المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

مقاهي بغداد الأدبية

جمع وإعداد: المدى الثقافي
منذ ان ظهرت أول مرة في عهد الولاة العثمانيين ضمن سياق عفوي ووظيفة لا تكاد تتعدى اللهو والمتعة وقراءة الصحف، حتى تتطور الى الوظائف الأدبية والفنية والسياسية.
لا شك في ان الأسباب السياسية كانت الوظيفة الأبرز للمقاهي، بوصفها منتدى تجمع المثقفين من شعراء وأدباء وفنانين وسياسيين، جنباً الى جنب مع ما كان يؤديه الخطباء من دور في إثارة حماس الناس في المساجد والجوامع في السر والعلانية، فضلاً عن دور المجالس الأدبية.
وتبقى لشارع الرشيد الذي افتتح في عهد الوالي العثماني خليل باشا عام 1916 حصة الأسد من هذه المقاهي الأدبية الشهيرة، إذ قامت على جانبيه كل من مقاهي: “الشابندر” و”الزهاوي” و”حسن عجمي” و”البرلمان” و”البلدية” والمقهى الفني “أم كلثوم”.
المقهى حيزاً سياسياً
كان شارع الرشيد ومقاهي منطقة (الحيدرخانة) تحديداً، البؤرة التي تنطلق منها تجمعات المثقفين والسياسيين ومظاهراتهم المعارضة.
ولعل من أبرز الشخصيات الثقافية التي غذت الحماس الوطني وألهبته مع بدء ثورة العشرين في 30 حزيران 1920 الشاعر والخطيب المعروف محمد مهدي البصير.
وفي الثلاثينيات شهد شارع الحيدرخانة نفسه ومقهى “عارف آغا” عدداً من الاحتفالات التي كان يحييها الشاعر معروف الرصافي، لتتحول الى مظاهرات تخرج من المقهى لتنضم الى الحشود، يشترك فيها عدد من أبرز الوجوه الوطنية والثقافية في العراق.
وشبيه بهذه الاحتفالات ما كان يقوم به شاعر العراق محمد مهدي الجواهري وهو خارج من “مقهى حسن عجمي” او مقهى “البرلمان”، ليلقي قصائده العصماء التي تجر وراءها مظاهرات تبدأ ولا تنتهي.
إن هذه المقاهي هي نفسها التي شهدت انطلاقة التظاهرة الكبيرة منها عام 1948 التي اسقطت حكومة صالح جبر، ملغية المعاهدة البغيضة المعروفة بمعاهدة “جبر بيفن” المبرمة بين العراق وبريطانيا.
كانت المقاهي العراقية إذاً ملتقى المثقفين، فعلى تخوتها تبادل هؤلاء وجهات النظر حول الأعمال الأدبية والفنية وخططوا لمشاريع إبداعية وجماعات فنية، ومن بين جدرانها خرجت المحاولات الأولى لتطوير القصيدة العربية والبيانات الشعرية والجماعات التشكيلية ومعارض الرسم، لتحتضن الارهاصات الأولى للتحول النوعي في الأدب والفن والمنجزات الريادية التي أبرزت الأسماء التي عرفت بعطائها في فضاء الثقافة العربية. وقد كان من الطبيعي ان يدعم الجدل الثقافي الخلاق في فضاء المقاهي الحركة الثقافية والفكرية العراقية، في ظل غياب المؤسسات الثقافية والاتحادات الأدبية وأن يترك أصداءه الواضحة فيها، بل يقف وراء قيادتها وتحديد مساراتها.
مقهى الزهاوي شعراء ومعارك شهيرة
يقع مقهى الزهاوي في شارع الرشيد بالقرب من رأس جسر الشهداء الذي يربط بين جانبي بغداد (الكرخ والرصافة).
كان مقهى الزهاوي ملتقى لنخبة ثقافية من وجوه المجتمع وأدبائه، منهم الشاعر والفيلسوف المعروف جميل صدقي الزهاوي والشاعر معروف الرصافي وشاعر العراق الكبير محمد مهدي الجواهري وعالم الاجتماع الشهير علي الوردي.
وشهد مقهى الزهاوي سلسلة المقالات التي كتبها الزهاوي في نقد شعر عباس محمود العقاد وتناقلتها الصحافة العراقية والمصرية تحت عنوان المعارك الأدبية في الثلاثينيات. كما شهد المقهى حلقات السجال والمناقشة الطريفة التي انعقدت بين الشاعرين الزهاوي والرصافي وشغلت الناس بأجوائها، وانقسم جمهور المقهى حول الشاعرين، يتحمس كل منهما لشاعر دون الآخر.
لكن الرصافي لم يلبث ان ترك هذا المقهى، منتقلاً الى مقهى “عارف آغا” الذي صار مقراً جديداً له، هو ومريديه الذين أحاطوا به. ولم يبق الأمر على هذا النحو، إذ جرت بعد سنوات مصالحة بين الشاعرين بحضور أعداد غفيرة من الأدباء والمثقفين والسياسيين.
وثمة من ذهب الى ان بدء الحياة الأدبية للسياب ونشره قصائده أول مرة في جريدة الاتحاد كان منطلقه من مقهى الزهاوي.
حسن عجمي ذاكرة العراق الأدبية
يعد مقهى حسن عجمي من أكثر المقاهي شهرة وعراقة، فقد حافظ على حضوره واستمراره عقوداً طويلة، وارتبط بشارع الرشيد الشهير، وتردد عليه معظم الأدباء والمثقفين، فضلاً عن موسري المجتمع ووجهائه. لقد وجد فيه وجوه البلد في الثلاثينيات مكاناً مناسباً، إذ كانت خدماته في غاية التنظيم والجمال، وكانت أرضيته مفروشة بالسجاد الكاشاني.
ومن الرواد الذين ارتبط المقهى بهم الشاعر محمد مهدي الجواهري الذي كان يجلس فيه قبيل القائه قصائده الوطنية المحرضة، فحين ألقى قصيدته الشهيرة “أخي جعفر”:
أتعلم أم أنت لا تعلم
بأن جراح الضحايا فم
اندفعت الجماهير في سيل عارم مأخوذة بسحر القصيدة وبلاغتها وتأثيرها من جامع الحيدرخانة لتطوف في شارع الرشيد غاضبة منددة بالاحتلال.
وفي الأربعينيات والخمسينيات توافد على هذا المقهى الى جانب الجواهري كمال الجبوري والسياب والبياتي وعبدالأمير الحصيري وسواهم من وجوه الفكر والأدب والإبداع، يتداولون الرأي ويعقدون حوارات في مختلف شؤون الفكر والثقافة.
ولم يتوقف هذا المقهى عن استقطاب الأجيال الأدبية التالية كجيل الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، تلك الأجيال التي شهدت حراكاً ثقافياً أوسع وتطويراً لآفاق التجربة الإبداعية وتوليداً للاتجاهات والرؤى والمفاهيم الجديدة. كما شهد المقهى ازدياد زخم حضور المثقفين من هذه الأجيال، إذ كانوا يتوافدون في المراحل الأخيرة عليه في كل جمعة، مناقشين ما ينشر في الصحف والمجلات وما يتلقفونه من إصدارات إبداعية في مصر ولبنان او ما يتخلق بينهم من تجارب ومشروعات.
لم يكن مقهى “حسن عجمي” محطة عابرة في حياة الأدباء العراقيين، بل كان منتدى مواراً ومسرحاً حقيقياً لذلك الحوار الفاعل والخصب بين المبدعين، فهو المحطة قبل الأخيرة التي وجدوا فيها ملاذهم.
مقهى الواق واق.. حداثة ووقت ضائع
يرجع تأسيس هذا المقهى الذي يقع في منطقة الأعظمية، قرب ساحة عنتر، الى عام 1946 بعد أن أسهم في تمويله عدد من الفنانين، منهم جواد سليم ونزار سليم وآخرون.
ومن الوجوه الثقافية والإبداعية التي ارتبطت بهذا المقهى الشاعر بلند الحيدري والشاعر حسين مردان والقاص والروائي فؤاد التكرلي وشقيقه المترجم نهاد التكرلي والفنان جميل حمودي والقاص عدنان رؤوف وابراهيم اليتيم وأكرم الوتري.
جاء ظهور هذا المقهى عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية وبدء تجليات نهضة جديدة تتطلع للمعطيات الثقافية الغربية ممثلة آنذاك في تياراتها الوجودية والدادائية والسريالية والأسماء الإبداعية المثيرة، ولعل من أبرز ما عرف به أدباء هذا المقهى اطلاقهم على أنفسهم تسمية “جماعة الوقت الضائع” وإصدارهم صحيفة باسم “الوقت الضائع” التي عبرت عن رؤيتهم الفنية وشكلت تيارهم الأدبي في المشهد الثقافي العراقي آنذاك.
استطاعت هذه الجماعة إصدار عدد من الأعمال الأدبية في الشعر والقصة، من أبرزها مجموعة “خفقة الطين” للشاعر بلند الحيدري والمجموعة القصصية “الفئران” لنزار سليم.
لقد كان مؤملاً لهذه الجماعة ان تحدث تجديداً في الأدب والفن العراقيين وأن تقدم ثقافة جديدة ورؤية مغايرة لولا متابعة سلطات الأمن لهم واخضاعهم للمراقبة المستمرة لما رأوه فيهم من انتظام في التردد على المقهى وانتقالهم الى عدد من المقاهي الأخرى في اليوم الواحد، من مقهاهم الى مقهى “النعمان” ثم “الدفاع” فـ“السويسري” و”البرازيلية” فمقاهي الرشيد وشارع أبي نواس، مما خلق نوعاً من الريبة بهم، انتهى بإغلاق صحيفتهم.
مقهى البرازيلية.. نمط الحياة الأرستقراطية وانطلاق الحركة التشكيلية
إذا كانت المقاهي الأدبية في بغداد اتسمت بطابعها الشعبي، سواء في طريقة تأثيثها وشكل تخوتها وطبيعة خدماتها او فيما تشهده من ارتفاع أصوات باعة الصحف واللب او صابغي الأحذية، فإن ما يميز هذا المقهى ويجعله متفرداً بين تلك المقاهي هو طابعه الارستقراطي، بدءاً باستبداله القهوة او النسكافيه بالحليب، بما تقدمه المقاهي الأخرى من الشاي، مروراً بالزي الموحد لنُدله ومستوى خدمته وارتفاع أسعار طلباته، وانتهاء بشكل أثاثه ومحتوياته، مما جعله مقهى ذا دلالة طبقية لا تتماشى ومزاج المثقفين والأدباء العراقيين كلهم.
شهد المقهى المرحلة الذهبية من تاريخه مع جيل الخمسينيات الذي قدم أعماله الإبداعية وكرس أسماء أبرز الرواد في الشعر والقصة والرواية والفن التشكيلي، تلك الأسماء التي سيصبح لها شأنها في الحياة الثقافية العراقية فيما بعد.
يذكر ان هذا المقهى كان مسرحاً لبدء مسار الحركة التشكيلية ونهضتها في العراق على أيدي الفنان الكبير جواد سليم وجماعته.
ومن أشهر رواد هذا المقهى والمترددين عليه الشاعر العراقي بلند الحيدري وفؤاد التكرلي ونهاد التكرلي وعبدالوهاب البياتي وغائب طعمة فرمان والقاص عبدالملك نوري الى جانب الفنانين جواد سليم وفائق حسن.
مقهى ياسين وشعر 69
يقع مقهى ياسين في شارع أبي نواس، وهو مقهى واسع، يتكون من قسمين: صيفي وشتوي، يفصل بينهما حاجز زجاجي.
شهد المقهى تردد مثقفي الخمسينيات عليه، من شعراء وكتّاب ورسامين، يعقدون مناقشات عن الفن والشعر وشؤونهما، حتى قال عنه الفنان شاكر حسن آل سعيد انه كان مختبراً هائلاً للتنظير في الفن في منتصف الخمسينيات.
لكن الفاعلية الثقافية لهذا المقهى والحراك الفكري الذي شهدته جنباته، تجليا أكثر ما تجليا مع بروز جيل الستينيات وظهور نتاجاته وتركه بصماته على المشهد الثقافي العراقي.
ففي هذا المقهى تبلورت مثلاً فكرة اصدار المجلة الشعرية “شعر 69” ونوقشت تفاصيل إصدارها وتنفيذها، وفيه أيضاً ولد البيان الشعري الشهير لهذا الجيل، الذي كتبه الشاعر فاضل العزاوي ووقع عليه كل من سامي مهدي وخالد علي مصطفى وفوزي كريم، وتداولوا حول الأصداء التي يمكن ان يخلفها صدور البيان وكيفية الرد على منتقديه.
مقهى البلدية.. أدباء المحافظات وضرورات ستينية
يقع هذا المقهى في باب المعظم، مقابل وزارة الدفاع ببغداد، إذ شكل في حينها مركزاً من مراكز استقطاب الوجوه الأدبية والثقافية، الخمسينية والستينية، أمثال: الشاعر بدر شاكر السياب وبلند الحيدري وعبدالرزاق عبدالواحد والحصيري وخالد يوسف وسامي مهدي وحميد سعيد وجماعة كركوك وسواهم، ما جعله مظهراً من مظاهر خصوبة حركة الأدب وضرورة من الضرورات الثقافية، فقد شهد هذا المقهى لا سيما في مرحلة الستينيات وفود أدباء المحافظات الى بغداد للدرس والإقامة، ومناقشات في الشعر ومشكلاته وقضاياه، والتجديد وملابساته وما ينشر من نتاج في الكتب والصحف والمجلات، الى جانب كون المقهى مكاناً لخروج الأفكار والاتجاهات الجديدة، وتسلم المحررين موادهم واشتغالهم عليها أحياناً.
ويذكر ان الشاعر عبدالأمير الحصيري كان المركز الذي تلتئم حوله أغلب جلسات المقهى مع أصفيائه وزملائه الستينيين.
مقهى البرلمان.. تبلور الجيل السبعيني
يمثل هذا المقهى واحداً من مقاهي شارع الرشيد، إذ يقع قبالة جامع الحيدرخانة، وهو المقهى الذي كان الجواهري يتخذه مكاناً للجلوس، وللخروج منه لإلقاء قصائده الحماسية.
ويعد مقهى البرلمان المقهى الذي شهد تبلور الشخصية الأدبية لجيل الستينيات، الذي شهد حركة دائبة من الأدباء الذين توافدوا عليه من بغداد ومحافظات القطر، لتبادل النتاج وايصاله الى الصحف، ولمناقشة هموم الجيل والظواهر الثقافية والحراك الخصب آنذاك.
ثمة أمران تميز بهما هذا المقهى، أولهما: اتخاذه تقليداً اسبوعياً لالتئام الأدباء والفنانين فيه في عطلة الجمعة من كل اسبوع، ولاسهام جيل السبعينيات فيه وحضور صوته الذي بدأ بمنازعة أدباء الستينيات وتجلي مناظراتهم فيه.
مقهى المعقّدين.. وجودية وخروج على السائد
يقع هذا المقهى في بداية شارع السعدون، فقد ظهر في نهاية الستينيات، وكان يضم مجموعة من الأدباء المتمردين على السائد في المشهد الثقافي، المتطلعين الى الاتجاهات الحديثة في الأدب العالمي كالمسرح الفقير والمسرح الأسود والتغريب، فضلاً عما شهدته مناقشاتهم في العبث والوجود والعدم والالتزام، جعلت منهم جيلاً وجودياً نهلستياً خارجاً على الذائقة التقليدية لعموم الأدباء، وهو ما كان وراء سلوكهم الانطوائي وتحفظهم ازاء المجموعات الأدبية الأخرى واطلاق تسمية المعقدين عليهم.
ولعل من أبرز أدباء هذه المجموعة الشاعر عبد الرحمن طهمازي وشريف الربيعي وأنور الغساني وقتيبة عبد الله والرسام إبراهيم زاير.
مقهى الشابندر.. آخر الملاذات
يرجع تأسيس هذا المقهى الى عام 1917 فقد استقبل منذ العشرينيات والثلاثينيات الصحافيين والأدباء والمحامين والباحثين ووجوه المجتمع. ومن رواده حسين جليل وزير العدلية في العهد الملكي والباحث والمحامي المعروف عباس العزاوي.
وفي فترة السنوات الثلاث الأخيرة احتضن المقهى جمهور المثقفين من أدباء وفنانين وصحافيين من مختلف الأجيال، بعد ان هجروا مقهى حسن عجمي، هجرة احتجاجية جماعية، وصار ملتقى لتجمعهم في يوم الجمعة من كل اسبوع، ومسرحاً لمناقشاتهم وحواراتهم المتصلة، لينطلقوا منه فيما بعد الى سوق بيع الكتب “سوق السراي” حيث يقع المقهى.


فــي غـالـيري بـغداد .. الشخصية العراقية.. بين التاريخ وعلم النفس

متابعة / جلال حسن
أقام المركز الثقافي العربي السويسري ظهر يوم الخميس 23/12/2005 ندوة فكرية بعنوان "الشخصية العراقية.. بين التاريخ وعلم النفس" ألقاها الأستاذ الباحث "جمعة عبد الله مطلك" بحضور عدد كبير من المثقفين والأدباء، وافتتح الندوة الشاعر عادل عبد الله مدير المركز بمقدمة قال فيها:
تفرق الفلسفات الوجودية بين مفهومين رئيسين هما "الوجود الإنساني" و"الوجود العام" ويفرق "هايدجر" على وجه التحديد بين الوجود والموجود، فالوجود وعي الإنسان لذاته بوصفه مجموعة أناس، بمعنى وعي الواقع الإنساني كما ينعكس في الذات الإنسانية، لأن هناك صراعاً دائماً بين الوجود والموجود، هناك غلبة دائمة للموجود على الوجود تتمثل بالنسيان واليومي والتكنلوجيا والاستهلاك، وسحب كل ما هو أصيل من الواقع الإنساني إلى واقع المادة، إلى واقع خارج الكينونة الإنسانية. وتبقى مهمة الإنسان الحقيقي في كل زمن هي إعادة الإنسان إلى حظيرة الوجود والواقع الإنساني بعد استلابه من قبل الواقع اليومي. وإن الواقع العراقي أسرف في التغريب عن وعيه الإنساني، واستهلكنا الموجود فانسلخنا من وعينا ومن واقعنا لمصلحة المال، والسياسية الفارغة والتكنولوجيا الوافدة والطارئة والتي لم نحضر لها تاريخياً.
إذن مهمة المثقف العراقي الآن إعادة الإنسان العراقي إلى حظيرة الوعي الوجودي الذي يحث الواقع ويتفاعل معه لمعرفة ماذا يحصل الآن! ويبدو أن المحاضر احتال بعنوان محاضرته على مفهوم آخر هو الثقافة، لأن الشخصية العراقية ليست سوى عصارة وخلاصة ثقافة المكان وزمانه، الشخصية العراقية تعني الثقافة العراقية، لذلك أمعن المحاضر في اختيار عنوانه بدقة متناهية، فسمى مكونين أساسيين لهذه الشخصية هما التاريخ بدلالاته الموضوعية، والذات بدائرة علم النفس.
وبعد هذه التوطئة تحدث الباحث "جمعة عبد الله مطلك" قائلاً: عندما تجد أي أمة نفسها بين تاريخ أصبح عبئاً عليها وحاضر مهلك ضعيف لا ينتمي إليها، ومستقبل يتعثر دخوله، عندئذ تثار قضية الهوية، خصوصاً في التحولات الكبرى التي تشهدها الحضارات والشعوب على مدار التاريخ المكتوب وفي أعقاب تحولات مصيرية ومغادرة واقع ثقيل على جميع القوى الاجتماعية والسياسية، هذا الواقع يفرض على "الصفوة" الإمساك بلحظة التغيير، والإمساك بفاصلة العبور، لأن الشخصية جزء من مفهوم الهوية وجزء من نظرة النخبة إلى الذات في سؤال من نحن؟
الآن يثار هذا السؤال بعمق ليس بحثياً خالصاً وإنما بعمق أخلاقي تفرضه ضروريات المرحلة التي تحتاج إلى تأصيل نظري بمفهوم الشخصية والذي يتوزع على مجالات المعرفة المختلفة من الانثروبولوجي وعلم النفس والسياسة والاقتصاد كمؤشر من مؤشرات التقدم والرقي بعيداً عن التحيزات التي جردت هذا المفهوم من مفهومه الإنساني بامتلاك قواعد البحث العلمي كما تمتلكه بقية العلوم الإحصائية، لأن الإنسان موجود بالقوة ويتحول إلى وجود بالفعل بالمشاركة والإنتاج والفعل الروحي الذي يكسب شخصيته هذه السمات، ويبقى مفهوم الصيرورة الرابط بين وجوده بالقوة إلى وجوده بالفعل باستعمال الهندسة الاجتماعية في تسريع وتائر التطور في بنية المجتمع.
وتطرق الباحث إلى أن الشخصية العراقية تنتمي في منظومتها الإدراكية المعرفية إلى بداية الفتح العربي الإسلامي للعراق والفترة التي سبقت الإسلام والتي وصفها بالانقطاع الموحش الذي ليس له أصول في الأدب والتاريخ مشيراً إلى الحقب التاريخية وتحديداً الفترة العباسية التي شهدت انفتاحاً بحدود معقولة، وأكد على ثلاثية مهمة تحكمت بالشخصية العراقية وهي الاستبداد والفقر والتدين الشعبي إضافة إلى رفض الناس المشاركة السياسية بفعل خيانة النخبة لقضيتهم وعدم ربط المجال السياسي بالحضاري لذلك تولد التدين الشعبي وهو الغول الذي يبتلع يومياً كل مفاصل التطور، ومن نتائجه قتل كل الشخصيات المغدورة من الإمام علي وبنيه إلى جمال الدين الأفغاني إلى آخر إنسان يقتل يومياً، لأنه أصبح مؤسسة وأداة سهلة بيد أي حاكم أو جهة أخرى.
وتناول الباحث موضوع الصيرورة ودراستها بشكل صحيح كي لا تتحول إلى تحيزات وبالتالي إلى ركام لغوي بعيداً عن الأهداف الموضوعية، وقد أخذ ثلاثة نماذج للدراسة وهي الدكتور علي الوردي ومحمد جابر الأنصاري وحامد عمار، مشيراً إلى أن الدكتور الوردي لم ينظر إلى موضوع الصيرورة في تطور الشخصية وإنما نظر إليها من زاوية علم النفس المحض، لكن الذي تبنى الموضوع تلميذه النجيب محمد جابر الأنصاري بمفهوم أن الإنسان في البيئة العراقية يصدر عن قيمتين متناقضتين هما البداوة والحضارة ثم أوجد المجالات التي ترتكز فيهما هاتان النقطتان. مؤكداً على الحلول العبقرية للوردي في معالجة اللغة بالتقريب بين الفصحى واللهجة الدارجة وخلع الحجاب عن النساء والحل الحضاري من خلال التنشئة في كسر "البطريكية" وحل مشكلة الكبت الجنسي، لكنه لم يؤكد على مفهوم الصيرورة فوقع في مطب الأحادية. لكن الأنصاري تكلم عن الضدية والتقاطع بين المجال السياسي والحضاري بتحكم عن المدينة المحكومة التي تنتج الحضارة ولا تنتج السياسة بوجهة البداوة، والتريث الذي ينتج السياسة. هذه الضدية جعلت من البداوة والتريث حكاماً على الشخصية، ومنع ظهور طبقة متوسطة تحمل أعباء التطور والتعليم وتنتقل بالمجتمع بفارق زمني، لأن المدينة لم تعد حاضرة لصراع اجتماعي.
أما حامد عمار بقراءاته للشخصية المصرية فقد خرج بنموذج الشخصية "المنوالية" وتكلم عن "الفهلوي" وهو إنسان تجتمع فيه الحضارات الفرعونية التي هي امتداد للدولة المصرية التي (تمصر) الغزاة، تلك الشخصية التي تفتقد الضمير الداخلي بالأخلاق وهي نفسها شخصية "أبو زيد السروجي" في مقامات الحريري وخير مثال لها شخصية "الحرافيش" في ادب نجيب محفوظ، فشخصية الفهلوي والحرافيش والحواسم لا يهمها من أمر الأخلاق المدافع عنها سوى نظرة الناس إليها، وبالتالي يصبح مفهوم عدم الأخلاق يؤيد التدين الشعبي ويؤيد الفقر والاستبداد السياسي.
وتطرق الباحث إلى الاستفادة من عصر العولمة التي شوهها الإعلام وجعل منها كلمة كريهة جعلت من تحدي الشخصية العراقية تحدياً حقيقياً، الأمر الذي جعل كثيراً من العراقيين يضحون بأنفسهم في الانتخابات الأخيرة، بل جعلتهم يقارنون بين القوائم الانتخابية.
وأكد الباحث في نهاية الندوة بقوله: لا يمكن تصور أي حل دون مشاركة حقيقية لأن هذا العصر الذي نعيشه في فلسفته وجوهره وقيمه يعتمد على المشاركة الفعلية بالقضاء على الاستبداد السياسي والفقر وصولاً إلى المرحلة الأخطر بقتل التدين الشعبي لأنه ينتج الابتعاد عن الدين الحقيقي للطائفة والنص على الإنسان والتأويل على الحقيقة وكل هذه المناصات هي المنزلق الخطر الذي يؤدي إلى أمراض جديدة.
وبعد نهاية المحاضرة اشترك الكثير من الحاضرين بمناقشة الموضوع بوجهات نظر مختلفة ومؤيدة أضافت احتكاكاً فكرياً تسوده المحبة، فتحدث السيد ناظم السعود عن معاناة الشخصية العراقية في أشكالين أسهما كثيراً في المنحدر الإنساني والأخلاقي والعلمي والثقافي وهما الاستبداد السياسي الطويل الأمد معتقداً أن الشخصية العراقية تحملت ضيم السياسات الجائرة وتأثيرات المناخ القاسي والمتغير الذي ترك آثاره الواضحة على تبدل الطقس من جاف حار صيفاً إلى بادر ممطر شتاءً، إضافة إلى الكوارث الطبيعية، لذلك أن الشخصية العراقية مظلومة جغرافياً لأنها وقعت في منطقة غريبة جداً فيها الجبل والهور والسهل والمنحدر مع الحقب الدموية من انقلابات وثورات ومعارك ما زالت مستمرة حتى الآن.
وعقب الناقد جمال كريم بقوله: إن الشخصية العراقية لم تكن امتداداً للدولة العربية لأنها تنتمي أصلاً إلى الأمة العراقية، والصراعات التاريخية بدأت في الجزيرة العربية بقبائلها الأرستقراطية، لأن الاستبداد موجود في الجزيرة قبل العراق، والأمة العراقية تلاقحت مع حضارات كثيرة فنتجت الشخصية المزاجية، وكان هناك مثقفون عارضوا السلطة، وليست كل فئة المثقفين خائنة كما وصفها المحاضر طالما هناك تشخيص للمثقف النفعي الذي يكون تابعاً للسلطان.
وأضاف السيد ثائر القيسي ملاحظات مهمة بخصوص البعد التربوي في التنشئة الجديدة الذي هيمنت عليه سلطات جائرة حاولت بكل وسائلها تغييب الوعي الجمعي بزراعة أفكار عدوانية تخدم ميولها الظالم والذي ينعكس سلباً على بنية المجتمع وضرورة بناء مجتمع سليم يتجاوز أخطاء الماضي.


اختتام ملتقى السياب التأسيسي في البصرة  .. تعاون بين جامعة البصرة والاتحاد العام للأدباء والكتاب لإقامة مهرجان المربد القادم

 

عبد الحسين الغراوي
اختتمت في رحاب جامعة البصرة فعاليات ملتقى السياب التأسيسي الذي عقدته جامعة البصرة للفترة من 4-5 من الشهر الجاري - وقد اكد البيان الختامي الذي تلاه الدكتور القاص لؤي حمزه عباس - على ان السياب يمثل صوت التجديد والريادة الشعرية لاستلهام روح الابتكار والتجديد المتحققة. وابرز البيان الختامي دور الجامعة لاغناء الثقافة من خلال التعاون بين الجامعة والمجتمع والاحتفاء بالقاص الرائد الكبير محمود عبد الوهاب اعتزازاً بدوره الخلاق في تجديد القصة العراقية على مدى مسيرته الابداعية خلال نصف قرن من التواصل وهذا تقليد بدأته جامعة البصرة من خلال ملتقاها هذا لتكريم رموز الابداع في الثقافة العراقية. واثنى البيان بالشكر على جميع من ساهم في انجاح هذه التظاهرة وجاء في البيان :
- ان جامعة البصرة قد ارست تقليداً سنوياً يقام في الاسبوع الأول من كل عام لخلق تقاليد ثقافية جديدة وحضارية لتعكس الوجه المشرق لجامعة البصرة-وكان الملتقى الذي اقيمت فعالياته الشعرية والنقدية على قاعتي الدكتور الشهيد اسعد سليم في كلية الهندسة في موقع كليات كرمة علي والفرزدق في كلية الآداب في موقع كليات باب الزبير واطلق على دورته الأولى اسم (دور القاص الرائد محمود عبد الوهاب) حيث قام أ.د الناقد علي عباس علوان بتكريم القاص بلوح جامعة البصرة تقديراً واعتزاز بمنجزه الابداعي وكان ملتقى السياب نقطة تحول جديدة في مجال التنظيم والتنسيق حيث شملت فعالياته الشعر والمعارض التشكيلية ومعارض للكتاب اقامتها مؤسسة المدى للاعلام والثقافة والفنون ومديرية دار الكتب بالجامعة ومعرضاً للشاعر والفنان سبتي الهيتي عن مراحل حياة الشاعر السياب، كما تضمن قصائد من شعر السياب مغناة بصوت الدكتور ناصر هاشم رئيس قسم الموسيقى في كلية الفنون الجميلة بمصاحبة العود وعرضاً من مشهد مسرحي قدمته الفنانة القديرة ازادوهي صاموئيل وقدم الفنان القدير جواد الشكرجي قراءة شعرية مشاركة منه في هذا الملتقى الذي توزعت محاوره الابداعية على اشراك الفنون التشكيلية والموسيقية والمسرحية ولم يقتصر على الجلسات الشعرية أو الثقافية حيث قرأ (21) شاعراً من مختلف محافظات القطر قصائدهم كما اقيمت جلستان نقاشيتان شارك فيهما (14) باحثاً تخللتهما نقاشات حادة وجادة تناولت موضوعاتها- رؤية جديدة لاسطورة السياب والفعل الملموس، قراءة معاصرة في شعر السياب، والشعر العربي الحديث والاستثمار الاعلامي في شعر السياب، وشعرية اللحظة الحرجة، والتشخيصية في شعر البياتي والسياب والقصيدة السيابية المائية، وتأثير القيمة الثقافية إضافة الى محاور نقدية اخرى تناولت بعض أوجه الحداثة والقراءة البنيوية في شعر السياب. وأكد الناقد الدكتور علي عباس علوان في مداخلاته النقاشية على اننا ظلمنا الباحثين، كان لابد ان تقدم البحوث مقدماً ويقرأها المشاركون ثم تناقش لتكون الصورة أوضح. لان الباحث ليس من السهولة عليه ان يقدم بحثاً عن ابداع السياب ووجهات نظره حوله خلال دقائق بهدف الكشف عن الوجه الايجابي.. مشيراً الى ان عهد البنيوية والتفكيكية قد انتهى اننا الان وكما متبع في العالم في عصر ما بعد الحداثة لانه يطرح مفاهيم جديدة في الخارج لتعميق الوعي النقدي عند الشباب ودعا رئيس جامعة البصرة الى وجود اجيال نقدية في الدراسات الحديثة من خلال دراسة النص في اتجاهات جديدة.
وكان الملتقى قد افتتح فعالياته بحضور السيد محمد مصبح الوائلي محافظ البصرة ورئيس الجامعة وعمداء الكليات وبمشاركة مائة شخصية ثقافية وفنية مسرحية وموسيقية وتشكيلية مثلوا محافظات العراق .
وقد كرمت جامعة البصرة في ختام أعمال الملتقى أساتذة جامعة البصرة الاوائل والناقد فاضل ثامر والفنانة القديرة ازادوهي وجواد الشكرجي والنحات نداء كاظم والدكتور صالح اسماعيل عميد كلية الهندسة والمذيع احمد المظفر ومحمود عبد الوهاب والسيد محافظ البصرة الذي بدوره كرم المشاركين في ملتقى السياب. وكانت اللجنة الاعلامية في الملتقى قد اصدرت صحيفة باسم (الملتقى) لتغطية فعاليات هذه التظاهرة الثقافية الحضارية، وقد اكد اغلب الذين التقتهم المدى التي كان لها حضور كبير من خلال معرضها للكتاب أو لتغطية وقائع الملتقى من المشاركين باعجابهم بنجاح الملتقى وحسن التنظيم والضيافة التي عرفتها البصرة مدينة العطاء الابداع حيث اجمعوا على ان هذا الملتقى الناجح جداً يشكل اضاءة مشرقة وجديدة في الثقافة العراقية.


بمناسبة تكريم محمود عبد الوهاب .. أشياء لا تمحى اسم لن يزول

محمد خضير
روى محمود عبد الوهاب خبراً عن زميل له ألف المعتقلات، قال ان هذا الأليف دق مسماراً على حائط المعتقل وعلق عليه سترته، فكان هذا المسمار في انتظار سترة الأليف كلما عاد الى خان الشرطة حيناً بعد حين.
هذا المسمار لن يمحى من ذاكرة محمود ، ولا من ذاكرة جدران المعتقلات. أشياء لن تمحى من ذاكرة أصحاب المسامير: بقعة دم جافة على رصيف، صوت ام كلثوم في أقبية التعذيب، شحاذ غاف في باب مسجد، وجه الاخت الوحيدة في عيني محمود الغائمتين.
يقترع محمود على قائمة الانتخابات، فيرسم علامة المسمار في المربع الخالي، المسمار المعقوف مثل جسد اخته المسجى على سرير الغيب.
يكتب محمود صفحات من سيرته الذاتية، على ترتيب خاص بيقظة ذاكرته الحالمة، فيتذكر وجه أبيه أول من يتذكر وهو يصطحبه الى صالون الحلاقة، ثم وجه امه تابعاً إياها بفانوس وهي تلبي نداء حبلى تطلق في ليل المحلة. شعاع الشمس المتسلل الى مرآة الحلاق، وضوء الفانوس المفروش على ارض الزقاق، خيطان يشدان محموداً الى الاشياء التي لا تنسى، صفحتان في روزنامة السيرة الذاتية الناقصة لحياته الكاملة.
يضيف محمود ما ينقص حياته الى حياة شخصياته، فيؤلف من سيرهم المتفرقة سيرة موحدة لقصة يؤلفها عن نفسه، بل يستأنف هذه السيرة القصيرة برواية عنوانها (سيرة بحجم الكف) يحذف محمود ما ينبغي تفصيله في سيرة حياته، ويضيف الى شخصياته ما يفيض على مقادير سيرهم، ذلك لان قدرة محمود على الكتمان والاختصار هي أقوى من قدراته على الاباحة والتفصيل. هذا ديدنه، وتلك طباعه، يؤثر على نفسه ما يسفحه على الآخرين، فكأن قصصه المفصلة لحياة اصدقائه ترجمة لسيرته المختصرة بحجم الكف، وكأن اختزال قصصه الى أقصر الحدود تعبير عن رغبته المكبوتة في سرد التفاصيل. تعكس قصصه القصيرة طريقته المهذبة في ارتشاف كأس الحياة حتى الثمالة.
منذ نشر محمود عبد الوهاب قصته الأولى قبل خمسة وخمسين عاماً وحتى اليوم وهو يؤسس مجاله النوعي في الكتابة والحياة، حيث تبدو كل منهما امتداداً للاخرى، وهاجساً متصلاً يمنح التجربة محتوى جمالياً قادراً على إضاءة الحدث والارتقاء بالعارض من تفاصيله، وصولاً الى ما تحقق بين يديه عبر ثمار قليلة يانعة، يبدو ان بمقدورها ان تختصر دروباً، وتخلص طرائق وتقترح مياسم ومجالات، للوصول الى ما وراء الشاخص والعياني من تحققات الجمال، ولتكتمل بين يدي "العابر الاستثنائي" واحدة من منجزات السرد العراقي الحديث، وهو يخلع ما زاد من قمصان الكلمة مكتفياً بموجهات الشعور، مؤمناً ان بامكان جملة دقيقة نابضة ان تشع في غيابة المعنى ولجلجة السؤال، لتنجز قصته، بذلك، عبر مساحة نصية صغرى ذهابها الخاطف، أبداً الى الجوهر المخبوء من لحظاتنا، بما يقرب من ممكنات الشعر، ويؤسس لتجلياته روحاً ورؤيا في انشغالات نص محمود عبد الوهاب، فالقصة التي لاتنتهي تفتح دائرة، وتلامس افقاً وتشكل معنى في الذهاب الى البياض، فيكون الصمت كلاماً، والحذف امتلاءً، والتأجيل حضوراً تملك القصة فيه ان تقول ..
هل نتحدث، بذلك عن الشعر؟
وهل تكون لفواصل الابداع من ضرورة حينما ينجز النص مهمته متطلعاً لعالم في تجدد مستمر، ستأتي الاجابة عبر تعديل طفيف على جملة الراحل الكبير محمود البريكان وهو ينظر فيرى، وهو ينصت فيقول: "حين تحصى تركات التاريخ، وتتراكم انقاض الحضارات، يبتكر (المبدع) لغة جديدة لعالم يولد".
لايبدو من الغريب، ونحن نستمع لصوت محمود البريكان، ان نحتفي بمحمود عبد الوهاب، كاتب القصة المتفاني، في ملتقى الشاعر بدر شاكر السياب وقد اريد له ان يتشكل محفلاً للكلمة وهي تثمر افعالاً مورقة في مدينة الحلم والكلمات.
ولا يبدو غريباً ان تنصت لصوت السياب القادم من لحظة عراقية نتصورها اليوم بعيدة، ابعد من مؤداها الزمني، فنستمع لحضور كاتب القصة الذي لا يزال يجدد نظرته في سبيل التقاط جوهر التجربة..
إننا إذ نحتفي بالشاعر في حضور القاص، وبالقاص في رؤية الشاعر، نعلن إحتفاءً خالصاً بواحد من المعاني العميقة للحياة العراقية وهي تجدد، أبداً توقها للجمال، وتنشئ في كل آن، لحظتها الفارقة.
كلمة اللجنة الثقافية لملتقى السياب
ولايزال محمود يختصر ما يريد تفصيله، ويفصل ما يشاء اختصاره، في تأليف قصصه مثل الاسكاف الذي يقص الجلود ويلصقها ويخصفها مرتدياً قفازاً أبيض.
يعمل محمود في فضاء مشغل ضيق مدفون في بازار المؤلفين والقارئين المشغولين بتسويق نصوصهم والصياح على بضاعتهم والتدافع لزيادة رصيد كتبهم. لكن صانعاً مثل محمود يشتغل بؤسواس النهايات القصيرة، يحسب عدد الخطوات التي تفصله عن النص المأمول، يحبك نصه فيأتي سعاة النصوص بين المراحل الالفية ويحملونه مع رسائلهم المختومة الى ما لا يعلم صانع ولا بائع في بارازات الصناع المهرة. لا يراسل الصانع القابع في زاويته قارئاً يعرفه، ولا يأمل في خطوة نهائية تختتم عمله. فهو يعمل كما يعمل قصاص النهايات المفتوحة على مقايضة قصصه بدلالات عابرة وايحاءات ماكرة، محمولة على احترام العقد المبرم بينه وبين شخصياته المتوارية في الظل بكتمان أسمائها. وهنا يعمل محمود عبد الواهاب ببند ثمين من بنود كتابة القصة القصيرة، غير بند الايجاز والاقتصاد، هو بند الوصاية أو الوكالة عن ضحايا الحياة. تلقى الضربات والصفعات، وصنوف الهزء والسخرية، واعباء الشيخوخة والمرض، نيابة عن شخصياته، واغلبهم من الشيوخ والمرضى والعاجزين والقانطين، بصبر واناة وتفهم، فكان أميناً للروح الانساني الذي استدفأت بوهج حقيقته نصوص آباء القصة العراقية الاوائل.
يرتحل محمود عبد الوهاب في رؤاه السردية بعيداً عن واقع "الدهشة الأولى والحادثة الأولى والمشهد الأول" كما يقدم لمجموعته القصصية "رائحة الشتاء" . الا ان ذاكرته الامينة لاصولها تأبى إلا ان تعود الى دهشتها المرتحلة الى تلك المواقع التي جزأت سيرته الى بيوت وعتبات وثريات ووجوه ترتسم في مجرى حياته البطيء. ان رؤاه التي ترتقي في قطارها الصاعد الى اعلى تشرف على مشاهد لم تزل من تضاريس الأرض الأولى: جدار مثلوم في زقاق ترابي تقع في منعطفه غرفة طينية مهجورة اتخذت لغسل الموتى (الشباك والساحة) جسر خشبي متداع على نهر صغير امتلأ قاعه بالقناني الفارغة وأطر السيارات التالفة (رائحة الشتاء) مدفأة علق بها الغبار (رائحة الشتاء) ردهة مستشفى يزورها ثلاثة أشخاص: امرأة ورجلان أحدب وبدين يظلع في مشيته ( على جسدك ينشر الليل مظلته) كتاب وقدح شاي ومضربة ومنديل على طاولة في شرفة (طقس العاشق).
قدم محمود عبد الوهاب من الموقع الاساسي الذي شاده قصاصو العراق في نهاية الحرب العالمية الثانية وابطاله- سيرهم ووقوفهم وكبواتهم، ، ثيابهم وكلامهم وطعامهم ، بلاهتهم وسخريتهم وفطنتهم- فقد صعدوا قطاره من المحطات متفرقة على السكة الملتوية وسخريتهم وفطتنهم - فقد صعدوا قطاره من محطات متفرقة على السكة الملتوية في فيافي الأرض العراقية المترامية الاطراف. كيف لنا ان ننسى اجواء عربة (القطار الصاعد الى بغداد) ووجوه ركابها: الطالب البصري والمسافر البغدادي والقروية العمارتلية ! "آه ما أضيق هذا المكان، ما اتعس هؤلاء!" يفكر الطالب البصري. وعلى الجهة الاخرى من القطار المارق بركابه، يفكر ما اوسع هذه البلاد، ما اعجب هذه الوجوه!" لقد مضى الزمان سريعاً بهم وبنا وبالقصاص الذي هبط من قطاره. اننا نصادفه اليوم جالساً في مطعم الى جوار بطل قصة (الملاعق):
يتلوى بخار الحساء بين عينيه خيوطاً سائبة، يطرق لحظة كأنه يتأمل حياة كاملة سقطت في طبقه. أو اننا نتذكر المفتش الذي استخرج من ذاكرته صورة معلمة الأطفال التي ترتدي ثوب البازة نتذكر المفتش الذي استخرج من ذاكراته صورة معلمة الأطفال التي ترتدي ثوب البازة المشجر باكمامه الطويلة الضيقة المطرزة بالدانتيلا. أو انه ذلك (العابر الاستثنائي) الذي يعبر بتثاقل الشارع الى الرصيف الآخر، مطرقاً كأنه يحسب خطواته بانتظام، وكان شيئاً في داخله ينكسر، يجر اقدامه مثل حيوان جريح. أو نتخيله قارئاً فطيناً لكتاب (البخلاء) ينقب في زوايا حكاياته عن شخصية ينتسخ منها بطل قصته (رائحة الشتاء) سلمان ذا المسحة الغوغولية.
ما أفطن هذا المنتسخ، المتنكر في إهاب شخصياته، وما أكثر تحولاته في مجموعة قصصية واحدة، وسنفاجئه متحولاً الى نورس في نهاية قصة (عين الطائر) : يفرد جناحيه ويصفقهما محاولاًُ النهوض من الأرض، والاستدارة صوب النهر، مخترقاً فضاء المدينة ومابينها، مغادراً مكانه القصي، غائراً في الالتماعات الفضية الجميلة.
وداعاً أيها النورس المحلق، مرحباً أيها القصاص البارع، وأنت تعود من ارتحالك ولما تغادر مكانك قط.


مام جلال يتبرع لملتقى السياب التأسيسي
 

تبرع فخامة الاستاذ جلال الطلباني رئيس الجمهورية العراقية لاعمال ملتقى السياب الـتأسيسي الذي عقد في البصرة (4-5) كانون الثاني 2006 بمبلغ (11) الف دولار وذلك في مسعى حميد من فخامته للنهوض بالثقافة العراقية، ومما يذكر ان السيد رئيس الجمهورية سبق له ان دعم صندوق التنمية الثقافية الذي تشرف عليه مؤسسة (المدى) بمبلغ (30) الف دولار في اطار مساعدته العمل الثقافي العراقي الجاد.


مؤسسة المدى تؤكد حضورها الثقافي في ملتقى السياب التأسيسي


ان ما يؤكد أهمية ملتقى السياب التأسيسي وقدرته على لم الشمل الثقافي هو التفاف ودعم مختلف المؤسسات الثقافية والاعلامية العراقيةله، ومنها مؤسسة المدى للثقافة والفنون والاعلام متمثلة برئيس مجلس ادارتها الاستاذ فخري كريم في سعيه المتواصل من اجل تهيئة وتوفير الدعم المعنوي والمادي لانجاح الملتقى والارتقاء بانشطته، سيما وانها اقامت معرضاً خاصاً للكتاب على هامش الملتقى بخصم 50% وهو ما يعد مناسبة يلتقي فيها مثقفو العراق بالكتاب العربي عبر خيمة المدى.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة