المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

من منشورات (المدى):حياة أوفيد المتخيلة
 

سعد محمد رحيم

 


ديفيد معلوف ساحر كلمات آخر، لا يقل شأناً عن فوكنر وماركيز وهيرمان هيسه وكونديرا وساراماغو، فهو واحد من تلك الكوكبة النادرة من البشر التي تمتلك موهبة السرد، على خلفية من لعب بارع باللغة، ومعرفة نافذة بالعالم، وقدرة لا تضاهى على التخيل، والتي بوساطتها يمكن ممارسة فعل إغواء للقارئ، وإشراكه برغبته أو على الرغم منه في إعادة لملمة ما تناثر من شظايا الوجود، وخلق عالم وتاريخ متخيلين يعيناننا على تحمل ثقل وجودنا، في عالمنا، وفي سياق تاريخنا الأرضي المعاش.
في رواية "حياة متخيلة" أضاف المترجم الشاعر سعدي يوسف إلى العنوان الرئيسي عنواناً فرعياً هو "أوفيد في المنفى". وأوفيد شاعر روماني نفي في أواخر حياته إلى منطقة تقع في أقصى الحدود الشمالية للإمبراطورية، فعاش ما تبقى من سني عمره مع البرابرة القاطنين هناك. وتلك حقبة من حياة الشاعر لا نمتلك عنها أية وثائق تساعدنا في معرفتها.
في هذه الرواية هناك أوفيد المنفي في قرية "توميس"، والطفل المتوحش ساكن الغابة مع الأشجار والضواري. وبين هاتين الشخصيتين تمضي الرواية في أفق الشعر والدهشة. فالخيال المحلّق عالياً، والأسلوب العذب في السرد، والتصعيد الدرامي للحدث يجعلنا إزاء عمل كبير وفذ، يفصح عن موهبة خلاقة.
في طفولته يحلم أوفيد بالطفل المتوحش، فهذا الأخير يحضر أمام عين مخيلة أوفيد: ( الطفل هناك. أنا في الثالثة أو الرابعة من عمري. الصيف في أواخره. إنه الربيع. أنا في السادسة. أنا في الثامنة. والطفل في السن ذاتها دائماً. أنا والطفل نتكلم، بلغة من صنعنا. شقيقي الذي يكبرني بعام، لا يراه، حتى حين يكون بيننا، جد قريب.. إنه ولد متوحش ) ص7.
وأوفيد/ الراوي لن نعرف عنه ـ في سياق الرواية ـ أشياء كثيرة مذ يغادره الطفل، وإلى لحظة شيخوخته حين ينفى إلى تخوم الإمبراطورية ويُقسر على العيش مع البرابرة، وعندئذ يظهر الطفل من جديد، وهذه المرة، هناك، على أرض الواقع، في أحراش الغابة، بين الذئاب والغزلان، كما لو أنه كان بانتظار أوفيد.. إنه لم يكبر منذ ذلك الحين، منذ خمسين سنة: ( أرأيته حقاً؟ أم أنني رأيت، فجأة، بعد كل هذه السنين، الطفل الذي طالما كان رفيقي السري في "سالمو" والذي نسيت حتى وجوده نفسه. فجأة، كان ثانية، أمامي. هل كانت الرؤية حقيقية؟ أنا شكاك. لكن الرجال يصدقون ) ص 43.
لن يكبر الطفل إلاّ منذ هذه اللحظة، فهو سيختفي في هذه المرة. وفي السنة التالية لن تكون ثمة فرصة لرؤيته، غير أن أوفيد سيقنع ريزاك/ شيخ القرية بالبحث عن الطفل، والعثور عليه، وجلبه إلى القرية. ويتم ذلك على أكمل وجه.. ليس الطفل وحده، من لم تتخل عنه طفولته، وإنما أوفيد أيضاً.. أوفيد الشاعر الذي سيكون بحاجة دائمة إلى عين الطفل، عين الدهشة لرؤية أشياء الكون.. تلك العين التي لولاها لن يكون ثمة الشعر.
لا أحد يعلم من أين يكون الطفل هذا قد جاء وكيف؟.. إنه في الغابة، بين الحيوانات، ومن طول بقائه بينها اكتسب صفات وسلوكيات منها.. لا يعرف عن نفسه شيئاً، وإلى أي نوع ينتمي؟. إن بشريته عالقة في غور منسي من أعماقه.. إنه بحاجة الآن، للترويض، للعودة إلى كينونته إنساناً.. لتعلم اللغة، للتواصل مع الآخرين الذين يشبهونه. وكان على أوفيد أن يتحمل المهمة الجسيمة بعدما نفر منه ـ من الطفل ـ أهل القرية، وجعلوا يحذرونه، ويختلقون عنه الشائعات: ( أفكر وأفكر. أي خطوات تلزم؟. كيف يتعين عليّ أن أبدأ؟. أعرف أن العطف هو السبيل ـ والوقت. أن أكشف له أولاً ما هو عطفنا، وما نوعنا، ثم أن أقنعه بأننا من نوع واحد. من هذا يجب أن يكتشف ما هو ) ص68.
رواية "حياة متخيلة" هي الأخرى "ملعبة طفل" كما هو العنوان الثانوي لرواية "الإرهابي" للمؤلف ذاته. ولعلها "ملعبة طفل" أكثر مما هي رواية "الإرهابي". فنحن مع أوفيد وطفله نقترب من الجوهر البشري الصميم، من البراءة الأولى، من الطفولة الممتزجة بخلجات الطبيعة ومزاجها ووحشيتها وطاقتها واستعداداتها، وروحها الحرة الطلقة. فالطفل، ها هنا، يحمل أصداء من حي بن يقظان، وربما من روبنسون كروزو أيضاً. غير أن ديفيد معلوف أكثر تحرراً من النمطية، وعمله أشد غموضاً.. إنه يجعلنا بين ألاعيب مخيلة طفلية، فهو كاتباً يختار شطر المنفى من حياة الشاعر الروماني أوفيد.. ذلك الشاعر الذي لا يقول التاريخ عن حياته إلاّ القليل، لا سيما حين ينفى إلى ذلك الصقع البارد في الشمال، في موسم كهولته، ولعل معلوف تعمد هذا الاختيار ليترك فسحة مديدة لعمل المخيال الروائي. إن وجود الطفل في الحكاية محض تلفيق لكنه تلفيق يتساوق مع حسنا الجمالي، وحسنا الإنساني في الوقت عينه.. ينير لنا بقعة معتمة من نفوسنا.. يحفر، مع تصاعد فعل الحكاية، لا ليعلمنا كيف سيتعرف الطفل على ذاته فقط، بل كيف يمكننا أن نتعرف، نحن أيضاً، على جوانب سرية من ذواتنا. فـ "حياة متخيلة" نبش في جذور نوعنا، رحلة في غابة لا وعينا، وكشف لذلك الجزء الحيواني والمتوحش، الماثل منذ ملايين السنين، فينا.
يسعى أوفيد/ الراوي إلى إخبارنا كيف يخرج الطفل من حيوانيته المكتسبة ليسترد جوانيته الإنسانية. كيف يكسر فيه قشرة التوحش ليُظهر لب سلالته البشرية. فهو لن يبدأ من حيث بدأ الإنسان الأول، بل سيكشف فيه، أو يدعه يكشف في داخله تلك الطبقات كلها التي هي خلاصة التعلم البطيء لنوعنا عبر تجارب استغرقت قروناً طويلة: ( كل تلك العصور من الاكتشاف البطيء، أعاد الطفل العيش فيها، خلال شهور قليلة حسب، وهو يستفيد من تجربة لا يستطيع البتة أن يكون امتلكها، والتي يجب أن تكون كامنة فيه، وفي حيوانات تحت حياته، لآلاف من الموتى طويلاً، هؤلاء الذين جلب وعيهم، معه، بطريقة ما، إلى العالم، كم هو مؤثر إذاً، أن أرى طفلي، يصنع الاكتشافات التي ستؤدي به، بعد سنين من النفي، إلى ميراثه، إلى المجتمع الذي يخصه ) ص72.
ويعرف أوفيد أن على الطفل كي يكون مثلنا ينبغي أن يتعلم اللغة ، اللغة التي هي قطب وجودنا، والاختراع الأعظم لنوعنا مذ كنا على سطح كوكبنا.. هذا الطفل الذي اعتاد محاكاة أصوات الطيور والحيوانات الأخرى ليس من السهل عليه أن يكيف حنجرته ولسانه وحركة شفتيه وأنفاسه كي ينطق بالحروف التي ننطق بها. بيد أنه، لا شك، يحوز الاستعداد والقدرة: ( أضع أنامله على شفتي كي يستطيع أن يحس بشكلها، وبانسياب النَفس، وتدريجياً، ومع صوت واحد كل حين، نجد صوتاً بشرياً فيه. إنها لعبة تبهجه ) ص81.
يرمي أوفيد إلى تعليم الطفل اللغة. ولكن أية لغة؟. إنها لغة القوم الذين يعيش بينهم، وهذا بمعنى ما قرار بالبقاء حيث هو، وعدم العودة حتى لو حصل على عفو من الإمبراطور الذي نفاه. ( إن هذا المكان هو المصير الحقيقي الذي أمضيت وجودي كله في محاولة الإفلات منه ) ص83. ها هنا يمارس مع الطفل لعبة إدخاله في وعيه هو "أوفيد" والدخول في وعي الطفل، في سعي منه لاستعادة طفولته. ( هكذا بدأت طفولتي تعود، إليَّ، ليس كما تذكرتها سابقاً، لكن بشكل أصفى، كما كانت بالفعل ). ص83.
يغدو الطفل كما لو أنه أناه الأخرى التي كانت ضائعة في لا نهائية الزمان والمكان. ومع الطفل، في عملية التعلم والتعليم، إذ يعلّم أحدهما الآخر ما يعرف، يكون ديدنه أن يحس بنفسه، لا جزءاً من نظام الكون فحسب، وإنما أن يحس أن هذا الكون الشاسع المديد ما هو إلاّ امتداد لنفسه، لوجوده.. أن يحس أنه منصهر في كلية العالم عبر مناورات الوعي، أو بممكنات الشعر.
يحل الشتاء أخيراً.. شتاء رمادي قاسي البرودة، يرتفع معه الثلج، يغمر الأكواخ فتنحبس النفوس داخل غرفها المحكمة الإغلاق، فيثور الطفل.. الطفل البري بفائض التوحش والحرية اللذين فيه. غير أن أوفيد يمنعه بكثير من الجهد والألم والخيبات الصغيرة، حتى يبدأ الطفل يفقد شيئاً فشيئاً مقاومته اللامعقولة للبرد، ويسقط في الحمّى، كاشفاً عن بشريته المضمرة بامتثاليتها وضعفها وفهمها الغامض لماهيتها.. يصبح الطفل في إدراك أوفيد بديلاً عن أخيه الذي خسره في يوم ما، بعيد، فيتشبث ويجاهد من أجل إنقاذ الطفل، كي لا يموت. ( وحين رفعته بين ذراعي، وحاولت إقحام بضع قطرات ماء بين شفتيه، تذكرت أخي، وأدركت من يعني لي هذا الطفل، وما يعني لي أن أفقده ) ص101.
نحن، مع أوفيد في منفاه، في عالم طقسي، سحري، حيث الجميع يعتقدون بوجود الخارق، ما وراء الطبيعي الذي يمكن أن يتدخل بغتة، ويبدل المصائر.. أولئك البرابرة الأقرب إلى وحشية الطبيعة، يتعلقون بتفاسير تتجاوز معطى الحياة المادية، إذ توجه الآلهة والشياطين الأمور نحو مسارات تكون أحياناً مدمرة. ولهذا لا بد من السحر والأدعية والتعازيم كي يبتعد الشر والأذى.. يُصاب الطفل بالحمى بعد محاولة يائسة للهرب.. العجوز "أم ريزاك" وكنّتها تخشيان من أن ينتقل الشيطان الذي تصارع طويلاً مع الطفل إلى ولدهما.. يشفى الطفل ويُصاب الولد، غير أن العجوز بقوة سحرها ـ هكذا على جميع من في القرية أن يعتقد ـ تشفي الولد.. يذهب ريزاك ليصطاد جرواً من بين الكلاب البرية ليقدمه أضحية بمناسبة تماثل حفيده للشفاء، بيد أنه يتعرض لعضة ما، تقوده إلى الموت.
يموت ريزاك، في خضم اعتقاد أن الطفل والوحش الذي خرج منه هما السبب.. يستغل أوفيد فرصة انشغال القرية بالإعداد لدفن الميت/ شيخ القرية، فيهرب مع الطفل نحو الشمال، لأنه توقع وقوع العقوبة عليهما من قبل أهل القرية بعد انتهاء مراسيم الدفن.. ( أنا خارج الآن إلى المجهول، المجهول الحقيقي، حيث لا تعد توميس، مقارنة به، إلاّ مخفراً أمامياً، منحطاً، وأعتقد أنني أمضي في الممر الواضح لقدري ) ص117.
يعبر أوفيد مع الطفل النهر المتجمد البعيد الذي يشكل الحدود للإمبراطورية الرومانية، داخلاً معه في المجهول. هناك، يلج أوفيد ودليله الطفل السهوب والغابات الممتدة حتى اللانهايات، ليكون جزءاً من ناموس الطبيعة، فتتفجر الأسئلة كلها، دفعة واحدة في ذهنه: ( من هو هذا الطفل الذي يقودني أعمق، في الأرض.. أبعد من آخر مخفر أمامي مأهول في العالم المعروف، أبعد حتى من الكلام، في المعاشب المتنهدة التي هي صمت؟ من أين جاء؟ خارج أي حياة؟ خارج أي زمن؟ هل اكتشفته حقاً، هناك، في غابات الصنوبر، أم هو الذي اكتشفني، أو أعاد اكتشافي، بسبب غربتي عن عالم البشر؟ ) ص126.
ثم يتساءل أوفيد، وذلك هو السؤال الفيصل في الكتاب ( إلى أين يقودني، ما دمت أعرف، أخيراً، أنه هو الدليل؟ ).. هناك، في ذلك الانفتاح الهائل مع الشجر والطير والأعشاب والحلازين يسترد أوفيد خطواته كلها، عائداً إلى طفولته، فأوفيد، الآن، في لحظات نهايته، يراقب الطفل وهو يبتعد مبتهجا لكونه حراً.
وهو يمشي على نور الماء، وبينما أنا أرقبه يخطو خطواته الأولى مبتعداً، ويسير ببطء، وبعيداً الآن، في المسافة الأعمق، فوق الأرض، فوق الماء، فوق الهواء.
إنه الصيف.
إنه الربيع.
وأنا سعيد إلى حد لا يقاس.
إلى حد لا يُحتمل.
أنا في الثالثة من عمري.
أنا في الستين.
أنا في السادسة.
أنا هناك ) ص132 ـ 133.


الطائر والنخلة جانب من تجربة حسب الشيخ جعفر الابداعية
 

ريسان الخزعلي
 

.. في الشعر العراقي الحديث..، تشخص بوضوح تجربة الشاعر "حسب الشيخ جعفر" الفنية، هذه التجربة التي تقوم على عمق ثقافي يمتد من النبض الاول لصباحات الريف والارتباط القروي بكل فولكلوريته.. مروراً بالمدينة وشكلها البدائي، وحتى ايقاع الجاز في كبريات المدن المغمورة بالثلج والاضوية والنساء والفودكا والسهر الطويل.. حتى يتداخل الوقت بسمفونية لا تقوى أي اصابع على ترتيب ايقاعها، انها سمفونية الحضور المتقد في ذاكرة الشاعر.
في هذه الامكنة "حيث تاج راسه الحندقوق المر" .. تقوم تجربة حسب الشيخ جعفر الشعرية وتضع ارتكازاتها العميقة بدءا من "نخلة الله" وحتى "اعمدة سمرقند". وحسب في تماساته المكانية لا يعجب بالمكان كحدود جغرافية تؤطر رؤياه الجمالية..، وانما يجعل من المكان فسحة شعرية للاستعادة والتشبث بالمتعة او اصطيادها خارج حدود زمن المكان، ولذلك تتنوع عناصر التجربة الفنية والجمالية في شعر حسب الشيخ جعفر. فمن خلال جماليات المكان تستطيل امتدادات تجربة حسب الذوقية والتذوقية حتى لتشمل موضوعات ذات حساسية عالية كموضوعات "المرأة، تذوق الموسيقى، الخمرة، اسقاط تجربة الشاعر العربي ابي نواس، تحوير دلالة الحكايات والخرافات، مراثي الشعراء، تمجيد الشهادة والشهداء".
ان هذه الاستطالات كانت تضع حسبا في دورة المكان خارج حدوده الزمانية، ولهذا لم تستوعب شكل تجربته الشعرية سوى "القصيدة المدورة" التي اوجدها ابداعيا لتأطير الضرورات الفنية "الجمالية..، واشبع كل اشتراطاتها بما يجعل هذا الشكل الشعري مرتبطاً بجماليات حسب الشيخ جعفر".
ان تذوق الموسيقى،خصوصا السمفونيات الكبرى، وتحويلها الى عمل شعري، لا يتمان الا بوعي وثقافة محكومين بفهم خاص للشعر والموسيقى بما في ذلك فن الاستماع، والانصات المرتبط بعالم الموسيقى، وحسب في صمته يربط الشعر بالموسيقى ـ ايحائياً ـ ويحقق معادلتهما الصعبة ..(السوناتا الرابعة عشرة عمل موسيقي معروف لبتهوفن. وهذه القصيدة محاولة تجسيد ايقاع شعري لهذا العمل الموسيقي).. اما في تجربته الشعرية ـ الجمالية مع المرأة، فان حسبا منبهر بها بالكامل كحضور جسماني مرتبط بحرمان عميق يعود بالاساس الى حشمة القرية وعالمها المتستر. لقد كانت قصائد حسب الشيخ جعفر في المرأة كشفا جديدا يوحد بين الرغبة والفن والمتعة الحسية، والواقعة الصادقة، لذلك لا يشكل الجنس هما يشغل راس الشاعر بالقدر الذي حاول ان يجعل منه مساحة فنية مكملة لجوانب التجربة الابداعية..، حتى لتحس اصابع النحات تسري على جسد المرأة.. (فيدياس: النحات الاغريقي المعروف، ويمثل في هذه القصيدة ـ الملكة والمتسول ـ محاولة الامساك بالجمال الازلي. وفي هذه القصيدة تتحد النشوة الهائلة بالجمال اتحادا ابديا..)..، ومن هنا يمكن ان نجيب على السؤال الذي يقول: لماذا اقتصرت مذكراته الجميلة "رماد الدرويش" على هذا الجانب من النشاط؟ ان التفسير المؤكد هنا..، لا بد من ان يقوم على تخطيط الشاعر لاستكمال ما فاته شعريا كتعويض جمالي يعمق "الجانب النثري" من التجربة الحياتية "الابداعية" ..، فلا متسع الان ـ كما يبدو ـ بعد "الطائر الخشبي، زيارة السيدة السومرية، وعبر الحائط في المرآة". للتجانس مرة اخرى مع عالم المرأة شعريا، فربما فعل الزمن فعلته!
ان حسبا عندما يجعل من الخمرة ملاذا حسيا يغيبه عن المواجهة والاصطدام بكل ما يسلب الدهشة والحرية..، دهشة المتعة وحرية الانتشار في "المقاهي، المبغى، المترو، الحانة، السينما..الخ" ..، فانه يتعمد هذا في محاولة لمسك النشوة الازلية ، ولذلك نجده يتطابق كثيرا مع الشاعر" ابي نواس" في هذا الفهم..، وما "هبوط ابي نواس" الا هبوط حسب الشيخ جعفر، وهذا ينعكس ايضا لا شعوريا حتى في مسميات حسب العائلية "يلاحظ ان احد اولاده يسمى "نواس"...، غير ان مثل هذا التطابق لا ينعكس في فهم حسب الشعري ولكن تشبثا مشابها في مسك النشوة الازلية بصياغات شعرية متقدمة في كل الجوانب التقنية الجمالية "اللغة، الصورة، الايقاع، البناء.. الخ" ..، فمنذ "نخلة الله" وحتى "عبر الحائط في المرآة" وحسب ينتقي لغته وصوره ويخطط لحدود قصيدته بجماليات متشابهة، تتطور تصاعدياً مع تعمق التجربة، واكتسابها الشكل المستقر المدور..(المَّ الغبار القديم، ألم الصدى عن تصاوير وجهي، الليالي هوادج فارغة والجواري لهن الاراجيح والظل، ينظرن لي باشتهاء ويغزلن وجهي خيوطا تبعثرها الريح، تلقي بها في مقاهي الدخان وحاناته، كل فجر بعيني هاتين ابصر وجهي قشورا واوراق خس يلمونها عن موائد بار، ويلقى بها في البراميل، وجهي الجرائد تكنس. وجهي اصطفته المليكة، اجلستها ، ذات قرن، بحجري، وحدثتها عن ابي والشقوق التي خلفتها، المناجل في راحتيه، فقالت، وقد شدني ساعداها طويلاً: تباركت يا طفلي الهمجي، انتظرتك منذ إعتلى التاج راسي. ومعشوقتي امراة في الثلاثين مرت عليها القرون ولما تزل في الثلاثين، في النخل تغلي الظهيرة والرز يشهق نديان، جاءت تراودني، يالفخذين ممتلئين، افترشنا السنابل.. لي ليلة عشت فيها ثلاثين قرنا ارد المغول عن امراة القيصر". (من الرباعية الثانية).
الا ان الانعطافات الكبيرة التي حصلت في شعره في المجاميع اللاحقة (في مثل حنو الزوبعة، وجيء بالنبيين والشهداء، اعمدة سمرقند) جاءتنا بجماليات مغايرة تماما، انتقالا من القصيدة المدورة الى قصيدة اللازمة، وتحوير دلالة الحكايات والخرافات وتطويعها لموضوعات وانعكاسات حياتية معاصرة تتناغم مع الوضع "الحلمي" الذي يعيشه الشاعر وهو متكامل الوعي..، (لا اريد ان اعطي تفسيرا محددا لكلمة اوراسيا.. فان شاء القارئ ان يعتبر هذه الكلمة اسما لسيدة القصيدة ليكن له هذا واذا رغب ان يجد في هذا الاسم التقاء جماليا، شكلا وعمقا روحيا، بين امراة آسيوية فاتنة مشبوبة واخرى اوربية شقراء فليكن هذا ايضا، شرط الا يهرب من بين يديه ظل القصيدة الحلمي الزمني.. وهذا الظل ينسحب على المجموعة كلها..). لقد شكل مثل هذا التحول صدمة عارمة لمتذوقي شعر حسب الشيخ جعفر..، حتى يحسب البعض ان حسباً قد توقف عن قول الشعر، وسنحتاج الى وقت طويل لكشف الجوانب الابداعية المتوخاة من هذا التحول الكبير.. (سلاما ما ارتمى كل على الشجر ، سلاما ما اجد الطير اغنية على الشجر، سلاما ما تنفس برعم واخضر في الشجر، سلاما ما اغتنى ثمر ، فاثقل اذرع الشجر).. (القصيدة اللازمة).
ان كسر قيود القصيدة المدورة.. ربما جاء لضرورات قد ادركها الشاعر في مرحلة مهمة من مراحل تطوره الشعري في محاولة للخروج من "النمطية" ومزاحمة الاخرين له في فنه الابداعي..، وفعلا نجح في هذا المسعى، وغادر الاخرون كذلك منطقة القصيدة المدورة عندما غادرها حسب.
اراد حسب من كل هذا التنوع ان يضمن تنوع التجربة بايقاع مغاير لما هو سائد ومألوف..، وبذلك فعل الكثير موسيقياً، لانه شاعر موهوب، ولانه الاعمق في هذا الاتجاه الجمالي.. حيث تصح تقنيات متعددة ومتداخلة (كالحوار والمناجاة والتقفيات الداخلية والاستعادات والقصيدة البيت).
لقد زعزع حسب الشيخ جعفر كل هدوء شعري يحتمي تحت خيمة الاطمئنان..، ولا بد للجمال من ان يبارك مبدعه..، وباختصار شديد.. فان تجربة الشاعر حسب من "نخلة الله" الى "أعمدة سمرقند" تمثل جانبا مهما من التجربة الابداعية في الشعر العراقي الحديث.. "يتبع".
 


الرواية البوليســية بخلفية سياسية

 

ترجمة / سلمى حربة

 

عن دار نشـر( تسـول لانـغ )صـدرت الترجمة الكامـلة إ02لى الألمانيــة لروايــة( أسود على أحمر )للروائي الصيني"كيو كسيو لونغ"،وقد لبى الكــاتب دعوة دار النشر له لزيارة ألمانيــا في شهر كانون أول والالتقاء بالجمهور و تبادل الأفكار معه بهذه المناسبة على قاعة المكتبة العامة الكبرى بمدينة كولن ، وقد تابعت جريدة كولنشه روند شاو موضوع ترجمة الرواية هذه ، فكتب محررها الأدبي الموضوع التالي :
سمــع الكــثيــر منا بالكــاتبة الصينــية ( وي هي وي ) و روايتهــا ( طفــلة شنغهاي ) ليس لجمال العمل الأدبي وروعته و تدفــق الأفكار و بساطتها بل بسبب الضجة التي أحدثتــها هذه الرواية التي حكمت السلطات هناك بحرقــها علنــا و أمام الجمهــور لأنهــا من وجهة نظرهــم رواية منحــلة و منبوذة ، و لأن كاتبتها متأثرة بثقــافة الغرب ، إنها رواية الخائفيــن من الثورة الثقــافية أن تطيــح بمراكزهم و الخائفين عليها من التدمير ، لكن هل استطاعت السلطــات حرق أفكار الكاتــبة و أن توقــف سيل النــقــد المــوجه لهــا بعــد هذا الفعــل ؟ أصبــح ذلــك موضوعا له شــأن لم يوقــف تولــي مجمــوعة من الكتــاب الصينيــين تناول الموضوعــات السياســية حتــى لو كــانت بطــريقــة تخــتــلف عن طريقــة ( طفــلة شنغهــاي ) من هــؤلاء كان " كيوكسيو لونغ "الذي دخل إلى المــوضوعات الســياسية لــكــن عن طــريق كــتابة الرواية البوليسية .
تبدأ الرواية بالراوي و هو يقــول " الأنوار سطعت و المياه سالت و الربيع جاء و العــالم تغيــر و تحول "و سريعا ما يكشف هذا القول عن أن مواصفات الماضي لا يمكن تجــاوزها إلا بعد أحــداث عنيفة ،صورت الرواية ذلك عبر الحــدث ، وهو أن فتاة شابة معــروفة لها إنجازات عديدة في كتــابة الرواية وجدت ذات صباح مقــتولة في غرفتها ، و كان هذا الحــادث متــزامنــا للــثورة الثــقافية التي كان هــدفها النــزوع إلى مستقبــل بعــيد عن الجــمود و التقليد ، وقد أدى هــذا الحــادث إلى لفت الأنظار فقد كان للروائية معجبوها من القــراء و الأصحاب ،وقد طلبت سكرتارية الحزب في شنغهاي من المفــتش الأعلى في البوليس الجنــائي " شين " أن يتولى بنفسه أمر التحــقيق في هذه القضــية . تدخل رواية ( أسود على أحمر ) الأحداث بطريقة تشــبه كثيرا ما عرفنــاه في مواصفــات الرواية البوليــسية ، هناك جريمة غامضة وهناك محقق جنائي يريــد أن يتوصــل إلى نتــائج و بالطرق المعــهودة تســاعده في القبض على الجاني الفعلي ، و لكن هذا العــمل من نوع آخر ، لم يكــن هدفها الكشــف عن الذي نفذ الجريمة ، وانما كان أكبر من ذلك ،و هو كـشف ما يمكن أن يسمى بالقتل السياسي ، فارتفعت لكي تكون -عندما سارت بشكل مختلف - عملا فنــيا متكامــلا و شاملا ، كان "شين "سابقــا يعــمل في البوليــس كفرد من مجموعة عملها هو حماية محافظ المدينة، و وضعه المعاشي آنذاك متواضع جدا ، و مساحة المسكن الذي يأويه هو و عائلته اثنــا عشر متــرا مربعا، يحب قراءة الشعــر و يكتب أحيانا بعضا منه ، لكــنه مع الأيام و لإخــلاصه لمرؤوسيه و تركه هوايته الأدبية بناء على أوامر حزبية، أخــذ في صعــود الســلم الوظــيفي إلى أن وصل إلى درجة المحــقق الجنائي الأعلى، و تقــديرا لخــدماته أيضا أعطــاه الحــزب بيــتا خاصا كــبيرا .
و بفضل هذا المنصب أصبح من الأغنياء فأعماله التي يمارسها في الخفاء من خلال سلطته لا ترتفع عن مستوى الانحطاط و الشبهات و الكسب غير المشروع ، وعبر جولة التحقيقات في الموضوع الذي تولاه ، رأى" شين "أن قراءة ما كتبــته القتــيلة من روايات قد يفــيده في التوصل إلى نتائــج وبعد قراءته لها توصل إلى استنتاج كان يعرفه وهو لماذا كلف هو بالتحقيق وليس غيره هذه رسالة له و عليه تفهمها جيدا ، يقينا لم تكن تلك جريمة قتل وانما اغتيال سياسي ، فعنــدما لم تستطــع الجهة التي أرادت اغتيال الأفكار المكتوبة في الروايات اغتالت كاتبتها ، كان ذلك واضحا له وهو يواصل قراءة المزيد من صفحات كتبها ، فماذا يفعل وهو موضع ثقة من اختاروه غير أن يلبي رغباتهم التي تريد طمس الحقيقة ، في البداية سارت بنا الأحداث بطريقة قد توصل الى الفاعلين الحقيقيين لكنها بعد ذلك اختارت الدروب الخلفية والزوايا المظلمــة ظــنا من المحقق الجنائي أن ذلك يغــير من الحقيــقة .
كان شين قبل التحقيق في القضية بصدد الاستعداد لأخذ إجازة من العمل ، فلزحمة العمل الملقى على عاتقــه لم يتمتــع بإجازة منذ وقت طويل ، ومن سوء حظه ، كما صرح بذلك مرات عدة،أنة قد تأخر كثيرا في التمتع بها ، خاصة و أن تكاليفها مقدمة كاملة كعربون صداقة من " كي " وهو أحد كبار التجار في مدينة شنغهاي ، وكان هذا الرجل معروفا لدى الجميع بأعماله غير الشرعية ، ولكي يبعد الأنظار عنه كان "كي" يستميل إليه من يجد في التقرب منهم حماية لأعماله و بالطبع كان " شين "واحدا منهم ، و مثل تلك العطايا ، عليه أن يقدمها لمثل هؤلاء المسؤولين من وقت لآخر حماية لنفسه و أعماله .
سارت الروايــة في هذا الاتجاه ، لنعرف أن بعض رجالات السلطة لم يكونوا بعيدين عن ذلك الاغتيال ، و أن المراد من موتها هو موت الأفكار التي نادت بها . كان الروائي لونغ يعرف عن أي شئ يكتب و في أي طريق يسير ، لم يكن بعيدا عن المشاكل الاجتماعية ، وما الشخصيات العديدة التي توزعت في مناطق مختلفة وتشابك المصالح الاقتصادية و السياسية إلا محاولة ناجحة للوصول الى أعماق المجتمع الصيني بأشكاله المتنوعة، فكانت شنغهاي التي تدور فيها الأحداث جميعها هي البطل الرئيسي في روايته هذه .


بورخس وذاكـــرة شكسبير بين الفنطازيا السحريــة وعلم الباراسايكولوجية

د. فاطمة بدر

 

كتب بورخس قصة (ذاكرة شكسبير) ضمن مجموعته القصصية التي تحمل العنوان نفسه وقد أفادت هذه القصة ذات المسحة الفنطازية من معطيات علم الباراسايكولوجية لتحلق في عالم الحلم والاستبطان، ولتخلق عوالم غير مألوفة؛ إذ يتجاوز الراوي (هيرمان سوريل) الحواجز الزمنية، والسفر في غياهب الماضي بعد معايشات ذاتية لشخصية الشاعر المسرحي (وليم شكسبير) عن طريق التخاطر؛ إذ يمنح (ثورب) أحدى شخصيات القصة (لسوريل) ذاكرة شكسبير النفيسة التي حصل عليها من أدم كلاي.
يقول ثورب: "كنت طبيباً عسكرياً
في الشرق، في مستشفى ميدان وكان هناك جندي اسمه أدم كلاي، أصيب مرتين، ومنحني الذاكرة النفيسة وهو يتلفظ أخر أنفاسه".
لقد قبل سوريل ذاكرة شكسبير وشروطها المتضمنة الأتي:
أن يهب المانح الذاكرة للمستلم بصوت عال، وأن يقبلها المستلم بالأسلوب نفسه، ومن يهبها يخسر إلى الأبد؛ وتظهر هذه الذاكرة في الأحلام، وفي اليقظة وقد تختلط الذاكرتان معاً (ذاكرة سوريل الحقيقية، وذاكرة شكسبير).
لقد وظف بورخس الحدث فوق الطبيعي، وبذلك حول ذاكرة شكسبير بكل خيوطها السحرية والشفافة إلى مركز التوتر لخلق عالم غير تقليدي، وسعياً منه إلى كسر قوانين العالم الأصلية، لأن العالم الفنطازي يرفض كل ما هو طبيعي في الحياة ويحتج عليه من جهة، ومن جهة أخرى يتآزر مع العالم الطبيعي ويمتزج معه ليحقق عالماً فنطازياً عجيباً مغايراً لعالم الواقع.
لقد اتسمت طريقة المحكي للقصة من حيث التفوه بالمسرود، ووصف مكوناته بالدخول في عوالم قائمة على السحر والمتعة من جهة، وعوالم من التخييل القائمة على الخوف والفزع والتردد والوهم من جهة أخرى كما في قوله:
"فضلت الاعتقاد بأن هبة ثورب كانت وهماً". وبهذا يتحقق ثالوث المحكي الفنطازي (المخيلة، الذاكرة، اللاوعي)؛ ويبدأ (سوريل) بالتأمل والتساؤل قبل أن يقبل الهبة.
يقول: "جلست متأملاً ألم أقض حياتي كلها، على نحو غير ممتع وغريب بحثاً عن شكسبير؟ أليس من الأنصاف أنني وجدتُ ضالتي بعد كل هذا العناء"؛ وبعد أن دخلت الذاكرة في دماغ (سوريل) حدث تحول تدريجي في أحلامه، وبدأت ذاكرته الشكسبيرية تنعشه، وبات يعتقد بأنه شكسبير. لقد أعطى الاتصال (التخاطر) بعداً ايحائياً، بوصف الاتصال مكوناً داخلياً وعضوياً للفنتازيا شأنه في ذلك شأن الحلم والهذيان والهلوسة؛ ويفسر هذا الحدث فوق الطبيعي تفسيراً عقلياً، فقد تحقق الاتصال بفضل امتلاك ثورب خاتم سليمان. تتأثر الطاقة التخاطرية (المسؤولة عن الإدراك الحسي الفائق) من خلال المعايشة بعمليات العقل الباطن الخفية، التي تتم في ذهن الشخص المدرك، لذا يبدأ (سوريل) بالتساؤل عما سيحدث مع هذا الشيء الجديد.
يقول: "ما الذي سيحدث مع الشيء المجرد والمتغير إذاً؟ مع ذاكرة سحرية لإنسان ميت مثلاً؟ ليس في ميسور أحد أن ياسر في لحظة واحدة شراء ماضيه كله
لا أشكل سوى وريثه الجزئي".
نستشف من هذا أن توليد الطاقة التخاطرية عملت على خفض مستوى الصحو لدى (سوريل)، لذا نراه يعيش تياراً مستمراً من الأفكار المتغيرة، والقفز من موضوع إلى آخر، وهذا يقودنا إلى معرفة أسباب حدوث تحول في شخصية سوريل وانقلابها بـ (التخلص من ذاكرة شكسبير) أولاً. لقد اكتشف (سوريل) إن ذاكرة شكسبير قادرة على كشف ظروف شكسبير الإنسان فقط، وما أراد سوريل هو شكسبير الشاعر والمسرحي لا الإنسان؛ ولأن "الشيء المهم هو الأدب الذي أنتجه الشاعر" ويقول أيضاً: "لقد اكتشفت إن الجنس الأدبي يتطلب موهبة للكتابة لا امتلكها فأنا لا أعرف كيف أروي قصتي وهي قصة أكثر غرابة من قصة شكسبير".
ثانياً عندما تختلط الذاكرتان يحدث تصادم واختلال في دماغ (سوريل) نحن نعلم أن في حالة التذكر نحتاج إلى تفريغ الدماغ والانتظار لحين ظهور الفكرة الصحيحة في شعورنا فإذا اختلطت الذاكرتان ترى ماذا سيحدث؟ الجواب هو يتعرض الدماغ إلى الضرر بسبب العمليات الفكرية والذاتية، إذ ترد المعلومات مشوشة إلى الدماغ فتحدث معايشة مشوشة، وتعتمد شدة تشويه معلومات الإدراك الحسي الفائق الوافدة على الحالة النفسية للمستلم، لذا نرى سوريل يشعر بالضياع والإحباط والارتباك بعد أن تهاجمه الأصوات والصراخات المفزعة التي تصم الأذان لها.
يقول: "لقد كنت أرزح تحت ذاكرتين تمتزجان في بعض الأحيان" ويستشهد بقول سبينوزا: "إن رغبة كل الأشياء تتمثل في الاستمرار على حالها فالحجارة تريد أن تظل حجارة والنمر نمراً، أما أنا فكنت أريد أن أصبح هيرمان سوريل ثانية".
كل هذه الأسباب دفعت بـ (سوريل) إلى التخلص من ذاكرة شكسبير مختاراً أسهل الطرق فقد اتصل برقم هاتفي على نحو اعتباطي، وعندما أجاب الرجل،
سأله سوريل: "أتريد ذاكرة شكسبير. فكر ملياً أنه عرض جاد وفي وسعي إثبات ذلك ".
فرّد صوت غير مصدق
ـ سأقبل المجازفة، سأقبل ذاكرة شكسبير".
ويحاول (سوريل) التخلص من أثار الذاكرة الشكسبيرية والتطهر منها ومحوها إلى الأبد بدراسة مثيولوجية وليم بليك، بيد أنه وجد الحل الأنفع، في نهاية المطاف الموسيقى الفخمة باخ.

خاتم سليمان والاشتغال على الشرقيات

لقد تأثر بورخس في أغلب قصصه بعوالم الشرق وسحره، يدل هذا على تولّه بسحر الشرق، كما يدلُ على قراءاته الموسوعية والثقافية لا سيما الأدب العربي، وحكاياته السحرية؛ وقد عملت هذه الحكايات كما هو معروف على تصعيد الخيال الغربي وتأجيجه عبر القرون المختلفة، وتفجير صورة خيالية عن الشرق غير موجودة إلاّ في عقول الغربيين؛ لقد وظف بورخس حكاية الشحاذ وكما رواها الرائد (باركلي) في حوار دار بينه وبين (ثورب) و(سوريل) عندما كان في البنجاب، وقد شاهد شحاذاً يمتلك خاتم سليمان، وقد عجز عن بيعه، لأن قيمة الخاتم كانت (تفوق كل تصور، وهو ما جعل الشحاذ عاجزاً عن بيعه، وتوفي في فناء مسجد فضل خان في لاهور) ؛ وقد اختلفت الآراء في مكان هذا الخاتم قيل أنّه ضاع شأنه في ذلك شأن كل قطعة سحرية، أو ربما خبئ في مكان سري في المسجد، أو في أصبع شخص ما؛ وبعد أن انتهى الحديث، وغادر باركلي مودعهما، اقترح ثورب على الراوي أن يكملا الحديث في غرفته، وإذا به يقول:
" ـ أتريد أن تحصل على خاتم سليمان، أنني أمنحك إياه هذه استعارة بطبيعة الحال، إلاّ أن الاستعارة تمثل كل شيء مدهش كذلك الخاتم ذاكرة شكسبير منذ صباه وحتى بواكير شهر نيسان/ أبريل 1616 أمنحك إياه"؛ تعد هذه الحكاية الخيط الرابط بين الفنطازيا والسحرية، ويعرف روجي كايو (السحري): بأنه عالم عجائبي يضاف إلى عالم الحقيقة دون مسه في شيء ودون تدمير التماسك، بينما يجيء الفنطازي على عكس ذلك كما وضحنا ذلك.
وأخيراً لابد من القول أن بعض مكونات النص الفنطازي هي نفسها مكونات الحكاية السحرية وهذا ما أدى بها إلى أن تساهم في تطعيم الفنطازي، وتمده بمواضيع تم تجديدها وتلميعها على ضوء الراهن ومعطياته
وقد ظل هذا التطعيم متفاوتاً ومتغيراً داخل الأجناس الأدبية.
 


في لقاء مع الفنان يوسف العاني: ملتقى الشارقة الثالث للمسرح العربي الافضل والانبل في لغة المسرح العربي

 

عبد العليم البناء
 

في يومي العشرين والحادي والعشرين من شهر كانون الأول المنصرم عقدت دائرة الثقافة والاعلام بحكومة الشارقة (ملتقى الشارقة الثالث للمسرح العربي) تحت عنوان (اللغة في المسرح - حلقة بحث عربية) وقد اقيم هذا الملتقى الذي دعا الى اقامته حاكم الشارقة الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي في قصر الثقافة بمشاركة كوكبة من رموز مسرحنا العربي من مشرقه الى مغربه ليدلوا بدلوهم في موضوع اللغة في المسرح والذي يشكل قضية مهمة وجوهرية في مسار المسرح العربي..
وكان من ضمن المدعوين لهذا الملتقى والمشاركين فيه بفاعلية الفنان القدير الاستاذ يوسف العاني الذي كان لنا معه هذا اللقاء لتسليط الضوء على هذا الملتقى الفكري النوعي في اطاره المسرحي الذي يعد احد ابرز وجوه الابداع الثقافي والفني عربياً وعالمياً..
يقول العاني مستعرضاً محاور الملتقى: تفرعت من موضوعة البحث (اللغة في المسرح) خمسة محاور اولها (اللغة في المسرح- مستويات التعبير اللغوي) وتحدث فيه كل من : أمنة الربيع من سلطنة عمان وغنام غنام من الاردن والثاني (الفصحى والعامية في المسرح العربي - شقاق ام وفاق) وتحدثت فيه انا ممثلاً عن العراق وعبد الحق الزروالي من المغرب والدكتور جان داود من لبنان اما المحور الثالث فتناول (العاميات واللهجات في التجربة المسرحية العربية) وتحدث فيه وليد اخلاصي من سوريا وهاشم صديق من السودان ومحمد المديوني من تونس في حين تناول المحور الرابع (تأثير الفضائيات على لغة المسرح) وتحدث فيه فاروق عبد القادر من مصر وعبده وازن من لبنان ويوسف الحمدان من البحرين اما المحور الخامس والاخير فكان عن (العولمة واللغة في المسرح الخليجي) تحدث فيه الدكتور محمد مبارك بلال من الكويت وعمر غباش من الإمارات.. وقد ادار جلسات الملتقى التي انعقدت على مدى يومين متصلين كل من عبد المحسن الشمري من الكويت والدكتور حبيب غلوم واحمد الجسمي من الإمارات.
* وماذا عن المناقشات والمداخلات على المتحدثين الأساسيين وطبيعة المشاركين من غير هؤلاء المتحدثين..؟
- شاركت في مناقشات الملتقى وتداخلت مع المتحدثين الأساسيين ثلة من مبدعي المسرح العربي بينهم: فؤاد الشطي وعبد العزيز الحداد من الكويت وحاتم السيد من الاردن والدكتور جلال جميل والدكتور جبار خماط حسن والدكتور حسين علي هارف والدكتور عوني كرومي من العراق وطالب البلوشي من عمان وغانم السليطي من قطر وفتحي الهراوي من تونس..
كما ساهمت في الملتقى مجموعة من الفنانين المحليين والفنانين العرب المقيمين في دولة الإمارات العربية المتحدة.
* وهل شهد الملتقى فعاليات مصاحبة خارج حلقة البحث؟
- صاحب الملتقى عرضان مسرحيان عرضاً في اليوم الأول والثاني هما مسرحية (التراب الاحمر) لفرقة المسرح الحديث بالشارقة وهي من تأليف مرعي العليان ومن اخراج حسن رجب ومسرحية (كدت أراه) تأليف وتمثيل الفنان المغربي عبد الحق الزروالي.. كما صاحبت الملتقى توقيعات على مجموعة من اصدارات دائرة الثقافة والاعلام لكتاب مسرحيين شاركوا في الملتقى.. كما التقى المشاركون بحاكم الشارقة الشيخ القاسمي ليؤكدوا ان هذا الملتقى يمثل ويشكل تفعيلاً للساحة المسرحية العربية ورفدها بالمزيد من الابداعات والانجازات وبكل ما من شأنه ان يعزز مسيرة المسرح العربي ويعلي مكانته ..
* وما هي التوصيات التي خرج بها الملتقى..؟
- شكلت لجنة لاعداد التوصيات والوثيقة الختامية برئاسة وليد اخلاصي وعضوية محمد مبارك بلال وجان داوود ومحمد الميدوني وغنام غنام ومحمد عبد الله آل علي وخرجت بعدة توصيات تمخضت عن الملتقى وتمثلت بالدعوة الى دعم الجهود الساعية الى اعطاء اللغة العربية الفصحى الأهمية اللائقة بها في الابداع المسرحي عبر تشجيع الكتاب والمخرجين عن طريق الجوائز التحفيزية.. وتعزيز استخدام العربية الدارجة ذات البعد الجمالي والحاملة خصوصيات الشعب وثقافته.. ودعوة المؤسسات الثقافية في الوطن العربي الى تكثيف الملتقيات التطبيقية والعملية في مجال تدريب الفنانين - كتاباً ومخرجين وممثلين- بغية تطوير مهاراتهم في مجالات اللغة المسرحية - فصيحة كانت ام دارجة-... ودعم الجهود الرامية الى انجاز قاموس مرجعي للمصطلحات المسرحية النقدية والثقافية والفنية باللغة العربية.. وضرورة اعتبار المسرح مادة أساسية من مواد التكوين في مناهج التدريس في مختلف مراحل التعليم .. وتثبيت ملتقى الشارقة للمسرح العربي كتظاهرة بحثية تعمل على رفد الحياة العربية بالانجازات والدراسات والانجازات المسرحية..
* وماذا عن موضوع الدورة الرابعة المقبلة من الملتقى؟
- عند لقاء الدكتور القاسمي حاكم الشارقة بالمشاركين في هذا الملتقى دعا الى ضرورة تغيير الصورة المطبوعة في ذهن الآخر عن العرب وذلك من خلال مسرح عربي يعي دوره ورسالته ويعمل على اعلاء كلمة العرب ورفع لوائهم في المحافل الفكرية والثقافية الدولية وبناء على ذلك قرر المشاركون ان يكون موضوع الملتقى المقبل تحت عنوان (المسرح العربي والاخر)..
* واخيراً.. هل من كلمة بخصوص البحث الذي قدمتموه في الملتقى ؟
- لكي اكون أكثر دقة وامانة وصدقاً ومن خلال مشاركتي في محور (الفصحى والعامية في المسرح العربي.. شقاق ام وفاق) آثرت- وربما كان ذلك نوعاً من انانية مبررة- ان اقدم تجربتي في مجال الكتابة للمسرح في العراق.. فقد كتبت منذ الخمسينيات حتى اليوم (42) مسرحية.. ومارست المسرح زمناً حتى بلغت من الكبر عتياً لكنني مازلت في الدرب أجرب احياناً واعود الى الاصل حيناً آخر.. كاتباً وناقداً . وممثلاً .. وأشياء أخرى .. وأظن ان ذلك- إذا ما أشرت الى بعض حالات لكتاب اخرين - يكون خير تعريف بالموضوع الذي نحن بصدده..
وخلصت الى ان مسرحنا العربي لا يحمل (العامية أو الفصحى) العائق أو المانع الوحيد في تطوره وشيوعه.. بل هناك أسباب كثيرة اخرى جديرة بأكثر من ملتقى وملتقى لكن ذلك لا يمنع اطلاقاً من ان نلتقي عسانا نبتعد من حيث المبدأ عن الانجرار الى التمسك بالعامية المسرفة في عاميتها واتخاذها وسيلة رئيسة في كسب الحشد الجماهيري ليضحك الى الحد الذي يتحول الضحك على من يمثل الشخصية وليس على الحدث او الفعل أو الشخصية الممثلة ان كانت تستاهل الضحك عليها..
وهذا ما شاع اليوم في العديد من المسارح العربية وكان للعراق نصيب منه حين شاع ما يسمى بالمسرح التجاري.. وهو بالاصل مسرح يحمل كل رداءات العرض المسرحي من ابتذال وسطحية وإفساد.. وهذا ما يجب علينا ان نقف منه بالضد .. وان نقدم البديل حيث الفكرة العالية والحوار المحرك لأنبل القيم وأعلاها .. وما هذا الملتقى إلا مفتاح من اجل الدخول الى الأفضل والأنبل والأنفع..

 


تــــــــأمــــــــــــــــــلات
 

رسميه محيبس زاير


لم اعد اصطفي من سمائي
سوى نجمة
كنت اروي لها أرقي
فجأة
سقطت
في إناء الصباح
لم اعد اقلب أوراق قلبي
فالربيع مر في سرعة
دون ان اتبينه
أو احس به
وردة في الضباب
كم احب الشتاء
كلما أمطرت
تتجدد آصرتي بالسماء
ندمت لأني
كتبت على الماء اسمي
ولم تقرأ اليابسة
ورحت اعللهُ
بانقلاب الفصول
أو زحمة الدرب
أو غربة الورد في الغاب
ا وقلق الروح
عند الغروب
دوماً يغزوني البحر
ولا يترك
غير الملح على شفتي
ها انا امسك خارطة وأمزقها
أمحو مدنا
أقيم جسوراً
اشطب عش الطير
اهوي بالصوت على صنم الصمت
اصرخ
وأكون صدى صوتي
أشعل نيرانا
إلا أني لا احصد غير رماد
ارسم خمس حمامات
واحدة بيضاء
الطخ بالأحمر جنحيها
واحدة في رقبتها حبل من
أخرى معتمة كالقهوة
الأخرى تمحوها الغيمة
واحدة سقطت بين يدي
تئن
فكيف سأشطبها؟!
 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة