على هامش
الدورة ( 29 ) لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي:
"الخبز الحافي" سبة لكاتبها و "دنيا"
متهاوي و "الجنة الآن" شهادة شجاعة
القاهرة- فيصل عبدالله
- في مطلع الثمانينات من
القرن الفائت صدرت الطبعة العربية لرواية "الخبز الحافي".
وقتها نبه هذا العمل الى ولادة روائي مغربي يكاد أن يكون
مجهولاً لقراء العربية، اسمه محمد شكري. بعد حين ُألتفت
الى هذا العمل صحافياً، وكانت الصحافة اليومية سباقة في
التعريف بكاتبه، ومن باب ضيق تناول سلطة الرقيب في منع نشر
هذه الرواية لسنوات طويلة. إلا ان ما كتب حينها، كان أقرب
الى القراءة البرانية في تناول فصول هذا العمل، حيث جرى
ضمن سقف المسموح به والخوف من إلزامات الرقيب في آن.
- فقد فضح هذا العمل السردي الجرئ المسكوت عنه أجتماعياً
وأخلاقياً. وعبر توظيف السيرة الشخصية لمنابزة التابوهات
والمكبوتات والاكراهات الأخلاقية، وأشكال الفقر والعوز
والبؤس، التي كان يعيش تحت وطأتها الكاتب وبالتحديد في
مدينة طنجة، أبان نهاية الأربعينيات والخمسينيات وبداية
الستينيات. ولكونه تجريب في أسلوب السرد الروائي، فقد
أحتفي شكري في سيرته مرتان. مرة في إضفاء لمسة إنسانية على
الحياة البوهيمية التي عاشها وصنعت منه كاتباً. والثانية
في مقاربته لتفاصيل الأشياء اليومية بما تحمله من واقعية
أقرب الخيال، من دون الاتكاء على أفكار وأساليب وقيم مسبقة
في صياغة مشروع كتابه. ولعل قوة عمل شكري تكمن في طلقه،
وحريته، في نبش ماضيه الشخصي، خصوصاً لجهة علاقته بأبيه من
جهة. ودعوتنا كقراء لإكتشاف تقاطعات الكاتب مع كتاب، من
أمثال الأميركي بول بولز ومواطنه تنسي ويليامز والفرنسي
جان جنيه، وعوالم المهمشين والمواخير وسكارى الحارات
والأزقة الصغيرة من جهة ثانية.
- ولعل السؤال التقليدي يطرح نفسه ضمن هذا السياق، هل يمكن
للسينما العربية أفلمة هذا العمل الفاضح والجرئ؟ ويتفرع
منه آخر، كم سيكون النص السينمائي أميناً في اقتفاء سيرة
شخصية مترعة لكاتب مثل محمد شكري؟ بطبيعة الحال، ستقفز الى
ذهن المشاهد صور ذلك العمل وهو يتابع شريط الجزائري رشيد
بلحاج الذي عرضه مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الأخير.
من دون شك، ثمة شجاعة في مقاربة "الخبز الحافي"(خارج
المسابقة) تحسب لصالح بلحاج. إلا إن الشجاعة لا تضمن
لوحدها نجاح تحقق المنجز الفني. تدخلنا اللقطة الأولى
لشريط بلحاج، أقتبس نفس اسم الرواية، مباشرة الى تتبع حياة
الكاتب محمد شكري(أداء الممثل المغربي سعيد طغماوي) منذ
صباه وهو ينبش حاويات القمامة بحثاً عن كسرة خبز او شئ
نافع في حي فرنسي. مروراً ببيت عائلته القصديري، وعسف الأب
الذي يحمله شكري السبب في مقتل أخيه عبدالقادر. ثم ينتقل
الشريط الى تتبع مسارات الكاتب الحياتية، أول عمل له كنادل
في مقهى، والتلصص على أبنة صاحبها وهي تستحم، وصحبته لعالم
الكبار و أرتياده المواخير. والمرور بعالم السجن الذي تعلم
فيه أبجديات الكتابة والقراءة، وحصوله على وظيفة معلم يكرر
كلمة "أب" أمام طلابه، الى لحظة وفاته ودفنه قرب قبر أخيه.
- وبقدر ما حافظ بلحاج على التسلسل التاريخي والحدثي لمعظم
فصول "الخبز الحافي"، إلا ان معالجته السينمائية جاءت
فقيرة وخالية من الاجتهاد. وبرهاننا، ذلك المشهد البائس
لاستحمام أبنة صاحب المقهى في حديقة بيتها وهي عارية، او
مضاجعته لسجينة الماخور، او مظهر والدته الأنيق على خلاف
بؤسها.. وتبلغ ذروة السذاجة في تفتح وعي شكري السياسي
والمطالبة بنهاية الاستعمار الفرنسي، وعلى يد محضية ومحرض
سياسي يلتقي به مصادفة في مظاهرة ديكورية، أداء بلحاج
نفسه، الذي يعتقل لاحقاً ويغرز في الشاب شكري حب الوطن
وتعليمه القراءة والكتابة في زنزانة السجن..إذ جاءت تلك
النقلات سريعة وغير مقنعة فنياً او سياسياً. شريط بلحاح
سبة لسيرة صعلوك كتب حياته كشاهد، ولدراما عائلية
وأجتماعية، ولفضاء مدينة طنجة المعلن منه والمستور.
- رهان اللبنانية جوسلين صعب لم يكن أفضل من رشيد بلحاج.
فصاحبة "غزل البنات"، جاءت الى مصر ومعها فكرة سربتها الى
وسائل الإعلام لفترة قاربت الخمس سنوات، ومفادها التنكب
لقضية ختان البنات. ولكونه من القضايا الحساسة في بلد مثل
مصر، أقحمت صعب نفسها في موضوع عصي ومركب يتجاوز سذاجة
التعاطف مع بنات جنسها. ولعل هستيريا التدافع لمشاهدة شريط
"دنيا"(خارج المسابقة)، أضفت نوعاً من المبالغة في متابعة
فصول هذه القصة المتهاوية. بطلة الشريط تدعى دنيا(حنان
الترك) تحمل في يدها ليسانس آداب، الا انها تقرر وراثة
مهنة والدتها الراقصة بعد وفاتها.
- وهكذا منذ اللقطة الأولى، ندخل في عالم دنيا وهي تجتاز
امتحانها الأول في الرقص عندما يطلب منها قراءة نصوصاً من
الشعر العربي القديم، لكن حالة نكوص تصيبها فتقعدها على
خشبة المسرح، وحجتها كما جاء على لسانها: كيف يمكن للمرأة
من تحريك جسدها وتوحي بفعل الحب، بينما يسعى المجتمع الى
إخفاء أنوثتها وعدم الإعتراف بها. جوابها الجرئ، واجتياز
امتحان الرقص، يثير إعجاب الأكاديمي والكاتب بشير (محمد
منير)، ما يجعلها تدور في فلكه. فهذا الأكاديمي، المهووس
بالحفاظ وطبع كتاب "الف ليلة وليلة" والشعر العربي القديم،
يتعرض الى اعتداء غاشم يفقده بصره من قبل جماعة متزمتة لا
تروقها تأويلاته التقدمية للتراث. لكنه سرعان ما ينغمر في
حالة حب صوفي مع صاحبة بانسيون، ظلت تراوده بعطرها وجسدها
الفارع البض. ومع هذا يقرر اصطحاب دنيا الى محل لبيع
العطور حتى تفضحه صورته كمغن!
- بالمقابل تواصل دنيا تدريباتها في هز ردفيها، كتحد فردي
ضد الإقصاء الاجتماعي، على يد أستاذ فن الرقص الأشهر في
مصر (اللبناني وليد عوني)، الذي ظل يذكرها بعزيمة والدتها،
هي نفس صورة دنيا المعلقة على حائط صالة التمرين والتدريب،
وكتورية لإحلال جسدي بين الأم الراحلة وأبنتها على الطريقة
الصوفية. او زيارتها لبيت تسكنه حفنة راقصات من جيل
والدتها للتعلم منهن هز الردف. فيما يتحرك على الهامش
شخصيات ثانوية، سائقة تاكسي عمومي مسترجلة تناكد زملائها
الرجال من السواق وتقاسمهم طبق الكشري، لكن تحررها الشكلي
الذي رسمته المخرجة يسقط في فخ شبقها الجنسي ونداءاتها
المتكررة في زحمة شوارع القاهرة لزوجها الميكانيكي.
- نص شريط "دنيا"، كتبته صعب بنفسها، متهاوي الى درجة انه
يسئ للمرأة ولقضاياها. إذ من الصعب اختصار المواجهة مع
القوى المحافظة في بلداننا عبر الرقص الشرقي، او المطالبة
بالتحرر الجنسي، من دون الوقوف على أس المشكلة النسوية
وبحثها، بدلاَ من استبدالها بيافطة الأمم المتحدة التي
تظهر في آخر الشريط من" ان 97 بالمئة من حالات الختان
متوافرة في مصر". دنيا مخلوقة هجينة، أرادت من خلالها صعب
ان تتكئ على رغبة طالبة تقايض شهادتها الجامعية بعالم
الرقص وهز الأرداف، وعلى أكاديمي يلوك الماضي السعيد
ويفضحه سلوكه الصبياني، وعلى شخصيات ثانوية لا تمثل في
مجموعها إلا نفسها. ولعل شريط "دنيا" يمثل أفضل هدية
مجانية قدمتها صعب الى من أرادت مواجهتهم في ذهنها.
- بيد ان رهان هاني أبو أسعد في "الجنة الآن"(فقرة عرب في
سينما العالم) جاء من طينة أخرى. فقد حقق هذا الشاب شريطاَ
متوازناً ومحكماً أقرب الى الشهادة السينمائية الحية، وعبر
قراءة متأنية للاسباب التي تدفع بالشباب الفلسطيني الى
تفجير أنفسهم. ومن خلال متابعة قصة سعيد وصديقه خالد
اللذين يعملان في كراج لتصليح السيارات في مدينة نابلس،
ووقوعهما بفعل اليأس والأحباطات من العنت الأسرائيلي
وانسداد آفاق المستقبل، تحت تأثيرات الجماعات الأسلامية.
مراحل التجنيد تمر عبر سلسلة أختبارات، وضمن جدول زمني
محدد، الى ان يتم تزنيرهما بمفخخات بهدف تنفيذ عملية
انتحارية في تل أبيب. بالمقابل يدفع المخرج بفلسطينية تعيش
في الخارج، كتورية عن فلسطينيّ الشتات، الى واجهة الحدث
كونها ترى ان هناك بدائل سياسية لحل القضية الفلسطينية.
- لم يترك المخرج حبكته الدرامية تفلت من يديه. بل طعمها
"بقفشات" تهكمية، خصوصاً مشهد تلقين الشابين دروس التفجير
فيما يلتهم أحد مسؤولي الجماعات الأسلامية سندويشاَ. أما
اللمسات النهائية للعملية، فيشرك المخرج طرفاً أسرائيلياً
مقابل مبلغ من المال. تفشل العملية في أولها بسبب خطأ في
التوقيت، مما يثني أحدهما ويواصل الأخر مهمته وهو جالس في
حافلة مع مجموعة جنود اسرائيليين، وعبر لقطة أخاذة تقارب
فيها الكاميرا لما يدور في رأسه. شريط "الجنة الآن"، نال
جائزة الملاك الأزرق كأحسن فيلم أوروبي وجائزة منظمة العفو
الدولية في مهرجان برلين الأخير، قراءة سينمائية/ سياسية
شجاعة، تتعالى على الوجع والعسف اليوميين، ولا تصادر حكم
المشاهد رغم إدانته للعنف.
|