المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

بمناسبة عرض مسرحية .. (حمام بغدادي)
 

المدى الثقافي

عرضت في دمشق قبل مدة مسرحية " حمام بغدادي " للمخرج العراقي جواد الأسدي. سعت المسرحية لتقديم رؤية جمالية وإنسانية للواقع العراقي الآن. وأثار العمل بإنجازه الفكري والفني الكثير من المواقف وردود الأفعال .
مراسل المدى في دمشق حضر هذا العرض، والتقى مخرجه في حوار موسع خاص بالمدى كشف فيه الكثير من التصورات التي حكمت رؤية جواد الأسدي وهو يقدم عملا يتعلق بما يحدث في العراق، بعد زيارة قام بها المخرج وعاد منها بخلاصات كشفها في ثنايا عمله.
وجهت المدى مجموعة من الأسئلة للأسدي بعضها يتعلق بتاريخه المسرحي ومسار رؤيته الفنية وبعضها الآخر تعلق بمسرحية حمام بغدادي.
نخصص هذه الصفحة لتغطية طبيعة هذا العمل، عبر مقابلة مفصلة، عبرت عن موقف المخرج وكشوفاته وقراءاته للواقع والفن في ظل الظرف الذي يمر به العراق، وكتب لنا كذلك الباحث أحمد الهاشم قراءة للعرض الذي حضره في دمشق وخرج لنا بمجموعة من الملاحظات شكلت نظرة مضافة ونقدية لهذا العمل.


المسرحي العراقي جواد الأسدي لـ (المدى): خرجت وسط شعور بهزيمة مرعبة

  • خشبة المسرح أصبحت وطني الحقيقي
     

دمشق / ابراهيم حاج عبدي

حين غادر العراق، الذي لم يقو على حمله، أوصته أمه، وهي تغالب دمعها بكلمات صادقة كالحزن، "احمل بلادك مثل نخلة باسقة"! لم يشأ الابن جواد الأسدي الذاهب إلى فراق مر سيمتد لأكثر من سبعة وعشرين عاما، أن يخالف الوصية الحنونة، فقد اجتهد وعمل ونجح، وبنى عراقا شامخا كالنخيل على خشبات المسارح في مختلف العواصم.
وبعد أن اشتعل الرأس شيبا، وفاض الحنين في زوايا الروح، وحاز الأوسمة، والاعتراف، وسمع كلمات المديح والإطراء، رغب في العودة إلى معانقة العراق، بشوارعه، وناسه، وبيوته، ونخيله، وأهواره...لكن المشهد كان مرعبا، وكانت الصدمة قاسية على عينين صنعتا كل هذا الجمال على مسارح العالم، عندما وجدتا العراق برمته مسرحا لكل ما حاربه خلال تجربته المسرحية.
تعمقت لديه القناعة مرة أخرى بان لا وطن له سوى خشبة المسرح الضيقة، فعمل على إنجاز عمل مسرحي جديد بعنوان "حمام بغدادي" يظهر خلاله الحالة المخيفة التي بلغها الإنسان العراقي بعد سنوات من القمع، والنفي، والحروب...غير أن الصورة، رغم قتامتها، تبقى ناقصة. فالحالة العراقية، اليوم، هي، اختصار، تراجيديا تفوق الخيال. والفنون بمختلف أجناسها، عاجزة عن اختزال هذه القسوة التي نبتت في "أرض السواد"، ورعتها سلطة سادية، لا يستطيع الأسدي، أن يجد لها تفسيرا، طالما أن تلك السادية قد تخطت كل القوانين والأعراف والنظريات والفلسفات، والأساطير.
إزاء هذا الثراء المسرحي لا يمكن، بأي حال اختزال تجربة جواد الأسدي في حوار صحفي، غير أن عرضه المسرحي الأخير شكل حافزا لإجراء هذا الحوار الذي يتحدث فيه الأسدي عن مسرحيته الأخيرة "حمام بغدادي"، ويبوح بما يجول في دهاليز روحه بشأن عراقه الجريح، ويتوقف عند بعض القضايا التي تشغله على الخشبة، وأثناء البروفات. فيما يلي نص الحوار:
*
لماذا "حمام بغدادي"؟ وفي هذا التوقيت الملتبس؟
ـ منذ سبعة وعشرين عاما، وأنا خارج العراق، وجرت فيه، خلال هذه الفترة الطويلة، جملة تحولات وتغيرات إن كان ذلك على صعيد فعل السلطة أي الدولة، أو على صعيد العنف، أو على صعيد إعادة كتابة المجتمع العراقي بلغة تقترب من طمس معالم الإنسان العراقي، وطمس ارثه المميز ضمن هذا المبنى الثقافي والإنساني والجمالي، وبتر كل ما له علاقة بعراق كنا نحلم به. عدت إلى بغداد بعد سقوط النظام، وبعد دخول قوات الاحتلال، وأنت تعلم أن العراقيين تحملوا إرثا من الألم، والحزن، والتدمير عبر حروب متلاحقة، كانت السلطة خلالها تقتل وتقمع وتنتهك حرمات العراقيين الذين سلموا بعد هذه التاريخ المؤلم الطويل إلى الاحتلال بكل ما تحمله هذه المفردة من بعد سلبي. ساد الاعتقاد في البداية أن القوات الأمريكية أو قوات الحلفاء جاءت بغرض التأسيس لحياة قوامها الثقافة والديمقراطية والأمن والطمأنينة.
بعد ذلك الإرث الثقيل، وهذا التفاؤل المشوب بالحذر عدت إلى بغداد، ولم تكن لدي أحلام وردية، ولم أشعر باني سأرى شيئا مهما وجميلا. كان الناس يعتقدون بأن ذهاب النظام يعني أنهم سيظفرون بحياة جيدة، وبظرف معاشي مرفه، ولكن، ما حدث، هو أن العراق أحيل، مرة أخرى، بكل طوائفه وأحزابه إلى الجحيم، كأنما جاء نباش نبش المجتمع لكي ينبش آلام الماضي ويركبها على الآلام الجديدة التي لها علاقة ببلاد منتهكة، غير منضبطة الحدود حيث السلب والنهب، وسط فوضى عارمة، وقتل جماعي، وغياب للأمن.
عندما عدت إلى العراق بهدف إخراج مسرحية "نساء في الحرب" تلمست ذلك، كانت لدي شهية مذهلة الجمال، خصوصا بعد نجاح مسرحيتي "ماكبث" التي عرضت هناك بغيابي، لأن أعود واساهم مساهمة جمالية، ثقافية مثل باقي الفنانين والمثقفين العراقيين، أي أن تستعيد كتابة وطنك بطريقة أنت تحلم بها، لكن للأسف كان وقع هذا الذهاب مرعبا. خراب مجتمعي، ثقافي، سلطوي. أغلب الشخصيات السياسية تعمل وفق فكرة "السوبر ماركت السياسي"، بأهداف غير واضحة المعالم. وشعرت بأن المشهد العراقي يكتب من جديد بصياغة وبسياق لا يمكن أن تتقاطع معه أو أن تبني جسرا للوصول إليه، لذلك بعدما عرضت "نساء في الحرب" خرجت وسط شعور بهزيمة مرعبة تتمثل في أن هذا الوطن الجميل، أو هذا المكان الذي حلمنا به طويلا لم يعد بالإمكان التواصل مع وضعه وظروفه.
مسرحية "حمام بغدادي" جاءت من هذه الرؤى، ومن هذه الهواجس، إذ رغبت في قول شيء عن العراقيين، فلم أشأ أن اختار شخصيات "مرموقة" محاطة بهالة إعلامية وسياسية، أو شخصيات من محدثي النعمة، بل أحببت أن أسلط الضوء على القاع، فاخترت سائقي سيارات أجرة يعملون بين بغداد وعمان، حتى ارصد من خلالهم هذه الدرجة من التحولات في شخصياتهم، وبالتالي خرابهم في الماضي والحاضر. هذه هي الرسالة، أي أردت أن أقول أن هاتين الشخصيتين هما كانتا ذريعة لنبش الجو الكابوسي الكافكاوي الذي وضعنا فيه من جديد.
*
مما زاد في قتامة الصورة هو انك غادرت العراق مطلع السبعينيات محملا بكنز من الذاكرة الجمالية، وعدت لتراه خرابا، فالمفارقة بين الماضي والحاضر فاقمت من سوداوية المشهد الراهن، أليس كذلك؟
ـ بالضبط، حين خرجت من العراق مطلع السبعينيات كان العراق يعيش حالة "تنوير" على مختلف الصعد. المرأة كان لها دور خطير ومهم. امرأة حرة، متمدنة، بلا حجاب. وكان المجتمع ذا طابع مدني. الناس يعيشون حياتهم الطبيعية، يسهرون، ويذهبون إلى المسارح، إذ كانت العروض المسرحية متميزة. وكانت هناك فرق مسرحية مهمة مثل "مسرح الفن الحديث"، "المسرح الشعبي"، و"مسرح اليوم"...وفرق أخرى مختلفة المذاقات والتوجهات، وكان هناك نشاط وتميز على صعيد الشعر والرواية، والقصة القصيرة، والفن التشكيلي...فالشارع العراقي كان يكاد يسبق المنطقة العربية كلها بخصوصيته الجمالية والثقافية، فتخيل أن كل هذا الثراء يطاح به تدريجيا على يد السلطة القديمة، وينكل به، ويعرض الكثير من المثقفين للإعدام أو التهجير أو الشطب أو الحرق...السلطة القديمة رمت العراقيين في المحرقة الكونية، مع سبق الإصرار والترصد، لذلك عندما عدت لم تكن العمارات هي نفسها التي في ذاكرتي، ولا الشوارع نفسها، وشعرت بأنه ليس هذا هو الرصيف الذي سرت عليه، ولا هذا هو باب السينما، ولا هذا هو باب المسرح الذي تعرفه، ولا هذا هو باب بيتك، وكأنما بغداد تحولت إلى مزبلة ضخمة، وكأنما السلطة بذلت الجهود الحثيثة لالباس العراق ثوبا واسعا من السواد القاتم، والتجهيلية المميتة. والى الآن أتساءل ما هي هذه الشهوة العجيبة المميتة التي تدفع أشخاصا أو سلطة أو حزبا للقيام بهذا الدور القذر بحيث يحطمون أبناء بلدهم ويرمونهم إلى مطحنة الموت الكبرى. العمارة الخارجية محطمة، وهي واضحة للعيان، غير أن عمارة النفس البشرية محطمة كذلك بصورة أكثر هولا.
*
ولعل هذا ما ركزت عليه في "حمام بغدادي" إذ أظهرت شخصيات عراقية محطمة في انتظار موت مؤكد، ووشيك؟
ـ تماما، الآن هناك عدد كبير من السياسيين والحزبيين الذين يعتقدون أن بإمكانهم لعب دور تفاؤلي بعد عودتهم للعراق، لأن السياسة هي ممارسة نوع من البراغماتية، غير أن عودة الفنان مختلفة. أنا لا أريد أن أكون قاتما أو سوداويا، لكنني أريد أن أسال : كيف لي تجسيد ما حلمت به في بلدي، فأنت تقدم مشهدك المسرحي بمجتمع مدني، ولمجتمع مدني لكي تتحاور مع الناس، الآن، مع من تتحاور؟؟ حينما ذهبت إلى أكاديمية الفنون الجميلة التي كانت اجمل منارة للثقافة العراقية في السبعينيات وجدت أن 99 في المائة من النساء محجبات. ممثلات، طالبات، فنانات تشكيليات مججبات، فكيف يمكن لك أن تتواصل مع هذا الجو؟
*
في "حمام بغدادي" آثرت ترك الصفوف الخلفية فارغة، وتغطيتها بقماش أسود، كما أن تحريك الديكور جاء وفق حركات مدروسة بحيث أن هذا وذاك شكلا جزءا من الطقس المسرحي. هل تم ذلك وفق متطلبات المسرح التجريبي الذي تقول بان المسرحية تنتمي إليه؟
ـ الهدف الرئيس من وراء ذلك، هو إحداث وتكوين ظروف لخلق نوع من المصادمة بين الممثل والجمهور، وهذه المصادمة لها طابع مكاني، ورؤيوي. أنت قريب من الممثل لكي ترى وتكتشف وتتلمس الحريق الذي في روحه، والممثل بدوره يرى ويحس بالحريق الذي يضطرم داخل الجمهور. وأنا من أنصار فكرة أن كل عرض للمسرحية يختلف عن الثاني، أنا لا أحبذ أن تكون مساحة العرض أو السينوغرافيا مكاناً عمومياً وضخماً، ولا احب أن يتحول مكان العرض إلى ما يشبه ملعبا لكرة القدم.
*
أتذكر أنك قدمت عرض "الاغتصاب" لسعد الله ونوس في غرفة تابعة لإحد التنظيمات الفلسطينية بدمشق؟
ـ نعم هذا صحيح، وحتى مسرحية "تقاسيم على العنبر" قدمتها على مسرح بيروت في مكان صغير. أنا انتمي إلى هذا المدخل في تفسير العلاقة بين المتلقي والعرض المسرحي، احب فكرة التشابك، والتقارب جسديا وروحيا وفكريا وعقليا، وطرح الأسئلة بجرأة شديدة.
*
إلى أي مدى أنت مخلص، وفق هذا الفهم، لضرورات المسرح التجريبي الذي تدعو إليه؟
ـ لا أستطيع أن أقول إلى أي حد لكن لدي إحساس بان المسرح التجريبي يعتمد على الصدمة في الصورة والجسد، الصدمة الروحية والعاطفية والفكرية. لكن هناك بعض العروض الضخمة مثل "روميو وجولييت"، أو "حلم ليلة صيف" من المستحيل أن تعتمد فيه على هذا الأسلوب، لأنك، عندئذ، ستبحث عن مكان مفتوح لتستطيع إظهار الاحتفالية بالأجساد، احتفالية الرؤى والمكان، وستذهب إلى المنطقة العكسية. لكن أنا لم اختر إلا النصوص التي لها هذه النكهة التي ابحث عنها، مثل "الخادمتان" التي عرضت في عواصم مختلفة، وكذلك "نساء في الحرب"، وغيرها من العروض التي اشتغل عليها وفق هذا المبدأ، أي المكان الضيق، والجمهور القليل، ولكن في الوقت نفسه أحول المكان الضيق، إلى مكان آخر تقنيا وسينوغرافيا وجماليا، وكأن العرض يحمل المتفرج إلى منطقة أخرى من الرؤيا والسحر. أنا أحاول أن أضع المتفرج في قلب الأداء فينسى أين هو جالس ليدخل في روح العرض.
*
البروفا كما تقول، تعري النص وتعدله، هل يتم ذلك وفق تصورات مسبقة أم بشكل عفوي ملائم لشروط العرض؟
ـ ليس وفق تصورات مسبقة ومتعمدة طبعا، بل بشكل تدريجي وسلس، وهذا ما ظهر في "حمام بغدادي"، إذ حذفنا أثناء البروفات نحو 70 بالمئة من النص. ليس معنى ذلك أننا جلسنا وحذفنا بل البروفا هي التي حذفت. جمال الأداء، وروح البروفا، والتمرد على النص وعلى الأداء التقليدي..كل ذلك وضع النص في حالة من الاختبار، وأطيح بالكثير من مفاصل النص، وأضيف الكثير بناء على ارتجال بعض اللحظات الحلوة، وتركب العرض مشهديا والى الآن مازال يركب. وكنت على خلاف مع الممثلين حول كل ما يتعلق بالجانب السياسي أي الحديث عن أبو غريب، والأمريكان...غير أنني تركت هذا المتن السياسي في العروض الأولى بناء على رغبة الممثلين. منذ البداية أردت أن يتجه العرض نحو تشيخوف وان يكون النص إيحائيا، وكان هناك نزاع ولست من النوع الذي افرض رأيي بعناد، وهم انتصروا علي بعد الحوار الطويل، لكني أوقعتهم في فخ كبير وقلت: "اهدوا لي هدية، لمرة واحدة، بان تحذفوا كل ما له علاقة بالسياسة"، فحذفوه في أحد العروض وكان العرض إيحائيا بامتياز، ثم في اليوم الثاني، قلت لهم شكرا على الهدية وشكرا لأنها ستستمر ووافقوا!، لذلك أقول أن البروفا هي المحك الحقيقي للنص.
*
ما هي الهواجس والمخاوف التي تنتابك الآن، وهل حققت وصية والدتك التي قالت لك، عند مغادرتك العراق منذ عقود: "إذا لم تستطع بلادك حملك، فاحملها أنت كنخلة باسقة"؟
ـ سأبقى عراقيا، العراق هو الوطن الذي يسكنني، هو فرحي، وروحي والهواء الذي أتنفسه، ويلازمني كالدورة الدموية. ولا تصدق بأننا لا نحب الفرح رغم خاصية الحزن التي تلازم الفن العراقي، ففي "حمام بغدادي" ورغم أنها تقدم جوا قاتما وحزينا، لكن المشهد في الخلف، والألون، ولوحة جبر علوان إلى أين تأخذك؟ إلى انك شخص تنشد السعادة حينما تقدم عرضا، غير أن الفرح الذي ننشده غائب، وأنا اعتقد أن ما رايته في العراق من آلام ومآسٍ شيء يفوق قدرة الفنون على التعبير عنها، يفوق قدرة السينما واللوحة والقصيدة والمسرح والأسطورة. وسأضرب مثلا صغيرا، في باب المعظم الذي كنا نرتاده عند العودة من أكاديمية الفنون ونسمع أغاني عبد الحليم حافظ المنبعثة من كشك صغير هناك حيث المنطقة زاهية، وجميلة. الآن هل تعلم ماذا رأيت في هذا المكان؟ رأيت عددا غير قليل من المجانين العراة، يدخنون، وينتظرون، ومنتشرين بصورة بائسة في الزوايا الخانقة. هذا هو المشهد اليومي للإنسان العراقي الغارق في السواد من دشداشته حتى أعماق روحه.


عرض لمسرحية (حمام بغدادي)  .. الفن بين السياسة والتسييس.. والتأويل والتقويل


احمد الهاشم
. يبدو الأمر مفارقةً : أعمال مسرحية عن العراق و تحمل هوية العراق تأليفا وإخراجا و لكنها تعرض خارج العراق ويشاهدها جمهور عراقي في الخارج أيضا. ولان كل عراقي يشتهي ان يجد فيها صورة عن عراقه، فان الفن هنا كمبتغى لصاحب المنجز يتوارى لصالح عملية التلقي الملتبسة بالسياسة. وهنا يكون المصطرع بين التأويل الجمالي و التقويل الذي يسيّس الفن السياسي حين يُساء فهمه او يتنكر لصفته.
ان ردة الفعل العراقية في التلقي على أي عرض يخص العراق تبدو وكأنها تبحث عن أمر واحد : ضد من يقف هذا العرض ومع من ؟ و هي استجابة سياسية بامتياز ستتجاهل الكثير من العناصر الفنية التي تمثل الشغل الشاغل لمنجز العمل، اضافة الى ان تلك الاستجابة عادة ما تجيّر العمل لصالح رؤية لا تتساهل مع العمل اذا لم ترجح كفة ميزان نقد النظام السابق على الكفة الاخرى التي تتناول حالة ما بعد التغيير بالنقد. ولإن العرض، هنا، حافل بالسياسة، فقد استدعى من باب تحصيل الحاصل ، استجابة سياسية، فمنذ بدء المسرحية يبدو الأخ الأكبر ( مجيد ) وهو يدافع عن التعامل مع الاميركان في العراق فيما يبدو الثاني ( الأخ الأصغر حميد) متقززا من مجرد رؤيتهم. و كل منهما يعمل سائقا ً لشاحنات النقل ( أدى دوريهما نضال سيجري و فايز قزق). ظهر الأول طوال ثلثي العرض شريرا- برغم ما تحمله المفردة من تبسيط- يتعامل مع الاميركان ( كسائق ؟) و الثاني لا يمكن ان ننعم عليه حتى بصفة الطيب و البسيط
بكل تبسيطية الأخيرة أيضا - وإنما هو منسحق و مستباح و مستضعف و مقهور لا أكثر وهو الشاهد على المقابر الجماعية حين عمل سائقا تعاقد ولم ينل شيئا مما وعد به - على نقل سجناء الى حيث تتم تصفيتهم ودفنهم. ولذا فقد بدا العراقي للبعض في العرض المقدم الى جمهور عربي - مختزلاً الى ثنائية قاهرة لا مجال للتوسطات فيها، تلك التوسطات التي يرتجيها المتلقي العراقي كي تفسح في المجال لتضايف الألوان وتدرجها و التباسات البشري بين أقصى درجات العظمة و أدنى درجات التردي، وكي لا تكون الثنائية قدرا في دنيا التبسيط الانتقائية والاختزالية السائدة اليوم. فقد كانت شخصيتا العرض جوهرين ثابتين حافظا على كيانيتهما القارة طوال أكثر من ساعة من عمر العرض الذ ي استمر ساعة ونصف، الا في اللحظة التي أصبح فيها الاخ الأكبر أعمى بعد نقله جثة شخصية سياسية من الأردن تفخخ تابوتها على الحدود و مات من كان قرب الجثمان من جنود اميركان وضمنهم المجندة المفتشة وليخرج هو فقط مصابا بالعمى، ليزداد بصيرة، وهي لحظة عز علينا ان نجد مسوغها : فكيف فُخّخ التابوت و كيف لم يُلحظ من الجهات الأردنية، ، و كيف خرج الأخ الأكبر مجيد من دون اتهام بالتدبير وهو الذي حمل الجثمان لتلك الشخصية التي وعد أخاه الأصغر بأنها ستفتح لهما باب الثراء بعد فوزها بالانتخابات.
ولعل الرد على الرأي السالف إن الفن يُشخص و لا يُعمم، فليس السائقان صورة مصغرة تختزل العراقيين جميعاً، إذ ان الفن يبحث عن الفردي. وإذا ما أندغم الجمع فيه فإنما هو من باب المجاز لا من باب الحقيقة، غير أن الملاحظ على مستوى التلقي ان المسمى" عراقي " و حالما يحضر، بغض النظر عن مهنة العراقي وسلوكه و معتقده، فإن الفردانية تفقد بالنسبة للعراقي المتلقي سمتها و يتحول المسمى إلى ماركة تنمط التسمية حتى لامناص و لا منجى من الخروج عن تعميمها. ولنا أن نتخيل لو كان الأخوان ألمانيين بعد سقوط هتلر، الراجح أنهما سيبدوان بالنسبة للمتلقي العراقي مجرد سائقين لا أكثر. ثم إننا كشعب لسنا جنساً من الملائكة ولذا فوجود شخصية لا تفكر إلا في مصالحها الخاصة ليس نموذجا نادرا لا في مجتمعنا و لا في المجتمعات البشرية كافة. أما نموذج العاجز و المسحوق فهو نموذج يتعذر حساب من ينطبق عليهم لفرط ضخامة من يمثلهم في بلادنا سابقاً وحالياً( و نتمنى ألا نضيف " لاحقاً" ). ناهيك عن ان انتقاد الحالة الراهنة لا يعني باي حال من الاحوال تزكية للنظام السابق. على ان ذلك لا يتجاهل رأي من ارتأى أن مخاطر التعميم اشتقت من العرض الذي استند أيضا إلى بعض التعميمات كالمقابر الجماعية وسجن "أبو غريب" و الموقف من الوجود الاميركي...الخ. علاوة على ان بناء الشخصيات من ناحية فنية تمغنطت باتجاه قطب واحد. في حين ان التقلبات و التحولات تبدو الثابت في مواقف البشر وسط ذلك المحيط الهائج من المتغيرات التي تمليها آمال الحاضر و آلامه. ثم ان هوية العراقي تبدو هنا متخارجة ومتعالية عن تشخصاتها العرقية والمذهبية و الدينية، برغم أن تلك التشخصات تلقي اليوم بظلالها الكثيفة على المشهد السياسي ، الأمر الذي يجعل من الهوية رهانا سياسيا و سؤالا مشروعاً من جرّاء حالة التشرذم و الاستقطاب و التنافر.
و إذا ما نظرنا إلى شخصيتي العرض ، فإننا نعدم وجود مسوغات واضحة لمواقفهما، فلا ندري لماذا كان الأول مع الاميركان ولماذا كان الثاني ضدهم، ولم نلمس لدى الأخوين مركزا واضحا للصراع، إلا إذا افترضنا اختلاف الطبائع. و على الرغم من أن ثمة جملة أساسية كان لها ان تكون مركزية في العرض فإنها ظلت عائمة بدون تشغيل : مجيد الأخ الأكبر
وكما يصفه الأخ الأصغر- كان مستفيدا في العهد السابق وفي الوقت الحاضر بينما الأخ الأصغر وكما يرد عليه الأكبر - كان خائفا و ضعيفا في كلا العهدين.
وحتى السلبي المطروح هنا لم يشمل السلبي الذي يعاني الفنان والإنسان العراقيين تداعياته القاهرة كالعمليات التي تستهدف المدنيين و تخريب البنى التحتية و التضييق على الحريات الشخصية و التطرف الديني والفساد الإداري واستشراء نزعة الاستقطاب الطائفي و التدخلات الإقليمية وأزمات الكهرباء و الماء، ناهيك عن جحيم المناخ و تلوثه والى آخره من نظائر ذلك. فهل فعل المحظور العربي فعله في التضييق من مساحة بقع الضوء المسلطة على المشهد العراقي؟
الإشكال الآخر المعطوف على سابقاته يختصره السؤال عن مدى حظوظ منتج العمل في الخروج من دائرة التشرنق في التقريرية الصحفية الملازمة لتناول الشأن العراقي، ومن المباشرة التي تأكل من جرف الفن و تناهضه رؤية وأداءً.
فاغلب الظن أن الإلمام بكل التفاصيل المعقدة للحياة العراقية سابقا متعذرة على من كان بمنأى عنها مهما بلغ عمق معرفة الأخير وثقافته، فالأمر هنا يتعلق بتجربة حياة وليس بنظام معارف و معلومات. فالأخ الأكبر مجيد يتحدث عن البارات و سكره فيها وعربدته في حين أنها أغلقت منذ زمن ليس بالقصير في العراق ، والمواخير التي كان يرتادها تجعل من بغداد مدينة لا تشبه نفسها خصوصا انه يرقص فيها مع الغانيات مستخدما المصطلح الإنكليزي "دانس" و يهتز كأنه راقص في مرقص أسباني و ليس كسائق عراقي لا تعدو "بنيته الفوقية" في الرقص الجوبي والهيوه، إضافة إلى أمور اقل شأنا من ذلك أو اكبر نجد غضاضة في ذكرها حتى لا نستغرق في التفاصيل التي ليست مدار الحديث هنا. الراجح ان ما عرفه جواد الاسدي عن عراقه هو مجموعة حكايات سمعها من شهود ما، وهو الأمر الذي قد يؤدي الى تقييم العرض من منظور العجالة و الابتسار.
لا نريد لتحفظاتنا هذه ان تغيٌب جرأة الفنان جواد الاسدي في طرح فظائع النظام القمعي السابق بمشاهد شدت المتفرج العربي، وبراعة توظيفه الكوميديا السوداء التي خففت من جو التجهم و الاحتقان و التوتر الذي برع في رسمه حتى إن عددا غير قليل من الجمهور أسرّ لنا انه تحسس فعليا من خلال العرض عمق الهول و الرعب و القسوة في الحياة العراقية. ولكن كنا نتمنى ان تكون تلك الكوميديا السوداء رؤية يتأسس عليها العرض بوصفها تضع كل شيء موضع تساؤل لأنها تتعامل مع المحظور من منطلق الطعن بجديته المفتعلة وليس بمواجهته بجدية مقابلة. فالقهقهة الساخرة
حتى إن انطلقت من الكواليس - تعيد لما يتعالى على البشري سماته البشرية ومشروطيته الإنسانية و تفرّغ المقولات السائدة من يقينيتها الصارمة التي ينحر البشر على مذبحها في غير مكان وزمان، كما أنها تتيح الموضع المناسب للالتباس البشري بلا فبركة أو أحادية.
ولئن حق لنا ان نخرج بانطباع فلن يكون مؤداه سوى ان كل عمل فني يتطرق إلى العراق يحف به تساؤل لا مفر منه على مستوى التلقي : هل كان العمل سياسيا أم مسيٌسا؟ و ذلك فارق يقف فاصلا ما بين تأويل العمل أو تقويله.


من خطاب هارولد بنتر أمام لجنة نوبل للآداب .. الفن والحقيقة والسياسة

ارولد بنتر
ترجمة : نجاح الجبيلي

في عام 1958 كتبتُ ما يلي:
" لا توجد فروق كبيرة بين ما هو حقيقي وزائف ، بين ما هو صادق وما هو كاذب. والشيء ليس بالضرورة يكون صادقاً أو زائفاً؛ فيمكن أن يكون صادقاً وزائفاً في الوقت نفسه".
اعتقد أن هذه التأكيدات ما زال لها مغزى ولا تزال تطبق في تقصي الحقيقة من خلال الفن. لهذا أؤيدها ككاتب لكني كمواطن لا أستطيع ذلك.
وكمواطن لا بد لي من أن أسأل: ما الشيء الصادق ؟ وما الشيء الكاذب؟
أن الحقيقة في الدراما مراوغة دائماً. فلن تجدها تماماً. لكن البحث عنها ملزم. من الواضح أن البحث يحث المسعى. مهمتك البحث. وفي أحيان كثيرة إن لم تتعثر بالحقيقة في الظلام ، فإنك تصطدم بها أو تلمح صورة أو شكلا يبدوان متطابقين مع الحقيقة دون أن تعي ذلك أحياناً. لكن الحقيقة الصادقة لا يمكن أن توجد أبداً كحقيقة واحدة نجدها في الفن الدرامي. فهناك العديد منها. وهذه الحقائق تتحدى أحداها الأخرى ، وترتد إحداها على الأخرى ، وتعكس أحداها الأخرى ، وتهمل أحداها الأخرى ، وتزعج إحداها الأخرى ، وبالتالي فهي محجوبة الواحدة عن الأخرى. أحياناً تشعر أن الحقيقة بين يديك للحظة ثم تنزلق من بين أصابعك وتفقدها. أحياناً يسألني الناس" كيف تبتدع مسرحياتك؟". لا أستطيع الإجابة، ولا يمكنني أن أوجز مسرحياتي سوى أن أقول أنّ هذا هو الذي حدث. ذلك ما قالته و ذلك ما فعلته.

المسرحيات أغلبها تتشكل بوساطة سطر أو كلمة أو صورة وكثيراً ما تلحق الكلمة المحددة بعد وقت قصير بالصورة. سوف آتي بمثالين من سطرين ظهرا مباشرة بشكل مفاجئ في رأسي ثم تبعتها صورة وألحقها.
المسرحيتان هما : ( العودة إلى الديار) و ( الأيام الخوالي) .السطر الأول من مسرحية "العودة إلى الديار " هو :" ماذا عملت بالمقصات؟" والسطر الأول من مسرحية " الأيام الخوالي" هو " داكن".
وفي كل حالة لم تكن لديّ معلومات إضافية.
في الحالة الأولى هناك شخص من الواضح أنه كان يفتش عن زوج من المقصات وعن مكان وجودها من شخص آخر كان يشك في أنه سرقها، لكني بطريقة أو بأخرى عرفت أن الشخص المخاطب ليس مهتماً بالمقصات أو السائل بسبب المسألة تلك.
" داكن" اتخذت هذه الكلمة لتكون وصفاً لشعر شخص ما ، شعر امرأة ،وكان جواباً عن سؤال. وفي كل حالة وجدت نفسي ملزماً على متابعة الموضوع. وحدث هذا بصرياً ، خبو بطيء ، عبر الظل إلى الضوء.
دائماً أبدأ المسرحية بتسمية الشخوص ( أ ، ب ، ج ).
في المسرحية التي أصبحت تسمى "العودة إلى الديار" رأيت رجلاً يدخل غرفة فارغة ويطرح سؤالاً على رجل أصغر سناً منه يجلس على أريكة وسخة ويقرأ صحيفة للسباقات، وكنت بطريقة أو بأخرى أشك في أن (أ) كان يمثل الأب و (ب) يمثل ابنه ، لكن ليس لديّ برهان. غير أن هذا قد تأكد لي بعد فترة قصيرة حين يقول (ب) ( الذي يسمى فيما بعد "ليني") لـ (أ) ( الذي يسمى فيما بعد "ماكس") " أبي هل تمانع لو أني غيرت الموضوع ؟ أريد أن أسألك سؤالا، الوجبة التي أكلناها ما اسمها ؟ ماذا تسميها ؟ لماذا لا تشتري كلباً ؟ إنك طاهي كلاب، محترم. تعتقد أنك تطبخ لعدد كبير من الكلاب". إذن بما أن (أ) يدعو (ب) بأبي فيبدو لي أن من المعقول الافتراض بأنهما كانا أباً وابناً. ومن الواضح أيضاً أن (أ) هو الطباخ ولا يبدو أن طبخه يلقى اهتماماً كبيراً. هل يعني هذا أنه لم تكن هناك أم؟ لا أعرف. لكن ، كما قلت لنفسي حينها ، إن بداياتنا لا تعرف أبداً نهاياتنا.
"داكن" .نافذة كبيرة. سماء مسائية. (أ) رجل (يسمى فيما بعد "ديلي") وامرأة (ب) ( تسمى فيما بعد كيت) ، يجلسان و يشربان. يسأل الرجل :" سمين أم نحيف؟" عمّ يتحدثان؟ لكني بعد ذلك رأيت بعد وقوفي قرب النافذة امرأة (ج) ( تسمى فيما بعد آنا) في بقعة أخرى من الضوء ، وهي تعطي ظهرها لهما بشعر داكن.
إنها لحظة غريبة ، لحظة خلق الشخوص ، التي ليس لها وجود حتى اللحظة تلك. وما يتبع ذلك فهو مليء بالتشنج والشك والهلوسة أيضاً على الرغم من أنه في بعض الأحيان يكون انهياراً غير قابل للتوقف. إن موقف الكاتب هو نوع غريب بمعنى أنه غير مرحّب به من قبل الشخوص. فالشخوص تقاومه ، فليس من السهل العيش معهم ، وهم عصيون على التعريف. إنك لا تستطيع أن تملي عليهم، وبقدر محدود تلعب معهم لعبة لن تنتهي أبداً ، لعبة القط والفأر، ولعبة الغميضة. لكن تكتشف أخيراً أن لديك ناسا ًمن لحم ودم بين يديك، يمتلكون إرادة وحساًَ فردياً ، مخلوقين من أجزاء مركبة لا يمكنك تغييرها أو التلاعب بها أو تشويهها.
لهذا تبقى اللغة في الفن إجراء غامضاً ، رمالاً متحركة ، بهلوانية ، حوضاً متجمداً قد ينهار تحتك في أي لحظة أيها المؤلف.
لكن ، كما قلت ، البحث عن الحقيقة لا يمكن أن يتوقف أبداً و يرجئ أو يؤجل ولا بدّ من مواجهتها حالاً في المكان نفسه.
يمثل المسرح السياسي مجموعة جدّ مختلفة من المشاكل ، ولابد من تجنب الوعظ مهما كلف الأمر فالموضوعية ضرورية إذ ينبغي أن ندع الشخوص تتنفس هواءها الخاص، ولا يمكن للمؤلف أن يحصرها و يقلصها كي يشبع ذوقه أو مزاجه أو هواه، ويجب أن يتهيأ لتقديمها من مختلف الزوايا ومن مجال واسع وغير مقيد من المنظورات ( وجهات النظر) ، وأن تفاجئها ، أحياناً ، لكن مع ذلك يعطيها حرية الذهاب إلى أي وجهة، وهذه الوسيلة لا تنجح دائماً. والهجاء السياسي ، بطبيعة الحال ، لا يلتزم بأي من هذه المبادئ ، وهو في الواقع يخالف وظيفته الصحيحة.
في مسرحية " حفلة عيد الميلاد" اعتقد أني استخدمت عددا واسعا من الخيارات كي أشتغل في غابة كثيفة من الاحتمالات قبل أن أركز في النهاية على فعل الخضوع.
وتتظاهر مسرحية " لغة الجبل" بأنها لا تخضع لهذا النطاق من العملية. أتبقى قاسية وقصيرة وبشعة؟ قد ينسى المرء أحياناً أن التعذيب من السهولة أن يصبح مملاً. لكن الجنود في المسرحية يستخلصون شيئاً من المزاح منها. فهم يحتاجون إلى قليل من الضحك كي يظلوا محتفظين بأرواحهم، و قد أكدت ذلك الأحداث التي وقعت في "أبو غريب" في بغداد.
إن مسرحية " لغة الجبل" تستغرق عشرين دقيقة فقط ،و كان يمكن أن تستمر ساعة بعد أخرى، تستمر طويلاً ، الطراز نفسه يعاد مرة بعد أخرى ، يستمر ويستمر ، ساعة بعد أخرى.
من جهة أخرى ، تبدو لي مسرحية " من رماد إلى رماد " أنها تحدث تحت الماء. امرأة غريقة ، يداها تمتدان عبر الأمواج ، وتسقطان بمنأى عن الأنظار ، تمتدان للآخرين ، لكنهما لا تثيران أحداً ، سواء فوق الماء أم أسفله ، لا تجدان سوى الظلال والانعكاسات والأشياء الطافية ، المرأة جسد ضائع في منظر الغرق ، غير قادر على الهرب من القدر الذي بدا أنه يعود لناس دون غيرهم.
لكنها كما ماتوا لا بد من أن تموت أيضاً.
إن اللغة السياسية ، كما استعملها السياسيون ، لا تغامر بالدخول إلى هذه المنطقة. طالما أن السياسيين ، طبقاً للدليل المتوفر لدينا ، مهتمون لا بالحقيقة بل بالسلطة. وللمحافظة على هذه السلطة لا بد من أن يبقى الناس في جهل ، إذ أنهم يعيشون في جهل للحقيقة ، حتى حقيقة حياتهم الخاصة لهذا فإن ما يحيطنا هو نسيج واسع من الأكاذيب التي نتغذى عليها.
وكما يعرف الجميع هنا ، فإن المبرر لغزو العراق كان امتلاك صدام حسين لجزء جدّ خطر من أسلحة الدمار الشامل ، قد يكون بعضها قد جرى تفجيره في خمس وأربعين دقيقة مسبباً دماراً مروعاً. وأكدوا لنا أن ذلك كان صحيحاً إلا أنه لم يكن كذلك. وقد أخبرونا بأن العراق له علاقة بالقاعدة ويشارك في مسؤولية الهجوم الوحشي على نيويورك في 11 أيلول 2001 وأكدوا لنا بأن ذلك كان صحيحاً إلا أنه لم يكن كذلكً. وأخبرونا بأن العراق يهدد الأمن العالمي وأكدوا لنا أن ذلك كان صحيحاً إلا أنه لم يكن كذلك.
والحقيقة شيء مختلف تماماً. الحقيقة لها علاقة بكيفية فهم الولايات المتحدة دورها في العالم وكيفية تجسيدها له.
لكن قبل أن أعود إلى الحاضر أود أن ألقي نظرة على الماضي القريب والذي أعني به السياسة الخارجية للولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية واعتقد أنه من الملزم علينا أن نخضع هذه الفترة في الأقل إلى نوع من الفحص المحدد والذي يسمح بحضور كل تلك الفترة هنا.
الجميع يعلم ماذا حدث في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية أثناء فترة ما بعد الحرب: الأعمال الوحشية المنظمة والأعمال الفظيعة واسعة النطاق والقمع القاسي للفكر المستقل. وقد جرى توثيق ذلك وتثبيته.
لكن جدالي هنا هو أن جرائم الولايات المتحدة في الفترة نفسها قد سجلت بشكل سطحي فقط ولم توثق أو يعترف بها أو يجري تمييزها كجرائم مطلقا، واعتقد أن هذا يجب أن يوجه وأن للحقيقة صلة مهمة بما يقوم عليه العالم الآن. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة كانت مقيدة إلى حد ما بوجود الاتحاد السوفيتي إلا أن أفعالها عبر العالم جعلت من الواضح الاستنتاج أن لديها السلطة المطلقة في عمل ما ترغب به.
إن الغزو المباشر لدولة ذات سيادة ليس الطريقة المفضلة لأميركا. فهي في الأغلب كانت تفضل ما تصفه " بالنزاع ذي الحدة القليلة" ويعني " النزاع ذي الحدة القليلة" أن يموت الآلاف من الناس لكن أبطأ مما لو ألقيت عليهم قنبلة في انقضاض واحد مميت.
وهو يعني أنت تلوث قلب البلد وتنشئ ورماً خبيثاً وتراقب تطور الغنغرينا. وحين يتم قهر الجماهير
أو ضربها حتى الموت ، الأمر سيان- وأصدقاؤك الذين هم من المؤسسات العسكرية الكبيرة ، يجلسون في السلطة مرتاحين ، تذهب أمام الكاميرا لتقول أن الديمقراطية قد انتصرت. وكان هذا شائعاً في السياسة الخارجية للولايات المتحدة في السنوات التي أشرت إليها. كانت مأساة نيكاراغوا قضية غاية في الأهمية، وارتأيت أن أقدمها هنا كمثال قوي على رؤية أميركا لدورها في العالم سابقاًُ ولاحقاً.
كنت حاضراً في اجتماع في السفارة الأميركية في لندن في أواخر الثمانينيات. وكانت الولايات المتحدة ستقرر إن كانت ستعطي المزيد من الأموال إلى " الكونترا" في حملتها ضد حكومة نيكاراغوا وكنت عضواً في الوفد المفاوض أتكلم لصالح نيكاراغوا ، لكن أهم عضو فيه كان الأب "جون متكالف" وكان رئيس الوفد الأميركي هو " ريموند سايتز" (الشخص الثاني في السفارة ثم أصبح هو السفير). قال الأب "متكالف" :" سيدي، إني القيّم على أبرشية في شمال نيكاراغوا وقد بنى أبناؤها مدرسة ومركزاً صحياً ومركزاً ثقافياً. أننا نعيش في سلام. وقبل بضعة أشهر هاجمت قوة من "الكونترا" الأبرشية ودمرت كل شيء: المدرسة والمركزين الصحي والثقافي. اغتصبت الممرضات وذبحت الأطباء بمنتهى الوحشية، وتصرفت كالوحوش أرجوك أن تطلب من حكومة الولايات المتحدة أن تسحب دعمها لهذه المنظمة الإرهابية المثيرة للرعب". كانت لريموند ساينز مكانة طيبة كونه رجلاً عاقلاً ومسؤولاً ومحنكاً. وكان يلقى بالغ الاحترام من لدن الدوائر الدبلوماسية. أصغى ثم توقف وتكلم بوقار :" أيها الأب، دعني أخبرك شيئاً، في الحرب ، الناس الأبرياء يعانون دائماً". وكان ثمة صمت جليدي. نظرنا إليه فلم يجفل.
حقاً أن الناس الأبرياء يعانون دائماً.
أخيراً تكلم أحدهم قائلاً:" لكن في الحالة هذه كان "الناس الأبرياء " هم ضحايا الأعمال الوحشية الشنيعة التي تساندها حكومتكم ، واحدة من بين العديد، فإذا ما قدم الكونغرس المزيد من المال إلى الكونترا ستحدث الكثير من الأعمال الوحشية من مثل هذا النوع. أليست هذه هي القضية ؟ أليست حكومتكم لهذا السبب مذنبة في دعم الأعمال الإجرامية وتدمير مواطني دولة ذات سيادة ؟".
كان سايتز رابط الجأش فأجاب:" لا أتفق على أن الحقائق كما قدّمت تدعم تأكيداتك".بينما كنا نغادر السفارة أخبرني معاون أميركي أنه يستمتع بمسرحياتي فلم أجب.
عليّ أن أذكركم أنه في ذلك الوقت صرّح الرئيس ريغان بالعبارة التالية :" إن الكونترا هي المعادل الأخلاقي لآبائنا المؤسسين".
دعمت الولايات المتحدة دكتاتورية سوموزا الوحشية في نيكاراغوا لأكثر من أربعين سنة وقام الشعب النيكاراغوي الذي قاده الساندنستيون بإسقاط هذا النظام عام 1979 في الثورة الشعبية المثيرة.
لم يكن الساندنستيون مثاليين، فكان لهم نصيب كبير من العجرفة وتحتوي فلسفتهم على عدد من العناصر المتناقضة، لكنهم كانوا أذكياء متعقلين وحضاريين. بدأوا ينشئون مجتمعاً مستقراً تعددياً مقبولاً، فقد ألغيت عقوبة الإعدام وعادت إلى الحياة مئات الآلاف من الفلاحين المبتلين بالفقر وأعطيت أكثر من مئة ألف عائلة الحق في امتلاك الأرض وتم بناء ألفي مدرسة وقامت حملة لمحو الأمية قللت نسبة من الأمية في البلد، وأنشئ التعليم المجاني والخدمة الصحية المجانية وانخفضت نسبة وفيات الأطفال إلى الثلث وقضي على شلل الأطفال.
أنكرت الولايات المتحدة هذه الإنجازات كونها تخريباً ماركسياً لينينياً. ومن وجهة نظر حكومة الولايات المتحدة فقد تم تأسيس نموذج خطير. فإذا ما سمح لنيكاراغوا بتأسيس قيم أساسية منها العدالة الاجتماعية والاقتصادية وإذا ما سمح لها بإنشاء مقاييس للعناية الصحية والتعليم وإنجاز الوحدة الاجتماعية والاحترام الوطني ، فإن البلدان المجاورة سوف تسأل الأسئلة نفسها وتفعل الأمور نفسها. كانت هناك بطبيعة الحال مقاومة شديدة للوضع الراهن في السلفادور.
تحدثت قبل قليل عن " نسيج الكذب" الذي يحيط بنا. وكان الرئيس ريغان عادة ما يصف نيكاراغوا بـ " حصن الدكتاتورية"، وكانت وسائل الأعلام ، وبالتأكيد الحكومة البريطانية، تنقلها كونها وصفاًً صحيحاً ودقيقاً، لكن لم يكن في الواقع تسجيل لفرق الإعدام تحت حكم الساندنستيين، ولم يكن دليل على وجود التعذيب، ولم يكن تسجيل أعمال وحشية عسكرية رسمية منظمة ، حتى الكهنة لا يقتلون في نيكاراغوا. في الواقع كان هناك ثلاثة كهنة في الحكومة ، اثنان من اليسوعيين وواحد من أبرشية " ماري كنول". الحصون الدكتاتورية موجودة في دول الجوار ، في السلفادور وغواتيمالا فقد أسقطت الولايات المتحدة الحكومة المنتخبة ديمقراطياً في غواتيمالا عام 1954 ، ومن المحتمل أنّ أكثر من 200 ألف شخص كانوا ضحايا الدكتاتوريات العسكرية المتعاقبة.
وقد جرى قتل وحشي لستة من أبرز اليسوعيين في العالم في " الجامعة الأميركية المركزية" في سان سلفادور عام 1989 من قبل كتيبة من فوج " الكاتل" الذي يتدرّب في "فورت بننغ في ولاية جورجيا بالولايات المتحدة. وقد جرى اغتيال ذلك الرجل الشجاع رئيس الأساقفة روميرو بينما كان يلقي القدّاس ومن المحتمل أن 75 ألف شخص قد ماتوا.لماذا جرى قتلهم؟ لقد قتلوا لأنهم ظنوا أن الحياة الأفضل ممكنة ويجب تحقيقها. وبسبب هذا الاعتقاد جرى التشكيك بهم كونهم شيوعيين. لقد ماتوا لأنهم تجرأوا على مساءلة الوضع الراهن والامتداد اللامتناهي من الفقر والمرض والإهانة والقمع التي أصبحت ميراثهم.
أخيراً أسقطت الولايات المتحدة الحكومة الساندنستية وتطلب الأمر بضع سنوات ومقاومة كبيرة لكن المضايقة الاقتصادية القاسية وموت 30 ألف شخص أضعفت روح الشعب النيكاراغوي. كانوا منهكين فابتلوا بالفقر مرة أخرى. عادت نوادي القمار داخل البلاد. انتهى نظاما الصحة والتعليم المجانيين. وعادت التجارة الكبرى منتقمة وانتصرت " الديمقراطية".
لكن هذه السياسة لم تكن محددة بأميركا الوسطى مطلقا فقد جرى نقلها وتطبيقها في العالم. لم تكن منتهية أبداً كـأنها لم تحدث أبداً.
ساندت الولايات المتحدة وفي بعض الحالات أنشأت كل الدكتاتوريات العسكرية اليمينية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وأشير هنا إلى أندونيسيا واليونان وأورغواي والبرازيل وبارغواي وهاييتي وتركيا والفلبين وغواتيمالا والسلفادور ، وتشيلي، وبالطبع، الفظائع التي ارتكبتها الولايات المتحدة في تشيلي عام 1973 لا يمكن تبرأتها أو غفرانها.
لقد وقع مئات الآلاف من الموتى في هذه البلدان. هل وقعت؟ وهل ممكن عزوها في كل الاحوال إلى السياسة الخارجية للولايات المتحدة ؟ حتى لو حدثت فكأنها لم تحدث. الأمر ليس موضع اهتمام. فجرائم الولايات المتحدة أصبحت منظمة ثابتة شنيعة قاسية ، لكن القلة من الناس تتحدث عنها فعلياً. عليكم أن تسلموها باليد إلى أميركا. لقد مارست التلاعب الصارم بالسلطة في أنحاء العالم بينما تنكرت كونها قوة خير عالمية. أنه فعل التنويم المغناطيسي وهو قمة الذكاء والمهارة والنجاح.
أؤكد لكم أنّ الولايات المتحدة هي بلا شك المسرح الأكبر الجوّال، وهي وإن كانت قاسية وغير مبالية وهازئة وبلا رحمة إلا أنها جد ذكية أيضاً. وكبائعة أكثر بضاعتها بيعاً هي حبها للذات. إنها الفائزة. استمع لكل الرؤساء الأميركان في التلفزيون وهم يرددون كلمتي " الشعب الأميركي" كما في العبارة التالية :" أقول للشعب الأميركي ، حان الوقت لكي نصلي وندافع عن حقوق الشعب الأميركي وأطلب من الشعب الأميركي أن يثق برئيسه في الحرب التي سيشنها من أجل الشعب الأميركي".
إنها خدعة تطلق شرراً. وقد وظفت اللغة فعلياً لإبقاء الفكرة في وضع حرج. وكلمتا "الشعب الأميركي" تضع وسادة شهوانية حقاً من إعادة الطمأنة ( التوكيد) فلا تحتاج أن تفكر ، تمدد على الوسادة فقط. وربما تخنق الوسادة ذكاءك وقابلياتك النقدية لكنها جد مريحة، وهذا لا ينطبق بطبيعة الحال على 40 مليوناً من الناس الذين يعيشون تحت خط الفقر والمليونين من الرجال والنساء المحتجزين في غولاغ شاسع من السجون الممتدة في الولايات المتحدة.
لم تعد الولايات المتحدة منزعجة من النزاع ذي الحدة القليلة ولم تعد ترى أي هدف في بقائها متكتمة أو حتى مخادعة، إنها تعرض أوراقها على المنضدة دون خوف أو منة، إنها ببساطة تامة لا تهتم بالأمم المتحدة والقانون الدولي والمعارضة والانتقادات وتعتبرها ضعيفة لا علاقة لها ولديها أيضاً خروفها الصغير الذي يثغو خلفها ، "بريطانيا العظمى " الكسولة المثيرة للشفقة.
ما الذي حدث لحسّنا الأخلاقي ؟ هل كنا نمتلكه دائماً؟ ماذا تعني هذه الكلمات ؟ وهل تشير إلى مصطلح من النادر توظيفه هذه الأيام
الضمير ؟ الضمير الذي ليس له علاقة بأفعالنا فحسب بل بمسؤوليتنا المشتركة في أفعال الآخرين ؟ هل مات كل ذلك؟ انظر إلى خليج غوانتنامو. المئات محتجزون لأكثر من ثلاث سنوات دون اتهام، فليس ثم تمثيل قانوني ولا دعوى قضائية مستحقة وهم تقنياً محتجزون إلى الأبد. وهذا الهيكل غير الشرعي تماماً ظل يخرق معاهدة جنيف. إنه عمل غير متسامح لكن من الصعب التفكير بما يسمى "المجتمع الدولي". وهذا الانتهاك الإجرامي ارتكبته دولة تعلن عن نفسها كونها "زعيمة العالم الحر". هل فكرنا بساكني خليج غوانتانامو ؟ ماذا تقول عنهم وسائل الإعلام ؟ فهم يظهرون في بعض الأحيان فجأة فقرة صغيرة على الصفحة السادسة. لقد أودعوا الأرض التي لا يوجد فيها إنسان والتي لن يعودوا منها أبداً. وحالياً العديد منهم مضربون عن الطعام ، وقد جرى إجبارهم على تناول الطعام وبضمنهم من المقيمين في بريطانيا. ولا تفاصيل عن إجراءات الإكراه على تناول الطعام. لا مسكّن أو مخدّر، فقط أنبوب يلصق على الفم وعلى الحنجرة وتتقيأ دماً. هذا تعذيب. ماذا قال وزير خارجية بريطانيا عن هذا ؟ لاشيء. ماذا قال رئيس وزراء بريطانيا عن هذا ؟ لاشيء. لماذا؟ لأن الولايات المتحدة قالت :" إن توجيه النقد إلى عملنا في خليج غوانتانامو يشكّل سلوكا معاديا. فإما أن تكون معنا أو تكون ضدنا، ولهذا السبب صمت بلير.
إن غزو العراق عمل لصوصي وفعل إرهابي صارخ ويعد ازدراء مطلقاً لمفهوم القانون الدولي. وكان عملاً عسكرياً اعتباطياً أثارته سلسلة من الأكاذيب والتلاعب الفاضح بوسائل الأعلام ومن ثم بالجماهير؛ وهو عمل قصد منه تثبيت العسكرية الأميركية والسيطرة الاقتصادية على الشرق الأوسط متنكرة بالتحرير. وكمسعى أخير ، أن كل المبررات فشلت في تسويغ نفسها. الإصرار المرعب على القوة العسكرية المسؤولة عن موت وإعاقة الآلاف والآلاف من الناس الأبرياء.
لقد جلبنا التعذيب والقنابل العنقودية واليورانيوم المنضب والأعمال التي لا تحصى من الجريمة غير المنظمة والتعاسة والإهانة والموت للشعب العراقي وندعوها " منح الحرية والديمقراطية في الشرق الأوسط".
كم من الناس عليك أن تقتل كي تتأهل إلى صفة القاتل الجماعي ومجرم حرب؟ مئة ألف؟ اعتقد أن العدد أكثر من كاف، لهذا يكون من المنصف أن يمثل بوش وبلير أمام محكمة العدل الدولية. لكن بوش كان ذكياً فلم يقر بمحكمة العدل الدولية. لهذا إذا ما وجد جندي أميركي أو سياسي بسبب تلك المسألة نفسه في قفص الاتهام فإن بوش يحذر من أنه سوف يرسل المارينز. لكن بلير أقر بالمحكمة لهذا فمن الممكن حضوره للمقاضاة وإذا ما اهتمت المحكمة بالحصول على عنوانه فنحن مستعدون لإعطائه وهو: رقم 10 داوننغ ستريت ، لندن.
إن الموت في هذا السياق ليس له علاقة بالموضوع. إن كل من بوش وبلير لم يوليا قضية الموت أهمية ففي الأقل قتل 100 ألف عراقي بواسطة القنابل والصواريخ الأميركية قبل أن تبدأ حركة المسلحين.هؤلاء الناس ليس لهم أهمية وموتهم ملغى. أنهم بياض. حتى أنهم لم يدونوا في سجلات الوفاة. يقول الجنرال الأميركي تومي فرانكس:" ليس لدينا إحصائيات للجثث".
في بداية الغزو نشرت صورة في الصفحة الأولى لجريدة بريطانية تصّور توني بلير وهو يقبّل خد طفل عراقي صغير ويقول التعليق على الصورة :" طفل معبر عن الشكر". وبعد بضعة أيام كانت هناك قصة وصورة في الصفحة الداخلية ، لطفل آخر عمره أربع سنوات بلا ذراعين وقد دمر صاروخ عائلته، وكان هو الناجي الوحيد. وهو يسأل:" متى استرد ذراعيّ". وقد انقطعت القصة. حسن. إن توني بلير لم يحمل بذراعيه أي طفل آخر مقطوع الأعضاء ولا أي جسد دام، لأن الدم وسخ، أنه يوسخ قميصك وربطتك حين تلقي خطاباً صريحاً في التلفزيون.
كان الموتى الأميركان الذين يبلغون الألفين مبعث ارتباك، فقد نقلوا إلى قبورهم في جنح الظلام، والجنائز محفوظة بأمان وقد تعفنت الأعضاء المبتورة في أفرشتهم ، بعضه لراحة حياتهم. لهذا فإن الموتى والمبتورين كلهم متعفنون في مختلف أنواع القبور.
قلت سابقاً ان الولايات المتحدة الآن صريحة في عرض أوراقها على المنضدة. تلك هي المسألة. وسياستها المعلنة الرسمية تعرّف الآن بـ" الهيمنة ذات الطيف الكامل". وهذا المصطلح ليس من عندي بل صاغوه. و مصطلح " الهيمنة ذات الطيف الكامل" يعني السيطرة على الأرض والبحر والجو وكل المصادر الحاضرة. تمتلك الولايات المتحدة الآن 702 قاعدة عسكرية عبر أنحاء العالم في 132 بلداً هذا استثناء جدير بالاحترام من السويد بطبيعة الحال ولا نعرف تماماً كيف أصبحوا هناك ولكنهم من غير ريب هناك.
تمتلك الولايات المتحدة 8000 رأس نووي جاهز للعمل ألفان منها تشتغل بإنذار المقداح الحساس وهي جاهزة للأطلاق خلال ربع ساعة وتعد من الأنظمة الجديدة المتطورة في القوة النووية وتعرف بـ" المستودع الضخم". والبريطانيون ، متعاونون أيضاً ، يريدون أن يستبدلوا صاروخهم النووي "ترايدنت". أتساءل من يستهدفون به ؟ أسامة بن لادن؟ أنتم؟ أنا؟ جو دوكس ؟ الصين ؟ باريس ؟ من يدري ؟ ما نعرفه أن هذا الجنون الصبياني
امتلاك الأسلحة النووية واستخدامها في التهديد هو في قلب فلسفة السياسة الأميركية الحالية. يجب أن نذكّر أنفسنا بأن الولايات المتحدة تقف على أساس تسليحي دائم ولم تظهر أي دليل على تخفيفه.
إن آلافا ، إن لم نقل الملايين من الأميركيين في الولايات المتحدة نفسها هم على نحو ممكن أثباته ، مشمئزون وخجلون وغاضبون من تصرفات حكومتهم. ولمّا تستقيم الامور فهم ليسوا قوة سياسية متماسكة حتى الآن. لكن القلق والشكوكية والخوف التي نراها تنمو يومياً في الولايات المتحدة من غير المحتمل أن تتلاشى.
أعرف أن الرئيس بوش لديه العديد من كتبة خطاباته المقتدرين لكني أود أن أتطوع للعمل بنفسي واقترح الخطاب القصير التالي الذي نستطيع أن نقدمه من خلال التلفزيون إلى الأمة. أراه وقوراً وشعره ممشطا بعناية ، جدياً ، مخلصاً ، و خادعاً أحياناً بابتسامة ساخرة ، جذاباً بشكل غريب محباً لصحبة الرجال دون النساء.
" الرب طيب. الرب عظيم. ربي طيب. ورب بن لادن سيء. إنه رب سيء. رب صدام كان سيئاً إن لم نقل أنه لم يكن له رب. كان بربرياً. ونحن لسنا برابرة. لا نقطع رؤوس الناس.نؤمن بالحرية. كذلك الرب. إني لست بربرياً. إني الرئيس المنتخب بالديمقراطية المحبة للحرية. نحن مجتمع رحيم. نحن ننفذ إعدامات تمتاز بالرحمة ( بالكرسي الكهربائي) والحقنة المميتة الرحيمة. نحن أمة عظيمة. إني لست دكتاتوراً. إنه هو الدكتاتور. إني لست بربرياً. إنه هو البربري. كلهم برابرة. إني امتلك سلطة أخلاقية. هل ترى هذه القبضة ؟ إنها سلطتي الأخلاقية فلا تنسها."
إن حياة الكاتب عرضة للهجوم وهي نشاط أعزل. لا يتوجب علينا أن نبكي من أجل ذلك فالكاتب يضع اختياره ويلتصق به. لكن من الصحيح القول بأنك معرض لكل الرياح وبعضها جليدي فعلاً. إنك متروك ومهجور فلا تجد ملجأ ولا حماية إن لم تكذب. الشيء المتوقع أنك تنشئ حمايتك الخاصة وتصبح سياسياً وهو أمر ممكن الجدال فيه.
حين ننظر إلى المرآة نعتقد أن الصورة التي تتطابق معنا دقيقة ومنضبطة، لكن تحرّك مليمترا واحدا تجد أن الصورة قد تغيرت. إننا في الواقع ننظر إلى عدد لا متناه من الانعكاسات لكن على الكاتب أن يحطم المرآة أحياناً لأن في الجانب الآخر منها توجد الحقيقة التي تحدق إلينا.
اعتقد أنه على الرغم من الميزات الكبيرة الموجودة فإن عزمنا الفكري غير المرتاع وغير المنحرف كمواطنين على تعريف الحقيقة الصادقة لحياتنا ومجتمعاتنا هي التزام حاسم يؤول إلينا جميعاً. إنه في الواقع إجباري.
فإذا لم يتجسد هذا الالتزام في رؤيتنا السياسية فلا أمل في استعادة ما فقدناه على نحو جدّ وثيق
كرامة الإنسان.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة