المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

تاج من النور

قاسم محمد عبّاس
 

بين النواويس وكربلاء
صحراء متفردة
ودموع عفيفة
خطت أفقاً نحو الملائكة.
وكتبت تاريخ الأرض الكئيبة.
***
زهرة حمراء
بأصابع من حنين
تصرخ : هيهات .. هيهات
تصرخ : بنا فتحت الأرض
وبنا سيختم كتاب الأحرار.
***
صباح
كمطلع لقصيدة العالم
لا صباح كذاك الصباح
وليس من غريب بغموضه
ليس هنالك من قتيل بتوهجه،
تنظر السماء بعيون نجومها
إلى اليد القتيلة
إلى السيف الوحيد
إلى طفل ذبيح
وعريس أزلي
ترى على تخوم نومته
كيف يتهاوى الطغاة ،
***


أنظر الماء القريب
جرح المدينة
والأسرار العذراء
وفرساً باكية
تفضح القتلة.
***
أنعى إليك
سيد الغرباء
قلوبا مهيضة
وليلا فتياً
وبلاداً تائهة.

أنعى اليك
ظهيرة على قلب الزمان
ضجت بعويل الينابيع
بعطش الملائكة
وزفرات طاهرة
وثوب وسيف
يكتبان يوما للغرباء
وراية للأنبياء،
***
محلقة تائهة عسلان النواويس
وطيور عمياء في سماء كربلاء
ورمال في الرمال
وارض فاتنة تحتضن أنفاس الولاية،
***
لا يمكن قتل هذا الدم
لأنه الروح
كيف يمكن أن تقتل الروح
أكملت قربانك
بالدم المعذب
بالأخوة المضرجين
بزندين مبتورين
بصحابة انتجبتهم النبوة
بطفل سماوي
بجسد ليس على وجه الرمال
بكربلاء
بعطش لا ينتهي
بأنبياء شهود
بمختلف الملائكة
بسعادة الموت
بعظيم المحن
بكرب موروث
لينتصر الصوت
ويسقط الطاغية،
***
يا قرين الأزل
لا صباح كصباحك
فكل صباح بعده
له من البلوى نصيب
أيتها الثورة
أيتها المدينة المقدسة
لا صباح كصباحك
لا كنز
كذخائر مودتك
لم يطيعوك
فلم تطعهم الأرض
أيها الصباح الثورة
من ظلالك
أورقت وردة العدل النادرة،
***
إن المعذّب هو دمك
إن المعذّب هو جسدك
معنى يهتف في الصحراء
اسلمت ثوبك للرمال
غيرة أن يسلبه الطلقاء
***
لم تبق راية
لم تبق أرض
لم يبق نهر
لم يبق ولي
لم يلذ
بضوئك
لم يبق دم
لم يحتم
بسنا سيفك
لم يبق موت
لم يتأس
بصوتك
لم تبق كلمة
لم تردد
شهادتك
وهي تشهد موتا
حير
الأفق
والأنهار
أما أن الصوت قد انتصر
وشنقت الكلمة
أيها الواقف على المأسورين،
سيد أهل البلاء
تنحني الحرية
وردة حياء
تقبلها عصافير الجنة
لوجه
فوق هذه الصحراء

وردة تضرب وجه العبيد
وهي تتهجى الموت
تاجا من النور
ليس رأسا
على القنا
يصغي لصوت الله.


الذي يأتي... سراب الأنتظار

 حميد عبد المجيد مال الله

الانتظار ثيمة سائدة في الاجناس الادبية والفنية.. مسرحيا بلغت ذروتها في الانتظار الفلسفي الكوني المر المرح في رائعة صاموئيل بيكيت (في انتظار غودو) بسخريتها من اوهام ميثولوجية مهيمنة.. تليها تراتبيا معالجات استوضحت وقائع متخيلة جمعية ايضا كما (في انتظار اليسار) او (ليفتي) للكاتب الامريكي كليفورد اوديتس.. واذا كان رسول جودو قد اعلن انه لن يأتي، فان العامل المضرب عن العمل قدم لاقرانه المضربين بنبأ مقتل المخلص (ليفتي) قرب مرآب مهجور، ارى في مقتل الاخير قتلاً للسلبية التي تعلق امل الخلاص في رقبة تشكيل مكانة المعجزة، الا انه عاجز.
سادت الانتظارات مسرحنا ايام الحروب الكارثية، اذكر منها (ليلة انتظار) للفنان الراحل جبار صبري العطية وفيها ام تسترجع وقائع انتظار ابنها الجندي قتيل الحرب، و(الساعة) مسرحية الشاعر كاظم الحجاج، عن ابوين ينتظران ولدا لا يأتي، و(في اعالي الحب) لفلاح شاكر، حيث تنتظر الزوجة زوجا افترسته حرب الثماني سنوات.
(الذي يأتي) مونودراما للكاتب علي عبد النبي الزيدي تتحرك وجدانيا في سريرة اب مفجوع بمصرع ابنه (مراد) على جسر المدينة، العلامة الاولى شخصية مراد توحي بدلالة محددة (الشخصية في الدراما يتم بناؤها في اطار اللغة وعن طريقها، ولكن ليس لها وجود بعيدا عن عالم النص الخيالي) مراد في التداول الشعبي يعني (أمنية ما) قد تتحقق، وهذا ما يعمق حادثة الاغتيال، من ملامحها عبر منلوج الاب، انها مثقفة ودودة، عاشقة، وفي تركيبة (حلولية) متخيلة في ذاكرة الاب بما يسمى اشاريا (الدور داخل الدور) تفصح عن الحدث (لا ادري من قتلني، كنت اسير على جسر هذا النهر، واذا بي اهوي مثل حجر.. كأن صاعقة انزلتني الى دوامة.. سأظل ادور هنا.. أحيا من جديد، ابحث عن قاتلي) حوار يدور في عالم الابدية، يوحي باقتراضات اخرى، كـأن يكون الحدث اغتيال (أمل او امنية).. يشير الناقدان السينمائيان الين استون وجورج سافونا في مؤلفهما (المسرح والعلامات) ان اسماء شخصيات المسرحية، (تكتسب دلالة بعدة طرق تتعلق بالوظيفة الاعلامية للشخصية، ان اسم اوديب يشير الى "متورم القدم" وهي اشارة الى الطفل اللقيط المكبل بالقيود، ونص المسرحية يتلاعب بالاسم باستمرار، مثلا بتغيير في النبر يمكن للكلمة ان تنطق "ذو القدمين" وهو حل لغز ابي الهول، ان المصطلح الذي يترجم بكلمة ملك ينقل معنى الحكم المطلق الاوتوقراط) ويجادل بعضهم قائلا: "ان اوديب يمثل اثينا كلها، والتي هي قوة امبراطورية متغطرسة، حل بها الطاعون فعلا وتورطت في حرب هيللينية ادت الى دمارها في نهاية المطاف) وهناك شخصيات تشير الى مستوى (رمزي) ففي مسرحية (كما تحب) شخصيات لوبووسير اوليفرماتكست وكورتيه والموظف القروي تمارس وظيفة سايترية! يؤشر (الجسر) العلامة اللغوية المكانية الاخرى كدلالة على وسيط بين عالمين الحياة وبرزخ الابدية، السطح واعماق المياه، الغرق في النهر (العلامة الثالثة) والتماهي في حياة اخرى- اذ يقرن الماء بالحياة والخصب والخلود.
رؤية المخرج الشاب (اسامة مهدي هاشم) ركزت على السرد البصري بمشاهد حركية شبحية تجسد الاسترجاع وتيار الوعي المشتغل في ذاكرة الاب بمشاهد (ميم) مستلة من المونولوج الموندرامي، تؤديها جوقة خيالية، بتحويل تركيبة (المونو) الى (بانتوميم) ضمن نهج كسر قواعد وتقعيد الاخيرة أي المونودراما! بتغيير (التمثيل) من وسيط غير حي (دمى في فضاء النص) الى وسيط حي (جوقة) ماثلة تستحضر (الغياب) وتحريك (الشر) بلون الرقص الايمائي اللا إيقاعي تعبيرا عن سطوة وهيمنة خطاب الموت الذي اوقع العرض في تفريعات تؤشر وقائع آنية اقحمت قسرا لايجاد جدلية تربط ما يدور على المنصة بخارجها، وكذلك تصفية (الشر) بتقانة (الاله في الالة) الاغريقية هي آلة تشبه الرافعة لانزال آلة على سطح المبنى المسرحي من اجل حل تعقيدات الحدث.
عند نهاية المسرحية تواشج ديكور (فرقد عبد الحميد) مع خطاب الموت المهيمن بألوانه الدموية في المعلقات (الديكورية) بدلالالتها المهمشة لمسار الزمن والانسان تراوحت اشاراتها ما بين التقليدي والمباشر ومحاولات الاجتهاد بربطها وتحركات الجوقة.. شاب الفضاء الاخراجي تداخل ما بين الشفرات الالسنية والحركية فيه تكرار وفوضى في تنظيم العلامات.. مع توافر مجهود ادائي للجوقة اداء (فرقد عبد الحميد ونوار صالح وعلي عبد الله وعبد الله سامي ومصطفى سعد) وشخصية الاب (محمد قاسم).
المسرحية من انتاج جمعية السياب للثقافة والفنون.


للعقل وقت وللخوف وقت

مهدي النجار
في دُنيا "الخراب الجميل" الذي يعيشه المجتمع العراقي الآن بعد انعطافته التاريخية الحاسمة، يتساءل المرء عما إذا كان باستطاعة العقل أن يتمتع بصلاحياته الإبداعية وينتج ثقافة تؤسس لنماذج حياة عقلانية زاخرة بالحب والأمل في غمرة هذا الدمار المروع وهذا الخراب المفجع، أم إن ثقافة الخوف هي التي سوف تنتصر وتستمر بإشباع عقل الفرد المندحر، اليائس، المتألم، الجائع، بأفكارها الخرائبية وشحناتها الاكراهية؟ يقول "جريبر"أثناء الحرب: "لقد انهارت عندي القيم الفاضلة بشكل رهيب " وتقول اليزابيث: "تخالجني أحيانا فكرة، لو تركونا ندبر أمورنا لعرفنا كيف نبدا الحياة".
هذان (جريبر واليزابيث) هما بطلا رواية "للحب وقت وللموت وقت" الصادرة عام 1954 للمبدع الألماني أريك ماريا ريمارك(اقتبسنا عنوان المقال من عنوان الرواية بعد تحويره) وباستطاعتنا أن ننطلق من هذين المحورين: انهيار"القيم الفاضلة"أثناء الحرب والدمار، والسؤال عن كيفية البدء بالحياة، هنا يتدخل العقل بأقصى إمكاناته ليقتحم طموحات العسكريين والسياسيين، ليصبح مشاغباً كبيراً، ومحرضاً خصباً للبحث عن حياة افضل بكل الطرق، ليسلط الضوء بأساليبه الإبداعية (الفنية والأدبية) أو أشكاله المعرفية الأخرى على الانتهاكات التي أصابت "القيم الفاضلة" والهوان الذي حلَّ بعموم الحياة،وكذلك مساعدة الناس المتألمين لمعرفة:كيف يبداون الحياة!
سأل "جريبر": أيوجد شيء مهم؟ نعم، ونظر إلى الضوء البارد الذي غمر الغرفة تدريجيا وقال :"لسنا موتى، لم نمت بعد…" هذا ما كان واضحاً عبر قراءة تفحصية للتاريخ، بان المجتمعات وقيمها الفاضلة لا يمكن أن تنهار،ولا يمكن للحياة أن تموت، ويمكن راب الصدع بعد الضعضعات والانتكاسات ثم النهوض من جديد، من ناحية أخرى فان حقيقة إن حياة هذه المجتمعات قد ضاعت واستفحل ألمها لا يجب أن تتركنا صامتين من التساؤل عما إذا كان هناك نموذج عقلاني للحياة، وفي زمننا هذا (الزمن العراقي الصعب) يبدو قول مفكر ألماني: "إن هتلر كان ضروريا لجلب الديمقراطية إلى ألمانيا بعد 1945 " قولاً يستحق المقارنة، بمعنى هل إن الطاغية(أو غيره من الطغاة الذين ابتليت بهم أوطان العالم الثالث) كان ضرورياً لجلب رياح الديمقراطية إلى العراق؟!.انه استنتاج يُثير السخرية، لان التاريخ العام العالمي، كما يقول فرنسيس فوكوياما في كتابه"نهاية التاريخ" :لا يحتاج إلى تبرير كل نظم حكم الطغاة وتبرير كل حرب ليتعرض لنموذج مهم في التطور البشري.
ليست رواية "للحب وقت وللموت وقت" هي افضل ما كتبه ريمارك عن الحرب، كانت افضل منها تلك الرائعة: "لا جديد في الميدان الغربي" التي فاجا بها العالم مفاجأة حقيقية في عام1929 ، والتي نجحت نجاحاً منقطع النظير،مما جعلها تحتل المكان الأول في الأدب الالماني، سواء من حيث الجودة أو الرواج،وقد ترجمت إلى معظم اللغات الحية، وبهذا الصدد يقتحم ذاكرتنا الكبير تولستوي في ملحمته الرائعة "الحرب والسلام"، وأيضاً تجذب انتباهنا نداءات وأسئلة "ياناروس" بطل رواية "الاخوة الأعداء"للكاتب الفريد كزانتزاكيس، والتي سنأتي على ذكرها سريعاً بعد قليل. إن ما يشدنا إلى رواية"للحب وقت وللموت وقت" هو تألق موضوعة العقل وسط خراب الحرب المدمرة، يقول ريمارك نفسه: "إن الهجوم والهجوم المضاد، مجرد كلمات، ولكن لو تَدرون ماذا تعني هذه الكلمات على الجبهة واثناء القتال؟!
إن أدب الحرب كله لا يمكنه تصوير مدلولها، وبشاعة هذا المدلول !" فمن أراد أن يصور الحرب على أنها دماء ونيرانفهو ساذج! ومن أراد أن يصور الحب على انه قبلاتفهو ساذج أيضاً! فالحرب في رأي ريمارك: قلب فارغمعناها: لا أم ولا أب ولا حبيبة ولا بيتمعناها:لا اسم ولا وجه. ولكن في روايات الحروب نسأل، هل يمكن الاستدلال على قوة العقل وامكانية اشتغاله وسط العفونات، بمعنى آخر، هل هناك وقت للعقل أثناء الخوف يستطيع فيه أن يبحث عن نموذجه العقلاني للحياة، لان الخوف ظاهرة غالباً ما تحدث وسط عوالم الدمار والخراب، الخوف الذي يتسلل إلى جوف الانسان، خوف بارد غريب، لم يكن رعباً أو ثورة، ولم يكن صرخة عاجلة من صرخات الوجود تطلب الهرب والحماية، بل هو الخوف البارد الساكن الذي ليس بوسع المرء التغلب عليه. ولانه غير ملموس فهو لا يقهر، لقد خبر "جريبر" أنواعا من الخوف لا حصر لها، خوف حاد،و خوف كبير، وخوف أمام الموتولكن خوفه الآن مختلف عن هذا: انه خانق، متزايد،غير محدود،مُهدِد، يدفع الإنسان إلى الوضاعة والقذارة والتحطيم، ولا يمكن إدراكه والإحاطة به، كما لا يمكن مواجهته، انه خوف الانهيار والشك المدمر. انه الخوف على الآخر الذي يُدفع إلى الانحلال، الخوف على ضحايا لا ذنب لهم، الخوف على المُطارد بغير حق، الخوف من الطغيان والقوة الوحشية، انه الخوف الذي يسيطر على هذا العصر. يحس "جريبر" بالعجز، فيتساءل بحسرة: "ماذا صنعت الدولة بنا؟! إننا شباب ووجب أن نكون سعداء، ما شاننا بحرب أثارها غيرنا؟!".
جميل أن يحيا الإنسان (هذا ما تقوله اليزابيث حبيبة جريبر) فما يعتبره غيرنا شيئاً طبيعياً نعده نحن مغامرة، مثل الهواء النقي الذي لا تشوبه رائحة القنابل، والعشاء بدون رائحة البارود، والمدن القائمة غير المدمرة، بل حتى الكلام دون حذر، والحياة بلا خوف. إن أفكار ريمارك تتلخص بهذه الأمنية العذبة كما جاءت على لسان بطله جريبر: نعم، فكرت، كم يكون رائعاً لو استخدم الإنسان يديه وذراعيه في شيء آخر غير إطلاق النار وقذف القنابل !!.
نعود الآن إلى نداءات (أو بالاحرى محنة) الأب "ياناروس" في رائعة كزانتزاكيس "الاخوة الأعداء" 1954 حيث قرر هذا الأب الورع أن يقف ضد الحرب التي وقعت في قرية "كاستللوس" بين الأنصار الشيوعيين( أصحاب البيريه الأحمر) والمدافعين عن الملكية (أصحاب البيريه الأسود)، اخذ على عاتقه أن يمنع المذبحة، كان يصيح من أعماقه المتألمة: المحبة! المحبة! والجثث تتساقط حوله، والحقد يأكل القلوب، هنا تكمن محنته (وهي محنة العقل وقت الخراب والخوف)، يريد أن يجد الله على الأرض لا بعيداً في الأعالي، يشعر به في قلبه وبين ضلوعه، وعندما جرت انهار الدم وتمرغ أطفال القرية يبتلعون الوحل صرخ: أني ذاهب افضح هذا العالم أمام الله!!
وهناك في الكنيسة، تضرع إلى صورة المسيح واخذ يصيح:
ـ يارب! انظر إلى الأطفال المشوهين والأشلاء المبعثرة واطلال الحياة! انزل من السماء! فهاهنا نحتاج إليك، اصنع معجزة يا الهي!
ولكن الصورة صماء، والسماء ساكتة، والصياح لا يجد سوى رجع الصدى وعاد القسيس يصرخ: أين تقف يا رب حتى اتبعك، أنت مع مَن حتى أسير خلفك؟!

واخيراً ارتفع من أعماق قلبه صوت الرب هادئاً عذباً: تسألني أين اقف؟ اقف في السماء، في الأعالي. لقد خلقتك يا أب ياناروس حراً، وعليك أن تختار طريقك..


كلمات الناس في المسرح

أ. د عقيل مهدي يوسف

منذ اشتداد الازمات الاقتصادية في العالم، تكاثر العنف، وانقلبت منجزات العقل العلمي للانسان، في اغلب الاحيان، الى انسقة من الجريمة المنظمة، فاستلبت حقوق الإنسان المادية والمعنوية، وفتحت تخيلات جديدة للرعب العالمي. سواء على صعيد تدفق المعلومات بالغة السرية، أو تلك الموجهة للجمهور العريض عن طريق الإعلام.
فباتت الدول المصدرة للعنف، من بين ضحاياه، وانتقلت المجموعات الهامشية، الى بؤرة مركزية مولدة لابشع النماذج ابتذالاً في تهديم كيان الحياة، الإنسان نفسه.
هذا النمط الانتحاري يسجل اخفض نقطة في سلم احترام آدمية البشر أو تقدير القيم الالهية والوضعية وهو الذي يميز خطاب الهيمنة العالمي، وبسبب كثافة رموز الغناء وتعبيراته وتكويناته، انتجت مفاهيم اجتماعية متداولة، تدفع الى اليأس والاحباط وأدرية تجاه الحياة. ووجد الفنانون فيها اشكالية، تقتضي التفاعل معها برموز تعبيرية تعلو على صنعتها وتسفلها. وكان المسرحيون من بين شرائح المثقفين الذين ابتدعوا نتاجات على مستوى النص الدرامي أو الفرجة المسرحية، لادانة روح التدمير الشمولي، الذي اصاب عالمنا المعاصر، بفعل الاطماع الاستعمارية، وتحقيق ارباح شركات عملاقة دولية، أو بسبب اضمحلال قوة العقل، واستفحال الخرافة والوساوس القهرية للإنسان البسيط، لذلك شكلت هذه العناصر، مادة لانظمة التعبير المسرحية في مدن العالم، واشتملت على لغة من غير ملفوظات، أو هي نسق، وكلام بصري سمعي حركي من دون لغة.
سبق للباحث الجمالي (كرستيان ميتز) ان وصف الفلم بانه:
(لغة من دون لسان)، واعتبر الفيلسوف والكاتب الايطالي (امبرتو ايكو) ان الفلم (كلام من دون لغة)، بمعنى انه ينقل صوراً موضوعية من الواقع بلغته (الفلمية) اويقدم نماذج متخيلة وروائية، تحاكي واقعاً معاداً انتاجه وتعديله بسحر الخيال الاجتماعي المؤثر والمقنع، وبصيغ فنية خاصة.
ان التجربة المسرحية حافظت على مواقع رصد متباينة من الواقع، وهي حتى في اظهار تقليدها للواقعي، تبنت لغة "الميزانسين" لتحصر حركة الممثلين والاكسسوارات ومفردات المنظر والاضاءة والازياء وفق انسقة منظمة مدروسة، لتوحي باستمرارية التدفق الفكري والوجداني لاشعاع النص في مرايا العرض الخلاقة العجيبة، تارة بالايحاء وأخرى بالتعيين الحرفي لمسميات الواقع، فالفن، كما يحدد (رودولف ارنهايم) يرتبط باداواته الفنية نفسها لا بادوات الواقع، وكما يقول: (من المهم لكي يبتدع فنان الفلم عملاً فنياً، ان يؤكد خصائص أدواته).
ان مبدع المسرح، والسينما، وسواه من المبدعين، لا خيار امامه سوى ابتكار لغته الخاصة في التعبير الفني، وحتى حين يبدو-مثلاً- ان الكاتب المسرحي يوظف "كلمات" الناس واحاديثهم فانه في الحقيقة يبتعد عن وظيفتها التداولية والتواصلية الى مستويات جمالية، انموذجية ومرمزة ومغايرة للنظام الاستعمالي الاولي للغة المخاطبة والحديث اليومي. انه يؤطرها في النص، ومثله يفعل المخرج في العرض في اصطفاء زمني بيّن وينظمها مكانيا في مقاطع، ومشاهد، وفصول، وبدايات ونهايات، وينتقي عناصر تكوين النص، والعرض، فيرسلها طليقة حرة، للمتلقي.
ولكن الصعوبة الكبرى، هي ان يلتقط مبدع المسرح، هذه النقطة الزئبقية الحمراء وهي تتراقص وتراوغ متوسلة المنطق أو الخيال، لترسم طبقات المعنى، وتحولاته الدلالية، لان المعنى يشكل تحدياً للمبدع لكي يستدرجه الى تجربته، وكذلك يشكل محنة للمتلقي لكي يمتلكه، وان الاثنين معاً، المبدع والمتفرج معرضان لمقروئية ابتكارية في سبيل توليد المعاني في الحياة وفي المسرح.


لا يستطيع تفسير لوحاته ولكنه يكتب عنها .. عباس يوسف : أنا أشتغل على الفرح ولكن بطريقة كئيبة


وارد بدر السالم  - المنامة
بقياس 20 × 20 سم يستغرق الفنان البحريني عباس يوسف في تقديم تجربة تشكيلية قوامها الرسم التجريدي المحض الذي عادة ما يمكن أن يثيره التلقي من أسئلة تقليدية في أزمة موضوعية عن الرموز والدلالات الكامنة في تشكيل الرؤى التجريدية الخالصة التي تنتمي الى ميدان الفن ولا تنتمي الى الواقع العياني أو قوانين الطبيعة المرئية والمباشرة، ومن الطبيعي أن تثير المدرسة التجريدية أزمة الموضوع المقيد بالنظم الأكاديمية والتصويرية وترفضه بالنتيجة، وهي أزمة بدأت في هذه المدرسة ولم تنتهِ، غير أنها أثبتت على أيدي الكبار، مثل كاندنسكي، أنها ظاهرة مستمرة وفاعلية فنية متطورة، وقد عدّها الناقد دورا فالييه نقلة مهمة في تاريخ الفنون التشكيلية بدّلت في مفهوم العالم للعمل الفني وارتقت بمفهوم اللوحة والعمل الإبداعي.
رفضُ الواقع في أدبيات هذه المدرسة لا ينفي عنها صيغة الواقع كلياً ؛ فمجسات الواقع تتحرك مفصلياً بين الخطوط والألوان عبر مخيلة قوية تجترح سماتها من رؤية فنية حساسة تستعين بالرمز وتستعير مفرداتها منه، والفنان البحريني عباس يوسف يدرك أثر المخيلة في تشكيل المعاني حينما يريدها أن تبتعد عن الواقع ومباشرته الصاخبة، وذلك باللجوء الى تشظية المعاني وتخليصها من الواقع والتخلص من هذا الواقع غير المكشوف وإدخاله في أطرٍ رمزية معقدة، عبر الألوان وضربات الفرشاة السريعة العارفة بمكامن الرمز وقوته.
هل يستطيع الرسام أن يفسر لوحته ؟
سؤال صعب يواجه الرسامين، وهو من الأسئلة التي كانت شائعة إبان الغزو التجريدي الى المعارض التشكيلية العالمية ولكن القلة كانت تجيب بالتنظير المحض والتفلسف الفني المجرد، مما كان يعقّد من المسألة ويضفي عليها هالة من الغموض ؛ وهكذا كان السؤال أمامي وأنا أسأله للفنان عباس بوضوح، وكنت أعرف حجم السؤال وكنت لا أنتظر الجواب، فالفنان نفسه قال لي " أنا لا أفسر.. ممكن أكتب " وهنا تكون الكتابة رافداً من روافد التعبير والتبرير ربما، فالرسم التجريدي خلاصة لثقافة نظرية في أساسها تمردت على الثوابت الممكنة في الرسم الواقعي على سبيل المثال واختطت لها طريقاً جديداً لتكون مدرسة كبيرة في عالم التشكيل. وعندما انتبهت الى وفرة اللون البني في نصف أعماله تساءلت عن دلالاته الرمزية قال الفنان : "..أعمالي السابقة كان يطغى عليها اللون الأخضر.." بمعنى أن أي فنان لا توجد في جعبته أجوبة جاهزة، فالرسم العقلي يتقاطع مع الرسم العفوي ذي الصبغة الواقعية أو الإنطباعية..
يقول الفنان عباس : " في هذه الأعمال التجريبية اعتمدت على الفرح وهذه الغمرة من الفرح جعلتني أقدم أعمالاً ذات صبغة فرحية.." وهنا جوهر الرمز وتناقضاته معاً، فقد انقسم المعرض ذي الثلاث وعشرين لوحة الى قسمين، القسم الأول هو ما أشار إليه الفنان، إذ غلبت الألوان ذات الصبغة البهيجة حيث تناغمت ألوان الأزرق والفستقي والتركوازي والبرتقالي بتشكيلات مريحة ساعد في استقرارها صغر حجم اللوحات، غير أن القسم الثاني من المعرض والذي صُفّ خلف لوحات القسم الأول بدا مغايراً تماماً، فاللون البني وظلال الكآبة والعتمة التي استغرقتها اللوحات كانت كافية لأن تجعل من العرض منقسماً على نفسه ومتناقضاً تماماً، فهل الفرح يكمن في داخله حزن غير ظاهر ؟ وهل كان الفنان يعي هذه الملابسات عندما ترك اللوحات بوجهتين متعاكستين لا تتشابهان ؟ وهل يعي اهتمامه باللون البني الى الحد الذي شغل فيه ثلاث عشرة لوحة ؟ أم أنه تسرب منه بغير قصد وجعل من هذه اللوحات بطابع يفترق عن الطابع الذي أراده الفنان ؟
يقول الفنان عباس : " ربما أنا سوداوي.. كثير من الحالات تكون فينا أحاسيس داخلية لا نشعر بها، فتتقدم أثناء الرسم ويفرض اللاوعي وجودها علينا.. لكنني أشتغل وأنا فرحان، كل هدفي أن أحتفي بالفرح، وعندما " أخبط" الألوان يتولد عندي البني من اللون الأسود..أنا أشتغل على الفرح وليس عندي تفسير لهذه الملاحظة.."
يلاحظ أن لوحات الفنان عباس يوسف ذات قياسات صغيرة 20 × 20 سم ، وهذا ما يجعلنا نرى ضياع الكثير من التفاصيل التي يمكن أن تُجهَض في هذا الحجم غير المعتاد في المعارض الشخصية، إلا أن الفنان لديه رأي في ذلك : " أنا مع الأعمال الصغيرة فهي لا تجهض الفكرة ولا تضيع فيها التفاصيل لأنها مكتفية بذاتها، وفي كامل مقوماتها الشخصية.."
بطاقة شخصية
ولد الفنان عباس يوسف في البحرين عام 1960 / بكالوريوس لغة عربية ــ قطر..أقام عدداً من المعارض الفردية والمشتركة والجماعية في البحرين والإمارات والأردن ومسقط ودمشق والكويت والدانمارك وإيطاليا والصين واليابان وألمانيا وطهران والبرتغال وأوسلو وبلغاريا وبولندا ومقدونيا ومصر وأوكرانيا وبنغلاديش وإسبانيا وفرنسا والسويد وبرشلونه وهولندا منذ مطلع التسعينيات وحتى الآن..


مـلاحــظـات حــول الـواقــع الـثـقــافـي الـعـــــراقي

باسم الأنصار
ان المتغيرات الدراماتيكية التي طرأت على الساحة العراقية بكافة مستوياتها منذ سقوط تمثال الديكتاتور في التاسع من نيسان عام 2003 ولحد هذه اللحظة، لايمكن ان تؤتى ثمارها بشكلها التام او المرجو او حتى على مدى المدة القريبة القادمة!.. لان معطيات الذي حدث بنظري لاتقتصر على ازالة حاكم ديكتاتوري وقمعي عن عرشه القائم على الجماجم والدماء فقط، وانما هي شملت ازالة منظومة تفكير متكاملة تأسست على التفرد والتسلط والعنجهية وعلى المغامرة، مما انتج حركة تاريخية جديدة في العراق وفي المنطقة عموما حركت الراكد والساكن من القيم والمفاهيم الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، أي ان هذه المتغيرات المستمرة، هي متغيرات تأريخية كبرى للعراق والمنطقة، وليست آنية كما يعتقد البعض. بغض النظر عن كون الجهة التي احدثت هذا التغيير تنوي احداث هذه الخلخلة في المفاهيم السائدة ام لا. فلكل عملية تغيير او لكل حركة تغير تحدث على ارض الواقع، مجموعة من المعطيات الجانبية والعرضية المهمة جدا، تنتج تلقائيا. بل قد تكون هذه المعطيات اوفر حظا للتحقق من غايات الجهة التي احدثت التغيير.
لذا فأن هذه الحركة بمستوياتها الجوانية والبرانية مستمرة في ابراز السيئ والجيد، الجميل والقبيح من دون انقطاع، وان كان المستوى الظاهري لهذه الحركة التغييرية الكبرى يوحي ويشي للناظر القريب والبعيد عن ساحتها وحاضنتها بالتشاؤم وبالخيبة والخذلان احيانا كثيرة. ولكن اذا تمعنا جيدا في اسباب بروز السيئ من النتائج في بداية كل تغيير، فسنكتشف ان مشاعر التشاؤم والخيبة التي تتملكنا جميعا كلما نظرنا الى مايجري من اشياء تثير الفزع في الواقع العراقي الحالي، تعد مشاعر طبيعية.
برأيي، السبب يكمن في ان كل متغير جديد وخاصة اذا كان بحجم الذي حصل للعراق يبرز المساوئ اكثر مما يبرز المحاسن، ويفسح المجال للبعض للهيمنة على الساحة ثقافياً واجتماعياً.. الخ.
ولكن ايماننا بالبديهية القائلة ان كل متغير يبرز مساوئه اولا ومحاسنه لاحقا، لايعني الخمول والتكاسل والتفرج على مايحصل او مايحدث من مساوئ وقبح وتشويه للحياة.
استنادا الى هذه الحجة توقع الكثير من المثقفين العراقيين ان الثقافة العراقية ستفرز على السطح مزيجا من المساوئ والايجابيات بعد التغيير الذي حدث. وتوقعوا بأن تحرر الثقافة من ربقة السياسة، بفهم ان من اكثر الاشياء التي عانت منها الثقافة العراقية سابقا هو تحكم السياسي بالحياة الثقافية بالشكل الذي يخدمه، ولكن ذلك لم يحدث حتى الان للاسف ! كما انهم اعتقدوا بفعل حماسهم الكبير للتغيير بأن يظهر مفهوم مغاير للثقافة وللمثقف. أي ان نتجاوز تأطير الثقافة في اطار الادب والفنون فقط كما كان كالسابق.
فالذي نتمناه الان، هو توسيع اطار الثقافة ليصبح بحجم الاطار المفترض به. فمن المهم جدا لاستمرارية التغيير في العراق ومن اجل ان يسير هذا التغيير في الدرب الامثل الذي يؤدي بنا الى النتائج المثلى، هو افساح المجال بقوة للمنظر والمفكر والباحث والاكاديمي للدخول الى عمق الساحة الثقافية العراقية الان لكي يؤدي دوره المطلوب، في البحث في الاشكاليات التي عانى منها ومازال يعاني منها المجتمع العراقي عموما.
بالاضافة الى كل هذا تمنى الكثير منا، ان يتجه الاعلام الرسمي وغير الرسمي نحو تبني الاطروحات الفكرية والنظرية للمفكرين والباحثين العراقيين بكل امانة، فنحن بأمس الحاجة الى ثورة فكرية وثقافية الان، وبحاجة الى ان نخلق تقليدا دائما لدى السياسي او لدى المؤسسة السياسية الجديدة، الا وهو ان على هذه الاخيرة ان تستند في رسم سياساتها الداخلية والخارجية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الى مايطرحه الباحث والمفكر من اطروحات وبحوث ودراسات.
بمعنى آخر، على المؤسسة السياسية ان تطبق ما تنتجه المؤسسة الثقافية. فكل الثورات السياسية التي حصلت عبر التاريخ استندت الى مجموعة من الاطروحات الفكرية التي انتجها المفكرون والباحثون قبل نشوب الثورات تلك. والتغيير الذي حصل في العراق هو بمثابة تحول بغض النظر عن الايدي التي ساهمت في حدوثها.
ولكن، هل الواقع الثقافي الحالي يتجه او يسير في هذا الاتجاه ام لا ؟ اظن ان هناك بوادر لنشوء مثل هذا التقليد في الثقافة العراقية ظهرت بعد التغيير، وتجسدت هذه البوادر باصدار بعض المجلات الثقافية المهتمة بشؤون الفكر والبحث والدراسة العلمية من قبل بعض المثقفين الحريصين بصدق على خلق شرارة الثورة الثقافية في العراق.
فلو دققنا النظر بماتكتبه الكثير من الاقلام العراقية المثقفة في وسائل الاعلام المتعددة، لاستبشرنا خيرا بمستقبل البلاد، غير ان هذه الجهود تبقى فقيرة ولاتلبي الطموح، لان الشيء الاكثر اهمية، هو انشاء مراكز بحوث ودراسات فكرية ومعرفية فعالة تفرض رؤاها على المؤسسة السياسية والاعلامية والتعليمية ايضا، فالمسألة اكبر من ان يخلقها فرد او مجموعة افراد على الرغم من امكانياتهم الهائلة، فنحن بحاجة ماسة الى مراكز بحوث ودراسات والى مؤسسات تختص وتعنى بالترجمة ايضا، تساعد على ابراز رؤى المثقف بشكل حر وكبير. وهنا تظهر مهمة السياسي والاعلامي والتربوي.
فعلى السياسي والاعلامي وعلى واضع المناهج التعليمية في المدارس والجامعات والمعاهد اتباع الرؤى والمفاهيم التي تنتجها المؤسسة الثقافية، على اعتبار ان ماتصدره هذه المؤسسة من افكار ورؤى وتصورات تستند اساسا الى العلم والى المنهجية المعرفية المتعارف عليها.
لذا يتوجب على المثقف العراقي سواء كان في الداخل ام في الخارج ان يبذل قصارى جهده من اجل التصدي لهذه التحديات الكبيرة. والمطلوب ايضا هو استمرار التواصل وتقوية الجسور واقامة الفعاليات الثقافية بين الطرفين، من اجل تحقيق هذه الغاية النبيلة، وبعيدا عن كل هذا وذاك، يبرز السؤال الاكثر الحاحا علينا وخصوصا على مثقفي الخارج، وهو هل ان ماتكتبه هذه النخبة المثقفة مؤثر وفعال في الثقافة العراقية في الداخل ام لا ؟ وهل ان الساحة الثقافية العراقية في الداخل تقرأ ماينتجه المثقف العراقي في الخارج ام لا ؟ وبالعكس ايضا، فهل ان النخبة التي في الخارج، تقرأ وتطلع على ماتنتجه النخبة في الداخل؟
اظن أن عودة العديد من مثقفي الخارج الى العراق بعد سقوط الصنم جعلتنا نتأكد اكثر من السابق ان هذه النخبة مازالت امتدادا للثقافة العراقية في الداخل، بل ان الكثير منها لم يشعر بالاغتراب الثقافي الذي كان يخشى حدوثه ابدا. فالاغتراب كان اجتماعيا وليس ثقافيا والاسباب معروفة طبعا.
بأختصار، ان اجواء ثقافة الداخل لايمكن ان تعوض، لانها مازالت مشحونة بالاصرار على مواجهة الموت المستمر هناك بالجمال والابداع، كما انها اجواء استفزازية وتفجيرية لكل منابع الالهام والايحاء في الكتابة. لذا كانت هذه الاجواء بالنسبة للنخبة العائدة الى الوطن كمسافرة وعاشقة، حميمية ودافئة الى ابعد الحدود الى الحد الذي جعلها تنصهر بها بمجرد دخولها الى قاعة حوار اومقهى الجماهير اومقهى حسن عجمي اوالشاهبندر اوشارع المتنبي، لذلك فأن حنين العودة الى هذه الاجواء مازال يراود الكثير من مثقفي الخارج.
لذا لااظن ان طرفي المعادلة انقطعا عن قراءة العديد من المنجز الثقافي سواء الذي في الداخل ام ذلك الذي في الخارج، وخصوصا بعد سقوط الصنم.
والملاحظة الاخرى المتعلقة بالموضوع، هي ظهور بعض من الاختلافات في المنجز الثقافي الداخلي قبل التغيير وبعده. واظن ان اكثر الاختلافات اثارة للانتباه، هو ان المثقف العراقي سابقا كان بأمكانه ان يوجه النقد الى الحالات والظواهر الاجتماعية الشاذة بجرأة عالية تقريبا ولكنه كان لايفكر مجرد التفكير بنقد الفعل السياسي الديكتاتوري، وذلك خوفا من العواقب الوخيمة التي ستقع عليه من قبل الاجهزة الامنية التابعة للديكتاتور. اما الان فقد حدث العكس. فالمثقف العراقي صار ينتقد السياسي الحالي بجرأة بينما هو يخشى ان يتعرض للعديد من الظواهر الاجتماعية السائدة الان. انها مهمة عسيرة على الثقافة العراقية بلاشك، ولكن هذا هو قدر المثقف العراقي كما يبدو، واتمنى ان يكون هذا المثقف بمستوى تحدياته الكبيرة، وبحجم الاحداث الدراماتيكية التي حصلت والتي ستحصل للعراق مستقبلا.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة