الضيـــــــاع في حفــــــــر الباطــــن!
بغداد/عبد الكريم العبيدي
في
الضياعات المكررة، يبدو ان صنع نسخة مصورة من احداها امر
صعب، فلكي تحصل على تلك النسخة ينبغي ان تتخلص من الضياع
اولا. اما ان يمسك الضياع الى آخر أقسى منه، فلا يمكن ان
تفكر في ذلك، ربما لانك لم تعد بحاجة لها، او لان رغبة
الاحتفاظ بها لم تعد متوفرة. وربما لن تتوفر الى الابد.
الورقة الاولى
كل شيء كان يصعد الى الاعلى، الرصاص ومشاعل التنوير
وابصارنا، فرح طارئ وغريب عم خنادق القتال، والحجابات
فجـأة لقد انتهت الحرب.. جملة لم يكن يمسها الوهم، اما
الان فقد غدت مصادفة شعارا رفع بمهرجان مقام على خط التماس
من زاخو الى الفاو.
في تلك الليلة كان الصخب الهادر من صنع قلوب تخلصت من رفقة
الموت، وها هي ترى نجاتها وقد تحولت الى رصاصة تحلق فرحة
في الفضاء، هاربة من هويتها، ومن اصابعنا التي لم تعد
ترتجف بعد الان.
ضحكنا كثيرا في تلك الليلة وبكينا، وكانت الاهازيج
والهوسات والاغاني الشعبية تقذف بعينات من بقايا احلامنا
المدروسة، ومن عيون الاف القتلى التي تناسلت فجأة من
الذاكرة وراحت تحصي معنا الضياع الذي بدأنا نعده على
ملايين الاطلاقات المذنبة التي امست فوق رؤوسنا خيمة من
نار.
أما رائحة البارود، رائحة اجسادنا، فقد ميزت تلك الليلة
انتشرت، بأقصى سرعة واتحدت مع رائحة البارود المنبعثة من
خنادق الرمي الايرانية لتصنع اول مصافحة سلام..لقد انتهت
الحرب فعلا.
مضت الشهور المتبقية من خدمتي في الجيش بلا هجومات ولا
معارك طاحنة، غير انني قضيتها ايضا في الحجابات والدوريات
والكمائن وظلت مفردات مقيتة مثل القطعة والحانوت وسر الليل
والحراسات الليلية تنخر ايامي المهدورة وحين بدأت موجة
التسريح من الجيش، فقدت بعض اصحابي وشعرت بأنني بتُ اكثر
عزلة.
وفي صبيحة يوم تسريحي الذي جاء متأخرأ، فوجئت بطلبي من قبل
آمر الوحدة، اخذني رأس عرفاء الوحدة الى ملجأ الامر ودخل
قبلي بعد دقائق مثلت امامه وبقيت في وضع الاستعداد بعد
ادائي التحية العسكرية.
كان آمر الوحدة بديناً وطويل القامة، يجلس على كرسي فخم
ويقف الى جانبه أحد ضباط الصف، وما ان فرغ من امضاء عدد من
الوثائق العسكرية حتى انهال عليّ بعدد من اسئلة ذلك العهد
التي غدت مألوفة.
*هل انت بعثي؟
*هل انتميت الى تنظيم محظور؟
*هل لديك اقارب منتمون الى احزاب محظورة؟
*هل أُعدم احد اقاربك لاسباب سياسية؟
بسهولة، اجبته باربع لاءات متلاحقة وصمت.
كان الملجأ من الداخل يبدو انيقا وفارها.. ولا يقرب
لملاجئنا الضيقة بصلة. فقد تم اكساؤه بخشب الصاج، وفرشت
ارضيته بسجادة فاخرة. وللمرة الاولى اشاهد جهاز التلفزيون
في ملجأ، وارى طقم قنفات واصص وتماثيل تزين ملجـأ في
الجبهة.
اليوم تسريحك.. ها؟. سألني الآمر فجأة، ثم اجاب هو على
سؤاله. سنؤخرك قليلا، لان مكتب قلم الوحدة يكاد يفرغ من
منتسبيه الذين تسرحوا مؤخرا، سأعينك في قلم الوحدة، ريثما
يتم تنسيب كُتّاب جدد.. ابق معنا افضل، فالتسريح في هذه
الايام يعني البطالة والتسكع في الشوراع.. مفهوم؟
-لا.. أأأ؟
*(إنهِ)، صاح رأس عرفاء الوحدة، فانهيت الـ أأ بسرعة وصمت،
وفي صباح اليوم التالي حزمت امري وذهبت الى صاحب الـ"انهي".
ناولته عريضة طلبت فيها مقابلة الآمر، كنت اعرف ان حالة
كهذه لم تحصل في كل جيوش العالم، لذا صممت على مواجهة
الامر والتحدث معه.
سألني رأس العرفاء: لماذا هذا الطلب؟ ولماذا المواجهة؟..
قلت:
لا اريد البقاء في الجيش اكثر مما هو مطلوب مني.. اريد ان
اشم رائحة الحياة المدنية.. لقد سئمت من البسطال والخوذة
والنطاق.. سئمت من حفر الملاجئ والتنقل بين الجبهات، سئمت
من الحجابات والدوريات.. اريد ان اتسرح ولكم الخيار.. إما
انجاز معاملة تسريحي. او سجني بسبب عصياني للأوامر.
لم يصمت طويلا.. ولكنه غيّر نبرة حديثه للمرة الاولى.. قال:
"يوال، متكلي شتحصل من التسريح غير الفقر، ابقى هينه، أكل
ووصوص".
إذن اريد مواجهة الآمر (قلتها بعناد واضح).
بعد ثلاثة ايام واجهت الامر.. وقفت في وضع الاستعداد لاكثر
من نصف ساعة، كان يطالع بعض الوثائق حينا، ويجري مكالمات
هاتفية ساذجة في حين آخر. بعدها خاطبني من دون ان يرفع
بصره عن وثيقة كانت بين يديه.. "قالوا لي انت مثقف، تفتهم،
واردت ان افيدك. ولكن اتضح لي انك قشمر، ثم التفت الى رأس
عرفاء الوحدة فجأة وقال: انجز له معاملة تسريحه، وقبل ان
اجبه صاح في وجهي: ستندم كثيرا.. امشي اطلع بره!!"
كانت هذه هي جائزة خدمتي في "الموت" على مدار اكثر من سبعة
اعوام!
منذ اواخر سبعينيات القرن الماضي، كنت اراجع دائرة تجنيدي
-سيئة الذكر- مرة كل عام، لغرض تثبيت استمراري في الدراسة
في دفتر الخدمة تحاشيا من ملاحقة رجال الانضباط العسكري،
وبعد التحاقي الى الجيش، لم اراجع هذه الدائرة البائسة
طوال اكثر من سبعة اعوام، كنت اراها من الخارج، فاشعر
بالضجر، وتتلبسني صورة سوقي الى الجيش في تلك الليلة
الباردة التي قضيتها في مرحاض احدى عربات القطار على مدار
عشر ساعات معجونة برائحة الخراء والبول.
اليوم سأراجع، للمرة الاولى مع منتسبيها مسلسل تسريحي من
الضياع والتحاقي الى ضياع آخر.
شاهدت قرب بابها حشدا من المتسرحين وهم يتدافعون لقراءة
قائمة من الطلبات التي يجب تنفيذها قبل تسلم معاملة
التسريح هي:
1-كتاب من الوحدة العسكرية يثبت تسريحك من الجيش.
2-براءة ذمة.
3-كنية.
4-كتاب الدور والتسليم من مشجب الوحدة.
5-جدول عقوبات.
6-تأييد سكن من المختار ومؤيد من مركز الشرطة.
7-بطاقة سكن.
8-هوية الاحوال المدنية.
9-شهادة الجنسية.
10عشر صور شخصية حديثة.
11-بطاقة تسريح.
12-عريضة طلب تسريح.
13-دفتر الخدمة العسكرية.
14-عشرون ورقة بيضاء.
15-طابع فئة دينار.
أما الطلبات السرية المكتوبة بالحبر الابيض فهي مجموعة من
الرشاوى تتراوح ما بين 25 ديناراً الى 1000دينار توزع على
منتسبي الدائرة وحسب الرتب العسكرية.
بعد اكثر من شهر تم تسليمي معاملة تسريحي، ومنحت كتاباً
لمراجعة التجنيد بعد شهر. ظل ذلك الكتاب يتكرر من شهر الى
آخر حتى مضى على تسليمي للمعاملة ما يقرب من ثمانية اشهر.
لم اكن الوحيد الذي امضى كل ذلك الضياع من اجل التسريح،
فالبعض انفق كل ما بحوزته من المال وباع حاجات بيته واثاثه،
وآخرون عادوا الى وحداتهم مرارا لتنظيم معاملاتهم من جديد.
والكثير منهم تقرر اعادته الى الخدمة العسكرية لعدة شهور.
ومن هذه المعمعة برز فجأة وكلاء التسريح السري الذين
يثمنون كل معاملة ويضيفون عليها مطالب التجنيد ويبلغون
المتسرح بقيمة الرشوة المفترضة التي ما ان يدفعها يتسلم
دفتر خدمته بعد يوم واحد وحسب الاصول.
كانت دوامة المراجعات تتطلب مني الكثير من المال. وكان عليّ
ان اجد اية فرصة طارئة للعمل كي اكمل ذلك المسلسل، اشتغلت
في اعمال البناء، وفي احدى محطات الوقود. وعملت صباغا في
البيوت ثم قررت اخيرا بيع مكتبتي.
وفي آخر مراجعة مشؤومة لدائرة تجنيدي، اعيدت لي معاملة
التسريح وفيها كتاب اعادتي الى الوحدة لقضاء ستة اشهر اخرى!
لن اعود الى وحدتي، لا.. لن اعود الى طواحين الموت حتى وهي
ساكنة. لقد شبعت من الحرمان كثيرا. العزلة ورائحة الجثث
ووحشة الحجابات، ولا يمكن ان ادع آمر وحدتي البدين ان
يراني في ذلك الإنكسار المذل.
لا لن اعود..
طويت صفحتي العسكرية، الى الابد ولكن هذا الابد لم يدم
طويلا انغمرت بضياع البطالة وعبث التسكع والحرمان. هربت من
الضوء، كرهت النهار الذي يفضحني، في الغروب، استيقظ على
نباح الكلاب، ارتدي ملابسي ببطء واتسلل من البيت، امي
تشيعني بنظرة جامدة وتتابع نزهاتي الليلية بصمت، اعبر برك
المياه الآسنة قافزا على سلسلة متعرجة من الطابوق والبلوك
والصفائح الفارغة، ثم استقل اول سيارة عابرة.
حفظت وجوه السائقين وسياراتهم وحواراتهم المقيتة، وحفظت
الشوارع والساحات وجدران البيوت والمحال التجارية، وحين
اصل الى مركز المدينة، تقودني خطواتي البلُه الى مأواي
الوحيد في كل ليلة.
كنت انغمر بموج بشري ثابت، لا تثيرني فيه غير ارداف النساء
في اهتزازاتها الناعمة التي كنت اصطادها بالف عين واتابعها
بحذر شديد في تلك اللامبالاة التي عشتها طويلا كنت احرق
ساعات ميتة في تجوال عبثي يومي يبدأ وينتهي بارادته.. تركت
لكل شيء، خارج عزلتي ان يمارس لعبته معي كما يشاء. وان
يدور بي من شارع الى آخر، ومن سوق الى آخر..
لم ادع هزائمي تتوقف منحتها فرصة التكرار والاتساع كي
تبالغ بدحرجتي الى اعمق قاع في ذلك الهبوط، ومن اول كأس،
من اول جرعة خمر، تدق في رأسي كل اجراس الدنيا وتختفي
عزلتي واتحرر من لباس الصمت، تأخذني نشوتي الطارئة الى
فضاءات مترجرجة تنيخ لي النسيان وتمدني ببساط طائر يسع
سرحاني الجميل وتوهجي المؤقت وبقايا من شجرة العمر التي ما
عادت تضلني.
في ساعات السكر الاولى نلوك حوارات ضياعنا كل ليلة، فصول
الموت المتعددة في اهوال المعارك، حفر الملاجئ والشقوق
وخنادق الرمي. الحراسات الليلية والدوريات والكمائن، البرد،
والامطار الغزيرة، التي هطلت على رؤوسنا في الصحارى. حر
الظهيرات في الصيف، داخل الملاجئ الضيقة، ماء الحاويات
المليء بالذباب والبق، وعواصف الثلج في اعالي الجبال.
كان كل منا يعصر رواية ضياعه في اعوام الحرب، ثم ينتف
شهقاته شهقة شهقة حتي يصل الى نوبة البكاء. بعدها نتوحد
جميعا، نعبر ضياعنا المتحول، ونبدأ بالغناء والطرق على
المناضد وشرب المزيد من الكؤوس حتى نثمل تماما.
كانت مائدتنا دائما هي آخر الموائد العامرة وسط فراغ نراه
في الكراسي التي وضعت على المناضد من حولنا، وكان النادل
يعاملنا كضحايا حرب، مجانين صغار ما زالت اصداء القنابل
تحشو رؤوسهم وتعشش في آذانهم التي كثيرا ما فرزها غناء
الملاهي بعد منتصف الليل.
في تلك الساعات، لم يبق لنا غير الرقص في صالات النوادي
الليلية على انغام "الله يخلي الريس.. الله يطول عمره..
شعب البيه صدام حسين، امنين يشوف الضيم امنين، يا مرحبا!!"
رقصنا كثيرا مع عاهرات الملاهي، دبكنا وتعانقنا وغصنا في
آلاف القبل، وبعد ان تضاء الصالات وتنتهي الصداقات الطارئة،
تختفي اعراسنا المؤقتة ونفترق، يذهب كل منا الى مأواه،
حاملا عريه الحقيقي وفضيحة ضياعه متحاشيا الاصطدام بأنفاس
الصباح.
كنت اتسلل بحذر الى بيتنا، ادخل من بابه الخلفي واجتاز
الحديقة والرواق فاسمع صوت ابي وهو يؤدي صلاة الفجر.. ادخل
الى غرفتي بهدوء واتمدد على سريري، احدق في سقف الغرفة
قليلا ثم انام.
مسامعي جفت هي الاخرى. لم اصغ الى ضجيج الشوارع ولم اعد
ابالي بما يدور من حولي، كنت منغلقا الى حد انني اعتقدت ان
عزلتي لن تتفكك، وان توغلي في ذلك الضياع سيزيدها ضيقا..
ابي وحده كان يسخر من غمامتي. كان يحيلها الى جملة واحدة،
كلهه اتصير سوالف".
ولكنه لم يحتفظ بنظراته تلك، عاد مبكرا في احد النهارات من
زيارة صديقه القديم شبيب العطية، وظل صامتا، مطرقا برأسه
حتى باغته الحاج شبيب في زيارة مفاجئة.
امي لم تطمئن لتلك الزيارة فقررت ان تتعرف على سرها.
قال ابي: البقاء في بيوتنا اسلم، لم يعد الريف آمنا.
الحاج شبيب: فضل الريف، قال: كلما ابتعدنا عن الحدود وعن
المدن، نكون في مأمن، لم تصمت امي طويلا، زعقت كعادتها:
الله اكبر، ما الذي يدور في الدنيا؟ حدق ابي في وجه صاحبه
لكنه يستأذنه قال: البعض يتحدث عن تزايد اعداد الجيش في
اسواق البصرة والعشار، وعن وصول قوات كبيرة منه الى الزبير
والبرجسية.
التفتت امي الى شبيب العطية وتساءلت: ما الذي سيفعله هذه
المرة؟ لم يجبها.. ابي اضاف: العشرات من كبار الضباط قاموا
بتأمين آبار المياه والمعسكرات الخلفية في غابات الاثل
البرجسية ويقال ان استطلاعات مكثفة تجري على الحدود..
للمرة الاولى اسمع طقطقة في اذني، تبعها ذوبان القير وتهشم
الصخور ثم تفكك العزلة.
وللمرة الاولى استقبل عشرات الشائعات عن ارقام مفزعة لعدد
الارتال العسكرية والجنود وعن تحركات مريبة.
انا ابن الحروب اشم رائحتها مبكرا. واقلب صفحاتها قبل ان
تملأ بسطور المحن.
نهضت في ذلك الغروب ببطء، ارتديت ملابسي وخرجت.
لاح سوء العلاقة العراقية - الكويتية الطارئ اخيرا. بدأت
تتداوله الاخبار وحوارات الشوارع ثم تحول الى بيانات
وتصريحات واتهامات ولما وصل الى المؤامرة والتآمر والعمالة،
سمعت اول قرعة طبل لم اخرج في تلك الليلة كان الصداع يهشم
رأسي وقد تقيأت كثيرا وفقدت شهيتي لكل شيء.
حاولت ان انام او ان اصغي الى أي شيء من المذياع القريب من
رأسي ولكن من دون جدوى. الارق داهمني فجأة فادركت انني
سأقضي ليلة مشلولة وباردة.
وفي ساعات الصباح الاولى، اختفت اذاعة الكويت، اختفى بثها
فجأة ثم تحولت الى تششششـ.
في الساعة السابعة نهضت من فراشي متثاقلا على وقع طرقات
صاخبة واندهشت من رؤية احد اصدقائي عند الباب في ذلك الوقت
المبكر.. صديقي ردد بارتباك واضح، بعد ان بلع ريقه مرارا:
صدام غزا الكويت.
هذا هو الفصل الاول من رواية الضياع في حفر الباطن وهو
ريبورتاج طويل عن ذكريات جندي عراقي ضاع في عرض الصحراء
بعد انتهاء الحرب اضافة الى ذكريات ما بعد التسريح من
الحرب العراقية الايرانية.
|