المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

حين سألني جبرا كيف (شمّعت) الخيط ؟
 

صلاح حسن

(شمّعت الخيط) بهذا المثل العراقي المشهور استقبلني جبرا ابراهيم جبرا حينما جئت ازوره في فندق القدس في عمان بعد فراق دام سنوات. يقال هذا المثل، العراقي للناجي من بطش السلطات الجائرة مهما كانت. كنت قد فررت في العام 1992 بأعجوبة من ايدي المخابرات العراقية في ذلك الحين بمساعدة اشخاص لا اعرفهم حضروا من تلقاء انفسهم الى مقهى حسن عجمي واخبروني بضرورة الهرب الى أي مكان قبل حضور عسس الليل. المفارقة ليست هنا، ولكنها تكمن في الشخص الذي يستخدم هذا المثل. وحين يكون هذا الشخص جبرا ابراهيم جبرا فأن المفارقة ستتحول الى موقف وقرار خطير.
كان ذلك قبل سنتين او ثلاث سنوات من وفاته واذا كنت اتذكر جيدا فالمناسبة هي مهرجان جرش الثالث عشر. كنت مدعوا لقراءة نصوص للاطفال، وكان جبرا مدعوا الى مؤتمر في لندن وينبغي عليه ان يمر على عمان لانها كانت المنفذ الوحيد للعراق الى الخارج. طلب لي فنجان قهوة وبدأنا نسترجع ذكريات قديمة عن بغداد وشارع الاميرات واتحاد الادباء وسألني عن المعجزة التي جعلتني انجو من الكارثة (كيف شمّعت الخيط).
اخبرته بالقصة فهز رأسه في الهواء كأنه يعتذر عن سذاجة السؤال وسألني ان كنت بحاجة الى مساعدة مادية، ولكنه استدرك وقال ان لديه هدية لي سوف يحضرها في المساء اذا عدت الى زيارته ليلا. كانت قنينة عرق عصرية عادة ما يحرص القادم من العراق على تقديمها كهدية الى اصدقائه المنفيين الذين يعرفون مرارتها وطعم الطين فيها. في الصباح الذي تلا هذا اللقاء غادر جبرا الى لندن ولم اره بعد ذلك ابدا.
تعود علاقتي بجبرا الى منتصف الثمانينيات من القرن المنصرم واول مرة التقيه بشكل مطول كان في دار المأمون للترجمة حيث كنت اعمل هناك مصححا لغويا. اخبرني انه وجد لي بعض القصائد منشورة في صحف ومجلات متفرقة تصدر كلها خارج العراق الذي كان يخوض وقتها حربا عبثية مع ايران. كما اخبرني ايضا انه يحتفظ بهذه الصحف والمجلات في بيته ويمكنني ان ازوره والحصول عليها. كنت سعيدا للغاية من سلوك هذا الرجل الذي كنت انظر له بهيبة ووقار شديد.
بعد يومين كنت في بيته في حي المنصور الراقي في شارع الاميرات. بيت جبرا عبارة عن مكتبة كبيرة فالكتب تستقبلك اينما اتجهت حتى الممرات كانت تزدحم بجانبيها بكتب متعددة الاشكال واللغات. كنت مرتبكا قليلا وانا اجلس على طرف الكرسي حين فاجأني جبرا بصحن انيق فيه انواع مختلفة من الشوكولاتا واظن انها المرة الاولى التي اتناول فيها شوكولاتا حقيقية، فمن عادة جبرا ان يقتني الكثير من الحلويات الغربية عندما يكون في زيارة الى اوروبا. تناولت قطعة وبدأت اقلبها في فمي لطعمها المذهل قبل ان ازدردها وتناولت اخرى مثل طفل محروم يشجعني جبرا على تناول المزيد غير اني توقفت. بعد قليل ذهب جبرا الى المطبخ واحضر شايا مثلجا وقال لي جرب هذا. كنت مندهشا بقدر ما كنت فرحا بهذه الاكتشافات الجديدة (شوكولاتا وشاي مثلج) وفي بيت جبرا ابراهيم جبرا الذي احضر لي قصائدي المنشورة في الخارج!! أي نوع من الرجال هذا الشخص ؟؟ لم اكن اتكلم كثيرا وقد شعر جبرا بقلقي فقام واحضر الصحف ومجلة كبيرة هي مجلة اليوم السابع التي كانت تصدر في باريس وقد نشرت لي قصيدة طويلة اخذت صفحة كاملة من المجلة. كنت اتمنى ان اسمع من جبرا رأيه فيما اكتب وكدت اهم بسؤاله ولكني تراجعت في اللحظة الاخيرة. لقد كنت في الخامسة والعشرين.
خرجت من بيته وانا اكاد اطير من الفرح، ليس بسبب القصائد المنشورة في الخارج فقط ولكن لاهتمام جبرا الملحوظ بي هذا الرجل الذي كنت انظر اليه بوصفه شخصا يعرف كل شيء عن الادب والفن والترجمة اضافة الى ابداعه في هذه المجالات كلها. قبل ان اخرج اعطاني رقم هاتفه وقال انه يمكنني ان اتصل في أي وقت اشاء. عندما كان يقال لي ان جبرا في الخارج كنت انتظر بفارغ الصبر عودته محملا بعدد من الصحف والمجلات الجديدة التي كنا محرومين منها في العراق، اضافة الى الشوكولاتا والشاي المثلج طبعا.
البعض من المثقفين العراقيين كان يعتقد ان جبرا مستفيد من نظام الدكتاتور صدام حسين نظرا للمكانة التي يتمتع بها والامتيازات المادية التي يحصل عليها، ولكنني شخصيا اعتقد ان نظام الدكتاتور كان هو المستفيد من وجود جبرا في العراق، فلا احد يستطيع ان ينكر اسهامات جبرا الكثيرة في مختلف المجالات الادبية والفنية. لقد كان وجود جبرا بيننا محرضا بحد ذاته، وعندما يقول شخص مثله وبفم مملوء لشخص هارب من جحيم القتلة (كيف شمّعت الخيط) ؟ الحمد لله انك استطعت الهرب، يعني ذلك ان جبرا كان معنا وليس ضدنا ابدا.
* شاعر عراقي مقيم في هولندا.


محاباة

محمد النصار

يتقاسم الفجر الديكة
مع اللصوص.
ينبح عابر سبيل
حينما تنهره سحابة شرسة.
تتداعى بيوت
على أنهارها.
يغلط لغز
بتهجي أسماء الغزاة.
يبرر النهار
قطيع الكلمات الحائرة
يفح قلب حسرات
قلب
خارج تواً من المصيدة.
كل خريف
تتسول شمس مريضة
أصابعي.
.......
لافلت من عقاب العقل الصارم
لابد من المحاباة.


عبودية
لم يصفدوا هذا الذئب
لكنهم أدخلوه
إلى سجن الكلمات
وهناك
سملوا عينيه
التقرب إلى البراري
وليس التضرع
إلى الإله
هو ما ينساه
النهر عادة
حينما يقترح القلم
نافذة
لطائر يتنكر
للفضاء.
التكثيريون
يتوددون
للسراب المحاصر هنا
والجنائن
ملصوقة على جدرانها
صور العبيد المجهولين.

زوال
سواحل لا تكترث بأسماء الغرباء
ولا بعناوينهم.
زمن يصف الأوطان على عجل.
ثلاثة يجادلون بعضهم
الجمهور
والصبر
والأسطورة.
تجلد الريح الحبر
ونادراً
ما تتروى النار
في حكمها على الملوك المندحرين.
هذا ما تقوله الأسطورة للجمهور
بينما الحكيم الأدرد
يسرد أرامله للمجهول.
......
ضع القبعة بعيداً
أيها الرأس
المهيا للقطاف
أما الكتاب الذي ينز منه الدم
فلا أحد.
.......
في المدن تحتاج أن تكافئ النوافذ
أن تركز حيرتك بين الأفق والعدم.
ولا مناص من العيون التي يتلصص عليها المستقبل.
فقتل الجملة وليس الرغبة
ما يوصي به الشعراء
حينما يعود الموت
وحيداً
بلا غواة
.....
هذه الأسلاك الشائكة
ليست فهوداً
إنها بقايا سماوات
خانتها الآلهة.

 


أحلام فترة الإقتراع

محمد خضير
 

1- على باب الله
تدثرني الأحلام كما دثرت بدر شاكر السياب الطريح (على باب الله)، وقد امتدت فترة (سـرير المرض) في حياتـه من (الوصية) آخر قصائـد (المعبد الغريق) (بيروت 19 / 4 / 1962) حتى (إقبال والليل) آخر قصائد المستشفى الأميري في الكويت (غير مؤرخة) انطفأت في لهبها الراعش حياة السياب القصيرة (في 24 / 12 / 1964). كانت قصائد السياب خلال فترة المرض رؤى تطرق الباب على (أيوب) العصر التموزي محملة بأطياف القريـة المفقودة، تمنّيه بعودة الحنـان العائلي و رواء الحب الجسـدي الأنثوي الذي ضلَّ هدفه.
الفترة الخصيبة التالية كانت (فترة النقاهة) التي أنتجت أحلام نجيب محفوظ، بعد تعرضه لحادثة إغتيال في عام 1994. تأتي هذه الفترة في ختام مراحل تراكم أسلوب محفوظ الروائي، شفافة كالماس (تتوهج بتلك القطع الفريدة النادرة، المفعمة بالحكمة والإشارات الرمزية والألوان الباهرة المتعددة) حسب تعبير صلاح فضل.
فترتان، عمر الأولى أربعة عقود، وعمر الثانية تسعة عقود، تشرفان على فترة حياتي (فترة الإقتراع) وتحفزانها على بث أحلامها في عمر مشدود إلى زمن يتراجع إلى وراء فيلتقي بفترة السياب، ويتقدم إلى أمام فيتصل بفترة محفوظ، ويستقي من كلتيهما أحلام شباب وكهولة، نوروظلام، عجز وابتداع، سكون كالموت وجريان كالنهر يسير بالعمر إلى نهايته، نهاية الأشياء والحيوات، نحو النور أو نحو الظلام. في هذا الصباح من يوم الإقتراع، استيقظت وانتشلت الحلم الآتي من خضم وعي الفترة المزبد بالأحلام :
صفٌّ طويل من البشر،يتراصف مستقيماً قبالة بناية لا يفصح بابها عن دواخل منشآتها، ولا الغيوم التي تلامسها عن وقت تقاطر أفراد الصف الأوائل عليها، ولا اختلاف الأعمار عن المهمة التي استُدعوا لأدائها. التحقتُ بنهاية الصف، ولم ألبث حتى خرقت نظام الوقوف، وتقدمت عدداً من الأشخاص، بحافز جسور كنت اكتسبته من محاولاتي في خرق الصفوف المتقاطرة على الأسواق المركزية، وبارحتُ مكاني عدة مرات حتى شارفتُ مقدمة الصف، وكان يحتلها أشخاص هم أكثر المتقاطرين تململاً وتحرقاً لدخول المبنى من بابه الكبير، وقد أُرتِجَ أمام وجوههم.
لم يعترض مصفوفٌ على تجاوزي له في الصف، بل اكتشفت أن مصفوفين يتقدمون وغيرهم يتأخرون، في حركة إزاحة مستمرة، حتى ارتصفتُ وراء الأشخاص القلائل الذين يتكأكأون على مصراعي الباب المغلق وينكبّون على ظلال أمتعتهم المطروحة تحت أقدامهم منذ أمد غير معلوم. بدا الباب عظيماً، ثقيلاً بالمسامير التي ترصعه، ثابتاً في السور تحت عقد شاهق يتوّجه، بلا رتاج ظاهر يُقفِله، ولا مقبض خارجي يُدفع به، ولا رجاء يقصِّر انتظار الصف وإنْ طالَ زمناً لا تقدير لحسابه.
وما كدتُ أحسب مدة وقوفي أمام الباب، حتى انفرجتْ طاقةٌ في مصراعه الأيمن، فنهض رجل من رصفاء الباب وأطل منها برهة ثم عاد إلى مكانه مبلبلاً مهتاجاً. إنغلقت الطاقة بعد انفتاحها لحظات، وبات يفصلني عنها ثلاثة رجال : كسيح يتوكأ على عصا، يتبعه ـ يا للعجب ـ شيخ اعمى، يلاصقه مخبول مصاب بداء الفيل. سأل الأعمى رصيفه الكسيح عما شاهده عبر الطاقة، وكالَ المخبول السباب لرصيفه الأعمى. ثم حانت لحظتي فتقربتُ من الكوة وألصقتُ بها وجهي عندما انفتحتْ أمام بصري. أطللتُ على فناء وسيع، مبسوط بيد الخفاء و السكينة، ممدود بخفقات الأنفس التي انقطعت أدوارها واختفت عن الأبصار، ثم دنت الغيوم لتمسح آثارها بشآبيب المطر. نفضت الغيوم حملها، وعندما كفّت عن التهطال انشقت عن بشائر ضوء سقطتْ على بلاطات الفناء وغمرتْ وجهي بانعكاسها. جرى كل هذا النوء في إطلالةٍ غاب عني حسابها، فهي إما أقصر من رفّة جفن أو أطول من رقدة قبر.
سالني ظهيري عن رؤيتي، فأخبرته بمسرح الفناء ونوئه، فقال أنه رأى ما رأيت، ثم أضاف : كم لك من الوقت وأنت واقف أمام هذا الفناء؟ أجبت : سويعات. قال : أنت محظوظ. أمثالنا ينطرحون أعواماً أمام باب الله.
إلتفتُّ إلى محدثي، ففوجئتُ بانفراط الصف الطويل، إلا من الفيل المخبول الذي راح يصبّ لعناته على رأس الشيخ الأعمى، ومن ظهيري الكسيح الذي عاد إلى انطراحه أمام الباب، يدقّه بعصاه ملتاعاً، لاهجاً بصوت متهدج : (أتسمع النداء؟ يا بوركتَ تسمع.))

2- لقاء مع سعدي يوسف
لقاءاتي بسعدي يوسف نادرة في الحياة الواقعية، وندرة المصادفات التي جمعتني بمشاهير الأدب أمر غير مستغرب، إذ أني أؤمن بأن أقداراً سعيدة مثل هذه لن تقع لي أبداً حتى لو قصدت إليها بقوة. ولكي أحقق سعادات انفرادية بدأتُ بإعداد لقاءات حرة مع المشاهير في أحلامي. هكذا جاء الدور للقاء سعدي يوسف، وقد ظهر في حلمي مصادفة، وكنت حراً في اختراق نطاق غيابه المنيع.
كنا مجموعة أدباء، لا أتذكر وجهاً منهم، نجلس في غرفة، وكان سعدي يوسف يجلس وراء طاولة، يمسك بريشة ودواة حبر صيني، ويخط على ورقةٍ أسماء أدباء عراقيين، بالخط الديواني (لا أعرف إن كان سعدي يوسف يجيد هذا الخط فعلاً). هل كان سعدي زائراً، أم محرر صحيفة، أم موظفاً في مقبرة؟ لا تكشف الأحلام عن المواقع الأصلية التي تقع فيها، لذا افترضتُ أن الوظيفة الأخيرة مناسبة جداً لتفسير حلم اللقاء، فقد جرى الحوار التالي بيني وبينه، عندما كان يخط اسم أديب عراقي شهير. قلت لسعدي : (هذا الأديب ألدّ الخصوم لك ولي ولمجموعة من أصدقائه الذين انقلب عليهم).
ابتسم سعدي ولم يجب، وأفترضُ أنها من الابتسـامات النادرة التي ترف على وجه الشاعر المتجهم الذي ينطبع في الصحف وجهاً صخرياً لا يُنال أو يُستحضر على حقيقته الآدمية الأليفة.
تذكرتُ أني في حلم، وأني أخاطب شخصاً أستحضره بنفسي، وأني وحدي أدير الأسئلة والأجوبة، ولا أتوقع حواراً إيجابيـاً من الأشخاص الذين يعمرون حلمي. فجاة قال سعدي : (يتهمني الخونة إنني لا أكترث بالمقابر الجماعية. يا له من اتهام سخيف! لكنني فعلاً تركت المقابر وراء ظهري، ولا أفكر في زيارتها بعد اليوم).
شجعني قوله على سؤاله:(هل كتبتَ قصيدة عن المقابر؟ لم أقرأ شيئاً كتبته عن مقبرة).
عادت الابتسامة الغامضة إلى وجهه الذي لم يرفعه عن الورقة، بل واصل خطّ الأسماء بتجويد أكبر. تقدمتُ أكثر من هدفي وقلت : (أتتذكر مقبرة القرية؟ حدبات القبور المتفرقة، والسور الطيني الذي يتقافزه الأطفال وقت الظهيرة ليقتلعوا أزهار نوع من الحشـائش يدعـى (شيخ اسم الله) ينمو بين القبور. إنه منظر لا تشاهده في أية مقبرة أوربية ذات هندسة واخضرار دائم).
لاحظتُ اهتمامه بإفادتي، لكنه لم يصرح بشيء. كان يدير الفكرة في رأسه، كما افترضت، ولا يريد أن أشاركه سرحانه في مقابر الشعر، وانكبّ أكثر على خطّ الأسماء. ثم انتهى اللقاء فجأة، وغابت الوجوه كما تغيب عند انقطاع تيار الكهرباء، أو عند سفور فجر بضبابه الكثيف.
دوّنتُ الحلم في الصباح، وذهبت في تفسيره افتراضات شتى، أولها أن قصر الحلم يعود إلى قصر الحوارات الحقيقية في عالم الأحلام. فالأحلام صورية لا كلامية. أما مهنة الشاعر التي تجلى بها فقد فسرها الحوار نفسه حول المقابر. هل كان الشاعر يعدّ قائمة بالأسماء التي يزمع إرسالها قبله إلى العالم الآخر، أم أنها الأسماء التي يود مصالحتها على سفح البرزخ عندما تحين رحلته؟ لا تفسير أفضل من تجربة اللقاء نفسه. لكني أعرف أن هذا اللقاء نسخ أي لقاء حقيقي سابق، أو لاحق قد يحدث في أي مكان مع الشاعر.

3- الكتاب الأخير قبل الإعدام هل يفكر الكتّاب بإنهاء أعمالهم الأخيرة في الوقت المناسب، قبل انفصام لحظتي الحياة والكتابة؟ لقد وصلتُ إلى هذه المرحلة التي أقرر فيها وضع العنوان الأخير على قائمة مؤلفاتي، ثم أسلم رقبتي لأولئك الذين سيفصمونها ومعها كتابي. استبقتُ لحظة إعدامي في حلمي، وكنت احتسبُ دائماً لوضع السطر الأخير في كتاب عمري، والتوقف نهائياً عن العمل. أضع النقطة التي ستنهي السطر المتعرج في حياة كل كاتب على وجه الأرض. وعندما حان وقت تنفيذ الحكم رجوتُ الجلادين الذين يستعدون للإجهاز على أنفاسي أن يأخذوا مني العمل الأخير وينشروه.
كان حكم الإعدام يُنفَّذ ببشاعة. يُؤخذ المحكومون إلى جرف مائي ضحل، ثم يُضربون بهراوة على فقرات أعناقهم ضربات قوية متوالية حتى تنفصم ويطمسوا في الماء المضحل المخلوط بالطين. سيقَ قبلي كاتبان أنهيا كتابيهما للتو إلى حتفيهما، ورأيتهما يسيران مع جلاديهما طوعاً إلى المضحل المائي الذي ترسو فيه قوارب متجاورة كالحة اللون، من مخلفات ما كان يُعرف بالمرفأ القديم.
سبق تنفيذ الحكم استجواب قصير. سألني الجلاد الأكبر:(ما رغبتك الأخيرة قبل إغراقك؟). أخرجتُ من ثيابي رزمة أوراق مرتبة، وقلت : (أتمنى أن تنشروا كتابي هذا). (أستعيد حجم الكتاب، وأنا أدون هذا الحلم، فأتذكر على وجه الحقيقة حزمة أوراق لا تؤلف سوى فصل في كتاب). نظر الجلاد في الأوراق ثم قال : (لسنا ملزمين بنشر مخطوطاتكم، لكننا سنحترم رغبتك وندسّ ملزمة كتابك في وسط طبعة من روايات فرانسوا ساغان). (وأفكر الآن بوظيفة الجلادين الإضافية، وأظنهم كانوا ناشرين في دار ملحقة بمضحل الإعدام). قلت: (هذا كتابي الأخير وأريد نشره في طبعة مستقلة).
لا سبيل إلى تنفيذ رغبات الأحلام، مثلما لا تُحترم وعودها. فكرتُ بذلك وأنا أسير بين أيادي جلاديّ إلى مضحل السكون الأبدي، حيث لا صوت للضربات، ولا ألم، ولا نهاية لسطر الظلام الأخير، المتعرج على شاشة طابعة الأحلام.

4- نملة المقبرة
انتهينا من دفن رجل تحت جدار قبة الحسن البصري في مقبرة الزبير. حدبات القبور تتراصف حدَّ البصر، فوق الرمل المتحجر للمقبرة، شواهد قديمة، شواهد حديثة، حَفَرَتْ النمال أسفلها مساربَ غائرة، إلى أين؟ إلى الأجداث البالية، الأحلام الذاوية، أم إلى الدهر المتحلل ذرّاتٍ لا نهاية لها في ضوء الشمس؟ سرب أسود طويل، نملات كبيرات، تسعى بين الأقدام، غير آبهة بتلقين الميت كلمات الحياة الأخيرة، حكمةَ الموت التي خلّفها للأحياء المتجمعين حول قبره، أذانَ الظهيرة الذي أخذ يرتفع خلف حدود المقبرة، كم عمرها؟ هذه النملة الوحيدة، الضالة عن السرب، تصعد وهاداً، وتقطع مهاداً، قادمة من بعيد البعيد، إلى قريب القريب، ما مهمتها اليوم؟ تلتحق النملة الساعية بسربها، حاملة بين قرنيها اسم الميت المحذوف من قسائم الأحياء المقترعين على آجالهم.
5- نُصْب
يتابع المتفرج المندسّ بين آلاف المشجعين الصاخبين مباراة صامتة تدور رحاها في مضمار رأسه. ركلة صاروخية، الكرة تفلت من حدود الملعب وتنقذف في فضاء المدينة المعبأ بالغبار والضجيج. كرة تتلوها أخرى، تتقافز وتعيق سير طوابير السيارات والسابلة. مهاجمو المنتخب الوطني لكرة القدم يصلون هدف الخصم ويمطرونه بكرات تطيش وتطير خارج الملعب. هياج يتبع الكرات، لكن المتفرج المسمَّر بين الجموع النطاطة لا يسمع إلا رجعاً متقطعاً يرجّ أوتار الصمت في دهليزي أذنيه رجّاً هامساً، لا يميز فيه رجع النواح من رجع الزغاريد. حركات المذيعين وراء زجاج المقصورة المشتركة تفضح حرارة مباراة هجومية يتداول أشواطها رماة يتقاتلون بضراوة، وراء متاريس الملعب وراياته و اعلاناته وصخبه، على ملعب ملغوم.
كرات طائشة من كل نوع، يتابعها المتفرج في مقعده بين المقاعد الخالية من المشجعين الخُرق. تخطف الكرات فوق رأسه وتسقط في الفضاء المحيط بالملعب، كرات جلد تتقافز على الاسفلت، كرات حديد ونحاس لامعة تتدحرج في منعطفات الأزقة. انتهت المباراة، فرغت المقاعد، إلا أن مكبرات الصوت المحيطـة بالملعب متدفقة بالصراخ والتهريج : عبارات حماسية، بيانات حرب، أوامر قتل، منع سفر، تعليمات عزل وتهجير. أضواء الملعب الكشافة مسلطة على النصب الذي يخلّد مباريات الحقـد والقسـوة : كرة معدنيـة كبيرة في وسـط الملعب، تسحق العشب النديّ، تملأ سطحها الأملس الشقوق والثقوب السود.
ينتبه المتفرج الوحيد بين مدرجات الملعب على كرة يطبق عليها بأصابع كفّه، كرة بليارد خضراء، كرة أحلامه تشع ببريق خافت.
كانون الأول 2005


في رحلتها من أكاديمية الفنون ببغداد الى مسارح الدانيمارك ميديا رؤوف: كنت أُطارَدُ لأنني كوردية!
 


اجرى الحوار: زياد خداش

حين تكتب امرأة كوردية، أو ترقص أو تغني أو تمثل، فهذا يعني أن ثمة استثناءات كبيرة هنا، فليس بسيطاً او عادياً ابداً ان يمارس الكوردي او الكوردية الفن. هنا نحن مع فنانة مسرحية كوردية عراقية تعيش في المنفى البارد، في الدانمارك، حيث الآخر يطل برأسه، و حيث الوطن لا يغادر ابداً. (ميديا رؤوف) فنانة تعيش عدة مناف، اقساها كونها امرأة في مجتمع متحرر شكلاً، لكن تمور داخله كل استلابات العالم وكل صنوف القهر. هنا اجابات ميديا:
*كفنانة مسرحية عراقية تعيشين المنفى بكل صقيعه وثرائه، كيف تنظرين للعراق اليوم حيث الفوضى والجنون والاحتلال؟
منذ العام 1992 و انا اعيش المنفى، و قبل هذا الوقت كنت اعيش منفى من نوع آخر، منفى داخل بلدي. الخارج وفر لي الأمان، اما في بلدي فقد كنت اعيش الرعب و الخوف، رعباً من السلطة التي لا تستطيع الهروب منها، حتى لو سجنت نفسك بين اربعة جدران، الرعب الذي يطاردني حتى هذه اللحظة، الرعب الذي يقتحم حتى احلامي، هناك قصص و حكايات عشناها، لا يمكن ان تصدقها، الا في الافلام و الروايات الفنتازية البعيدة عن الواقع، و لكنها حصلت رغماً عنا. الفرق بين المنفيين، هو فقط وجود عائلتي و اصدقائي في بلدي، الذين حرمت منهم في السنين الاخيرة. عندما اعود الى الوراء، لا اتذكر سوى مشاهد العنف و القتل و الدم. كنت اطارد لأنني كوردية، هل هو ذنبي؟ كنت اسأل نفسي هذا السؤال دائماً: لماذا؟ أليس من حقي ان تكون لي هوية و لغة و ثقافة خاصة بي؟ ولكن بعد ان وعيت، عرفت ان العراقيين كلهم مطاردون، ليس لأنهم اذنبوا، بل لأن هناك سلطة مريضة، سلطة يديرها شخص واحد لا شريك له و لايقبل الشراكة، يتدخل في تفاصيل حياتك، شعاره انت تفكر اذن انت مطارد. اما بخصوص الاحداث في العراق، فهي حالة جداً طبيعية، تحدث في نهاية كل حرب، و خاصة في العراق، في ظل نظام دكتاتوري دام سنوات، نظام كان كل همه ان يحافظ على نفسه على حساب الشعب والوطن، نظام كان موت الانسان فيه عادياً. لست سعيدة عندما ارى بلدي يتمزق، ولكنني اعي ما يقع. لقد عشت هذا الوضع في كوردستان بعد ان تخلصنا من الطاغية قبل (12) عاماً، كانت هناك فوضى، وثارات، هناك من تلطخت أيديهم بالدماء، والناس لن تغفر لهم. ولكن بعد ذلك سارت الامور الى الافضل. وانا ارى مستقبل العراق سيكون اجمل بكثير مما كنا عليه سابقاً، المهم انتهينا من كابوس اسمه صدام حسين.
*انت تعيشين ثلاثة منافٍ، منفى كورديتك المطاردة و منفى عراقيتك و منفى جنسك كامرأة، كيف تتعايشين مع هذه المنافي؟ وكيف تحتملين كل هذه المتاهات؟
- المنفى بات عادياً جداً، فانا منفية منذ طفولتي، و تائهة، ومتصالحة جداً مع هذا الوضع.فبين كل هذه المنافي بنيت لنفسي منفى صغيراً من صنع يدي. واتذكر دائماً ما يقوله الشاعر العراقي احمد عبد الحسين في احدى قصائده: ((دائماً كنت امضي هناك/ وأشعر اني هنا/ ربما حين ابقى هنا/ سوف اشعر إني هناك/ مفزع ان تكون هنا/ مفزع ان تكون هناك)).
*المسرح العراقي في الدنمارك، هل اضاف شيئاً للتجربة العراقية المنفية في المسرح؟
- في رأيي أن أي تجربة فنية أو أدبية في المنفى، تغني فقط التجربة الشخصية لدى الفنان او الكاتب، بمعنى انه يضيف و يزيد من خبرته. المسرح العراقي في الداخل اصابه العجز في السنوات الاخيرة. و المسرح في المنفى بالرغم من تطوره لجهة وسائل التكنيك و الخبرات، الا انه ينقصه الاحتكاك بجمهوره الحقيقي، المسرح يعني علاقة بين الجمهور والخشبة بشكل مباشر، علاقة متواصلة حتى بعد العرض المسرحي، تستمر لتشمل عروضاً اخرى و هكذا. اما هنا، فالعلاقة تكاد تكون علاقة آنية متقطعة و أحياناً مبتورة، لهذا استطيع ان اقول بأن تواصلنا مع الداخل هو فقط من خلال متابعتهم لنا و متابعتنا لهم. وهذا لا يعني تواصلاً حقيقياً، لأن العلاقة بيننا مبتورة تقريباً. المسرح يعني الاحتكاك بالآخر والاستمرار معه والتواصل الدائم والتفاعل الحقيقي بما يجري. ليس هذا فقط، فبسبب الأوضاع السياسية في العراق، حرم الفنانون والكتاب من متابعة ما يجري من تطورات، والمسرح تجديد و متابعة دائمة، فهناك من حالفه الحظ للخروج من هذه الدائرة الضيقة، وهناك من صمت و ابتعد او اعتزل، لكي لا يتعرض للضغط من السلطة للقيام بعمل يمجدها.
*انت ابنة كاتب قصة كردي معروف (رؤوف بيكرد)، حدثينا عن بدايات احساسك بالفن؟
- حبي للفن و الأدب لم يكن مفاجئاً، فتحت عيني على مكتبة ابي و وجود اصدقائه من الفنانين و الادباء. وانا طالبة في الابتدائية او المتوسطة، كنت اطالب دائماً من المدرسين بالقاء كلمة او القاء شعر او المشاركة في النشاطات الثقافية، وذلك بسبب معرفتهم بأبي. وكنت ارافق ابي في مشاهدة العروض و حضور الندوات و الامسيات، رغم انني احياناً لم أكن افهم ما الذي يجري امامي، و لكنني لم اكن منزعجة، بل بالعكس، احياناً كنت انزعج، لو عرفت ان ابي ذهب دوني. في الصف الرابع الاعدادي، جاءتني فرصة ان امثل مع طلاب معهد الفنون في مدينتي في سهرة تلفزيونية، بعدها دخلت اكاديمية الفنون الجميلة في جامعة بغداد قسم الفنون المسرحية، و بدأت مشواري الاكاديمي مع الفن.
*الم يحن اوان العودة الى منصة المسرح الاول العراق؟
- انت تعلم بأن المسرح في العراق يمر الان بأزمة، لكني متأكدة من انها ازمة مؤقتة، لأن المسرح العراقي مسرح مهم جداً، و الذين يعملون في هذا المجال كثيرون و مخلصون لعملهم، ولايمكن ان يتهاونوا في ما حصل اكثر من ذلك. حتماً انه سيعود افضل بكثير مما كان عليه. هناك رواد في المسرح العراقي وهم ايضاً رواد في المسرح العربي، هناك مخرجون عراقيون يضاهون مخرجي المسرح العالمي. و هناك من ترك العراق، و ينتظر العودة، المسألة هي فقط مسألة وقت لا غير.
*ما هي اخر تجاربك المسرحية؟
- اقوم الان بالبروفات على مسرحية من تأليفي و اخراجي و تمثيلي أي (مونودراما)، و سيكون العرض في اكثر من بلد. تتحدث المسرحية عن امرأة تعيش وحدها في بلد اوروبي. اناقش في هذا العرض تفاصيل دقيقة جدا تخص المرأة، وارى نفسي اكثر حرية في طرح افكاري، و اكثر جرأة من العروض التي قدمتها سابقاً، لعدم وجود الرقابة هنا، اتعرض لموضوع السلطة و الدين و الجنس، رغم انني قدمتها في العروض السابقة، و لكن كان الطرح خجولاً بعض الشيء.
*مقارنة مع التجارب المسرحية الاوروبية، كيف تقيمين تجربة المسرح غربياً؟ وهل لدينا جذور تراثية لفن المسرح؟
- المسرح في بلداننا يعني ان تحترق، ان تعطي كل ما لديك، العبء كله على الممثل، و هناك مواضيع، أي افكار متنوعة وجديدة دائماً، لدينا ما يكفي و اكثر للطرح. اما هنا فالمشاكل قليلة جداً، ولهذا ترى المواضيع بسيطة جداً، والتكنيك طاغ على العرض المسرحي، هناك تكنيك عالٍ جداً فوق ما تتصوره، هذا لا يعني بأنني اعمم كلامي على كل العروض، فإنني رأيت عروضاً مختلفة، واشكالاً متنوعة و تجارب يختلف الواحد منها عن الاخر، فهناك عروض اعتمدت على الممثل بشكل كامل.
من خلال تجربتي هنا و عملي مع احدى الفرق المسرحية المهمة في الدنمارك و في اوروبا، اسمها (كنتابلة 2) يديرها المخرج الايطالي (نولو فاكيني) تقيم مهرجاناً مسرحياً كل سنة، تقدم عروضاً مختلفة ومن كل انحاء العالم، رأيت ان العمل موزع و مرتب بشكل جميل، ولكن العلاقات بين بعضهم البعض ليس فيها تواصل واستمرار، فما ان ينتهي العمل تنتهي علاقتهم ببعض. المسرح يعني الناس، يعني الاختلاط، يعني مجموعة تكتب تاريخاً مشتركاً لا يمكن ان تلغيه او تمحوه ببساطة. طبعاً هناك جذور و تقاليد مسرحية جميلة جداً في بلداننا، يعود تاريخها الى الاف السنين. صحيح انها لم تكن مسرحاً بمعناه الحقيقي، كانت طقوساً واحتفالات دينية، و تطورت الى ان انفصلت و استقلت بذاتها، هذا لا يمكن ان نتجاوزه فهو الاساس لما وصله المسرح في يومنا هذا.
--------------
بطاقة (ميديا رؤوف)
- فنانة مسرحية كوردية مقيمة في الدنيمارك.
- خريجة اكاديمية الفنون الجميلة جامعة بغداد، قسم التمثيل 1989.
- شاركت في تمثيل العديد من المسرحيات داخل العراق، منها : ( الزيارة) اخراج ابراهيم جيوار/ (الذي جلس وحيداً) اخراج هادي المهدي/ (الملك لير) و(أحزان مهرج السيرك) إخراج صلاح القصب/ (لمن الزهور) اخراج عزيز خيون/ (الحارس) اخراج شفيق المهدي/(في انتظار سيامند) اخراج وتمثيل ميديا رؤوف و نيكار حسيب.
- حصلت على جائزة افضل ممثلة واعدة على صعيد المسرح العراقي .
- غادرت العراق في العام 1992 إلى سوريا، حيث عينت عضوة في المسرح القومي السوري. قدمت هناك عدداً من المسرحيات، منها: (سرير دزدمونة) إخراج ناجي عبد الامير/ (الحب الكبير) إخراج مأمون الخطيب.
- غادرت سوريا إلى الدنيمارك في العام 2000. أعادت عرض مسرحية لها بعنوان (دم شرقي) بأسلوب مغاير في (كوبنهاكن). تعمل الآن في قناة تلفزيونية في مدينة ( نيكوبين اف).

 


النشاط السينمائي الكوردي في إيـران

برهان شاوي
 

وحتى فيما يخص الموقف الرسمي للدولة الايرانية، ثمة اختلاف واضح في الاساليب التي تم التعامل بها مع الكورد عما هي عليه في بقية البلدان التي قُسمت كوردستان بينها. فقد اتبعت السلطات الايرانية قبل الثورة الاسلامية، طرقاً واساليب ملتوية لإحتواء الكورد فكرياً وصهرهم قومياً، فقد خصصت البرامج التي تبث باللغة الكوردية، وأصدرت الصحف والمجلات التي تنشر باللغة الكوردية، والتي تؤكد دائماً بان الكورد والفرس هم من أصل عرقي واحد، وان لغتهم تنتمي لنفس العائلة اللغوية التي تنحدر منها اللغة الفارسية، وان عاداتهم وطباعهم وتاريخهم كلها متشابهة، لذا فهم شعب واحد، ويجب ان يتحدوا لا ان ينفصلوا. ورغم ان كل هذه الحجج صحيحة، الا انها لا تبررعدم الاعتراف بحقوقهم القومية المشروعة.
عموماً، لا اريد هنا ان ادخل في محاججة هذه الطروحات والافكار، بقدر ما اريد أن اصل الى نتيجة مفادها ان هذه الطروحات أثرت على السينمائيين الكورد في ايران حقاً، من حيث اننا نجد الكثير من الكورد الذين عملوا في مجال الفن والثقافة والأدب في ايران، لا سيما من (اللور) بقبائلهم الشهيرة في ايران، والتي بعضها كان مقرباً من الشاه، مثل قبيلة (البختيار)، لم ينجزوا شيئا قومياً يخصهم ككورد، إذ ان السلطة الايرانية إستفادت من الخلاف المذهبي بين (اللور) الذين جلهم من الشيعة، ويقطنون أقليم (لورستان)، وبين بقية الكورد في اقليم (كوردستان). كما لعبت السلطة الايرانية على الواقع الاداري والجغرافي للدولة الايرانية، إذ ان ايران مقسمة ادارياً وجغرافياً الى مقاطعات عديدة، وقد قسمت (كوردستان) الواقعة في ايران الى مقاطعتين هما (لورستان) و(كوردستان)، بينما كلاهما في الواقع تنتميان لكوردستان الكبرى. و(اللور) الذين يسمون في العراق باسم (الكورد الفيليين) هم جزء من الشعب الكوردي المتوزع بين العراق وتركيا وايران وسوريا.
وبغض النظر عن السينما الايرانية التجارية التي انتجت افلاماً عديدة لها علاقة بالكورد، مثل (حسين كورد بهلوان)، و(ابو جاسم لـُر)، و(الفتاة الكوردية)، التي شاهدتُ معظمها في العراق ولا اذكر أسماء مخرجيها الآن، فانني ومن خلال عرضي لتاريخ السينما الايرانية أود التوقف عند ثلاثة أسماء: اولها (عبد الحسين سبند)، الذي اخرج اول فيلم ايراني ناطق في بومباي في العام 1932 وهو (فتاة اللور)، وكذلك المخرج (ياسماك ياسمي) الذي اخرج فيلم (دلاهو)، وكذلك الروائي والمخرج السينمائي ( ناصر تاكفاي) الذي اخرج فيلم (صادق الكوردي).
فيما يخص (عبد الحسين سبند) لا توجد اية معلومات شخصية عنه، وعن اصله، لأنه عاش في الهند، ووقوفي عنده متأت من لقبه( سبند) وهي مدينة تقع في الأراضي الكوردية، الى جانب إخراجه فيلما يتحدث عن فتاة (لورية) وهو في الهند، علماً انه فيلمه الأول، وهو اول فيلم ايراني ناطق، ولم يختر أي موضوع آخر، ولا اية قصة من التراث الفارسي العريق، ولا من أساطيره الشهيرة!
أماالمخرج (ياسماك ياسمي) فقد أخرج فلمين، هما (دلاهو) و(ضفاف الانتظار). وتجري أحداث الفلمين في (لورستان) و(كوردستان). وفي هذين الفلمين اللذين يتحدثان عن الحب كان (ياسمي) يتناول العلاقات الاجتماعية بكل تعقيدها وبكل ثقلها وهيمنتها في تحديد المصائر الفردية للأبطال. ومن الواضح ان الذي دفع (ياسمي) الى إختيار الناس في هذه المناطق ليكونوا ابطالاً في فلميه كونه ينتمي الى هذه المناطق، ويعرف الحياة فيها بشكل جيد!
أما المخرج والكاتب(ناصر تاكفاي)، فقد سمى فلمه بـ(صادق الكوردي). واحداث الفيلم تجري في كوردستان، لكنني لم أعثر للأسف، على اي معلومات وافية عن هذا المخرج، كسابقيه.
كما حدثني بعض الثقاة من المثقفين الكورد من ايران بأن هناك فيلماً ايرانياً ناطقا باللغة الكوردية اسمه(فرسان كوردستان) تجري احداثه في جبال (زاغروس)، ولكنهم لم يتذكروا اسم مخرجه، كما انني لم اجد ذكراً له في المصادر السينمائية التي تتحدث عن السينما في ايران. إنني هنا، وكما هو واضح تماماً، احاول أن اضع بعض اللمسات حول الافلام التي تقترب من عالم الكورد بهذا الشكل او ذاك، واجد نفسي في وضع لا يمنحني الحق باطلاق اي حكم جازم او اي إدعاء حول إنتساب هذا المخرج او ذاك الى الكورد، او إلحاق هذا الفيلم أو ذاك الى قائمة الافلام الكوردية، لعدم توفر المصادر التاريخية والفنية التي تضيء لي الطريق، وإنني لعلى ثقة بأن هذا الطريق لا يزال شائكاً ومليئاً بالأسرار، ويستحق الانتباه من قبل المثقفين الكورد في ايران، ومن هنا جاء عنوان المقال عن النشاط السينمائي للاكراد وليس السينما الكوردية في ايران، رغم ان السينما الايرانية بعد الثورة الاسلامة تقدمت خطوات جبارة، وحققت منجزات شاهقة وبارزة، وخلقت لنفسها جيشاً من المخرجين والممثلين والفنيين السينمائيين، ومن بينهم الكثير من الكورد والأرمن وغيرهم من القوميات التي يتألف منها الشعب الايراني، بمن فيهم الفرس.
ولكي لا نغفل شيئاً في هذا الصدد، نشير الى ما حققته الحركة التحررية الكوردية في ايران خلال نضالها الطويل والمستمر في العقود السابقة، إذ انجز بعض السينمائيين الكورد من ايران افلاماً وثائقية عديدة عن اوضاع الشعب الكوردي في ايران، عرضت في محطات التلفزة الاوربية، وبعضها كان بدعم من هذه المحطات، لا سيما الفرنسية، كما حاول بعض السينمائيين والسينمائيات الكورد انجاز بعض المشاريع الروائية، وقد تناقلت المحطات الكوردية في كوردستان العراق اخباراً عن مشاريع اخراجية لسينمائية كوردية من ايران جاءت الى كوردستان العراق لتنجز فيلماً روائياً ناطقاً باللغة الكوردية هناك.
انا متاكد بأن هذا الجانب في الثقافة الكوردية لم يتم الانتباه له، ولو تحقق ذلك لاتضحت لنا الكثير من المساهمات المهمة سواء في العقود السابقة او في الوقت الحاضر.
 


تشكيل كوردي دلشاد بيرداود .. رحيل أخير
 

موسى الخميسي
 

بهدوء في احدى محطات المنفى العراقية، التي مر بها وعاش فيها نحو ثلاثين عاماً، مكتوياً بالعذابات المرضية الاخيرة، وبالانكسارات، وبتلك الضحكات الساخرة، في احدى غرف الريف الفلورنسي، الذي ظل حريصاً على العيش في افيائه الجميلة الساحرة سنوات طويلة، بعيداً عن مدينة (اربيل) التي ولد فيها في العام 1954، وبعيداً عن (بغداد) التي درس في معهد فنونها الجميلة، رحل الفنان التشكيلي الكوردي (دلشاد بيرداود)، كأنه يتوسم ببطء وعناد تلك المسافة الصعبة بين الموت وحياته الضاجة الحافلة بالعلاقات ومحبة الاخرين، التي عرفناها جميعا وهو يجر عربته الصغيرة التي تحوي عدة الرسم ليضعها مساء كل يوم على الجهة الاخرى من الجسر القديم الذي يربط جهتي مدينة عصر النهضة على نهر الارنو، ليبدأ مشوار رسم الوجوه من اجل الحصول على قوته اليومي وشراء الوانه وتسديد ايجار بيته الريفي.
نحن الذين عشنا معرفتنا به سنوات طويلة في مدينة فلورنسا التي انجز فيها دراسته في اكاديميتها الفنية العريقة، كاصدقاء ورفاق ومتابعين لنشاطاته ومحباته وضحكاته التي لاتنقطع وألفته الحنونة مع الحيوانات.
لاشك في ان بيننا من يحيي من جديد في نفسه صور ذكرياته الخاصة الماضية مع هذا الرجل المتسامح، الذي لم يطرق العناد ابواب قلبه، بصمت ومحبة وألم وحزن عميق، ليحفظها بعدئذ شيئاً ثميناً في احدى زوايا القلب.
واحد وخمسون عاماً، عاش منها سنوات طويلة داخل سياج الامل لتمتد الى ثلاثين سنة، وخارج سياج الاسلاك الشائكة في الوطن وتلك القلعة التاريخية في مدينته الاثيرة التي كان يعلق صورتها فوق سريره.
ذهبَ وإلى الأبد، بشعره الطويل وجسده الفارع النحيل وملامحه الطفولية العذبة، كأنه احد طيور جبال كوردستان الرائعة.

 

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة