المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

(البحث عن الذات) بداية شهرته الروائية ..العُماني حسن اللواتي :تجاوزتُ الخط الأحمر في الرواية العُمانية
 

وارد بدر السالم - مسقط

عزم العُماني حسن اللواتي على أن يدخل المشهد الروائي العربي من أبوابه الواسعة عبر روايته الأولى " البحث عن الذات" كتجربة مثيرة تجاوزت المتعارف عليه وهي تُنشئ منطقة حرجة في التعبير عن مشكلة اجتماعية دون الإعتماد على السرد الروائي وحده، بل تمكنت الرواية من أن تجمع حولها منظومة من المعارف الكثيرة، واقتبست من نصوص أخرى ما أعانها على أن تتجاوز محنة السرد التقليدي وتقدم نفسها على أنها تتصدر الروايات العُمانية بحداثة تجربتها الفنية واستباقها تجارب آخرين كانوا أكثر باعاً منه في التصدي لمشكلات الواقع العربي من خلال حصره لزاوية معينة وإسقاط اكبر ما يمكن من الضوء على تلك الزاوية السوداء.
تنبئنا سيرة اللواتي حسن بأنه متعدد المواهب ؛ فهو صحفي في دائرة العلاقات العامة والإعلام بجامعة السلطان قابوس وحائز على بكلوريوس صحافة وإعلام وله نشاطات صحفية مختلفة أبرزها كتابته عموداً أسبوعياً عنوانه (مساحات بيض) وإشرافه على نشرة المسار وإعداد ملحق أنوار ونشرة الباحث وتدريب طلاب الجماعة الإعلامية في جامعة السلطان قابوس في مجال فن الحوار الصحفي، إضافة الى أنه قاص ومصور فوتوغرافي، كما إنه يتحدث أربع لغات غير العربية هي الإنجليزية والأوردية والهندية والفرنسية، وفي هذه السيرة المبسطة ما يجعل الحوار حول روايته التي كتب عنها الكثيرون ما يغري بالوقوف عند هذه التجربة الفريدة في الرواية العُمانية الحديثة.
* روايتك الأولى رفعت الغطاء عن " المحظور الاجتماعي" في الأدب العربي، الى أي مدى يمكن للروائي العربي أن يكتب برؤية نقية وصافية تهدف الى تمكين القارئ العربي من أن يرى أي شرخ اجتماعي ناشز في علاقاته اليومية ببصيرة نافذة وناقدة ؟
- رفع الغطاء عن المحظور يختلف من مجتمع عربي لآخر والحديث يتشعب في هذا الموضوع ويأخذ مسارات ملتوية وهناك أشياء كثيرة تلعب دوراً مهماً ومنها قوانين المطبوعات والنشر أو الرقابة والعادات والتقاليد والعديد من الأمور الأخرى.. وكما تعلم فالوضع يختلف بين من يده في الماء وبين من يده في النار و نظرا لاختلاف الأوضاع بين بلد عربي وآخر فإنني لا اعتقد بوجود رؤية نقية و صافية 100% ونجد الكثير من الأعمال الأدبية لا يسمح بدخولها إلى بعض الدول العربية ومنها الخبز الحافي للمغربي محمد شكري وحالة شغف للسوري نهاد سريس والتي منعت من التداول في بلاده ..وتجاوز الأدب الخطوط الحمر يحتاج في بعض الأحيان إلى الخوض في الموضوع حد النخاع ولكن أين هو المجال للقيام بذلك؟.
* مرجعيات الرواية وقفت على رؤى قرآنية وصوفية وطبية وعلمية كإرشادات ودالاّت وتوجيهات وحِكَم .. لأي غرض يستعين الروائي بهذا الحشد من المقتطفات ؟ وما أهميته ؟
- لقد قرأت بعض الأعمال الأدبية التي تتضمن بعض المقولات والمقتطفات، وأهداف استخدامها يختلف من كاتب لآخر أحيانا يستخدمها بعض الكتاب بهدف التوافق الفكري أو كدليل والبعض منهم يستخدمها للتعبير عن أمزجة وميول الشخوص في أعمالهم الأدبية ويجوز أن يستخدمها الأديب بشرط أن لا يختفي عمله خلف هذه المقولات ويختفي رأيه ووجهة نظره وقد تحتاج بعض هذه المقولات والاستشهادات إلى وقفة تأمل طويلة وقد يرهق ذلك القارئ كثيرا ويبعده عن النص الأصلي أو ينجذب القارئ وراء هذه المقولات تاركا النص الأصلي.ولقد استفدت كثيرا من رأي النقاد والمتذوقين في هذا المجال وتعلمت الكثير منهم وعلى وجه الخصوص أزهار الحارثي حيث جاء في قراءتها النظرية للرواية أن المقتطفات الكثيرة جدا التي أوردتها بالرواية والتي تحمل المصدر الفكري ذاته، وبرغم أدبيتها إلا أن كثرتها أخلت بالأسلوب الأدبي كما أخلت بأحداث الرواية، ومتعة قراءة عمل أدبي مصدره قلم واحد. كما أن المقتطفات جاءت طويلة وأحيانا أخرى استهلكت الفصل بكامله حتى تشعر بأن قلم الكاتب اختفى وانتهى حبره، مع أن بإمكانه الاسترسال دون الاستشهاد بهذا الكم الهائل من المقولات والأحاديث والآيات.
* وقعت روايتك تحت التأثير المباشر لرواية (عمارة يعقوبيان) .. الى أي مدى كان ذلك الأثر في إنتاج هذه الرواية ؟
- نعم تأثرت برواية عمارة يعقوبيان لعلاء الأسواني وخاصة شخصية الصحفي حاتم رشيد وأرى أن الأسواني وصف سلوك هذه الشخصية بشكل منطقي وعقلاني وشرح أن الأسرة والبيئة كانت من الأسباب الرئيسة لانحرافها ولا اعتقد أنني وصلت إلى ما وصل إليه الأسواني من تحليل ومكاشفة وتعرية لشخصية حاتم رشيد.
* طرحت فكرة "الخطيئة" لكنك لم تعالجها أو تقترح علاجها ..هل من الضروري أن يكون الأديب معالجاً ؟ أم هو مشخّص لأمراض نفسية واجتماعية وأخلاقية ؟
- أرى أن الأديب يمكن أن يكون ناقداً وكاشفاً ومصححاً ويمكن أن يقدم حلولاً بشكل جمالي وجذاب وقد يتقبل القارئ أو لا يتقبل، ومهما قدم الأديب للمجتمع ففي النهاية كل فرد في أي مجتمع يختار طريقه الذي يناسبه ويتحمل مسؤولية اختياره.
* واضح أن هناك صراعاً دينياً وأخلاقياً في الرواية ..الى أي اتجاه اتجهت الرواية ولصالح من ولماذا ؟
- هناك فجوة بين رأي الدين وبعض الآراء الطبية الحديثة وخاصة تلك القادمة من دول أجنبية وقد أدت هذه الفجوة إلى صراع كبير داخل العديد من النفوس كما أدت إلى ازدواجية وتناقض كبير، ولقد حاولت إبراز هذا الصراع بشكل محايد قدر الإمكان ولكنني بكل صراحة مع رأي الدين في هذا الموضوع وعلى المتخصصين في مجال الطب النفسي والإرشاد الاجتماعي البحث في هذا الموضوع وإيجاد الحلول المناسبة، فالمشكلة كبيرة والسبل التي سلكها العديد من الشباب عن قناعة سطحية وبعضهم عن استسلام قد أدى كل ذلك إلى ظهور مشاكل كثيرة وخطيرة ولست بصدد الحديث عنها هنا.
* اعترافات شخصية الرواية المركزية وشعوره بالندم الثقيل ومحاولته إصلاح ذاته عبر كل الأساليب، جعل من الرواية تنحو منحىً فردياً، في حين أنك تريدها أن تكون خلاصاً جماعياً .. كيف تعلق على ذلك ؟
- على الرغم من اختلاف الظروف التي قادت العديد من الأشخاص نحو طريق الخطيئة إلا إنني لاحظت العديد أو الكثير من القواسم المشتركة التي تربطهم معا وخاصة ما يتعلق بالندم والاعتراف ومحاولة إصلاح الذات وقد يحدث أن يكون خلاصُ فردِ واحد فيه خلاص لمجموعة كبيرة والأسباب تتعدد دائما ولكن في النهاية الموت واحد.
* لماذا قسمت الرواية الى سبع رحلات ؟ وهل هناك دلالة رمزية للرقم 7 تقصدتها ؟
-لا شك في أن هناك العديد من الدلالات الرمزية والأسرار التي تحيط بالرقم 7 ولكن لا علاقة لهذه الدلالات والرموز بهذا العمل الأدبي ولقد كتبته بهذا الشكل ولا أملك أي تفسير للشكل الذي خرجت به.
* " البحث عن الذات".. أي ذات تقصد ؟ ذاتك أنت الكاتب أم " ذوات" الشخوص" الذين وردوا في سياق الرواية ؟ أعني هل "الذات" هنا هي مجموع " ذوات" رمزية؟
- المقصود هنا مجموعة من الذوات وليست ذاتاً واحدة.
* ألقت الرواية الضوء الكاشف على مرض اجتماعي خطير، لكنك فنياً أثقلت كاهل الرواية بمقاطع عرضية كأنها موجِّهات مباشرة للقارئ لمراقبة حالة معينة في الرواية، هل تثق بالقارئ كثيراً وهو يشاركك محنة الكتابة ؟
- اتفق معك ومع جميع النقاد بأنني أثقلت كاهل نصي بالعديد من المقولات والاستشهادات ولقد أرسل لي بعض الأشخاص قسماً من هذه المقولات أثناء مناقشاتي ومناظراتي الطويلة معهم وكانت تعبر وتكشف عن دواخلهم واتجاهاتهم، أما سؤال كيف أكتب ولمن أكتب فهو سؤال صعب للغاية وقد تكون المعاني ملقاة على قارعة الطريق والفضل للصياغة على رأي الجاحظ -رحمه الله- ولكن من المهم أن تعين أمام شاخصك الجهة التي توجه إليها الخطاب، من أي طبقة هذا الذي تريد الكتابة له عند ذلك أكتب ما تريده ولا تفكر فيمن لا يوافقك الرأي من الطبقات الأخرى لأنك لا تكتب لهم.
فمثلا إذا أردت مخاطبة الشباب، حدثهم بما يفهمونك، ولا تهتم بالذين قد لا يرتاحون لكتاباتك، لأنهم أساسا ليسوا جهة خطابك، وفي الدرجة الثانية وسع دائرة معلوماتك الثقافية، ثم لا تخش أحدا، ولقد وصلتني أراء شفهية من بعض الجهات التي قصدت الكتابة لها وكذلك وصلتني بعض الرسائل المكتوبة ومنها رسالة طويلة أو تستطيع القول أنها صرخة ألم وحزن من مجهول يعاني كثيرا وبصمت وأعتقد انه من أكثر القراء الذين فهموا الرواية وقد كتب لي بخط جميل وبكل صراحة: (رحلة البحث عن الذات عمل أقل ما يقال عنه إنه جريء بكل ما فيه من تعبير ورسم وشخصيات بصراحتها وقباحتها ووقاحتها أحيانا ولقد نكأت قصتك جراحاً وأيقظت هموماً أوشكت على الاعتقاد بموتها وأكتب لك هذه الأسطر وعيناي تذرفان دمعا، لقد كنت أرى نفسي في باسل وكما لو أنني أعرفك منذ زمن لأجدك تكتب عني.... رغم ما ستعرضك إليه قصتك من شبه وانتقادات إلا إنها فريدة من نوعها ولن يدرك بعدها الإنساني إلا من لعب أحد أدوارها...كما كتب لي هذا المجهول: (اللذات ستؤول إلى ما آل إليه طعام الأمس نسيته فما بالك بلذته التي نسيتها معه، أدركت مؤخرا بأن الواقف على الشذوذ كالعطشان الواقف على البحر فإما أن يصبر على ما به من العطش وإما أن يشرب من ماء البحر لينتعش بالماء وهو في فمه وما إن يبتلعه وملحه حتى يدرك إن ملوحته زادته عطشا فيعود لما هو عليه.... عملك جريء يا حسن ولا أدري إن ساورك الندم أو الشعور بالتسرع في كتابة هكذا رواية حتى أحس بأن كتابة هذه الرواية كان دافعه تسريب الضغط من صدور أبطالها الحقيقيين وليس كما يدعي عنوان السلسلة... من سخريات البشر أن معاناة الإنسان تؤخذ وتعطى في المطابع والأسواق وصالونات الأدباء وعلية المتعلمين من المثقفين وأنصافهم وأما المعاناة نفسها فالله العالم أي قلب يضيق بها وأي ليل يطول بها) ليتني اعرف من هو كاتب هذه الرسالة؟ وليته يقرأ هذا الحوار..
 


في وداع يوسف الصائغ الحيــــاة وســــط إشكاليـــــة الشعــر
 

فاطمة المحسن
 

توفي يوسف الصائغ الذي منح الكلمات حياة مليئة بالجمال، ومنح الحياة كلمات مليئة بالإلتباسات.توفي يوسف وهو لم يستبن بعد حدود الشعر وحدود الحياة، مثلما كان تيقنه من نفسه كناثر وشاعر معا، ففي شعره نثر كثير وفي نثره شعر كثير.
خلّف يوسف القليل من المؤلفات في مسيرة جاوزت النصف قرن من الكتابة وكان نتاجه لايرقى الى ما يختزنه من إبداعات. كان يدمن الكتابة والشهرة معا، وليس مثله من كان لا يأخذ كتابته وشهرته على محمل الجد.
هو شاعر وإنسان إشكالي، ومن لايعرف هذه الإشكالية يجهل مأزق الثقافة العراقية برمتها. فالصائغ يمثل خلاصة ذلك الإرتباك الثقافي الذي جعل من المعرفة وتمثلاتها،مجرد مشاريع متشظية. ثقافة تجهل ما تريد،و تملك توق تجاوز الأوهام عن نفسها، ولكنها تعجز عن فعل جدير بشجاعتها. إنها تتوارث الشلل من أزمنة العسف والإضطهاد والعقم.
نشر الصائغ في الثمانينيات، ما يشبه المذكرات في مجلة الأقلام العراقية، وأسماها (اعترافات مالك بن الريب) وهي سيرة نادرة جمع فيها خلاصة ثقافته المسيحية التي أدمن فيها فن الإعتراف، فلديه ديوان وكتابان تحت هذا العنوان. والإعتراف عند يوسف يتلبس ألف رداء، ومنه رداء الجلاد والضحية،فهو قاس كحد السيف وخائف كقطة مبتلة. هكذا أنهى يوسف حياته في تبدل أقنعته على مسرح الحياة. ولعل قدرته على تخييل البيئة وأحداث الحياة أنتجت تدوينات عن زمن كان يحار كيف يصفه، فكتب توريات عنه، شخصيات وحوادث إكتست قوة النموذج الروائي ودراماتيكيته.
مالك بن الريب قناعه الذي إستطاع عبره إعادة قراءة شاعر الصعاليك في قصيدة توجته واحدا من أفضل شعراء العراق بداية السبعينيات، ولكنه بقي خارج تصنيف الشعر، فقليل من النقد كتب عنه، وفي الكثير من الموسوعات لايرد إسمه بين شعراء العراق. هو لاينتسب الى جيل معين ولا لإسلوب يمكن أن نصفه بالحديث أو القديم، ولم يكرس نفسه للشعر أو الرواية أو الرسم أو المسرح، فالفن يأتيه من كل المطارح.
كان يستسلم الى غبطة الكتابة في لحظتها العابرة، في زمنيتها التي لاتحتاج تعب التحول الى تاريخ، فالتواريخ عنده تنسخ بعضها او تمضي الى زوالها،لأن الزوال وحده الذي يمحو الأخطاء، او يصححها بخطايا جديدة.
في مقابلة أخيرة، تحدث عن مديحه صدام حسين، مؤكدا انه لايخجل من هذا التاريخ في حياته، فالمديح كما يقول ظاهرة شعريةعربية، فهو لايرضي الحقيقة قدر ما يرضي الممدوح. المديح حسب قوله، مجرد كذب ينطلي على الممدوح لأنه يرغب فيه ويطلبه.
كان ضحية البعث في انقلابه الاول 1963، فهو من الجيل الذي قضى ردحا في السجون،وتلك الإحداثيات لاتغيب عن كتاباته، حتى وهو في عزّ تملقه السلطة، ولم يكف عن استذكارها في مؤلفاته التي ظهرت في كل مراحل عمره. وعندما إعتقل آخر مرة نهاية السبعينيات كان قد تعب من المهانة والإذلال الجسدي والروحي،وبعد ان خطفوا حبيبته وقتلوها تحت التعذيب، إستسلم في خطوة دراماتيكية تليق بأدواره التي يهواها. إنتهى يوسف الى مصير عاش فيه على قلق رغم إمتيازات المناصب والثروة والنساء اللواتي أحطن به،فقد أرادوه عبرة لكل كاتب، وهذا جهل بيوسف الذي يحمل قلب طفل متشرد ارتكب أخطاء فخاف من نفسه، خاف من مرآته.
فكرة الطهارة والنجاسة،الخطيئة والغفران،الجلاد والضحية، من أهم محركات كتابته، ولعل الثقافة المسيحية التي تربى عليها صغيرا بقيت تلازم فنه،فيهوذا ومريم المجدلية والصلب والقرابين من بين رموزه الخفية والظاهرة التي لاتحتاج الى كبير تأمل كي يدرك القارئ مغزاها، فبساطة يوسف ورومانسيته الآسرة تضفي على كل البداهات طزاجة الإبتكار.
رحل الصائغ قبل شهرين الى سوريا، فتلقفه علي عقلة عرسان وأقام له تكريما كانت كلمته الأولى لعبد الرزاق عبد الواحد، مادح صدام الاول، ولعل الحاجة الى الأمان ولقمة العيش، قد فتحت قرائحه على شتائم مقذعة لتواريخه وأناسه القدامى. يوسف كان قد عرف أنه وصل خاتمة لاتليق به، فاختفى،مات من الخجل حسبما نشر في سنواته الاخيرة:
لاترحموا عزيز قوم ذل
لاتعتبوا على البطل
يكفيه أنه رأى الذي رآه
ولم يمت من الخجل.
ستمحى كل التواريخ ويبقى يوسف الصائغ الذي لم يكتمل مشروعه الأدبي، ولكنه ترك أثرا لايمحى في تاريخ الثقافة العراقية، كظاهرة سياسية، وكإبداع متحرك جدير بإعادة القراءة والتأمل. خسره الأدب العراقي، فلطالما إنشغل عنه بمعارك دون كيشوتية،بيد ان ما بجعبته يحفظ في قلب قارئه الكثير من المحبة والاعجاب.
 


نافذة على المدى اسطنبول والترهات الذهبية التي لا تنتهي
 

علي بدر
 

في اصطنبول، في شارع بايوغلو، الشارع التاريخي الذي يضم المكتبات والمطاعم والسينمات والمقاهي والمسارح، التقيت الشاعر التركي الشاب أحمد أورخان، ومثل تمثال لأحد السلاطين العثمانيين في سراي طوبقابي كان يدخن بهدوء ويتحدث بصوت أجش عن أدباء تركيا: ناظم حكمت.. عزيز نسين.. أورهان باموق.. ونديم غورسيل، كانت ريحا باردة ونقية كأنها مرت على الثلج لفحت متاهة المرمر والحصى، ومن أعماق الشارع التاريخي كان الصفير الأجش والطقطقات القاسية للترام الذي شيده السلاطين في القرن التاسع عشر، تتقدم بثبات متحمس، بينما حدثته أنا عن نجيب محفوظ وعبد الوهاب البياتي وآدونيس، وقبل أن نفترق أهداني أحد دواوينه المترجمة إلى الإنكليزية، وقررنا أن نلتقي في المساء مقترحا علي نزهة على رصيف البسفور.
حين عدت إلى الفندق قرأت ديوانه الصغير وهو بعنوان "اللعبة الثانية"، فبهرتني لغته التائهة الغامضة وأفكاره الغريبة المليئة بالأسرار، كان يلتقط الأفكار الأكثر غرابة ووحشية ويمزجها بلهجته الشخصية مع البلاغة المحتدمة والمنظمة، إنه شعر حياة حقيقي يلتصق بالعالم التصاقا، شعر أرضي بامتياز، شعر شهواني، غامض وقلق ومنفصل أيضا، أما مواضيعه فكانت هي العجائبية المنمنمة التي يرويها بتعبير حاذق ومكتمل، وأسلوب يجد طريقه السهل نحو التلاؤم السيئ مع العاطفة- وهو الأمر الضروري للشعر الرمزي- والحساسية الطرية العصية على الوصف، والافتتان الهدام بكل شيء.
في المساء التقينا مرة أخرى، كانت بيدي رواية نديم غورسيل "صيف طويل في اصطنبول" بترجمتها الفرنسية والتي كنت أعدها دليلا سياحيا لاصطنبول ذلك الوقت، فالوصف الماكر لبازارات المدينة مثل البازار الكبير، بازار التوابل، بايزيد، سركجي، أسواق الأكسراي، هي العنصر الطاغي الذي لا يمكن مقاومته، لا لأن رؤية اصطنبول رؤية كلية هي هدف لم يستنفد بعد، إنما لأن أحداث الرواية الغريبة المدهشة تتحرك على إيقاع وصف مذهل يمسح المدينة مسحا كاسحا، كل شيء في الرواية يتحرك حركة قلقة مهتزة، أما (أنا) السارد المخيبة والواهمة فقد كانت حاضرة حضورا كليا، وقد قلت لأحمد أورخان إن قدرة غورسيل على التحكم بموضوعه أسرتني بشكل كامل: لم أكن قادرا على الصمود أمام هذا المخزون الثري في اللغة، وهذا التجرد المتعظم الذي يجعل اصطنبول حارة ومشبوبة، إلا أن أحمد أورخان كان له رأي آخر، لا بلهجته التي لم تكن متعاطفة مع غورسيل حسب إنما بلهجته المتحمسة لرواية اصطنبول لأورهان باموق.
اصطنبول باموق شيء آخر، هي تاريخ الإمبراطورية الذي يجري ساخنا إزاء الانزياحات الكبرى والتي تعصف بالمدينة عصفا، إن كل مكان في اصطنبول يتم إخضاعه في رواية باموق بصورة ضارية للتعبيرات التاريخية المحتدمة، كل مكان في اصطنبول يبرز لاذعا، جامحا، ملفعا، قدريا، وإمبراطوريا أيضا، وينظم باموق بلهجته المتوازنة الصورة الصامتة لاصطنبول والشراهة اللاأخلاقية التي لا يكبح جماحها كابح.
ذهبنا إلى مكتبة رامز قوتابفي أنا وأحمد أورخان وصديقته الشاعرة البرازيلية باولا خانفيير، والتي كانت أشبه بلوحة انطباعية بملابسها المختصرة وألوانها الباستيلية: قميص وردي، بنطلون أصفر، وحقيبة قرمزية، في الطريق اصطدمنا بسياح تائهين، بسابلة مرتبكين، بمثقفين وموسيقيين ورسامين من كل أنحاء العالم، وقفنا عند تجمع كبير يحيي حفلا موسيقيا صاخبا على الهواء الطلق، كنت أستعيد تعبير الحياة مع كلمات فنسان موزلي الكلاسيكية، حياة ملتهبة، ثقافة لا تنقصها مفاجأة أو طارئ، فقد تعرفنا هناك على الروائية الإيرانية معصومة آصفي وصديقها البلجيكي أندريه باري، وذهبنا مع شاعر ياباني شاب في رحلة بالباخرة من سركجي إلى جزيرة بيوك آده، سرنا في تقسيم، الميدان الحيوي لاصطنبول حيث كان يقطن الشاعر عبد الوهاب البياتي في الستينيات، شربنا الشاي تحت الشقة التي كان يقطنها هنري ميلر بعد الحرب العالمية الثانية، سرنا في الطريق الذي سار فيه لورنس داريل، وشعرنا ذلك اليوم بأن تجربة الثقافة هي تجربة الآخرين وقد أصبحت تجربتنا.
عند مضيق البسفور الذي يفصل ويصل أوربا عن آسيا، كنت ألمس الطراوة المالحة وهي تثقل بثبات خالد وأبدي المراكب المضاءة بالمصابيح، أرى دخانا أزرق يصعد من فوق القلاع العثمانية في الهواء المذهب لأول الصيف، وأصغي لصراخ طيور البحر الخشن وهو يصعد مثل التشقق الوحشي لهدير البواخر، أشعلت الشاعرة البرازيلية سيجارتها، وبنظرة شبه مغمضة سألتني عن الأدب العربي، كنا التقينا ذلك اليوم بالروائي التركي أورهان باموق، التقينا به في ساعة متأخرة من الليل، تجمعنا نحن الخمسة على كومة من الصيد المذهب، الوجبة المسائية، المودة الصاخبة وهي تذوب في هذا الكلام الملتهب، الثقافة في الحس الخالد والأبدي الذي يجمعنا، إنه المظهر الهادئ المضيء، الحياة الغافية في النظرة المترنحة، أستند بمرفقي الى ركن من أسوار سراي طوبقابي وأنظر إلى باقة زهر في انبساطها الممدد، غبطة الثقافة في تلمس حس لا يضارع، غبطة الثقافة في رواح الطيور وغدوها النادر، في صلصلة عجلات السيارات، في الضجيج المنفرد الذي تحدثه الأقدام، في صوت الموسيقى التي تتصاعد بعذوبة مع صوت باموق وهو يصف الفعاليات القروية الساذجة والنداء القلق في شوارع مدينة اصطنبول.
هذه نهاية مراسيم المساء: أصوات تتثاقل بهدوء، عنقود هزيل ينفرط حبة بعد أخرى، وأنا ألمس بيدي هذه الأحجار الثقيلة المصمتة، تائه في منفاي ومنهمك في الترهات الذهبية التي لا تنتهي.
 


عن الشمعة والخمرة والمرآة والزهرة والخال مختارات من الشعر الإيراني
 

المدى الثقافي
 

الشعر الإيراني بكل مراحله يشكل مساحة مؤثرة وغنية في خريطة الشعر في العالم، ويرتبط هذا الشعر بصلات قديمة متبادلة مع الشعر العربي ، على الرغم من عدم الانتشار الكبير للشعر الايراني في الأوساط العربية طبعاً يجب أن نعترف بأن البعض من المهتمين بالترجمة والنقل بين اللغات الفارسية والعربية ، بذلوا جهدا ليرفعوا من مستوى هذا التفاعل الذي وفر فرصة للاطلاع على نماذج من الشعر الايراني وساعد في تأمل هذا الشعر وهويته مثل عبد الوهاب عزام ، يحيى الخشاب ، إبراهيم الشواربي ، غنيمي هلال ، عبد الحميد بدوي ، محمد عبد المنعم ، الدسوقي شتا ، وصلاح الصاوي في مصر ومحمد الفراتي ، ومحمد التونجي ، وعيسى العاكوب من سوريا وحسين البكار من الأردن ، وأسماء أخرى .
حاضرا هناك من ترجم من الفارسية نماذج من عيون الشعر الآيراني المعاصر لكن هؤلاء يعدون على أصابع اليد . وكانت محاولاتهم ترجمة مختارات من هذا الشعر للمجلات والصحف مثل أحمد عبد الحسين، محمد الأمين، حميد كشكولي وهاتف الجنابي ويعقوب المحرقي وغيرهم، وهي محاولات يمكن ان تتطور الى ترجمة مشاريع كبرى من الشعر الايراني .
نماذج الحداثة في الخريطة الشعرية الايرانية المعاصرة جاهدت للخروج على المهيمنات التي حكمت الشعر الايراني قروناً طويلة، فتجارب سبهري وفروغ وغيرهما انشدت كثيرا وبدون توقف إلى اللحظات المليئة بحضور الأحداث المعجزة التي في كل لحظة، ومع كل استرجاع للأنفاس، تنجز المصير اللامرئي لكوننا.
فروح عصرنا حاضرة بقوة في نصوصهم ولكن لما تزل تقرأ الوجود قراءة شعرية بمنظار مستقدم من عمق الروحانية الايرانية،، والانحدار التدريجي للقيم كان موضوعا لبعض هولاء عالجوه بمزاج ايراني امتزج بمنجزات الحداثة المادية للعالم ، وظهور فكرة البحث عن الجذور تجد صداها في أعمال شعراء الحداثة الايرانية. ولكن قلق الشاعر المعاصر بدا مستعيرا للماضي بكل هيمنته القاموسية والرؤيوية .
نقدم في صفحة آداب شرقية هذه نماذج من الشعر الايراني الحديث لالقاء نظرة وان كانت سريعة على انجازات المغايرة التي قام بها هؤلاء للافلات من حضور الشعر الكلاسيكي الذي يتمتع في ذاكرة القارئ الايراني بحضور مؤثر، ان اختيار هذه النماذج لم يعتمد تصورا مسبقا بقدر ما جاء انتقاء عفويا حاولنا فيه بسط اوسع مسافة ممكنة أمام القارئ العراقي .
 


مقطع من قصيدة ( وقعُ قدم الماء )

يعد سهراب سبهري واحداً من الوجوه الشهيرة للشعر الايراني المعاصر ، ولد (سهراب سبهري) في (كاشان) في العام 1928. وبعد انهائه مرحلة الدراسة الثانوية انتقل الى العاصمة (طهران)، وبعد سنتين حصل من أحد معاهدها على دبلوم، سمح له بالعمل في أحدى المؤسسات الثقافية. نشر أول ديوان له "قريبا من أصيص الزهر أو عشق ما بعد الموت " ولم يتجاوز عمره العشرين عاما. ترك عمله في المؤسسة المذكورة بسبب تقدمه الى قسم الفنون الجميلة في جامعة طهران. لكن ضرورة اعالة نفسه بنفسه دفعته في الوقت ذاته للعمل في أحدى شركات النفط التي لم يمكث فيها أكثر من ثمانية أشهر. في عام 1952 صدر ديوانه الشعري الثاني "موت اللون".
منذ العام 1954 أخذ سبهري يتنقل من بلد الى آخر جامعا ما بين كهف السائح وتعطش الفنان والدارس. فدرس الرسم والحفر أو النقش في كل من باريس وروما وطوكيو والهند. بعدها أخذت تنهال عليه الدعوات للاشتراك في معارض الرسم والبينا ليات المحلية والأجنبية.
أصدر ديوانين شعريين في العام 1961، الأول بعنوان (فتات الشمس )والثاني (شرق الحزن ). في 1964 زار الشاعر الهند وباكستان. وفي السنة نفسها كتب قصيدته الشهيرة (وقع خطوات الماء) التي صدرت في 1965 بحيث ثبتت مواقعه كشاعر فذاع صيته داخل ايران وخارجها بعدها بسنة صدرت له قصيدة أخرى طويلة بعنوان (مسافر). وبها تعزز موقعه الشعري أكثر. غير أنه سرعان ما فاجأ الوسط الأدبي في العام 1967 باصداره واحدا من خيرة دواوين الشعر الايراني المعاصر بعنوان (حجم الخضرة ، في 1977 صدرت الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر بعنوان (ثمانية كتب ) وضمت آخر دواوينه «نحن لا شي ء، نحن نظرة ). لقيت أشعار سهراب ترحيبا واسعا وليس أدل على ذلك من ترجمتها الى لغات عديدة منها: الانجليزية، والعربية، والفرنسية، والالمانية، والايطالية والبولندية. في ابريل من عام 1980 مات سهر اب سبهري بسرطان الدم (لوكيميا)، مضاعفا بذلك من نسبة الشعراء المأساويين في الأدب الايراني المعاصر.

من أهل كاشان أنا
دهري لا بأس به
لي كسرةُ رغيف، نتفة ذكاء، رأس إبرة ذوق
لي أم أحسن من أوراق الشجر
أصدقاء أفضل من الماء الرقراق،
بين أزهار الليلك هذه، عند الصنوبرة الشامخة تلك،
فوق وعي الماء، فوق قانون العشب.
مسلمٌ أنا
قِبلتي وردة حمراء
مُصلاتي النبع، تربتي النور
سجادتي السهل،
إني أتوضأ بنبض النوافذ
خلف صلاتي متجل هو الحجر
إني أقيم الصلاة حينما:
تنطقُ بآذانها من على منارة السرو
إثر "تكبيرة إحرام" العشب
إثر "قد قامت" الموج.
كعبتي على حافة الماء
كعبتي تحت أزهار الأكاسيا
كعبتي كالنسيم تتنقل من بستان إلى بستان
ومن مدينة إلى مدينة
حجري الأسود ضياء الحديقة.
من أهل كاشان أنا
مهنتي الرسم
أحياناً أصنع باللون قفصاً أبيعكم إياه
كي يترطب قلب عزلتكم بغناء الشقائق الحبيسة فيه
يا للخيال!.. أعلم أن قماشة رسمي بلا روح
أعلمُ جيداً أن حوض لوحتي بلا سمك.
من أهل كاشان أنا
النسيم ربما يصل إلى عشبة في الهند، إلى آنيةٍ
خزفية من تراب الـ "سيلك"
النسيم ربما يصل إلى امرأة داعرة في بخارى.
أبي بعد مجيء الخطاطيف مرتين
بعد سقوط الثلج مرتين
بعد إغفاءتين في الرواق
ـ أبي خلف الأزمنة ـ
مــات.
حينما مات أبي، كانت السماء زرقاء
فزّت أمي من نومها، وازدادت أختي جمالاً
حين مات أبي، كان كل الحراس شعراء
سألني البقال: كم "منّاً"3 من البطيخ تريد؟
سألته: رطل قلبٍ مبتهج بكم؟.
 


الحب و السؤال
 

طاهرة صفار زاده

 

شاعرة، باحثة و مترجمة. ولدت بمدينة سيرجان (جنوب شرق ايران) عام 1936 في أسرة ذات خلفية صوفية. تعلمت قراءة القرآن و تجويده في مكتب المحلة و هي في السادسة من العمر. بعد انها‌ئها الدراسه الثانوية في مسقط رأسها دخلت جامعة طهران في فرع اللغة الا نجليزية لتتخرج منها بشهادة ليسانس.
غادرت الى بريطانيا و من ثم الي أمريكا لمواصلة الدراسة وحصلت على شهادة الدكتوراه. بعد عودتها الي ايران تم تعيينها أستاذة في قسم اللغات الاجنبية في الجامعة الوطنية (الشهيد بهشتي حالياً) لتدرّس في مجال الترجمة و النقد الادبي.
و على صعيد الشعر، نجحت صفارزاده في تقديم لغة شعرية جديدة و اسلوب شعري مميّز، أثار الكثير من النقاش في بادئ الامر، و لأن النظام الحاكم لم يكن يحبذ الشعر و المقاومة الممزوج بالسخرية من السياسة و اصحابها، لذلك فصلت من الجامعة عام 1976 بتهمة كتابة شعر المقاومة الدينية.
بعد انتصار الثورة الاسلامية، أختيرت الدكتورة صفارزاده رئيسة لجامعة الشهيد بهشتي و عميدة كلية الآداب في هذه الجامعة. و بعد سنوات من العمل الدؤوب أحيلت الى التقاعد لتتفرغ للكتابة والبحث و الترجمة في المؤسسة الخاصة بها.
للشاعرة تسعه دواوين شعرية طبعت كل منها عدة طبعات. و مما يستوجب ذكره ان احد دواوين الشاعرة و هو بعنوان ”المظلة الحمراء“ كتبت قصائده بالانجليزية اصلاً. من دواوينهاالاخري: الحركة والامس، السد و السواعد، طنين في المصب، السفر الخامس، لقاء الصباح، البيعة مع الوعي و رجال محنيون. اليكم ترجمة لبعض قصائدها القصيرة.

 

(حــب)

من ثوبينا
اللذين اضعناهما في الليل
الليل البارد
البرد الذي ذاب على جلودنا
جلودنا التي صارت نبضاً
النبض الذي قدناه الى الدمار
لم يبق لنا منه
سوى طراوة التكرار
من ثوبينا
اللذين اضعناهما في الليل.

(سؤال)

أيتها الشمس
يا قامة الكينونة الرفيعة
قولي لي.

قولي
كيف أتمسك
بحبل الثقة المهترئ
وسط لظاكِ اللا منتهي
عندما يشوه
خوف الهبوط
والحفر الارضية العمياء
_ التي تشبه اضطراب لحظة التسليم _
روعة المساعي الأخيرة.
قلت انا سماؤك
قلتُ لتكتظ الارض بحماكِ
ولم ينهمر المطر
واينعت بذور الشك
في معابر التكرار.
 


ابتهالات
 

سلمان هراتي من أشهر شعراء الثورة الإيرانية، اتسمت قصائده بالمزاوجة بين النفس الملحمي والمضامين العرفانية المنفتحة على مفردات الحياة اليومية.
توفي هراتي في حادث سير عام 1985، وهو لم يزل في ريعان الشباب، وهذه المقتطفات من مجموعته الشعرية: السماء الخضراء.

 

سلمان هراتي

 

ـ 1 ـ
الليل يسقط .. وأنا أنضج
أفتحُ فمي نحو السماء كالنيلوفر
اشتياقاً لهطول الندى
يا خالق الغيم والندى
هلاّ أنهيت ظمئي..
أريد أن أرتوي بك.

ـ 2 ـ
أقفُ جوار الليل
أتأمل عباءة السماء الزرقاء
أتأمل نجوماً نُسجت بخيط النور
أسمعُ ترنم الأشجار:
ـ يا له من نسيم منعش
أنا لبُ برعمة
ستغدو كمثرى.
أقفُ جوار الليل
الليل مرتو بك
وأنا قاب قدمين
مبلل بالندى.

ـ 3 ـ
أحياناً، كزهرة قرنفل
تأتي من النافذة
وتجلس محل أشعاري
وأنا مجرد حتى من كلمة واحدة
عيناي طافحتان ببصيرة
هي ذروة تكامل عين.
يسألني جاري: ما هي الصفات الثبوتية؟
أقول مرة أخرى
يا لها من رائحة عطرة
ملأت هذا المكان.

ـ 4 ـ
أحياناً
تتجسد إلى حدٍ
يسجدُ فيه جبيني لغيمة،
أتأمل شجرة
وأتوقع العطف من الأحجار.
المطرُ يهطل على كتفي
فتغمرني البهجة.
أحياناً، تتجسد إلى حدٍ
أسمعُ فيه صوت انهيار أكتاف الشيطان الحجرية
ولا عجب أن أرى القمر
يحصد الريحان مع أطفال الجبال.

 


فـوق التراب
 

ولدت فروغ فرغ زاد في طهران عام 1935 ، من عائلة من الطبقة الوسطى، تزوجت في عمر السابعة عشرة، سافرت إلى أوربا عام 1958 ، وبقيت تتجول ما يقارب العام، أصدرت فروغ أربعة دواوين شعرية، الأول كان في صيف 1955 بعنوان الأسير ،وآخر عام 1964 ( ولادة أخرى )، وقال النقاد عن هذه المجموعة الشعرية أنها عصفت بالمشهد الشعري الايراني، وعد النقاد هذه المجموعة بوصفها قمة انتاج فروغ، جمعت القصائد التي لم تنشرها فروغ في حياتها ونشرت بعد وفاتها تحت عنوان ( لنؤمن ببداية فصل البرد ) . عانت فروغ من انهيار عصبي عام 1955 ، واصدرت عام 1956 مجموعتها الشعرية ( الحائط )، وانجزت عام 1962 فيلما وثائقيا بعنوان ( البيت المظلم ). مجموع القصائد التي كتبتها فروغ 127 قصيدة في خمس مجموعات شعرية، مع عدد قلبل من القصائد في بعض الصحف.توفيت فروغ عام 1967 في حادث سير مخلفة حياة وقصائد أثارت الكثير من الجدل .
 

فروغ فرخزاد

 

لم آمل أبداً
أن أصبح نجمة في سراب السماء
أو كروح الأولياء
جليسة خامدة للملائكة
لم أنفصل عنش الأرض
ولم أُصادق نجمة.
واقفة أنا على التراب
بجسدي الشبيه بساق نبتة
تمتص الهواء والنور والماء
كـي تحيا.
مُلقحة بالشهوة
ملقحة بالألم
واقفة على التراب
كي تمدحني النجوم
ويداعبني النسيم.
أنظرُ من نافذتي
لستُ سوى دوي أغنية.
لا أرغب إلا بصدى نجمة
في صراخ لذة
أنقى من صمت حزن ساذج.
لا أرغب عشاً
في جسدٍ هو الندى
فوق جسدي الزنبقة.
على جدار كوخي ـ الحياة
ترك المارة بخط العشق الأسود
ذكريات:
قلباً مطعوناً بسهم
نقاطاً صامتة باهتة
فوق أحرف جنون مبعثرة.
كلما لامست شفة شفتي
تشكلت نطفة نجمة
فلماذا أتمنى أن أصبح نجمة
في ليالي الجالس جوار نهر الذكريات؟.
هذه نغمتي
المحببة للقلب.
قبل الآن لم تكن
قبل الآن..

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة