اراء وافكار

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

الإسلام والديمقراطية الليبرالية ..الإقرار بالتعددية

ليث كبة

عن: المنبر الدولي للحوار الإسلامي

يمكن النظر إلى مسألة التوافق بين الإسلام والديمقراطية الليبرالية من زوايا متعددة. إن الجدل الدائر حاليا بين المسلمين والغربيين حول علاقة الإسلام، كديانة سماوية مُنزّلة، بالديمقراطية كشكل محدد للحكم في عصرنا الحديث، إنما ينطوي على فكرة أن الإسلام يحبذ شكلا معينا للسياسة والحكم. إن الإسلام يدعو إلى مبادئ الحرية والكرامة الإنسانية والمساواة والحكم المعقود بالبيعة ورضا المحكومين وسيادة الشعب وحكم القانون، وهي المبادئ التي تتوافق مع الخصائص الأصيلة للميراث الثقافي للديمقراطية الليبرالية، من دون أن تكون جزءا منها. وبنظرة إلى تاريخ المسلمين، سيتضح أن العقبات التي حالت دون نجاح محاولاتهم، لإيجاد نظم سياسية تتسم بالانفتاح وتنصيب حكومات ديمقراطية، تتمثل فيما يلي:
1- ثقافة سياسية شمولية متأصلة.
2- تأويل آي القرآن الكريم بحسب الأهواء.
إن آفاق ترسيخ الديمقراطية الليبرالية في بلاد المسلمين رهن بتطور ثقافتهم السياسية. وبينما تمتد جذور السياسات الديمقراطية في الغرب إلى قرون من التطور المستمر، فإن النظم السياسية الحديثة في دول العالم الإسلامي خضعت لسلسة من التغييرات المبتسرة، منذ انهيار الخلافة الإسلامية في عام ألف وتسعمائة وأربعة وعشرين، وما تلاه من تحرر هذه الدول من الاستعمار في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية.

الثقافات والعادات والتقاليد
لأن المسلمين يعتبرون العادات والتقاليد التي واكبت ظهور الإسلام جزءا من الرسالة السماوية، فإنهم دائما ما يستمدون نظرتهم إلى الحياة من نظرة من عاشوا تلك الفترة، وذلك بدلا من استخلاص نظرتهم الخاصة إلى الحياة، استنادا لتعاليم الإسلام الأصيلة ومستجدات الواقع الحديث في الوقت ذاته. إن تعاليم الإسلام شكلت تاريخ مئات الملايين من المسلمين، وثقافتهم السياسية على مدى أربعة عشر قرنا من الزمان، واستوعبت كثيرا من الأمم والثقافات والطوائف والمذاهب. إن الإسلام يسع جميع المسلمين، محدثين كانوا أم تقليديين، محافظين أم ليبراليين، حاكمين كانوا أم معارضين، سنّة كانوا أم شيعة. ومع الإقرار بصحة أن الحكام المسلمين سعوا منذ أيام الخلافة الأولى إلى استمداد شرعيتهم من التقاليد الإسلامية، فإنه لا يمكن تجاهل حقيقة أن هذه التقاليد والتعاليم الإسلامية ذاتها كانت مصدر إلهام للجماعات المعارضة، التي سعت بها إلى تبرير استيلائها على السلطة عنوة، في بعض الأحيان، وحشد الجماهير من أجل الكفاح الوطني أو للجهاد، أو لأهداف أخرى.
ومن قديم، فإن القَبَلية وسمت حياة المسلمين السياسية. ومن ثم تبع ذلك نزعة دائمة نحو عدم احترام حكم الدستور والحكم النيابي، وما نتج عنه من صعوبة في تطوير مؤسسات ديمقراطية، ووضع ضمانات للمحافظة عليها، مثل إيجاد التوازنات السياسية وما إلى ذلك. وعلى مدار التاريخ لم يشارك المسلمون في اختيار حكامهم، كما لم يكن لهم حق في أن يكونوا جزءا من حكوماتهم. ونادرا ما لقي الأفراد أو الجماعات المعارضة، ممن استولوا على الحكم عنوة، نادرا ما لقوا أي مقاومة من جانب الشعوب الإسلامية. وتستمد هذه السلبية السياسية جذورها من تعاليم دينية، وقد ذهبت إلى حد تبرير شمولية الحكم في العالم الإسلامي. ودائما ما كان هناك مفكرون مسلمون ينتقدون باستفاضة التفسير الضيق للقرآن، ويبرزون الجانب السلبي في إتباع الممارسات التقليدية، لكن أحدا لم يصادف أي نجاح في الإنصات أو الاستجابة لانتقاداته تلك.
وينتمي إلى هذا الخط الفكري سوروش وكثير من المفكرين المستنيرين الذين يمثلون تيارا أوسع من المؤمنين بالفكر الإسلامي المستنير. أما رجل مثل راشد الغنوشي، الزعيم الإسلامي التونسي ومؤسس حركة النهضة، فإنه يحاول، مثله مثل باقي قادة الأحزاب الإسلامية، أن يدلف إلى ما وراء العقيدة والتعاليم والشعائر والطقوس والحوادث والظروف التاريخية، بحيث يضع إطارا ومفهوما يمكن من خلاله التوسع في فهم أساسيات الإسلام وجمعها إلى بعضها البعض بشكل جديد، من أجل صياغة رؤية عالمية رصينة ومتماسكة للإسلام، تتجاوز حدود التفسير الكلاسيكي للقرآن الكريم.
ومثلهم مثل من سبقوهم من مفكري القرن العاشر الذين فكروا مليا في القضايا الإسلامية، وعلقوا على عمل فلاسفة الإغريق العظام، فإن من غير المتوقع من المفكرين المحدثين أن يكون لهم تأثير كبير على الطريقة التقليدية التي يتم بها تفسير النصوص الدينية، بل إن هذا التأثير ربما يتضاءل أكثر فيما يتعلق بهيكلية السلطة والمواقف السياسية في وقتنا الحالي. إن الأعداد المتزايدة من الإسلاميين الذين يؤمنون ويلتزمون بتفسير عصري لتعاليم الإسلام، إنما تقل فرصة تأثيرهم على المدى القصير. لكن الأمر يختلف على المدى البعيد. فمع إعطائهم وقتا كافيا، يمكن أن يكون هؤلاء الإسلاميون قوة استقرار وبناء، ذات قدرات هائلة لتطوير المؤسسات العامة وتحديث المجتمعات الإسلامية. وعلى الرغم من أن الإسلاميين الليبراليين هم من جزء من التيار العام للحركة الإسلامية، فإن وجودهم لم يرسخ بعد. فهم لا يحصلون على دعم الحكومات، ولا على تأييد الجماعات السياسية التقليدية أو الأحزاب الراديكالية. فأنصار المدرسة التقليدية ينظرون إليهم بوصفهم "متفرنجين"، بينما يراهم الراديكاليون "مفرِّطين"، في الوقت الذي ينظر إليهم الحكام المستبدون على أنهم "خطر" على أنظمتهم.

التفسير والتأويل
إن الاضطرابات التي طالت كثيرا من الدول الإسلامية في السنوات الأخيرة، دفعت المفكرين المسلمين إلى مراجعة التراث الإسلامي برمته، ومدى فهمهم للإسلام. لكن ثمة مخاطر تكتنف هذا المنهج. فالأصولية، بما تقدمه من أجوبة بسيطة لمشكلات معقدة في العالم الإسلامي، نمت وترعرعت في المجتمعات المسلمة، انطلاقا من مراجعات مماثلة. لكن تجربتَيْ إيران والسودان أثبتتا أن الأصولية، عندما تحكم، فإنها تكون غير قادرة على حل جميع المشاكل، بل إنها عقّدت في واقع الأمر مسألة تطبيق القيم الإسلامية في حياة الناس. وعلى الرغم من يقين المسلمين بأن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة هما مصدر التشريع الوحيد، فإن التاريخ الإسلامي شهد خلافا حول من يجب أن تكون له السلطة شرعا، ومن ثم يقوم بتفسير نصوص الدين الإسلام، ويمارس الحكم في الوقت ذاته، على غيره من المسلمين.
لم يتفق الرعيل الأول من المسلمين على إجراء بعينه لاختيار الخليفة، وهو ما أدى إلى حدوث انقلابات واقتتال بين المسلمين في بعض الأحيان. واليوم تتصدى لتفسير الإسلام مدارس دينية ذات دور محدود في إدارة المؤسسات العامة. ولأن هذه المؤسسات سياسية تقليديا، فإن فئتين هما: رجال دين نشطون، وجماعات سياسية، احتكرتا تفسير الجوانب السياسية للإسلام. وقد أدت المحاولات الأخيرة من جانب الزعماء الدينيين أو الأحزاب السياسية لتطبيق الإسلام في حياة الناس إلى نتائج لا تبعث على السرور. وقد أشعلت هذه الإخفاقات بدورها نقاشا بين المسلمين، حول إمكانية تأويل القيم الإسلامية بطرق تتوافق مع الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية السياسية. وقد تأخّر هذا النقاش طويلا، لأن غياب الفهم السليم فيما يتعلق بالعلاقة بين الإسلام والسياسات الديمقراطية، هو الذي أعطى المجال للجماعات الزاعقة والمصطبغة بالصبغة السياسية، لتفسير الجوانب السياسية والاجتماعية للإسلام، بالطريقة التي تخدم أهدافها السياسية، وهي الظاهرة الأكثر بروزا في دول مثل إيران والجزائر وأفغانستان ومصر والسودان.
إن الحكومات الحالية في دول العالم الإسلامي تواجه التحديات الخاصة بتحديد دور الإسلام في حياة الناس، بإنشاء هيئات دينية تابعة لها، وظيفتها الأساسية وضع تأويلات للإسلام ترضى عنها تلك الحكومات. وفي محاولة بدا واضحا أن هدفها هو قطع الطريق على توظيف المعارضة للإسلام، شكّل العاهل السعودي الملك فهد بن عبد العزيز مجلس العلماء، تحت إشراف شقيقه الأمير سلطان. وبالطريقة ذاتها أعرب العاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني عن قلقه إزاء النزاع بين الإسلاميين والحكومة في الجزائر المجاورة، باقتراح إنشاء هيئة دينية إسلامية عليا مشابهة للفاتيكان.
وثمة مثال آخر من إيران. فبعد وفاة آية الله العظمة أراكي مؤخرا، قررت الجمهورية الإسلامية إسناد منصبه الروحي إلى رئيس الجمهورية، ليجمع بذلك شخص واحد بين السلطتين الروحية والسياسية. إن الموقف الذي تتخذه الجماعات الإسلامية المصطبغة بالصبغة الإسلامية، من قضايا الحكم القابل للمحاسبة والحداثة، يصعب عادة تحديده أو الوقوف عليه بجلاء. وعادة ما تتعارض مصالح الجماعات السياسية المتنافسة، وبالتالي تحول دون تطبيق برامج سياسية مؤثرة في المجتمع. ويبدو أن الأحزاب السياسية في ماليزيا وتركيا قد وعت هذا الدرس. إن في القيم الإسلامية إمكانيات هائلة لتطوير المجتمعات الإسلامية، شريطة تطبيقها بوسائل لا تعرقل الديمقراطية.
إن زحف التطور التكنولوجي، الذي لا يمكن وقفه، سيكون له أثر هائل على جميع الثقافات ومن بينها الثقافة الإسلامية. إن إيجاد طرق اتصال سريعة يسهل الوصول إليها في أي مكان، يعني قدرة المسلمين على التفاعل مع بعضهم البعض، ومع أبناء الديانات والثقافات الأخرى، بمعدل غير مسبوق. وبينما يعكف المسلمون على وضع استراتيجيات لتحقيق النمو الاقتصادي في عالم يذخر بالمنافسة، ويعيدون فيه تحديد أولوياتهم، فإن نظرتهم ستتحول من مجرد تبني المفاهيم وقيم الإسلام المجردة إلى التركيز على واقع المسلمين اليوم. سيظل المسلمون يرون في الإسلام مصدرا للهوية على المستويين الشخصي والعام، ونبراسا للاهتداء الأخلاقي، ولكنهم سيبدؤون أيضا في النظر نظرة نقدية للميراث الذي خلفته الأجيال السابقة ،والتي قد تكون نظرت لتفسير النصوص الإسلامية نظرة ضيقة، ركزت فيها فقط على حوادث التاريخ أو وقائع بعينها، دون التركيز على جوهر العقيدة. إن السبيل إلى مستقبل أفضل إنما تكون بالاعتراف بالتعددية، وإقامة نظم سياسية تتسم بالانفتاح والشفافية، وتنصيب حكومات ديمقراطية في جميع أنحاء العالم الإسلامي.


الإعلام والإرهاب

ديفيد إيلشتاين

ترجمة:المدى
عن: أوبن ديموكراسي

لم تكن هجمات 11 أيلول على مركز التجارة العالمي والبنتاغون، بالنسبة للبعض، سوى هجوم على النموذج الغربي للديمقراطية. والمفارقة، أن هذا التفسير لأحداث أيلول قد أثار جملة من الردود، التي شكلت للكثير من المدافعين عن الحريات المدنية تهديداً خطيراً للديمقراطية، يفوق ما أحدثته هجمات الإرهابيين نفسها. لقد وجد المراسلون والصحفيون أنفسهم في مرمى النيران، وذلك لتطلّع كلا الجانبين إلى دفاع وسائل الإعلام عن وجهة نظره.
كان المنعطف الحاد الذي قامت به الحكومات الغربية بعد 11 أيلول، أحد أسباب الهشاشة الشديدة لموقف وسائل الإعلام، إذ لم تتوفر حتى ذلك التاريخ سوى رغبة ضئيلة بالاعتراف، ناهيك عن تبنّي، الفكرة القائلة إن الهجمات على الأهداف الغربية (قواعد، سفارات، منشآت عسكرية) تتبدّى بأشكال متناسقة، وتستلهم مصدراً عدائياً محدداً. إن أسباب ذلك مفهومة، إذ لم ترغب الحكومات بالإيحاء أن الأحداث تجري خارج سيطرتها. لقد فضّلوا تصنيفها على أنها أعمال عنف عشوائية، أو أعراض للصراع على السلطة في العالم الأقل تحضراً، على الاعتراف بأن هذه الهجمات قد تكون رداً على السياسات الغربية.
وفي هذا السياق، تم تشجيع وسائل الإعلام على النظر إلى الأحداث الإرهابية بصفتها ذات طابع محلي لا عالمي. إنه نزاع داخلي لا دولي، وخارج أية أدوات عقلانية للرد. وبسبب طبيعتهم لم يكن التفاوض مع الإرهابيين مطروحاً، فقد كانوا بلا مطالب سياسية متماسكة أو أن مطالبهم تقع خارج النطاق الديمقراطي.
بعد 11 أيلول تغيرت صورة الولايات المتحدة تحديداً (والمملكة المتحدة بدرجة أقل) بصورة دراماتيكية، إذ ارتقى "الإرهاب" إلى المستوى الذي احتاج ردوداً حربية، واستنفاراً للسلطات الحكومية إلى مستوى أزمنة الحروب. وهذا ما وافق الحكومة الروسية التي كانت وما زالت تواجه تمرداً منفلتاً في الشيشان، وجعل المبادرة بالهجوم على أفغانستان مفهومة. وقد تمثلت استجابة وسائل الإعلام بتأييد ذلك إلى حد كبير.
من جهتها اعتادت الحكومات البريطانية، خلال مواجهتها تمرد الجيش الجمهوري الأيرلندي في السبعينيات والثمانينيات، على مهاجمة وسائل الإعلام لمحاولتها مناقشة "أهداف" الموسومين بالإرهابيين، بحجة عدم إعطاء الذين يقومون بأعمال وحشية ضد السكان المدنيين ما دعاه أحد الوزراء "أوكسجين الدعاية". وبالمثل كان أي تساؤل جدي حول إجراءات الدولة، في حملتها المناهضة للجيش الأيرلندي، يوصم بالخيانة.
من هنا اندفع البرلمان البريطاني، في بداية حملة تفجيرات الحانات في برمنغهام بتشرين الثاني 1974، إلى إصدار "قانون حظر الإرهاب" (الذي قدم كإجراء مؤقت، تم تجديده في السنوات اللاحقة بالحد الأدنى من النقاش)، إذ حدّ هذا القانون من حقوق المعتقلين بتهم إرهابية، مما أدى إلى سلسلة من الانتهاكات المشهودة للعدالة، والتي لم يصحح بعض منها على مدى نحو عقدين، إلا بعد ضغط وسائل الإعلام الملح.
ونشاهد اليوم الاستجابة نفسها تجاه الأحداث المدمّرة في الولايات المتحدة وبريطانيا. فحملة أفغانستان رافقها تقييد للحقوق المدنية محلياً، في حين يجب على الديمقراطية، كما أخبرونا، أن تدافع عن نفسها. وهكذا شددت الدولة من سلطات الرقابة والاعتقال والاحتجاز والسرية.
وفي البدء فسحت وسائل الإعلام المجال للسياسيين نتيجة تراجعها المذعور خلف المشاهد المروعة. واندرج شعار "الحرب على الإرهاب" في النشرات الإخبارية التلفزيونية في الـ
BBC بمقدار بروزه على فوكس نيوز. وبدا الدفاع عن الحريات في الوطن نافلاً عندما تم إعلامنا عن معامل السارين، وخلايا الإرهابيين والإسلاميين المتطرفين الذين يهدّدون بخسائر بشرية كبيرة، هذا إذا لم نقل يهددون أسلوب حياتنا برمته.
وقرر عدد من المطبوعات ومراكز البث، مع وعيها قيام السياسيين بالعزف على أوتار المشاعر العامة، عبر خطاباتهم الحربية ومن خلال عدم تأكدهم من الحقائق نفسها، أن تعتمد خلاصات المصادر "الموثوقة" كما هي.
وكان من النادر أن تتحدى صحيفة أو قناة تلفزيونية تدفق التأكيدات المتواصل حول التهديد الذي يشكله العراق على الولايات المتحدة وبريطانيا، ناهيك عن الشرق الأوسط. والغالبية تجاهلت الاعتراف "البهيج" لرئيس الأركان الإسرائيلي موشيه يعالون، بأن القلق لم يساوره حيال العراق على الرغم من قربه الشديد. وأخذ بعض الناشرين قصة سعي العراق للحصول على اليورانيوم من النيجر على محمل الجد، وذلك بعد وقت طويل من إظهار البيّنة على عدم موثوقيتها. ولعدة أسابيع بعد غزو العراق، تعرضت الـ
BBC، بعد إثارتها للشكوك المتعلقة بتكامل الملف الحكومي الصادر قبل 6 أشهر من الغزو، إلى حملة تشويه وزارية تجاوزت كل ما عرفته سابقاً خلال نحو ثمانين عاماً من العمل الصحفي.
وبعد اقتناع الغالبية العظمى من ممثلي وسائل الإعلام بصيغة "إلحاقهم" بالقطعات، خلال الحملة على العراق، بدأ كبار ضباط الجيش الأمريكي يشككون بدور وسائل الإعلام في تقويض الأنشطة العسكرية، من خلال تقاريرهم المفتوحة التي نشرت بعد الحرب. وقام نقاد وسائل الإعلام، من جهة أخرى، بتبويب الأخطاء المتعمدة وغير المتعمدة التي اقترفها بعض من أكبر ثقات مقدمي أخبارنا خلال تغطية غزو العراق. واعتذر بعض المتّهمين، بينما فضل آخرون الرد من خلال الموازنة في نشر التقارير المؤيّدة للحكومة، وتلك التي تفند الافتراضات المسبقة لمفهوم "الحرب الشاملة على الإرهاب".
وهكذا تتمكن الـ
BBC من نشر الوثيقة الدرامية المخيفة عن مخاطر القنبلة النووية القذرة، وتعرض بعدها سلسلة وثائقية بعنوان "سلطة الكوابيس" التي أخرجها آدم كيريتس، وهي تكشف، من بين أشياء أخرى، عدم قدرة القنبلة القذرة على قتل أحد، ناهيك عن عموم السكان.
مع ذلك، تعرضت فرضية كيرتيس، التي تفترض المبالغة بتماسك القاعدة، والتهديد الداخلي لبريطانيا والولايات المتحدة، للتحدي بالهجوم المروع على مدريد في آذار 2004. وواصلت وسائل الإعلام، في سياق هذه الأحداث، نشر التصريحات المتكررة لأصحاب السلطة عن حتمية المزيد من هذه الهجمات.
وقد أدى ذلك بدوره إلى تشكيل مناخ موات للمزيد من تآكل الحريات المدنية المتمثلة بالإعلان عن خطط تتعلق بالاحتفاظ الطويل بموقوفي غوانتانامو من غير محاكمة. ووقع على عاتق الهيئة القضائية، وهي المحكمة العليا في الولايات المتحدة، والإطار التشريعي لمجلس اللوردات البريطاني، وضع القيود على مثل هذا التوسع في صلاحيات السلطة التنفيذية. وأعلن ثمانية قضاة من أصل القضاة اللوردات التسعة عن فداحة التهديد، الذي يمثله الاعتقال الاعتباطي من دون محاكمة للأجانب المشتبه بهم في بريطانيا، للحريات على ما يفترض بالإرهاب أن يقوم به.
وعلى خلاف الهيئة القضائية، لا تزال وسائل الإعلام مرتبكة في تحديد دورها. وهي تتردد، تحت تأثير ردة الفعل العاطفية لأحداث 11 أيلول وبالي ومدريد، في مواجهة رغبة السلطة التنفيذية في توسيع صلاحيتها، حتى أن بعض رؤساء تحرير الصحف يظاهرون هذه الرغبة. مع ذلك، فإن الديمقراطية (والعدالة) اليوم بأمس الحاجة إلى تقاليد وسائل الإعلام الحرة في الدفاع عنها. إن نفور وسائل الإعلام من تبنّي هذا الدور في مواجهة الرأي العام، الذي تسيّره القيادات السياسية، ناجم عن الخراب الذي أحدثته الهجمات الإرهابية فينا جميعاً.


الكتب المعادية للإسلام والمخاوف من العنصرية

صوفي آري

عن: الغارديان

في السادس من أيلول 2004 حذّرت مجموعات حقوق الإنسان من أن العنصرية أصبحت موضع تسامح متعاظم في ايطاليا، بعد أن نشرت الجريدة الأكثر رواجاً في البلد Corriere della Sera، كتاباً للصحفية المشهورة أوريانا فالاسي، تحذر فيه من غزو العرب ايطاليا. وظهر المؤلف من 160 صفحة، في أكشاك البيع مع الجريدة. ووجهت فالاسي، في كتابها، انتقادات لاذعة للحكومات بسبب فشلها في منع أوربا من أن تصبح عربية الطابع (Eurabia) و"مستعمرة للإسلام"، في عملية خفية تشبهها بعملية "إحراق طروادة".
ويقول لوسيانو سكاليوتي، رئيس الفرع الإيطالي للشبكة الأوربية المناهضة للعنصرية: "يسبب هذا النوع من الجدل الكثير من الضرر. نحن خائفون جداً، لأن فالاسي وآخرين مثلها يستخدمون شعبيتهم لخلق الكراهية. فهي تقول لآلاف الناس بصورة مؤثرة أن يلاحقوا العرب خارج أوروبا". ويضيف قائلا: "إنها تروج لنوع من العنصرية التي لم تكن مقبولة في أوربا حتى سنوات قليلة خلت. والآن، بوجود هذا النوع من المطبوعات، تصبح مقبولة. كلما زادت طباعة هذه الكتب شعر الناس بوجود الدافع والتشجيع والمبرر لمطاردة (العدو) خارج أوربا".
وحذرت مجموعات حقوق الإنسان وخبراء الهجرة من أن رسالة فالاسي، فضلا عن الرسائل الزينوفوبية (المصابة برهاب الأجانب) المتكررة من التحالف الشمالي، العضو في تحالف سيلفيو بيرلسكوني الحكومي، تتغذى على الخوف من الأجانب، في بلد لم يعانِ من الهجرة الجماعية إلا في العقود الحالية.
وتتألف الجالية المسلمة، وهي ثاني أكبر جماعة دينية في ايطاليا الآن، من أكثر من 800,000 مهاجر من الجيل الأول أو الثاني. ومع ذلك، لم يتم الاعتراف بها رسمياً كمجموعة دينية، علما أن الحكومة الإيطالية قد وقّعت اتفاقيات مع ممثلين عن معظم المجموعات الدينية الأخرى الأصغر بكثير، لكن الإسلام بقي على الهامش، إذ فشلت الجالية الإسلامية الإيطالية الممزقة في تحديد ممثل ديني رسمي واحد لها.
لقد نشرت فالاسي الكتاب الأول لها بعد أحداث 11 أيلول، وكان بعنوان "الغضب والفخر
The Rage and the Pride"، وكان الكتاب الأكثر رواجاً دولياً، إذ تجاوزت مبيعاته مليون نسخة في ايطاليا وحدها. ونشر كتابها اللاحق "قوة المنطق "The Force of Reason"، في نيسان 2004، تقديرا "لقتلى مدريد"، وبيعت منه 800,000 نسخة في ايطاليا وحدها. ويهاجم كتابها الأخير قادة العالم ومنهم جورج بوش وبيل وهيلاري كلينتون وهنري كيسنجر، غير أنها ادخرت معظم سُمِّها للإرهابيين الإسلاميين والمحتجين ضد الحرب وأي شخص يساري، متهمة المحتجين بـ "الإرهاب الفكري"، وبأنهم تعرضوا لعملية "غسيل دماغ"، وأنهم "محبون للإسلاميين"، وسيسمحون بكل سرور لأسامة بن لادن بالعيش في ايطاليا.
يبقى أن نقول إن صحيفة
The Corriere della Sera، التي تخص مجموعة RCS الإعلامية، حيَّت فالاسي بوصفها "امرأة لديها الشجاعة كي تكتب الحقيقة عن الآخرين، وعن نفسها".

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة