الفنان
الراحل مؤيد نعمة
يظلُّ اسماً كبيرا ً لا يتكرر بسهولة
بغداد/ علي ياسين
الفنان الراحل مؤيد نعمة، شكل الحياة العراقية بكل همومها
ومعاناتها بخطوطه السود الناقدة لكل المظاهر السلبية،
اجتماعياً، وسياسياً، بل حتى ثقافياً، شكل كل ذلك على بياض
لوحاته، بجرأة الفنان، الصادق، الملتزم، فنان كاريكاتير من
طراز، مبدع ومتمكن من أدوات فنه، مثل مؤيد نعمة، ربما لن
يتكرر على مدى قرون قادمة.. برحيله فقد الإبداع
الكاريكاتيري واحداً من قاماته الفنية السامقة، وسيبقى
غيابه المفاجئ فاجعة كبيرة في مشهد الإبداع العراقي.
(المدى)
التي ما زالت تحتفي باسمه ورسوماته، تستذكره بمناسبة
اربعينيته لتلتقي بنخبة من المثقفين والمبدعين من أصدقاء
الفقيد، ليتحدثوا عن حياة الراحل وتجربته الفنية المميزة.
د.عقيل مهدي يوسف بدأ حديثه بالقول: في فضاء أكاديمية
الفنون الجميلة، كنت التقيت شابا يوحي لك بالوعي الفني، في
الثمانينيات كنا مجموعة من الطلبة الذين يتحاورون في
التشكيل والمسرح والأدب والموسيقى، وكان مؤيد نعمة هذا
الكائن الخجول، اكثرنا فصاحاً عن موقفه النقدي اللاذع من
خلال خطابه التشكيلي، وشاءت الظروف ان اكتب قصة (للأطفال)
كنت أريد نشرها في (مجلتي)، باسم (العصفور والوردة) وكم
ضحكنا معاً ونحن نطلق احد الاسمين المذكورين على بعضنا!!
وشاءت الاقدار ان تتصدر رسوماته (طريق الشعب) ومجلة (الاقلام)
وان تعرض لوحاته في (مدينة غابروفو) في بلغاريا، وهو موسم
لفناني الكاريكاتير، يقام هناك، ويتصدر اسم مؤيد في قائمة
المبدعين العالميين، واتذكر عند تخرجه قام بعمل (سيراميك)
لوجوه (بورتريت) كاظم حيدر (الفنان التشكيلي المعروف)
و(اسعد عبد الرزاق) و(فرج عبد) و(سعد شاكر) وسواهم من كبار
المبدعين. وعند قيام الحرب احتضنته ومعه ابنته التي تدل
على رقيه في تربيتها، بحرصه على التوفر على الخلق الرفيع
والاناقة والرصانة البليغة، وفي آخر لقاء كنا في لجنة
الدفاع عن الثقافة نجتمع معه ونصغي لطروحاته القيمة في
الإبداع، وحب الشعب، والدفاع عن احقيته في العيش النبيل.
كان يخبرنا وهو يسرد حكايته مع السائق الذي صارحه بأنه
يشتغل لحساب (المقاومة) وكيف انه استطاع ان يجذبه إلى موقف
أرقى في التعبير عن النضال وحماية الوطن، وان يقنعه بجدوى
الاصطفاف (الوطني) من اجل مستقبل آمن ومتحضر.
ونحن في طريقنا إلى دائرة الطفل، تحدثنا معاً عن الفنان
المسرحي المبدع (شفيق المهدي) وضحكنا من اعماقنا عن بعض
المواقف التي نضحك منها في العادة، وهو يعلق على هذا الحدث،
أو ذاك، لاسيما وان (الشجاعة) التي يتحلى بها، والجرأة
التي يتفنن بها من خلال زاويته في جريدة (المدى)، جعل من
الكاتبة الروائية (لطفية) تغبطه على قدرته وطلاقته
بانطلاقة خطوطه لتختزل العالم، بموقف تقدمي يفرز قوى
الصراع، ويسلط الضوء على الجوانب المعتمة (المقبرية) التي
تفجر فاها لإبتلاع، منجزات الشعب، وقواه الخلاقة، باسماء
خداعة وأقنعة من المناورات الرخيصة.
وعن تجربة الفنان الراحل شاركنا الحديث الفنان التشكيلي
ضياء الخزاعي قائلاً:
مرة سألني احد الاخوة الصحفيين.. ماذا يكون الخزاعي لو لم
يكن فناناً تشكيلياً؟ كان جوابي (سأكون شاعراً بالتأكيد).
كان هذا الجواب سريعاً وقاطعاً، رغم إني ادرك تماماً ان
أصعب شيء، أواجهه هو الكتابة. اسوق هذا الاستطراد لأصل إلى
حقيقة صعوبة الكتابة، فكيف بها إذ تكون عن زميلي الفنان
الفقيد (مؤيد نعمة)؟
لقد عرفته زميلاً لي في كلية الفنون الجميلة/ قسم الخزف ـ
وكان يسبقني بسنة دراسية، كان مثالاً رائعاً، مبدعاً كبيراً
في كل مجال من مجالات الفن، لكنه اختار مجال الكاريكاتير
لأنه أحس بالتأكيد انه مجاله الرحب الذي يستطيع ان يلبي
طموحه، الذي ترك فيه بصمة واضحة عراقياً وعربياً وعالمياً،
حيث ومن خلال متابعتي فن الكاريكاتير، اجد ان مؤيد نعمة
يقف في مصاف الفنانين الكبار العالميين، وذلك مما يجعل
خسارتنا له خسارة كبرى، إذ خسرناه في وقت عصيب يمر به
العراق اولاً وخسرناه مبكراً وهو في قمة عطائه الفني. لقد
عرفته عن قرب من خلال عملي معه في (جريدة النهضة) العراقية،
إذ كان ينشر بعض رسومه فيها، وكان يبهرنا دائماً برسومه
الجميلة والساحرة والتقاطاته الذكية وخطوطه القوية القاسية
والتي يحملها قسوة الواقع والحدث الأليم الذي ينطق به
الرسم.
امتلك مؤيد نعمة جرأة وشجاعة وشفافية.. يسمعك دائماً،
ويلتقط كل حركة تصدر عنك، ويسمع بدقة كل تعليق تقوله. لا
تفارق وجهه الابتسامة الذكية، الواثقة، افكاره مرنة ويمتاز
فنه بطلاقة يحسده عليها كبار فناني الكاريكاتير.
لقد كنت اخاف عليه دائماً من اندفاعه القوي والصادق وعدم
اهتمامه بالتهديدات بالقتل والتي كان يتلقاها من جهات
متشددة ومتخلفة عديدة والتي كان يهاجمها بقوة، بل، كان
يسخر منها ويقابلها بشجاعة لا مثيل لها.
لم أشا ان ادون هذه السطور القليلة عن أخي مؤيد.. فهو
بالحقيقة يستحق ان تنشر جميع اعماله بمصادر فنية مستقلة في
مجال فن الكاريكاتير أو رسوم الأطفال الساحرة التي كانت
تزين صفحات مجلة (مجلتي) العراقية.
وشاركنا الحديث الكاتب والصحفي سهيل ياسين قائلاً: كنت
اخشى على الفنان مؤيد نعمة ان تكون رسومه قد قتلته ذات يوم،
لما تنطوي عليه من صراحة ووضوح في طرح الأفكار الشجاعة،
والجرأة المتناهية في الكشف عما ينبغي كشفه من حقائق
ومواقف كثيرة ـ قد تعجز في التعبير عنها عشرات الكتابات
والمقالات بل حتى النصوص الابداعية من خلال تواصله الدائم
مع ايقاع الحياة والتقاطاته الفارقة من نبض تفاصيلها
ومفرداتها العديدة. لكاريكاتير مؤيد خصوصية، قلما تجدها
عند سواه من رسامي هذا النمط من الفكاهة الواعية والعين
الراصدة جعلته يمثل ظاهرة الفنان الساخر والعميق الذي
توحدت في خطابه وتناغمت في لغته مختلف الثقافات والفئات.
برحيله افتقدنا إسماً كبيراً لا يتكرر بسهولة.
وعن غياب الفنان الراحل مؤيد نعمة اضاف الكاتب حسن كريم
عاتي قائلاً: أعرفك، لم تكن قاسياً، رقيقا كالعطر، حنينا
كالأماني، شفافا كالأمل، اعرفك بقدر محبتي لك، ولا اعرفك
بقدر قسوة اليوم الذي اخترت للفراق، اعرفك، ارأف بمحبيك من
رأفتك بقلبك، ويغبطك سرور غيرك، ولا أعرفك حين اخترت الموت
فجاءة، فجعلت من نفسك درة مسروقة من تاج حياتنا، لتقلل من
جواهره وتضيفها إلى خزائن الأحبة من الموتى، الذين أكلتهم
الحروب أو نهشتهم أوبئة الظلام بأنيابها، أو بطشت بهم يد
الرعب الموصول بتاريخنا المؤلم من يوم الميلاد الذي لا عيد
له حتى مفارقة النفس الأخير بشهقة أو زفرة أو صرخة فزع.
هين ألم الفزع الأخير، وان كان مؤلماً، لانك غادرته،
وتركته فينا موصولاً مع كل لحظة تذكر بابداع جملة أو خط أو
ضربة فرشاة، قسوت، ولم اعرف انها من شيمتك، كنت اظنك
الناعي لي، وكم يدغدغ مشاعري، هذا الاحساس فشاء الزمن ان
أكون ناعياً لك وهو ليس عزاء لي فهو مؤلم بقدر الاحساس
باستحالة انتزاع غصة لا تقوى لحظات الفرح جميعاً على
انتزاعها.
اعرفك، لم تقصد القسوة على احبتك بفراقك هذا، ولكنه خيار
ارغمك الشهيق المقطوع عليه، ومنعك من التواصل بجسد ينطق
برغبة الروح للتحليق بأمان تشيدها بصبر وجلد، لترفرف
فراشات في سماء القلب المفجوع بدم يتخثر لأسباب تافهة.
اعرف ان الموت حقيقة مؤكدة، نحاول تخطئتها بحياة موصولة
لما بعد الموت، فبحثنا عن الخلود، لا يمنع وقوع الموت،
فنقارعه باصدق الحجج وهي حب الحياة، ولا تكون تلك المحبة
حقيقية إلا بحب الناس لأن يحيوا ولا تكون تلك الحياة تستحق
العيش إلا بكرامة. واشهد انك قد فعلت ما وسعك الجهد حد
الاجهاد لتأكيد محبتك للناس واحترامك اياهم. فأحبك من عرفك
بشخصك أو بفنك، أو بالاثنين معاً، وهو ما يوصلك بالحياة
وان غيب الرمس الرفات وان كان ذلك الغياب قاسياً.
|