على هامش
محاكمة العصر
.. عن النجف الأشرف: المدينة
التي اٌستباحها حرس الطاغية!
بغداد/صافي الياسري
النجف الاشرف بهية الطلعة
بقبة ضريح الامام علي(ع) الذهبية اللامعة صبحاً ومساءاً
النجف لها اسمان آخران هما الغري والمشهد، ودعيت الغري لأن
المنذر بن ماء السماء ملك المناذرة والعراق أمر بقتل
نديميه الحميمين وهو في حالة سكر وحين أفاق وعرف بأمرهما
بنى لهما طربالين، والطربال بناء كالصومعة وأمر ألا يدخل
عليه وفد إلا بعد ان يمر بين هذين الطربالين وجعل لهما
يومين في السنة يوم بؤسه ويوم نعيم يذبح يوم بؤسها اول من
يلقاه ويغري الطربالين بدمه ويحسن في يوم نعيمه الى أول من
يلقاه.
والنجف ايضاً هي الأرض المستديرة المرتفعة وسميت المشدة
بعد ان بني فيها ضريح الامام علي(ع) وهي بلدة عربية عريقة
وكانت من قبل مصيفاً للمناذرة، ويبدو ان اعتدال مناخها
حينذاك هو الذي جعلها مصيفاً اضافة الى بحيرتها او (بحرها)
وقربها من الصحراء والنهر، الصحراء حيث النقاء والصيد
والليل الساكن العليل النسيم، والنهر حيث الزرع والشجر
والفاكهة والخضرة، وبحيرة النجف العظيمة التي ما زال
السكان يدعونها بحر النجف برغم جفافها، وهي التي تعرضت
للجفاف ثلاث مرات قبل ان تجف نهائياً عام 1305هـ، وموقعها
منخفض واسع يقع غرب المدينة ويمتد حتى حدود العربية
السعودية وقد زرعت رقعة لا بأس بها بأشجار النخيل والفواكه
التي تروى بواسطة الآبار.
وقد هدم سور النجف عام 1920 ولم تبق منه سوى بعض الآثار
وكان قد شيده الصدر الأعظم محمد حسن خان العلاف وزير فتح
علي شاه القاجاري عام 1232هـ لحماية المدينة من هجمات
القبائل وبخاصة تلك القادمة من أراضي السعودية طامعة بنذور
المسلمين وهداياهم المحفوظة في خزائن ضريح الامام علي(ع).
وتبعد النجف عن محافظة كربلاء نحو 48 ميلاً، وكانت قضاءً
تابعاً لها حتى رسمت محافظة اوائل السبعينات بعد ان
استحدثت محافظات جديدة مثل صلاح الدين، وتم ضم بعض النواحي
والأقضية الى محافظة النجف في نفس المدة الزمنية.
ومن تاريخ النجف المعماري، ان عضد الدولة البويهي كان قد
بذل اموالاً طائلة لتشييد العمارة حول المشهد الشريف لضريح
الامام علي(ع)، ومن هذه العمارة جامعة الحوزة العلمية
ومدارسها الدينية التي يقصدها الطلبة من شتى أصقاع الأرض
وهي بمنزلة الأزهر في مصر.
ويبني سكانها منذ القديم داخل بيوتهم سراديب يلجأون إليها
صيفاً للقيلولة في الظهيرة وكانوا ينامون ليلاً على سطوح
الدور، إلا ان توفر وسائل التبريد الكهربائية الغت هذه
العادة، واعادها انقطاع التيار الكهربائي المتكرر، وهي
تبنى بنظام هندسي تبيح لها تهوية خاصة تضمن تغيير الهواء
وبرودته من خلال فتحات متصلة بالفضاء الاعلى للمنزل
وبقنوات ممتدة الى الاسفل الى السرداب وتدعى (البادكيرات).
وتختص النجف ب(وادي السلام) وفيه مقابر الكثير من
العراقيين والآسيويين من اتباع المذهب الجعفري الذين
يتبركون بالدفن في مقابر وادي السلام ولهم فيه عقائد ليس
هذا مجال ذكرها، ولكل قبيلة او عشيرة او عائلة موقع تدفن
فيه موتاها، ودفان خاص لا يتولى سواه دفنهم وهو الذي يعرف
خارطة مواقع القبور ويعمل ايضاً دليلاً عند الحاجة الى
خدماته ايام المناسبات وزيارة قبور المتوفىن من الاقرباء،
ويحتفظ الدفان بسجل يدون فيه اسماء هؤلاء الموتى ومواقع
قبورهم وأبرز اقربائهم من الاحياء.
وقد تعرض الوادي والمقابر عام 1991 الى عمليات تجريف قامت
بها شفلات ودبابات الحرس الجمهوري اثر انتفاضة آذار التي
عمت مدن العراق حينذاك.
يقول الحاج رضا الزبيدي احد أقدم الدفانة في وادي السلام،
ان الحرس الجمهوري واجهزة الأمن والمخابرات دخلوا النجف عن
طريق مدينة الكفل وقبل ان يدخلوها قصفوها بصواريخ ارض أرض
والبطاريات النمساوية من منطقة المطحنة لمدة ثلاثة ايام
قصفاً عشوائياً.
مما اضطر سكان المدينة الى النزوح عنها عن طريق ابي صخير ـ
الديوانية حاملين اطفالهم ونساءهم في سيارات الشحن
والسيارات الخاصة ـ الصالون والكوستر ـ وفي احدى المقابر
الجماعية لسكان النجف، شاهدنا سيارة كوستر دفنت بركابها
الاحياء واهيل عليها التراب من دون ان يتمكن احد من ركابها
الافلات ووجدنا فيها امرأة وقد التصق رضيعها بصدرها ولم
يبق منها سوى هياكل عظمية متكسرة، ويقول حسن كامل الزبيدي،
لقد اقتاد الحرس الجمهوري العديد من هذه السيارات بركابها
الى اماكن مجهولة بعضها اكتشفناه حيث دفنت هذه السيارات
بركابها والآخر ما زال طي الغيب ويكمل الحاج رضا هربنا الى
السماوة ونزلت مع عائلتي قرب مرقد الامام عبد الله بن
الامام الحسن ومعي عوائل اخرى ومكثنا هناك خمسة وعشرين
يوماً نبيت في الشاحنات ونكتفي بتناول الخبز والشاي،
وعلمنا في ما بعد ان الحرس الجمهوري قد دخل النجف عن طريق
وادي السلام بعد ان قضي بعنف على المقاومة التي اندلعت
هناك، وانهم فتحوا بين المقابر بحدود 75 شارعاً مما اضطر
المقاومين الى التراجع، فلم يكن الحرس الجمهوري يرعى ذمة
ولا قبراً ولا مقدساً ولا حرمة. تراجع المقاتلون عن طريق
بحر النجف باتجاه السعودية، وبعد ان انتهى كل شيء سمح لنا
بالعودة الى دورنا ومدينتا فوجدنا ان الحرس الجمهوري قد
وضع قرب ضريح الامام علي(ع) بوفيات زجاجية فيها جثث
الشهداء، ولم يتجرأ احد على المطالبة برفات او جثة ما خشية
سوء المصير وقد عاث الحرس الجمهوري في المدينة فساداً، فقد
خلعت ابواب دورنا وسرقت الاجهزة الكهربائية والاثاث، حتى
ابسط الاواني والاغطية دنت نفوسهم عليها فسرقوها، وحتى
المقابر لم تسلم من عبثهم فقد جرفوا عدداً كبيراً منها
وطمروا العديد من السراديب التي اتخذها المقاومون ملاجئ
وخنادق لهم، وقد انشغل الناس كثيرا بالبحث عن مقابر ذويهم
وتحديد مواقعها من جديد.إلا ان ما فتح من شوارع داخل
المقابر لم يكن من الممكن اعادة تعليمه وتأشيره او تركيبه
فقد جرفت الرمم ولم يبق ما يشير الى القبور.
اما اسواق المدينة فقد نهبت في غالبيتها من قبل الحرس
الجمهوري وكأنهم يعاقبون أصحابها انتقاماً من أولئك اللصوص
الذي سطوا على دوائر الدولة عندما سقطت المدينة بأيدي
الثوار وفرت حاميتها العسكرية وشرطتها، يقول الصائغ كريم
الندمائي: لا أدري كيف هداني الله فحملت مصوغات محلي
باجمعها الى داري، ذلك ان احد زملائي وضع المصوغات التي
يتاجر بها في خزانة المحل الحديدية وقد اكتشف ان القاصة
حملت خارج المحل! وحين لم لم يستطيعوا حمل القماش من عدد
من المحال.. احرقوها!
والجهاز الكهربائي الذي لا يستطيعون حمله اطلقوا عليه
الرصاص، وبعض البيوت سرقوا منها حتى الاحذية المستعملة،
وقد بقيت بعض العوائل في المدينة لأنها بعيدة عن مواقع
القتال ولأنها لاناقة لها ولا جمل، لكن ذلك لم يشفع لها
فقد أذلوها تماماً واغتصبوا بعض نسائها وهتكوا اعراض
العديد من الفتيات وسرقوا حليهن بل حتى ثيابهن القديمة
سرقوها.
وادي السلام
يدعي البعض بأنه هو الوادي المقدس طوى. وفي وادي السلام
توجد أكبر المقابر في المنطقة العربية وربما الاسلامية
ويذكر الدفانة اساطير لا يصدقها العقل ولكن بعضها يمكن
تعليله علمياً، فبعض الموتى تتفسخ جثثهم بعد اسابيع قليلة،
والبعض الآخر تجده وكأنك أودعته اللحد بالأمس، وبعض الموتى
ينار ما حول قبره ليلة الجمعة وتفوح في المكان رائحة طيبة
وآخرون تمتلئ قبورهم بالعقارب والأفاعي.
وتطرد بعض العوائل او العشائر من مقابرها احياناً بعض
الموتى اذا ما اكتشفت انهم جلبوا لها العار بسبب من سلوكهم
الشائن في اثناء حياتهم.
وقد لا يصدق احد ان بعض العشاق النجفيين يجدون في وادي
السلام مكاناً لترتيب لقاءاتهم فيتخذون تحت ظلال شواهد
القبور وكأنهم في جنائن مترعة الخضرة تحت ظلال الزيزفون.
الكوفة
لم تعد كوفان كما يسميها الجواهري تبعد كثيراً عن النجف،
فقد اتصل العمران بين المدينتين حتى صارتا مدينة واحدة،
والكوفة الواقعة على يمين الفرات العذب بجزيرتها البديعة
تضم مسجد الكوفة الشهير ودار الامارة الذي شهد مقتل مسلم
بن عقيل سفير الامام الحسين الى أهل الكوفة، وشهداء القصر
سبي آل بيت الاطهار، واليه حمل رأس الامام الحسين(ع) ووضع
أمام عبيد الله بن زياد، والى جانب هذا القصر الذي تحول
الى رمة من الرمم الفاسدة الغارقة بالمياه الآسنة والطحالب
دار الامام علي(ع) والموقع الذي تم غسل جسده الشريف فيه.
وقد تعرضت المدينة كما هو معروف الى ما تعرضت له من اضطهاد
علي يد النظام المباد وازلامه فقتل رجالها وبخاصة اعلامها
الاعلام من رجال الدين وعوائلهم ومن تبعهم على منهاجهم،
فقد قتل الشهيد محمد باقر الصدر(رض) وشقيقته، والسيد محمد
محمد صادق الصدر وولداه(رض)، وما زالت الكوفة على عهدنا
بها مناراً للكرامة والعزة والاباء ورمزاً للحرية الذي لا
يتعاطى مع صغار الامور وانما دائماً مع عظائمها.
|