تحقيقات

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

شميران مروكل: حكايتي فصل من رواية جيل

بغداد/علي المالكي
 

شميران من هي؟
إنها شميران مروكل اوديشو البيلاتي من مواليد 1950، الحبانية محافظة الأنبار، أكملت دراستها الابتدائية حتى الخامس في مدرسة (الهدى)، أما الصف السادس والثانوية فقد أكملتهما في بغداد بمدرسة (البدور) وثانوية (الجمهورية) للبنات. وفي عام 1967 دخلت الجامعة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية (قسم الاقتصاد).

بداية المحنة
لم يدر في خلد هذه الشابة الآشورية ان رحلتها مع الألم والخوف والمطاردات ستبدأ عام 1967، فقد كانت تحلم بعالم أفضل لأبناء شعبنا والإنسانية بعد أن استنارت بالأفكار التقدمية وانضمت إلى الاتحاد العام للطلبة، لقد شهدت سنة 1967 كما تقول السيدة شميران (تنامي النشاط الطلابي، وجرت انتخابات وفاز اتحاد الطلبة العام وحدثت مشاكل مع الحكومة، وكنت من المساهمات في التظاهرات الطلابية ولم اداوم سوى شهرين، ثم جلست في البيت بسبب المضايقات من القوى اليمينية والرجعية، ووصلتني تهديدات وتركت الدراسة. ثم أعدت السنة بسبب ذلك، وبدأت عام 68-69 سنة دراسية جديدة مع قدوم البعثيين وواصلت دراستي وكنت من الناشطات، وتخرجت عام 1972.
ممارسة العمل
وبعد حصولها على الشهادة عملت السيدة شميران بأجر يومي في الإذاعة والتلفزيون (القسم السرياني)، وقد أحبت الإعلام. تقول بقيت أعمل لمدة سنة. وفي عام 1973 شاركت في المهرجان العاشر للشبيبة الديمقراطية العالمية في برلين ضمن وفد الشبيبة ممثلة عن الشبيبة الآشورية، وبعد العودة من برلين تم تعييني على الملاك الدائم.

مشوار التبعيث
وتروي السيدة شميران حكايتها لنا فتقول: (ثم بدأت حملة تبعيث كل شيء في البلد، وتعرضت لضغوط كبيرة من أجل الانتماء إلى حزب البعث، وكنت ناشطة مكشوفة ومعروفة للسلطات، ومع ذلك فإنهم كانوا يصرون على انتمائي لهم ويتهمونني بالانتماء إلى حزب آشوري يعمل خارج العراق تارة، وتارة بالانتماء إلى الحزب الشيوعي العراقي، وبعد مضي فترة من المشاحنات التي جعلتني أتوتر نفسياً تم نقلي إلى مقر وزارة الإعلام في دائرة المشاريع وكنت منسبة إلى القسم، وقد أرسل تقرير مفصل عن حالتي مع كتاب التنسيب واحتفظ بنسخة منه، وهناك وثيقة تؤكد عدم منحي أية إجازة حتى لو كنت مريضة إلا بموافقة المدير العام.
وهنا بدأت أحوالي تسوء فهذه النقلة أضرت بي مادياً ومعنوياً لأنني كنت أحب لغتي القومية، وكان راتبي 3 أضعاف راتبي في دائرة المشاريع، ومع ذلك استمر الضغط علي والنقل من مكان إلى آخر. وكانت هناك تهديدات فعلية من بعض رجال الأمن في الوزارة.
السفر إلى الخارج
تقول (ومع استمرار هذا الوضع السيئ فكرت بالسفر إلى خارج العراق، وقدمت طلب إجازة للسفر إلى خارج العراق إذ شعرت أن حياتي قد باتت مهددة بالخطر، إلا أن مديري قال (لا نمنحك إجازة إلا إذا قدمت استقالة حيث لا تمنح الموافقة إلا لمن يستقيل من الوظيفة)، وسافرت شميران إلى موسكو أمضت هناك سنة، وعادت مع أن البعض من رفاقها نصحوها بالبقاء إلا إنها أصرت على العودة إلى البلد، وعادت لتجد أن قدر العذاب والقمع كان ينتظرها.
الاعتقال والتعذيب
وعلى ما ترويه السيدة (شميران) فإنها قد اعتقلت في 16/6/1980 تقول: (قرب المسرح الوطني شاهدت أحدهم يلاحقني وكنت أجلس في باص المصلحة وعلى موعد مع إحدى رفيقاتي، وقد حاولت النزول من الباب الخلفية للباص، نزلت مسرعة ولكنه ركض ورائي، وأمسك بي، فما كان مني إلا أن أقذف بالحقيبة على عدد من المواطنين الذين كانوا يقفون في طابور لشراء الصمون، وصرخت بهم (أنا شيوعية
أنا شميران)، وكانت هناك سيارة تتعقب الباص، فذهب أحدهم ليلتقط الحقيبة وتم اقتيادي إلى الأمن العامة. وادخلوني في دهليز ثم أدخلوني غرفة يجلس فيها أحدهم وطلب مني الجلوس وأخذ يساومني لأتحول إلى وكيلة لهم وقال (بإمكانك أن تذهبي إلى كوردستان أو سوريا ولن نتصل بك إلا بعد (6) اشهر، لأن (...) قبلك قد سافرت).
فقلت له: (إنني لا أعرف (...)) ولاحظوا عدم استعدادي للمساومة وكنت في وضع حرج جداً إذ لا أستطيع إنكار البريد الذي كان في حقيبتي.
وبدأ التعذيب باستعمال العصا الكهربائية حيث تم تمريرها على عدد من المواضع في جسدي، يرافق ذلك أصناف الشتائم، ولم أذعن لهم برغم الألم الذي انهكني وفكرت أن موتي أشرف لي من التعاون مع هؤلاء، بعدها اقتادوني إلى ممر تفوح منه روائح غير طبيعية وكنت حافية من الساعة الثالثة حتى ساعة متأخرة من الليل، وجاء شخصان يستجوبانني مع الإهانات ولساعتين طالبين مني أن أزودهم بالأسماء والعناوين، فقلت لهم (لقد انقطعت صلتي بالحزب الشيوعي) فواجهوني بالبريد الذي كان في حقيبتي وقلت (هذا آخر مالي ولا صلة لي بالتنظيم الحزبي).
كانوا قد وضعوني في الغرفة التي يمارسون فيها تعذيب المعتقلين، وكنت أجد بقايا دم وبقايا أجساد بشرية، شكل هذا المكان (غرفة التعذيب)، تعذيباً نفسياً لي ما زلت أتذكره بمزيد من الألم. وفي غرفتي هذه كان هناك عدد من أدوات التعذيب كالصوندات والعصا الكهربائية وأجهزة الضغط، والفلقة، وما زلت أعاني من آثار هذه على رسغي.
التعرف على معتقلات
تقول المناضلة (شميران)، (بعد 21 يوماً من الاستجواب المصحوب بالتعذيب الجسدي النفسي صرت أزحف ونحل جسدي فقد تورمت أطرافي، ثم نقلوني إلى قاعة فيها 35-40 امرأة عراقية مقيدات إلى الجدار. جلست قرب الباب وكانت عيناي معصوبتين، ولكنهن تعرفن علي فقالت إحداهن هذه (سوزان)، وعرفتني بنفسها، وقالت لي "أنا هنا منذ 3 أشهر وقالت أن شهاب هو الآخر معتقل وقد استشهد فيما بعد) كانت هذه الرفيقة (ميسون)، وهي اخت (...).
وفي الليل جاؤنا بالعشاء ثم نادى علينا الشرطي أنا ورفيقتي وضربنا معاً. وعرفت بعد السقوط أنها قد استشهدت حيث قرأت اسمها في إحدى الصحف فيما بعد.
وتملكني شعور وإحساس تلك الليلة بأن التعذيب قد انتهى، ولكنهم في اليوم التالي أخرجوني وقيدت على كرسي في الممر وسلطوا علي هواءً بارداً حتى الصباح، ومع صوت القرآن في الصباح أدخلوني إلى الحمام.. ثم أعادوني إلى غرفة النساء واصبت بنزلة برد. وفي يوم 17 تموز سمعنا أنهم سيطلقون سراحنا أو إنهم سيحيلوننا إلى المحكمة لنواجه الإعدام، وتم إخراج السجينات وبقينا أنا ومدرسة من أهالي الدورة وخالجنا شعور بأنهم ربما سيحيلوننا إلى محكمة.. وفي المساء تم الإفراج عنا إلا أن أحدهم قال (لا تفرحن ستعودن).. ودهشنا لأننا وجدنا البقية من المعتقلات يجلسن في السيارة الكبيرة.
إرادة الحياة
وتستمر (شميران) لتقول: (لم أكن لأصدق أنني خرجت من جحيم الأمن العامة، وجلست بقرب السائق، وطلبت منه إنزالي في ساحة الأندلس، واستأجرت سيارة إلى البيت، واستحممت ورتبت نفسي واتصلت بأحد الأصدقاء، وبقيت لسنوات أنام خارج منزل أهلي ولم ار أمي، وعشت في بيوت الرفاق والأصدقاء)، ويبدو أن إرادة الحياة داخل المناضلة شميران مروكل أقوى من سياط جلاديها التي نهشت لحمها طوال أيام التعذيب، فعملت عند إحدى العوائل، تقول حتى عام 88/89 لاحظت أن الوضع قد تغير ففتحت محلاً للخياطة لمدة شهرين ثم تحولت إلى محل آخر مقابل ضريبة الدخل في بغداد الجديدة، واقمت علاقات طيبة في السوق، ولكن الحذر كان يرافقني، واستغرقتني مهنة الخياطة إلا إنني مسكونة بالخوف، ولم انقطع عن التواصل مع القراءة، وشعرت بضرورة تطوير نفسي، فقدمت لكلية اللغات قسم الأسباني وأكملت الدراسة فيها وفي عام 2002 انتقلت إلى كلية الإعلام وسأكون قد حصلت على ثلاث شهادات، وهذا يشرفني.
شكوى ومطالب
وفي النهاية فإن السيدة المناضلة شميران مروكل أوديشو هي عضوة سكرتارية رابطة المرأة العراقية ومسؤولة الإعلام فيها وعضوة سكرتارية المجلس الكلدو آشوري السرياني القومي قالت "قدمت شكوى ضد صدام بسبب ما تعرضت له من أذى وضرر جسدي ونفسي فضلاً عن الحرمان من ممارسة حياتي كامرأة وإنسانة طبيعية في المجتمع، إذ لم يتح لي أن أكون أماً مع إنني أم للعديد من البنات والأولاد الذين شاركت وساهمت في تربيتهم بعضهم هنا والآخر في خارج العراق.
 


المجتمـــــــع الذكي ينتج أفـــــــــراداً أذكيــــــــاء

إبراهيم الجوراني / باحث تربوي

إن من اشد الفروق ظهوراً بين الأمم المتحضرة والمتخلفة.. هو إن الأولى تستغل ذكاء أبنائها وتهيئ له ظروف النماء والعطاء، أما الثانية فإنها تلهي أبناءها بأفكار مصنوعة وقوالب موضوعة وتبدد ذكاءهم في توافه الحياة وتضعهم في عبث عقيم يحبس المواهب الخلاقة.
نوع الشخصية
إن الطفل هو المادة الأولية لبناء المجتمع، والأمم الحريصة على رقيها وتقدمها تبدأ خطواتها الأولى بتنمية ذكاء الطفل عن طريق وضعه في قالب تعليمي مشبع بموقدات الذكاء من أحاديث منتقاة ومواقف حافزة وكتب مختارة ومناهج هادفة وفنون مختلفة تنمي ذوقه وخياله وتضعه على طريق الإبداع الإيجابي، وإسناد ذلك بتربية خلقية قوامها القدوة الحسنة والنصيحة البناءة بما ينمي شخصيته ويقوي إرادته ويجعله يقبل على الحياة بلهفة وشوق، أما الأمم البطيئة النمو فإنها تعمل من حيث لا تشعر على تبديد ذكاء أبنائها منذ مراحل الطفولة الأولى عن طريق التربية الإسرية الخاطئة والمناهج الدراسية المتهرئة. فتنشأ شخصيته كسيحة ونفسه مريضة وعقله معطلاً، فملايين الأذكياء يموت ذكاؤهم ويذوي لأنه لا يجد منفذاً يلج منه إلى الحياة وتظل كميات هائلة من الذكاء (خارج الخدمة) بينما نحن في أمس الحاجة إلى توقدها وإشعاعها لأنها وجدت في أمة لا تهتم بأذكيائها، إن الذكاء الذي نصبو إليه لا يعني ذكاء العباقرة وإنما الذكاء الخصب المتجه نحو الحب والخير والجمال، لأن من أفظع عللنا وآلمها هو إننا ندعي فهم كل شيء بسرعة خاطفة، وفي حقيقة الأمر إننا لم نفهم شيئاً،
الذكاء أهو وراثي فطري.. أم بيئي مكتسب؟
إن الذكاء ناتج بلا شك، عن عوامل وراثية يعرفها المختصون.. لكن ذلك لا يعني عدم ظهور أطفال غير أذكياء لآباء وبالعكس، لأن الوراثة لا تتقيد بالوالدين فقط وإنما تتعداهما إلى الأجداد والأخوال والأعمام.
أما دور البيئة فإنه ينحصر في توفير الظروف الملائمة لنمو الذكاء وإطلاقه من حبس الأدمغة إلى حيز الواقع العملي عن طريق: العناية والغذاء وفرص التعليم.
الفروق الفردية والذكاء
إن الذكاء لا يعد العامل الوحيد في تقويم الناتج التحصيلي للتلميذ. وإنما تزاحم الذكاء عوامل أخرى من أهمها النضج العاطفي والوجداني والنمو النفسحركي، وذلك لأن (تنمية القدرات العقلية) ليس كل الأهداف التربوية المتوخاة من عمليتي التعليم والتعلم، وإنما توجد إلى جانبها قائمة طويلة من الأهداف بشقيها: المعرفي والسلوكي.. والقصور في الجانب الذكائي لا يعد سبباً قاطعاً للحكم على التلميذ بالفشل الدراسي، كما إن ميول التلميذ قد تقوده إلى مجال مهني أو فني أو رياضي يستحوذ على تفكيره ونشاطه العقلي ويجعله لا يرى غيره طريقاً للحياة. وقد شاهدت بنفسي تلميذاً في الصف السادس الابتدائي راسباً لثلاث سنوات متتالية وليس لديه أية دافعية نحو الدراسة.. لكنه في الوقت نفسه يجيد الأعمال الكهربائية بحذاقة ومهارة ويقوم بإصلاح عطل التأسيسات في مدرسته من دون معونة من أحد.. فهل يصح أن يحكم عليه معلمه بالغباء ويخاطبه: أجلس يا غبي!! لأنه لم يستطع تعريف كلمة (المغول) في درس التاريخ!!
إن المعلم
وفق هذه القاعدة سيتحول إلى غبي في بيته إذا لم يستطع إبدال المصباح المعطوب أو إصلاح الأثاث المكسور!!
طفل آخر صادفته عند براد السيارات لأنه يعمل لديه.. سألته عن تحصيله الدراسي فأجابني بأنه ترك المدرسة في الصف الثالث الابتدائي.. وعند استفساري عن السبب رد علي بأنه يكره المدرسة لأنه لم يكن تلميذاً (شاطراً).. وعندما جاء دوري في إصلاح سيارتي.. أحضر أدواته وأصلح السيارة بيد واحدة لأن يده الأخرى كانت مشغولة بحمل لفة الفلافل.. ترى هل أن عملية إصلاح السيارة تمت من دون ذكاء منه؟
إنه بلا شك لم يكن قليل الذكاء ولم يترك المدرسة بسبب ذلك وإنما وجد نفسه في الميول المهنية التي اتقن من خلالها صنعة إصلاح السيارات ووقف عليها كل تفكيره وجهده العقلي.
الذكاء والبيئة
إن مساهمة بيئة الطفل هي التي تجعل منه إنساناً (ذكياً) وبالعكس، فقد تخدم البيئة أحدهم بتوفير الظروف لنمو ذكائه فيصبح (ذكياً) بالمران والإندفاع نحو الحياة، والبيئة الأسرية هي البيئة الأكثر تأثيراً في ذلك، لأن دلال الطفل وحرمانه يعملان جنباً إلى جنب على لجم تفكيره وغلق أبواب الإبداع بوجهه، فقبلات الأم على وجنتي ولدها دون مبرر، لا تختلف كثيراً عن صفعات الأم الأخرى التي طبعتها على خدي ولدها. لأن الأولى بدلالها الزائد له جعلت منه كائناً إتكالياً ذيلياً لا يتحمل مفارقة رعاية والديه وقتلت في نفسه روح المبادرة والتفكير البناء لأن كل شيء في متناول يده. أما الأم الأخرى ذات الصفعات فإنها بقسوتها المفرطة على ولدها ستقتل في ذاته ملكة التفكير وتحيله إلى كائن خائف متردد متوجس يتوقع العقاب في أية لحظة لأتفه الأسباب، فلا هذي ولا تلك ترفد المجتمع بالمفكرين ولكنهما ترفدانه بعالات جديدة وارقام إضافية على سكانه ليس إلا!
إن النفس تعد العامل الأكثر مساعدة للعقل في إنتاج الذكاء
عن طريق تفاعل القوى النفسية والقابليات العقلية وجعلها تتحرك بإتساق وتناغم لتؤلف الشخصية الناجعة، كان معنا في المدرسة الابتدائية تلميذ كسول جداً لا يختلف من حيث النشاط عن الرحلة التي يجلس عليها.. وكان كثير الغياب قليل الفهم والمشاركة وقد أهمله المعلمون ليأسهم من نقله إلى حال أفضل.. وكان ذلك في الصف الرابع الابتدائي..
وفجأة تحول ذلك التلميذ إلى مصاف التلاميذ النابهين.. قارئاً ومشاركاً حتى استطاع أن يلتحق بركب الناجحين.. وكان سبب تحوله الإيجابي المفاجئ وفاة والده مما يؤشر حالة استثنائية لأن المتعارف عليه تربوياً أن اليتم يكون عامل إعاقة للتقدم الدراسي وليس عامل دفع له، ولم نستطع نحن الصغار أن نجد تفسيراً لذلك في حينها ووقف تفسيرنا للحالة بأنها تعويض من الله كذلك التلميذ اليتيم لأنه فقد اباه، وبعد أن قطع المراحل الدراسية أصبح طبيباً وشاءت المصادفات أن اراجعه مريضاً، فذكرته بوضعه المدرسي وكيفية تحوله المفاجئ من الفشل إلى النجاح بعد وفاة والده، ففاجأني بقوله إن أباه كان قاسياً عليه إلى درجة لا تطاق، حتى إنه كان في بعض الأحيان يعاقبه وهو نائم بعد عودته من العمل ليلاً، وكان يمنعه من الذهاب إلى المدرسة بهدف مساعدته في عمله.. وكانت حياتهم معه جحيماً وأصبح يشعر وبمجرد وفاته بإنه تحرر من ذلك القيد الثقيل وأصبح يشعر بوجوده على الرغم من العوز والفقر الذي سببته له وفاته.
إن المعلم الذي يقصر عنايته على من يراهم أذكياء ويقيس براعته في التعليم على مقدار تعلمهم وتقدمهم ونجاحهم لا يعد معلماً مثالياً ولا حتى ناجحاً، لأن من أولى واجباته كمعلم، أن يغرس في ذات كل تلميذ من تلاميذه ملكة التفكير ويجعلهم يرتبطون بأواصر إتصالية تسهل سريان (عدوى) الذكاء فيما بينهم عن طريق التفاعل اليومي الصفي، فكم من محدودي الذكاء وصلوا إلى ما لم يصل إليه الأذكياء وكم من ذكي سقط في منتصف الطريق مرمياً على رصيف الإهمال والهامشية.
إن الذكاء والتفكير ليس مركزهما في الرأس دائماً. وإنما قد يفكر الإنسان بيديه فينتج روائع حرفية تكاد تنطق نتيجة معرفته المسبقة بميوله التي حددت اهتمامه وعرف من خلالها قدر نفسه عن تجربة ويقين تاركاً المجال لغيره أن يذهب أبعد من تفكيره.. وهذا إيثار ما بعده إيثار.. ومن أمثلة الفنان العراقي الفطري منعم فرات الذي انتجت أنامله أروع المنحوتات وأجملها على الرغم من أميته وكذلك مجدد المدرسة البغدادية في الخط العربي المرحوم هاشم الخطاط الذي لم يحصل على تعليم عال ولكنه استطاع بحذاقته أن يطور قابلياته الفنية ويجعل من نفسه خطاطاً يشار إليه بالبنان.
وممن نبع في الذكاء اليدوي الموسيقي الشهير بيتهوفن الذي كان فاقداً لحاسة السمع ولم يحصل على شهادة دراسية ولكنه على الرغم من ذلك اتحف أسماع الناس بروائعه الموسيقية التي نفذت إلى نفوس سامعيها قبل آذانهم.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة