوغو و مشاغبة أيضاً.
لقد حاولت مراراً أن أتخلص من وساوسي لأتفرغ إلى الحياة ــ حياتي ــ و لكنني في كل مرة أجد نفسي و قد عدت حاملاً خيبتي و هنا يأخذني الحزن خصوصاً حين يتضح الأمر المتعلق في كل محاولة بشساعة المسافة ما بيننا فيفضحني البوح و أعود مجدداً إلى متابعة لعبة الكتمان أنت تعلم جيداً أن الشعر لا يأتي من عملية البحث عن الشعر فهو حاجة نهرب اليها حين يحاصرنا الخريف و يطل علينا الموت كعجوز تجلس عند مطلع القصيدة أو على أنقاض موتانا الذين نعرفهم و لا نعرفهم ، إلى أين سيُوصلنا المشي على أطراف الكلمات و أنت تعلم أيضاً أن موتنا ــ و هنا لا أعني الموت بمفهومه المادي بل الانصهار مع الكلمات ــ خارج السياقات المألوفة حتى و نحن نعثر على بداية النص / الموت الذي نعاشرهُ و يعاشرنا فيا لروعة الورق الأبيض حين تغمره الكلمات التي تأخذ بنا إلى سريتها دون ان ندري ، صديقي العزيز هناك أنباء قد تُزعجــك بعض الشيء و ربما تجعلك لا تفكر بالعودة إلينا مرة أخرى ،لقد تحولت مقهى البرلمان في شارع الرشيد إلى مطعم و البريطانيون عادوا إلى البصرة بينما الأمريكان يتجولون في شوارع بغداد فتشبث بموتك مثلما أوصاك صديقك المحب دوماً الشاعر محمد الماغوط .

مدخل ثانٍ
منزل الأقنان في قرية جيكور

كل لغة هي واقع مركب إلى حد الارباك و غير متناسق و هذا أمر يقرره اللغويون القدامى و المحدثون على حد سواء لكنني لا أريد أن أخوض في هذه النظريات المجردة و لكن هناك فضاءات رحبة تمتد في كل المضامين و الدلالات و الرموز التي تحملها اللغة ، ما أردت قوله... هو أن الشاعر يتنقل من خلال لغته بشكل مستمر و يقطع أشواطاً لانهائية و ينخرط في صراعات مريرة من أجل الوصول إلى سرير القصيدة لينام قرير العين على مقربة منها و ربما يذهب الشاعر إلى أبعد من ذلك و هو يتنقل بسرعة فائقة من خلال لغته أثناء عملية الكتابة و علينا أن نتوقف قليلاً على باب التأمل و نستمع إلى ماكتبه الشاعر الكبير بدر شاكر السياب في مطلع قصيدته الخرافية الجمال أنشودة المطر و هنا أدعو الكثير ممن يعرفون السياب إلى أن يرشدوني على صورة أخرى بموازاة هذه الصورة التي تجسد النخيل و الليل و الحبيبة في شط العرب أو أي من الشواطئ الأخرى...
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
هذه الصورة الشعرية الباذخة الجمال تجعل الكثير ممن يهتمون بالشعر ـ قراءة ونقداً ـ على ان يمعنوا النظر جيداً في كل ما يتعلق بمديات الشاعر الحسية كي يقدموا لنا المبررات التوصيفية ـ النقدية لحالاته الصوفية التي أصابته و جعلته يصل بنا إلى أقصى حالات التجلي الشعري المثقلة بعوالم نابضة تتخطى النص نفسه نحو مدارات خارجة عنه و متصلة به و هنا أجد لزاماً عليّ أن أستعين بما قاله الكاتب الأرجنتيني البرتو مانغيل في كتابه المعنون ( يوميات قارئ ) .. (القارئ الحقيقي لا وطن له ، فوطن القارئ هو وطن الأدباء الذين يقرأ لهم ) .
ماذا صنع
السياب بنا ؟

شعره ينطق الحب و بهذا نستطيع القول أن نبوءة ( نوفاليس ) قد تحققت من خلال شعر السياب و القائلــة : ( الحب صامت ، الشعر وحده يجعله ناطقاً.) و لذلك نستطيع القول أيضاً ان الشاعر و العاشق كلاهما منتج كلمة و هي كلمة متدفقة بالضروة و ذات ضراوة عمدت إلى تسليم ماهيتها إلى شاعر/عاشق مستعص على الانكسار تحت وطأة ظروفه ، منيع في مواجهة اغراءات واقع مدموغ باليتم و الاعاقة و الغربة ، فلقد بقي السياب يلاحقنا بشعره و يمنحنا بين الفينة و الفينة باقة أزهار و يدعونا إلى الانغماس عميقاً مع الأشياء الحميمة التي تحيط بنا و عدم الانسحاب من الحياة مهما كلفنا الامر ، و قد لقننا درساً في الوفاء ليس للعراق و حسب بل ( لشمسه و ظلامـه ) و صار لنا شعراء و شعراء خرجوا من معطفه البالي بينما رئته تتمزق من البرد. يرتبط عالم السياب الشعري بملاحم و قصص و أساطير العراق و العالم ، فأصداء شعره و توظيفاته للاساطير واضحة و راسخة في مخيلة القارئ فقد حقق ألقاً ناصعاً منسجماً إلى ما لا نهاية مع هذا العالم الذي يطفو فوق الوقائع التاريخية و الاساطير المتأصلة فيه بشكل عميق مما أكسب شاعريته بعداً جمالياً لا حدود له و جعلها السمة المتحكمة بعناصر العملية الشعرية .
هل كان السياب
عاشقاً ؟

لقد أقترن الحب بالنار منذ القدم و هنا أود ان أشير إلى المثل العراقي الشهير الذي يتحدث عن النار .. ( نارك و لا جنة هلـي ) و هذا الامر يقودنا إلى التساؤل ماالذي يدفع الابطال ــ في الاساطيرــ إلى مصائرهم ؟ نستطيع هنا أن نلاحظ الشاعر الفرنسي أراجون حين قرر أن يصبح ( مجنون ألسا ) و لكن الشاعر قيس بن الملوح لم يختر مصيره و لم يمتلك في الوقت ذاته وسائل للدفاع عن نفسه غير الشعر بالرغم من إختلاف سبل الحب بين الشاعرين كما أن هناك أمثلة تاريخية و معاصرة في هذا المضمار اورد بعض الاسماء هنا على سبيل المثال لا الحصر .. ( رابعة العدوية،سافو، جميل بن معمر، ايلوار، جوليت ، نيرودا.. الخ. و لولا الحواجز و الفواصل لما كان الحب، فهو التطرف بامتياز و هو الحماقة العظمى التي تستحق الخلود و الا فكيف يغير أنف كليوباترا وجه التاريخ ؟ و ما الذي فعلته السيدة ( جولي / سيدة التفاحات الأربع ) بالشاعر الراحل يوسف الصائغ وما تفسيرنا لما فعله الشاعرديك الجن الحمصي بعشيقته و كيف قام ( فلورنيتنو اريثا ) عاشق غابريل غارسيا ماركيز في رواية الحب في زمن الكوليرا بهذه الممارسة التي جعلته يجر بقدميه اصفاداً زنتها خمسة ارطال من اجل قضية حب و الذي كان يبعث كل ستة أشهر زهرة كاميليا بيضاء لعشيقته تعبيراً عن وفائه والتزامه؟ كذلك نستطيع أن نقرأ ما كتبه السياب في قصيدته المسماة ( وغداً سألقاها ) من مجموعته الشعرية شناشيل ابنة الجلبي لنرى كيف كان يتحرق عشقاً و التي يقول في مطلعها :
و غداً سألقاها
سأشدها شداً فتهمس بـي
رحماك..
ثم تقول عيناها :
مزق نهودي ،
ضمَّ أوّاهــا
و هناك قصيدة أخرى من المجموعة ذاتها أعلاه بعنوان ( كيف لم أحبك ) نسمعه يقول فيها متحسراً لضياع معشوقته في زحمة الايام :
كيف ضيعتك في زحمة أيامي الطويلة ؟
لم أحل الثوبَ عن نهديك في ليلة صيف مقمرة ؟!
و هذا البيت أيضاً من قصيدته المسماة ( خيالك )
تمنيتُ لو كنتِ ريحاً تمـرُّ
على الظل ولهى فلا تعذَل
و لا أستطيع أن أنسى أو أتغاضى عن تلك المقدمة القصيرة التي قدم بها قصيدته المعنونة ( عودة الديوان ) التي يقول فيها :
إلى ديواني العائد من تجواله بين العذارى.. إلى ذلك الزورق المنتقل بين موج النهود أرفع زفرتي.. .
و حتى في قصيدته .. ( هل كان حباً ) :
هل تُسمين الذي ألقى هياماً ؟
أم جنوناً بالأماني ؟
أم غراما ؟
هل كان السياب متشائماً ؟
في إحدى رسائله لصديقه الاديب عاصم الجندي يقول فيها معلقا بصورة لا تخلو من نبرة التحدي عن حالتي الموت والتشائم: ( لا تظن أنني متشائم العكس هو الصحيح لكن موقفي من الموت قد تغير لم أعد أخاف منه ليأت متى شاء أشعر أنني عشت طويلاً : لقد رافقت جلجامش في مغامراته و صاحبت عوليس في ضياعه و عشت التاريخ العربي كلـه ألا يكفي هذا ) مثلما ياتي الموت تأتي الحياة ، و لكن هناك ثمة حياة أخرى حافلة بالجمال تزحف باتجاه الشعر تتم عملية اغوائها و الايقاع بها من قبل الشاعر الذي لا يتوقف عن مطالبته إياها بالمزيد لاكثر من سبب حتى أنه يستطيع رسم ملامح هذا الأغواء باخلاص شعري و بصيرة حاذقة وبهذا تتجه هذه الحياة إلى خلق رؤية شعرية سيابية و هذه طريقة أخرى معروفة لدى شاعرنا تمنحنا تعارضاً تاماً مع النظرة التقليدية للاشياء التي تحيط بنا دون أدنى شك و عليه يمكن لنا أن نجزم أن السياب قد تدرب على التعامل مع حالتي الموت و التشائم إلى الحد الذي تغير موقفه منهما، و لكن كيف لنا أن ننسى أن هناك الكثير من قصائد السياب معبأة بالموت خصوصاً تلك التي كتبها و هو على فراش المرض في مستشفى سان ماري بلندن ، فهل كان السياب ينتظر موته الخاص وراء جدران هذه المستشفى بعيداً عن وطنه و بيته و أطفاله ؟ لنصغي إلى هذا المقطع من قصيدة منزل الأقنان لنرى الجانب المحايد الذي تعمده السياب في التعامل مع الموت فكل كلمة من هذا المقطع تجرُّ وراءها نوعاً من المهادنة و الرضا المتعمدين و حافلة في الوقت نفسه ببناء شعري يصل إلى أقصى درجات البذخ الصوفي المغموس بالفلسفة المعرية ، لنتأمل هذا المقطع من قصيدة سفر أيوب/1
لك الحمد مهما استطال البلاء
و مهما استبد الالم
لك الحمد ، أن الرزايا عطاء
و إن المصيبات بعض الكرم
ألم تعطني أنت هذا الظلام
و أعطيتني أنت هذا السحر
فهل تشكر الأرض قطر المطر
و تغضب إن لم يجدها الغمام
هذه العذابات تصل أحياناً إلى ذروتها و لكنها في الوقت نفسه تجعل من الشاعر أن يعود مثقلاً بالعديد من المحاولات اللامجدية التي يؤديها بمنتهى التعب و الشفافية و بطريقة تليق بشاعريته الكبيرة و ابداعه اللامحدود و هذا الأمر يوضحه المقطع التالي :
و لكن أيوب إن صاح ،
صاح :
لك الحمد ، إن الرزايا ندى
و إن الجراح هدايا الحبيب
أضم إلى الصدر باقاتها
هداياك في خافقي لا تغيب
هداياك مقبولة هاتها.
نبرة الألم التي يطلقها الشاعر أهي تحد لفكرة الصبر ، طريقاً للخلاص و الاغتسال من الذنوب أم فهم صوفي خالص يتناغم مع تطلعات الشاعر في هذه اللحظة المربكة ، فالألم يظل على الدوام مصاحباً الشاعر و لا يستطيع أن يفعل إزاءه أي شئ سوى أن يصيح :
أشد جراحي و أهتف بالعائدين..
ألا فانظروا و احسدوني فهذي هدايا حبيبي
و إن مست النار حر الجبين
توهمتها قبلة منك مجبولة من لهيب.
و كأنني بهذا المقطع أصغي إلى رابعة العدوية و لزوميات أبي العلاء المعري و حتى مزامير أيوب وتحديداً في قوله ( هداياك مقبولة هاتها ) ففكرة الهدايا الإلهية فكرة معروفة ترد في المزامير على لسان المسيح على الرغم من أن السياب هنا يوظفها بطريقته الشعرية المعهودة و بمعناها الصوفي الحافل بالدلالات و الإيحاءات الروحية و مصراً في الوقت نفسه على التحدي لفكرة الألم كما أسلفت و هنا أيضاً يعلمنا السياب على كيفية الإنصات لتلك الاصوات التي نسمعها في شعره من إجل إقرار حقيقة الوجود المؤلم حد الإفراط الذي يلغي بدوره أي فرصة ممكنة للاختيار.


سواقي القلوب.. رواية اولى لانعام كجه جي تستدعي الذاكرة

هدى ابراهيم

في روايتها الاولى "سواقي القلوب" التي صدرت قبل ايام في بيروت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر تشيد الكاتبة والاعلامية العراقية انعام كجه جي عراقا صغيرا في المنفى في محاولة تستعين بالذاكرة المتعددة لبلد يحاول ان ينهض من الخراب.
ومن خلال مجموعة من الشخصيات التي التقت خارج موطنها الاصلي ترصد انعام كجه جي المقيمة في باريس منذ نحو عشرين عاما عناصر اجتماعية وسياسية شكلت ماضي العراقي وتكوينته فباتت تسكن ارواح الشخصيات وتحدد مسلكها.
وتبدأ الرواية على الطريق بين عمان وبغداد من نقطة طريبيل الحدودية لتنتقل سريعا الى باريس. "لم تكن باريس منفى بل فاصلة جميلة شطرت عمري". يقول الراوي الهارب من وطنه قبل ان يضيف باسى موجها كلامه للقارئ: "للامانة لم تكن باريس مكانا يناسب حسرة الهاربين من الاوطان".
الى جانب الراوي الهارب من الملاحقة السياسية ومن حب فاشل الى باريس الذي تهاتفه بين حين وحين من بغداد حبيبته القديمة، عدد من الشخصيات التي تنمو ضمن ما يشبه الشرنقة العراقية في حلقة مقفلة تعمها الموسيقى العراقية الاصيلة.
في باريس وفي نفس العمارة كاشانية الناجية من مذبحة الارمن التي تزوجت من كونت فرنسي كان يعمل في حقل الاثار في نينوى لتظل بعد موته تهجس بزيارة ارمينيا حتى فعلتها وندمت.
وهناك زمزم الطالب الذي خذله انتماؤه السياسي الى حزب البعث فهرب الى الخمر وانضم الى مجموعة الاصحاب وراح يصور كاشانية راوية ذكرياتها خدمة لاطروحته الجامعية.
هناك سراب المراة الشيوعية التي سجنت واغتصبت والتي يقع الراوي في حبها: "بدات علاقتنا الحميمة من دون خطط هجومية من جانبي او تمنع زائف من جانبها".
الى عالم هؤلاء يحضر من عراق صدام حسين، عراق بداية الحرب مع ايران، الجندي ساري بهدف اجراء عملية تحويل جنسي فيصبح سارة بدعم مالي من الدولة.
الشخصيات في الرواية تتنوع انتماءاتها لكنها واقعية في جانب منها ولا يمكن للقارئ تبين الخيط الذي يتوقف عنده السرد الواقعي لينطلق الخيال:" لقد تعرفت فعلا على عراقية تزوجت من كونت فرنسي وباتت كونتيسة" تقول كجه جي لفرانس برس.
كل شخصية لها جذر حقيقي في الواقع: هناك شاب ارسلته فعلا الدولة على نفقتها الى فرنسا لإجراء عملية تحويل جنسي لكن مصيره مختلف في الواقع عن مصير الشخصية كما تخيلته " توضح الكاتبة.
عادة ما كان هؤلاء يتحلقون حول مائدة كاشانية برفقة الخمر والهموم والموسيقى بعيدا عن "الملاحقة المزدوجة" ملاحقة الوشاة للبعض منهم وملاحقة الماضي المستمر في راهن الشخصيات القلقة.
وترتبط مصائر هذه الشخصيات راهنا بالماضي العراقي حيث يبرز السؤال ملحا: ما قيمة النجاح الفردي او الخسارة الشخصية امام خسارة الوطن؟
هذه الشخصيات وان كانت هاجرت الى مصير اخر فهي برحيلها لم تتخط دائرة الخسارة التي تحل بالجميع فالهارب مثل الباقي يعاني الحروب والحصارات والتعسف ويعيشها في لحمه ودمه فهل هذه الشخصيات موجودة فعلا في باريس .
تقول الكاتبة "الهجرة لم تكن موجودة اصلا في الطبع العراقي ومن هاجر فعلا من العراقيين هاجر مرغما ولا بد انه دفع الثمن غاليا" خاصة وان باريس لا تصلح منفى وفيها، وفق الراوي، "العمر يتبدد في اكثر مدن العالم جمالا".
الخراب يبدو متحكما بالمصائر ما منه ملاذ: "في كل الشخصيات شيء ما يشبهني" تقول كجه جي حول روايتها التي وان صورت فيها عالما مغلقا فهو يتضمن من بين وقائعه احداث راهن باريسي ما حيث تتكلم الشخصيات عن لقائها بالصائع عباس عمارة والد الشاعرة لميعة وعن احاديث ووقائع مع الكاتب جبرا ابراهيم جبرا والصحفي المغربي الباهي محمد.
واذا كان هاجس تملك الذاكرة مهيمنا على الكاتبة فهي تشير الى ان هذا الهم قديم لديها "التاريخ الاجتماعي للناس العاديين هو هاجسي منذ سنوات.
كنت اتابع اناسا في بلدي ممن كانت له مواقع سياسية وادبية واحزن لكونهم يشيخون ويرحلون قبل ان ياخذ لهم احد تسجيلا بالفيديو او حتى صورة".
وتضيف كجه جي حول عملها على الذاكرة انها انطلاقا من هنا كتبت مذكرات الفنانة البريطانية لورنا عن حياتها مع الفنان العراقي جواد سليم كما صورت فيلما وثائقيا عن الدكتورة نزيهة الدليمي اول وزيرة عربية وسجلت ساعات بالفيديو لاول محامية عراقية فكتوريا نعمان التي رحلت عن عالمنا".
وتضيف "لعل ما شجعني النجاح الذي لقيته بعد نشر كتابي السابق عن ادب المراة العراقية والذي علمني كيف اسرق الوقت واخون الصحافة".
وعن رؤيتها مستقبل العراق تؤكد:" احاول ان اتفاءل فهل بقي في العمر متسع للتشاؤم وهل هناك اسوأ مما حل. لا حق لنا بالتشاؤم بعد كل العذابات التي عاشها العراق. اتشبث بفكرة على نوع من السذاجة فكرة العراق الحر المستقل القوي".
وتقول الكاتبة التي تواصل العمل على الذاكرة معترفة ان كثيرا من العراقيين اليوم يحاول العودة "لكني حزنت حين سمعت تصريحا لوزيرة المهاجرين تناشد العراقيين فيه البقاء في المنافي لكون الوطن غير مهيأ لاستقبالهم".
وتعمل انعام كجه جي حاليا على مشروع كتاب عن يوميات طبيبتين عراقيتين، ام وابنتها، الام كانت طبيبة في ارياف العراق وتعمل اليوم في مناطق نائية من كندا مع السكان الاصليين من الهنود وهو ما شاءته المصادفة.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة