المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

من منشورات (المدى) في رواية (الإرهابي) لديفيد معلوف  هل حدثت الجريمة حقا ً؟
 

سعد محمد رحيم
 


الراوي إرهابي، هذا ما يخبرنا به الروائي، بدءاً من العنوان، وعلينا أن نكون حذرين، إلى حد ما، أو متحفظين في الاتفاق معه. ولعلنا نكون بحاجة إلى فرويد ومنهجه في تحليل الأحلام، أو إلى كارل يونغ، لا سيما إذا ما قرأنا الرواية من زاوية أن الراوي/ الإرهابي لا يسعى سوى إلى قتل الأب، ربما افتراضياً، أو رمزياً في خضم حلم، أو من خلال فعل الروي ليس إلاّ. وعموماً، يكتنف أسلوب معلوف شيء من الغموض.. إنه غموض جذاب وساحر يضعك على مبعدة ملتبسة من الحدث، كما لو أنك تراقب الحدث ذاك بوعي مخدر، ولكنه ثاقب.
نحن، معشر القراء، لا نعرف لهذا الإرهابي مبدأً أو دافعاً مباشراً أو غاية، فهو لا يتحدث في السياسة، أو في الدين، أو في قضية اجتماعية محرِّضة على العنف.. إنه لا يتحدث إلاّ عن نفسه، عن تلك الظلمة الحية اللائبة في أعماقه (الجرائم التي نرتكبها ليس لها استمرار فينا.. وليس، في جغرافيتها، أو سياستها، وسيكولوجيتها ما يؤدي إلى ما نحن عليه. لهذا يكون من المسيء أن نعلن ما نريد، وأن نثق، ونتبادل الذكريات) ص22/23. وكذلك لا نعلم، أو لا يعلمنا الراوي كثيراً عن منظمته، وعن رفاقه في مكتب المنظمة السرية الذي يلتقون فيه.. هناك كلام عن "كارلا" (ليس هذا اسمها الحقيقي، فلنا كلنا أسماء مستعارة) هذا ما يقوله لنا عنها، وعن "أنزو" و"أنتونيللا" وما يحكيه لنا عنهم يجعل المسألة أكثر غموضاً والتباسا.. إن مسحة من الإبهام تبقى تجلل ذلك المكتب بأشخاصه الخمسة وهم يعملون بصمت، من الثامنة والنصف صباحاً وحتى السابعة ليلاً، لستة أيام في الأسبوع. (إحدى غرف النوم مكتبة ومصرف معلومات يتضمن/ مثلاً، قوائم بالضحايا القادمين، أسماءهم، عناوينهم، والمواد الأساس لدراسة حياتهم وعاداتهم) ص19.كما أننا لا نعرف شيئاً عن أهداف المنظمة، من يمولها، ولماذا؟. وحتى الراوي نجد أن انتماءه إليها عرضي نوعاً ما (أنا لا أعرف شيئاً عن تركيب منظمتنا ووكالاتها، أو الدور الذي يمكن أن تؤديه فيها هذه السيدة ريزولي، لقد جندتُ لغرض خاص، وعلائقي، مع المنظمة، تشمل حدثاً مفرداً، بعده سأقطع أي صلة بها واختفي) ص20.
ينتمي الراوي، أو هذا ما يدعيه في الأقل إلى شريحة المثقفين (...أهي العلامة المرئية على أننا نحن المثقفين ذوي الأظافر النظيفة لا نتعامل إلاّ مع المجردات، وليس مع عالم يكون للواقع فيه شكل آخر، بل رائحة أخرى؟.) ص100. ويبدو أيضاً أن المنظمة الإرهابية التي انضم إليها ذات طابع ثقافي.. إنها منظمة تبحث وتدرس، وأعضاؤها يجلسون إلى مكاتب. والراوي نفسه، بحسب ما يخبرنا يدرس حياة ونتاج وفكر ضحيته بجدية وحماس.. يذكرنا هذا بفضاء روايات كافكا، أو قصص بورخس.
إن ما يعرفه الراوي عن منظمته قليل جداً، بيد أنه، بالمقابل، يخبرنا بإسهاب عن ضحيته المرتقبة، الذي يبدو أنه يعرفها أكثر مما يعرف رفاقه داخل المنظمة. (لقد أبدع، وهو كاتب المقالة، والفيلسوف، ومؤلف أثني عشر نصباً في فن السرد، الكثير من عالمنا، حتى ندر أن نعرف أين ينتهي التاريخ، وأين تبدأ روايته هو لهذا التاريخ) ص45.
إن الراوي يعلمنا منذ البدء، أن زيارته لأبيه هي زيارة وداع.. يذهب إلى مرتع طفولته.. يتخذ الاقتران على صعيد اللعبة الروائية، في دنيا التخيل، بعداً ثلاثياً:
الأب ـ الابن (وداع أخير).. الابن/ الراوي/ الإرهابي ـ الروائي/ الضحية (تخطيط قتل)، وفي الوقت الذي يربط الأب بالابن افتراق أخير، يربط الراوي بالروائي (ملعبة طفل)، وأخيراً يربط الأب بالروائي، ليس أنهما سيغيبان من دنيا الراوي فحسب، بل القدرة على السرد أيضاً، وها هو الراوي يقول عن أبيه (إنه يعيد كتابة التاريخ: آمل في أني أصفه بالحب الساخر الذي أشعر به إزاء هذا الشيخ الذي هو أبي، وأوضح أن ليس في ما اخترت فعله أي تحد له، أو أي رغبة في صدمه. ليس أبي من أنوي قتله) ص68. إن مجرد إشارته هذه تضعنا موضع شك، لابد من أنه يضللنا، فهو نفسه "الراوي" يجد شخصية الابن هي الأقرب إليه من كل شخصيات الروائي المتنوعة.. إن نوعاً من التماهي يحصل بين الأب والروائي الذي ينوي الأبن/ الراوي قتله على وفق ما يعترف.
هناك إيماءات لعلاقة شائكة بين الأب وابنه (إنه توتر أربطه بالمراهقة، عندما بدأت أفكر لنفسي، فوجدت، ليس بدون ألم. إن بعض ما علمنيه أبي وآمن به عميقاً، لم أعد أتقبله) ص72. ويكون عصيانه الأول لأبيه شراء بندقية صيد.. هل هذا إيذان بقتل الأب؟.
أمر ما، يجعلنا أيضاً، نتصور الراوي/ القاتل قرين الروائي المقتول. فالروائي ـ شخصية في الرواية، وهو الضحية المرتقبة ـ ينجز روايته "العمل يتقدم" (بعض الشراح يقول إنه عمله الفتي الوحيد) ص78. يسميها كذلك "ملعبة طفل".. الراوي في التاسعة والعشرين، والروائي في الثمانين، كما لو أن الروائي/ الشيخ يبتكر الراوي الفتي من أجل موته هو.. إن وجودهما القدري المشترك يمضي بدأب لا محيد عنه نحو إطلاق الرصاص في تلك الساحة: "سانت أوغستينو" في بلدة "ب".. الراوي يحكي تفاصيل دقيقة عن الروائي، لا سيما عن اليوم الأخير الذي يسبق يوم الاغتيال، كما لو كان معه، على الرغم من أنه "الراوي" يبعد عن الضحية المرتقبة 400 كم.
مرة أخرى يتماهى الأب مع الضحية المرتقبة وهو في طريقه إلى مكان الجريمة (وأدرك بصدمة صغيرة، أنني لم أكن أخاطب أبي، بل كنت أخاطبه هو) ص126. ونتذكر سفره لزيارة أبيه في مفتتح الرواية، حين يكون في طريقه إلى ارتكاب جريمة القتل، إنه في المرة الأولى يحكي لنا عن بعض من ذكريات طفولته، وهنا، في المرة الثانية، يقول لنا؛ (كنت كالعائد إلى مكان من طفولته، لكنه المكان الخطأ، الأبعاد كلها كانت خطأ..) ص137.. وتبدو اللعبة عندئذ في غاية التعقيد.. لعبة الحلم والواقع، لعبة المرايا المتقابلة، لعبة تبادل الأدوار، لعبة التمويه في تتابعها المحير. فالإرهابي، وهو إلى جانب الفتاة التي تقود السيارة إلى موقع الجريمة، وتلك فتاة لا يعرف على وجه اليقين من هي.. يعترف؛ (أقلقني أن أعرف أن الفتاة التي بجانبي دخلت مرة في منامي ولعبت دوراً هناك لا أستطيع استعادته أبداً، مع أن جسدي تذكر، بدفء متصاعد نزوته) ص130. ويتساءل عن علاقة الفتاة بالضحية (أي آفاق من حياتها كانت تتابعها في عالم المرايا الواسع لكتاباته، وكيف كان نصيبها فيه مقارنة بنصيبي؟) ص131.
إن ما يحصل في الواقع ليس هو ما خطط له، ولأنه ليس كذلك فإن الحدث على الرغم من وقوعه فإنه لم يقع. وحين يقع فإنه لم يقع إلاّ بالشكل الذي ستنشر فيه الصحف أخبارها؛ (إن الموقع الحقيقي لحدوثها في العالم الواقعي ليس ساحة سانت أوغستينو ببلدة ب، وإنما هو ذهن ملايين القراء، والشكل الحقيقي ليس اللحم والدم والطلقات ـ وإنما الكلمات: اغتيال وقتل وحشي ـ جريمة نكراء ـ عنف أهوج ـ فوضى... الجريمة تغدو حقيقية لأنها نشرت في الصحف، لأنها دعيت عنفاُ أهوج وفوضى) ص90.
إن هذا أشبه ما يكون بتخريجات مفكري "ما بعد الحداثة" فإنكار التطابق بين الواقع والمكتوب يعقبه تعزيز لفكرة أن المكتوب يحل محل الواقع.. إن الواقع يتراجع إلى الخطوط الخلفية ليكون وضعه هامشياً في مقابل ما يُكتب عنه. فنحن في النهاية، لن نمسك إلاّ بالمكتوب.. لن نكون متيقنين إلاّ بما تمت كتابته. فالإرهابي لا يعول على ما يحدث حقيقة بوساطته هو، بسلاحه القاتل، وإنما على ما ستقوله الصحف عمّا فعل.. إن التاريخ في عرفه هو المكتوب. والواقعي والحقيقي هما المكتوب، ليس إلاّ.
هل حصلت الجريمة حقاً؟. هل أُطلق الرصاص في "سانت أوغستينو" في بلدة "ب"؟. هل صاحت الابنة، وتبعثر الحمام عبر واجهة الكاتدرائية، وامتلأت الساحة بوقع الأقدام، وسقط الرجل مضرجاً بدمه؟. أم أن الأمر لم يكن سوى تخيل مترشح بقوة رغبة خفية.. رغبة تسبق، لا الفعل فحسب، وإنما تمثيل الفعل أيضاً فيما بعد.. تمثيله في كلمات، في أخبار تتناقلها أجهزة الإعلام، أو تدونها يد سارد شاهد.. إن المكتوب لا يؤكد الواقع، ولا يلغيه، ولا يشوشه، لكنه يتركك، أنت القارئ، في حيرة وريبة. هل أنك إزاء حقيقة جدية، أم خدعة، أم لعبة.. محض لعبة؟. هناك تشابه بين نهايتي روايتي ديفيد معلوف "الإرهابي: ملعبة طفل" و"حياة متخيلة: ديفيد في المنفى" فالإرهابي بعد أن يقتل لا يتحدث عن الخوف، أو الندم.. إنه يشعر بالسعادة كونه حراً أخيراً، يقطف تفاحة، يعضها ويأكل: (وفي التأكد المعجز من أنني آمن أخيراً، أسير تحت البراعم المبكرة) ص141، كما لو أنه تخلص نهائياً من عبء ماضيه.. كما لو أنه ولد لتوّه. هكذا تنتهي رواية "الإرهابي" وقد نجا الراوي القاتل من العقوبة، فهل كان فعل القتل حلمياً رمزياً؟. ليس بالمقدور تقديم إجابة قاطعة على هذا السؤال. كما ليس بالمقدور معرفة فيما إذا كان أوفيد في رواية "حياة متخيلة" يهرب هو الآخر من فكرة مسؤوليته عن موت أخيه، ومن ثم أبيه، فضلاً عن موت ريزاك/ شيخ القرية الذي آواه في منزله في أثناء نفيه من روما.. إنه لا ينبئنا عن شعوره بالندم، فحالما يترك القرية مع الطفل/ المتوحش ينسى ريزاك وموته، ويتطلع إلى أمام.. إلى موته هو.. إلى الطفل الذي يمضي مبتهجاً مع حريته.. الطفل الذي هو توأمه القديم، رمزياً، على صعيد التخيل.
وأخيراً، هل أن الأخلاقي هو أول الحاضرين في هذه القاعة/ الرواية.. رواية "الإرهابي" كما ينبئنا الشاعر سعدي يوسف في تصديره للرواية هذه، التي ترجمها؟.
يخبره ديفيد معلوف أن روايته جدل بين الوعي والإحساس..
تحتمل هذه الجملة موجِّهين، في الأقل. الأول: إن الروائي "معلوف" يحاول تضليلنا. والثاني: إنه يعطينا مفتاحاً أساسياً. ومع الموجِّه الثاني نكون أمام احتمالين في الأقل، أيضاً. الأول: إنه يرشدنا حقاً إلى الطريق.. الثاني: إنه من غير أن يدري يعطينا مفتاحاً خاطئاً!.


الجزائر.. أو الرحلة إلى زهرة البحر

من البوابة الحديدية الضخمة لمطار بومدين خرجت إلى الساحة المبلطة الواسعة، كان هواء المدينة الرطب والمحمل برائحة البحر قد غمرني بنسماته الباردة، بينما كان مطر آذار يهطل بصورة متواصلة، وقد احتمى المسافرون وسط الفوضى والصخب تحت المظلات والمسقفات الألمونيومية والأفاريز الطويلة مختلطة أصواتهم بأصوات الباصات والتاكسيات وأصوات الحقائب التي (تكرخ) على الرصيف، لم يكن المشهد صادما نسبة لي غير أني تذكرت تلك اللحظة بالذات مشاهد عديدة من روايات برترون عن الجزائر العاصمة، تذكرت سائق العربة البربري القادم من تلمسان، والمرأة العربية التي تطبخ السمك بالبوبيت والزيت المغلي، تذكرت تلك اللحظة خطى إيزابيل إبركهارت المتوثبة على الرمل وكتاباتها عن الثيمة الرومانتيكية لقصص الحب، تذكرت ملاحظاتها الرصينة المباشرة عن الجزائر التي اكتشفت فيها بغبطة عالم الإسلام، تذكرت كاسار البربري الذي اتكأ على طرف السور بينما هبطت الشمس خلف جبال الكرستال وهو يفكر بصوفونيزب ..فتاة البحر.
كان علي تلك اللحظة أن أقف تحت مطر الربيع غير عابئ بالماء الذي أخذ يسيل على وجهي...أقف هناك تحت رذاذ آذار وأنظر إلى البلد الوعر والمشجر والذي يحده ساحل البحر مثل خط صلب من بعيد، يحده كما كان الريف يحد نوسيكو القديمة، وكانت الفنادق والمباني ذات الطرز الكولنيالية تظهر من مكان إلى آخر خلال هذه الدروب الضيقة المغطاة بخضرة متراصة ملتحمة بزرقة الصباح، وكان بهاء المدينة الناضج وثراؤها يحوطانني من كل مكان، وفي الطريق الذي يمتد إلى أوتيل الأوراسي المطل على المدينة من أعلى، كدت ألمس الطراوة التي تقطر ببطء وتتمدد في الهواء الشفاف.
هذه الجزائر الحية التي أوحت لي مشاهدها التفكير بأرث عظيم كتبته أيد عربية في أفريقيا، بأرث عظيم مطمور في الجلد الأسمر والملابس العربية التي تغطي أرضا كاملة من البحر إلى الصحراء، أوحت لي التفكير بكرم الرجال المحليين الذين أشبعونا ضيافة وفنطازيا، وكان علي أن أسأل الشوفير الذي كلمني بفرنسية ممزوجة بلكنة عربية محلية عن خان القواقل الذي أنشأه العثمانيون والذي حل محل أفريقيا المسيحية، كان علي أن أصرخ بعد أن وطئت قدماي رصيف البحر: "هذه الجزائر العظيمة..هذه نكربول الأموات التي بشعتها الأخطاء المقدسة"..وكان علي أن أصمت حيث يتوهج البحر المتوحش لوهلة، بينما يخرج الجزائريون بعنفهم وحركتهم البطيئة وأصواتهم العالية مختلفين عن المستعمرين الفرنسيين وعن أناتول فرانس...
هذه جزائر الجزائريين والتي لم تعد تشبه الجزائر الموجودة في روايات مغالي بوازنار، أو روايات أرواندو، أو برترون الذي كتب عن الماضي الحي الذي رقد طويلا في تلمسان أو قسنطينة..هذه بليدة التي لم تعد تشبه بليدة التي كتب عنها ألفونس دوديه...وهذه تيباز التي أحبها ألبير كامو، هذه الأسواق هي التي أوحت لي التفكير بالروح التي رقدت في المقاهي التي زارها مثقفون من كل أنحاء العالم، وبالكثير من الأبيض والأزرق والأخضر في شوارع الجزائر العاصمة وأزقتها وسلالمها، وبالأحمر الذي شغف به ديلاكروا، أوحت لي التفكير بأوتيلاتها حيث رقد كارل ماركس قبل قرنين في أوتيل السان جورج ليستشفي من برد أوربا، أوحت لي التفكير بتنويعات الصحراء السابحة في الضباب الخفيف، أو بوجوه النساء المختلطات المتكونات من أجناس المتوسط، أو بالرجال المتحمسين للحياة والمتمتعين بأهواء جامحة، قالت لي "إرحاب" التي قابلتها في قلعة بابا عروج: "بعد الاستقلال حل الجزائريون
الشعب محل الإداريين الفرنسيين، والبرجوازيين المتحمسين والملاك المستعمرين الذين اجتاحوا الأرض".
هذه الجزائر إذن...جزائر الجزائريين منذ بني مزغنة لا جزائر الإلزاسيين أو الإيطاليين والذين كانوا يشبهون مأدبة المرتزقة في سالامبو...هذه الجزائر الطالعة من البحر بعد أن اختفى الجنود الفرنسيون وأبطال روايات كتاب الأقدام السوداء، مثل: انجيل ميكو الصغيرة، وفنسنت فياغوس المتحمسة، وسانتا لازاريو، واليهودية نويمي، والحوذي بالتازار، وأنطونين الأعور القادم من بوردو...هذه جزائر الجزائريين بعد أن اختفى الجنود الاستعماريون وأرشيدوق العاصمة من القرى والضياع المعلقة على الجبال مثل أعشاش الصقور، بعد أن اختفى التجار الصغار والمزارعون من الأبراج المسننة والأروقة المقوسة في القصبة القديمة، بعد أن اختفى المبشرون من منطقة القبائل بحقولها الوعرة، بعد أن اختفى اليهود من البيار ومنازلها ذات البياض الكامد دون بروزات دون تنوعات، وكل شيء يحيط بها غارق في صمت أبدي...سرنا في الطريق إلى القصبة، بمحاذاة البحر لنرى لوحات جديدة يشكل الديكور الاستعماري مجمل بنائها، المشاهد العظيمة للعاصمة النائمة تحت غلالة المطر، الأرض الخضراء البعيدة والتلال العالية التلوين، مشاهد ديلاكروا الحقيقية وهذا الأحمر الصافي الذي لا تراه إلا في الجزائر، المجموع الضئيل المليء بالغموض، الألوان البيتورسكية الواضحة والصريحة.
هذه هي الجزائر..إذن، وحين تسير في سوق دودوش مراد تكتشف الجزائريين: محيط شعبي جميل..محيط مكون من خليط وجداني وحسي، وسيط طفولي، عواطف صاخبة وغيرمنتظمة، سرعان ما يثورون، وسرعان ما يصفحون...كنا نسير سعيدين وسط صخب الناس نستمتع بالنسمات المنعشة القادمة من البحر، نستمتع بحركات الباعة وهم يصرخون بسنك ميل..كاتغ سن..فيان خوية فيان..خليط الأصوات الفرنسية والعربية والأمازيغية في سوق واحد، خليط ينمو في الامتداد الصاخب والوحشي للسوق، ومن الجانب الآخر كانت البنايات الجميلة غارقة بضياء الشمس، حيث الأشجار الرائعة تغطي السلالم التي تقود إلى شارع فرانز فانون، والأزياء الفاقعة الألوان تختلط بالغماض والفاتن من السوق، حيث الحدائق الرائعة متدفقة بالماء، ومن الأعلى كانت المدينة ترقص وسط سيرك من الألوان الملتهبة، وقد حلقت الطيور في سماء من ذهب.
دخلنا مكتبة لاتيير موند القريبة من المسرح البلدي، كانت المجلة التي تحمل صورة الروائي رشيد بوجدرة واضحة، وقد صرح بأن المستقبل للرواية العربية في الجزائر، نعم..من الكتاب الذين التقيناهم هناك..أدركنا أن اللغة العربية عائدة وبقوة إلى الجزائر.

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة