المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

فاجعة الحسين ومنع السلطات .. واقعة الطف في المسرحية العربية (2-3)
 

د.محمد حسين حبيب

2- مسرحية ( ثأر الله ) بجزأيها ( الحسين ثائراً ) و ( الحسين شهيداً)
تأليف : عبد الرحمن الشرقاوي

على الرغم من اعتماد الشرقاوي في مسرحيته هذه على مرجعية تاريخية لأحداث واقعة الطف وحسب تسلسل تفاصيل أحداثها وعلاقة ذلك بمكان وزمان الحدث , وتأثير ذلك الحدث على أفعال الشخصيات بحسب موقعها في طرفي الصراع , إلا انه بدا من زمن بعيد من زمن الواقعة , فالكاتب قد بدا في الإشهار عن ندم ( وحشي) في قتله ( حمزة بن عبد المطلب ) , فيكون الكاتب قد بدأ من الندم الذي انتهى إليه العفيفي في نهاية مسرحيته , إلى جانب أن الشرقاوي أراد التلميح إلى أفعال الشر الممتدة في أكثر من مكان وزمان وهي تحارب أصحاب الحق والحقيقة .
بعد ذلك يتوقف النص عند موقف تاريخي مهم له مكانته الخاصة في نفوس المسلمين , وهو لحظة وداع الرسول الكريم محمد ( ص ) , وبذلك يكون الشرقاوي قد ألمح إلى الانطلاقة الأولى والقاعدة الأساس للثورة الحسينية المباركة التي رصنت بنيان الدين الإسلامي وأسهمت في بقائه الأزلي .
لقد اهتم الشرقاوي في بداية مسرحيته بمشهد أساس يجمع بين ( محمد بن الحنفية والإمام الحسين عليهما السلام ) , لأهمية ما يتميز به هذا الموقف التاريخي من أبعاد إيمانية ومبادئ ثابتة كشفت عن معاني الأخوة وتقديم النصيحة والأخذ بالمشورة على وفق المبادى الإسلامية نفسها . فضلا عن ذلك أن هذا الموقف هو البداية التي انطلق منها الحسين ( ع ) متوجها نحو الواقعة .
أما ما يتعلق بأسماء الشخصيات ، فلقد اعتمد الكاتب الأسماء التاريخية الصريحة وألقابها المعروفة فنجد الشخصيات مثل : ( حبيب بن مظاهر , وزهير بن القين , ونافع , وابن عوسجة , وسكينة , وزين العابدين , والمختار الثقفي ) وغيرهم , بالإضافة إلى اهتمام الكاتب بالمكان والزمان في كل مشهد من مشاهد المسرحية , ففي المنظر الأول من الفصل الأول نراه يثبت الأتي : " بادية بجنوب العراق على مقربة من كربلاء تتناثر فيها التلال .. الحسين ورجاله وفتيانه يتفرقون في المكان على المرتفعات والمنخفضات .. سعيد يقف على أعلى المرتفعات وهو يتأمل الأفق البعيد تحت الشمس المتوهجة التي تغمر المكان كله " .
كما وجدنا, تأكيد الشرقاوي على وصف كل منظر من مناظر المسرحية , لكي يعزز من دقته التاريخية أولا , ويفسح المجال أمام القارىء لتخيل الحدث , بل انه يذهب أحيانا إلى تقسيمات المسرح إخراجيا , فمثلا يثبت في ملاحظة له في بداية المنظر الثاني من الفصل الأول كما يلي :
"المسرح مستويان : المستوى الأول منخفض من ناحية مقدمة المسرح وبه أشجار .. هو معسكر أعداء الحسين من ورائهم على جانب يبدو نهر الفرات من بعيد .. حيث يقف الحر صامتا أمام باب الخيمة .. والمستوى الثاني مرتفع فيه صخور ورمال حيث يقف الحسين وصحبه , وهذا المستوي الثاني يحتل النصف الأبعد من المسرح
حتى عمقه على يساره باب خيمة النساء . "
أما لغة النص فهي اللغة الشعرية بتنوع موسيقاها وأوزانها الشعرية , تنقل فيها الشاعر من بحر إلى آخر ولكن باعتماد قصيدة التفعيلة أو ما يسمى بالشعر الحر , إلى جانب الاهتمام برسم الصورة الشعرية التي تتناسب وحجم الفاجعة , فمثلا يقول الحسين ( ع ) في المنظر الرابع من الفصل الأول حينما بقي وحده وعياله من النساء والأطفال :

" الحسين : أنا وحدي ها هنا
أنا وحدي وظلام الليل والهول وفي الأعماق
مازال شعاع من رجاء لم يعد غير الدم المسكوب فوق الصحراء
لم يعد غير الأفاعي
وفحيح الجرح والويل الثقيل المدلهم
لم يعد إلا رياح الموت تعوي في العراء
وسعير الظمأ المجنون في التيه الأصم
أين انتم يا أحبائي جميعا أين انتم ؟
أين فتياني .. أما عاد هنا غير الضياع ؟ "
نود التنويه إلى ما ذكره ( محمد جواد مغنية ) في كتابه الموسوم ( الحسين وبطلة كربلاء ) عن مسرحية الشرقاوي هذه عندما قدمت لأول مرة وبخطوة جريئة على المسرح القومي المصري ومن إخراج ( كرم مطاوع ) عام 1972 م , وبعد الموافقات الرسمية للمسرحية من قبل علماء الأزهر واستشارتهم عن الطريقة التي سوف تظهر بها شخصيتا ( الحسين و زينب عليهما السلام ) بمثابة رواة لما تقوله الشخصية , ولكن وبعد إكمال العمل وصرف المبالغ فوجئ الجميع بان الأزهر له وجهة نظر أخرى فيما يخص الجمع بين الجزأين للمسرحية , وتبدو هذه حجة لا أكثر الغرض منها منع عرض المسرحية في حينها بعد أن اكتملت في شكلها النهائي الجاهز للعرض والذي شاهده حينها عدد من المسرحيين والنقاد , ومنهم الكاتب أمير اسكندر الذي كتب عن هذه التفصيلات في مقالة له بعنوان ( ثار الله ) والمنشورة في جريدة الجمهورية المصرية في 18 / 2 / 1972م , كل هذا إنما يؤكد محاربة الرقيب لاستثمار الواقعة في مجالات إعلامية وفنية إبداعية بدأت منذ فترة ليست بالقصيرة ومن قبل بعض السلطات العربية التي لا تريد الاعتراف بجورها وظلمها إزاء شعوبها , ولذلك فهي تخاف الاقتراب من قضية الإمام الحسين ( ع ) أو التعرض لذكر واقعته في أي محفل إعلامي أو فني يمثـلها أو يرزح تحت تسلطها .
3- مسرحية ( مساء التأمل ) إعداد ( قاسم محمد ) :
اعتمد معد المسرحية على مصادر عدة بوصفها مادة السيناريو المسرحي هذا , حيث أن هذه المادة مأخوذة عن المصادر التالية , وبحسب النص :
1- مسرحية مأساة الحلاج , للشاعر صلاح عبد الصبور .
2- مسرحية هاملت للكاتب الإنجليزي وليم شكسبير
3- مقطع من مقولات تشي جيفارا
4- نص ( مأساة كربلاء ) عن الكتاب الفارسي ( جونج
ي شهاديت ) إعداد
محمد عزيزة .
5- مسرحية هكذا تكلم الحسين للشاعر محمد العفيفي
6- مسرحية ثورة الزنج للشاعر معين بسيسو .
على الرغم من تنوع مصادر إعداد نص المسرحية , إلا أننا نشير إلى التشابه القائم في الموقف الثوري الواضح لكل شخصية تاريخية من الشخصيات الوارد ذكرها في المصادر , حيث الثبات على المبدأ الواحد الذي يجمع بين ( الحلاج و جيفارا وعبد الله بن محمد وهاملت و الإمام الحسين ع )
لقد حاول معد المسرحية هنا التخلص من عين الرقيب حينما لجأ إلى التلاعب بأسماء الشخصيات التاريخية الصريحة وتغييرها بأسماء ترمز لها , وذلك لغرض استحصال الموافقة على نشر المسرحية , وفعلا نجح في ذلك حينما نشرت في مجلة الأقلام العراقية , في عددها السادس عام 1974م , ومن جانب آخر كان لهذا التغيير في الأسماء أثره في توسيع المديات الإيمانية المتمثلة في شخصية الإمام الحسين (ع)
بوصفه رمزا إنسانيا للعالم اجمع يمثل أعلى درجات التضحية للالتزام بالموقف الواحد , إذا علمنا أن المعد قد ألغى الزمكانية وجعلها العالم كله والتاريخ كله .
وبعد مراجعة بعض مصادر الإعداد لنص قاسم محمد , وجد الباحث مثلا , أن اسم ( الشهيد ) الوارد في النص , جاء بديلا عن اسم ( الحسين ع ) , واسم شخصية ( الحاكم ) بديلا عن اسم ( عبيد الله بن زياد ) , واسم ( قائد فيلق الاستكشاف ) بديلا عن اسم ( الحر ألرياحي ) .
اعتمد النص طريقة الفلاش باك , بالاعتماد على شخصية المرأة وطريقتها في روي المشاهد الماضية التاريخية منها , أو التي سبقت الموقف الحالي في النص , فمثلا نراها تواصل روايتها للإحداث كما يلي :
" المرأة : وفي الصحراء , كان فيلق الاستكشاف قد ضل الطريق وتشتت جنده ,
والكثير من رجاله قد ماتوا عطشا , أما بقي منهم على قيد الحياة
فيزحف وقد نفدت قواه . ومر موكب الشهيد في نفس المكان الذي كان
ينازع فيه قائد فيلق الاستكشاف . "
أما لغة النص فقد تنوعت ما بين الشعرية والنثرية وذلك لتنوع مصادر الإعداد أصلا , بالإضافة إلى الملاحظات والجمل التي يسطرها المعد نفسه بلغته الخاصة . مع الإشارة إلى أن النص اعتمد في غالبية اقتباساته على نصي : ( نشيد الشهيد وهكذا تكلم الحسين ) , وذلك لان الأول يقترب كثيرا من أحداث الواقعة كونه من نصوص التعزية , والثاني يحفل بلغة شعرية تجمع بين الحدث الواقعي والتأمل التخيلي , مع الإشارة إلى أن ( مساء التأمل ) نفسه كعنوان لهذا النص قد استخرجه المعد من احد مصادر إعداده وهو نص نشيد الشهيد .


الحاجة الى ضمير دستويفسكي
 

فوزي كريم

في الستينيات كنا نقرأ أعمال دستويفسكي بهوس. داخل هذا الهوس لم نتوقّف عند شخوص رواية "الشياطين" لنذعر. كانت تلك الشخوص كفيلة بأن تثير الذعر في قراء على هذا القدر من الشبه بها.
شياطين دستويفسكي هم ستينيو روسيا القرن التاسع عشر. جيل احتفى بـ "الفكرة العظمى" التي ورثها عن الجيل الأربعيني، وذهب بها، بطيش الأطفال الحمقى، الى أبعد مدى من التطرف.
كانت ستينيات روسيا القيصرية، قبل قرن من ستينيات العراق والعالم الغربي، تضج بجيل يستحق ان يوصف بـ"الموجة الصاخبة" أو "الروح الحية".
فالثقافة مسيّسة لدى الجيلين بصورة تامة، وهوية المثقف تكمن في انتمائه العقائدي. والجيل منقسم بصورة حاسمة الى تيارين لكل منهما فروع، الأول يستلهم الغرب وحداثته بكل ما ينطوي عليه من تيارات فكرية وسياسية. والثاني يتشبّث بالجذور القومية بكل ما تنطوي عليه من معايير وقيم. وكل منهما يدّعي سعة الأْفق التي لا تضيق باستيعاب حسنات الطرف الآخر. ولكن تسييس هذا الميل الفكري يلغي أية إمكانية لسعة الأْفق المزعومة، لأن الفكرة سرعان ما تتحول الى عقيدة عمياء. انتشار الصحافة وفاعليتها في الوسط الثقافي عامة شبه آخر يجمع بين الجيلين المتباعدين، ودستويفسكي الروائي نفسه كان مسؤولاً عن مجلتين فكريتين: "الزمان" و"العهد"، وعبرهما كان كثير الجدل، كثير الخصام. وللتأكيد على قرابة الأدب والسياسة، كان يضع تحت عنوانيهما عبارة: "تعنى بالأدب والسياسة".
الشبه الأساس الذي يظلل الجميع هو اندفاعتهم المتطرفة باتجاه الأفكار المجردة، دون التفاتة الى الواقع الأرضي، وإخضاع الفعل السياسي التاريخي المغيّر الى أهوائهم المبدعة في حقل العواطف والمخيلة. في "الشياطين" يقدم لنا المؤلف شخصية ستيفان الرئيسية كمثقف رائد لاحتضان رفعة الأفكار المتعالية على الانسان الزائل ابن الأرض. ودستويفسكي يقدمه بصورة هجائية ساخرة في إحدى مشاهد الرواية الأخيرة: "الأفضل ان يمشي في الطريق العام، الأفضل أن يمضي دون أن يفكر في شيء. الطريق العام ... شيء طويل، طويل جداً، لا يرى المرء له نهاية، كالحياة الإنسانية، كالأحلام الإنسانية. الطريق العام يتضمن فكرة. أما جواز السفر في الطريق فأية فكرة يمكن أن يتضمن؟ جواز السفر نهاية كل فكرة...عاش الطريق العام، وعلى بركة الله..." (ترجمة الدروبي ج2 ص383). وعلى لسان أحدهم يتحدث عن الثوري شاتوف: "إن شاتوف واحد من أْولئك الروس المثاليين الذين متى أشرقت في نفوسهم فكرة قوية كبيرة، بُهروا بها وتسلطت عليهم تسلطاً تاماً قد يدوم في بعض الأحيان الى الأبد، فلا يصلون يوماً الى السيطرة على هذه الفكرة التي أصبحوا يعتنقونها اعتناقاً عنيفاً. فحياتهم كلها تنقضي بعد ذلك فيما يشبه التشنجات الكبرى تحت وطأة تلك الصخرة التي سقطت عليهم ذات يوم فحطمتهم نصف تحطيم." (ج1 ص50).
"عاش الطريق العام" باسم الفكرة التي يتضمن، فليغذ الستيني السير تحت وطأة الفكرة القوية الكبيرة التي سقطت عليه فحطمته. يعترف الصوت الستيني العراقي: "كنت انتمي الى الحلم بفردوس سوف يعم يوماً ما العراق والوطن العربي والعالم، معتقداً ان الثمن المدفوع في الحاضر هو ضريبة الوصول الى ذلك المستقبل."
ما يثير الذعر يكمن في جملة "الثمن المدفوع في الحاضر". الثمن العراقي المدفوع كان باهظاً، ولكن لم يحظ بكاتب يملك ضمير دستويفسكي اليقظ، ليرقب ويعري "الشياطين" التي قبلت بدفع الثمن الباهظ من أجل حلم لا سبيل الى تحقيقه. روسيا حظيت بدستويفسكي، وابتُلينا نحن بالكاتب الثوري الذي يرقب الظاهرة ليمنحها، بمزيد من العواطف والخيال، شرعية وطأتها كالصخرة. يكتب سامي مهدي في تاريخ هذه المرحلة ليؤكد أن الأكثرية من كُتاب الستينيات كانت تنتمي لتنظيمات حزبية، وأنها مُنيت بانتكاسات سياسية ونفسية لم تؤدّ بهم الى مراجعة النفس والحكمة بل الى ميول وأهواء فكرية أكثر تطرفاً. "فكان أن تسللت إليهم، بدرجات متفاوتة، الأفكار الوجودية والعدمية والتروتسكية والفوضوية، حتى أن نفراً منهم أعاد الاعتبار لتروتسكي وأفكار الأُممية الثانية. وحين تألق نجم الغيفارية صار أرنستو تشي غيفارا بطلاً محبباً لدى أغلبهم، وراحت صور مقاتلي الجبال والأدغال تداعب مخيلاتهم، بل كان بعضهم يحسد الكاتب ريجس دوبريه على ما وصل اليه من شرف... وحين انفجرت أحداث أيار 1968 في فرنسا كان هناك من عثر على بغية أُخرى، فصار أبطال هذه الأحداث من النجوم التي يُتطلع إليها... كان أكثرهم يبحث في هذا الخليط المتنافر من الأفكار عن خلاص ما غير الخلاص الذي وعدتهم به الأحزاب التي كانوا ينتمون إليها. بل كانوا يبحثون عن مصداقية تسوغ لهم خروجهم من تلك الأحزاب، فراحوا يستقصونها في كل ما يُطرح من النظريات والأفكار والأساليب الكفاحية الجديدة، وكانت دور النشر في لبنان تلبي هذا النوع من الحاجات بحساسية تاجر عريق. فليس مستغرباً، والحالة هذه، أن يظهر بينهم من يتنطّع بالتنظير للكفاح المسلح، ويختار له زاوية في مقهى يقصدها بضعة مريدين يلبُّون حاجة من حاجاته النفسية، ويشاركونه التفكير بمستقبل البشرية المعذبة، ويتعاطون معه نوعاً من أنواع المخدرات..."
_________________

* من كتاب تهافت الستينيين الذي سيصدر عن دار المدى


صدر حديثا عن المدى،(لغة الذات والحداثة الدائمة) .. قراءات في حياة وأعمال أكثر من أربعين أديبا ومفكرا

ابراهيم حاج عبدي - دمشق
يعتبر الناقد السينمائي اللبناني ابراهيم العريس، مؤلف هذا الكتاب، واحدا من الأسماء اللامعة في مجال النقد السينمائي على مستوى الوطن العربي. درس السينما مطلع السبعينيات في المعهد التجريبي التابع لـ " مدينة السينما" (شيني شيتا) في العاصمة الإيطالية، روما. اصدر العديد من الأبحاث والدراسات في مجال السينما والنقد السينمائي، منها "رحلة في السينما العربية"، و"الصورة والواقع"، و"سينما يوسف شاهين"، و"سينما الإنسان"..وغيرها، كما قام بترجمة بعض أهم الكتب السينمائية من اللغة الفرنسية إلى العربية، مثل كتاب "علم جمال السينما"، وكتاب "هيتشكوك" الذي يتناول سينما المخرج الكبير الفريد هيتشكوك، كذلك قام بترجمة سيناريو فيلم (المحاكمة) الذي حققه اورسون ويلز عن رواية لكافكا تحمل الاسم نفسه، وهو يشرف حاليا على الملحق السينمائي الأسبوعي الذي تصدره صحيفة "الحياة" اللندنية، وهو إلى جانب ذلك يواظب على الكتابة للصحف والدوريات العربية المتخصصة بالفن السابع.
في كتابه الجديد "لغة الذات والحداثة الدائمة" (دار المدى، دمشق ـ 2006) ينحو العريس باتجاه منحى مختلف، إذ يقدم قراءات في حياة وأعمال أكثر من أربعين كاتبا برزوا في مجالات الفلسفة والشعر والرواية والمسرح...وهم ينتمون إلى جغرافيا مختلفة تمتد من الولايات المتحدة إلى اليابان، ومن الدول الاسكندنافية إلى جنوب أفريقيا، وأنتجوا إبداعهم في القرن العشرين، باستثناء، مفكرين اثنين هما: سقراط وابن خلدون. فسقراط الذي عاش في أثينا قبل الميلاد، يعتبره العريس رمزا للتمرد الإنساني، في كل العصور، فهو الذي تساءل مبكرا: لم لا نعرف أنفسنا؟، وهو الذي قال في إحدى لحظات محاكمته مخاطبا الاثينيين: "إن لدي مهمة جعلني الرب في سبيلها مرتبطا بمدينتكم، ولهذا لا أكف عن حثكم، وعن وعظكم، وعن توبيخكم حيثما وكيفما اتفق، من الصباح حتى المساء"، فسقراط "لو لم يوجد بالفعل، لكان من الضروري أن يوجد"، كما يقول العريس، وذلك كدلالة على الرفض الذي يعتمل في النفس البشرية، وسعيها للاحتجاج ضد العبودية والقمع والحقائق الجاهزة المعلبة.
ينتقل العريس من هذا التاريخ الإغريقي القديم إلى نهاية القرن الرابع عشر الميلادي في الشمال الإفريقي، ليختار أحد أهم الباحثين في مجال التاريخ، وهو عبد الرحمن ابن خلدون، صاحب اشهر كتاب، هو "المقدمة" الذي يعتبر إلى الآن من الكتب الفاعلة، والمؤثرة، ويرى العريس أن السبب في ذلك، يعود إلى أن الأسئلة التي طرحها لا تزال هي الأسئلة المطروحة على التاريخ حتى اليوم. فالمقدمة يعتبر أول نص في التاريخ يربط الأحداث بأسبابها الاجتماعية والمناخية والجغرافية، ويقول بمبدأ "التوليد"، بمعنى أن الأحداث تولد من بعضها البعض، لا في تعاقب زمني بسيط، وإنما في تعاقب تعددي مركب. ولعل ابن خلدون هو أول من انتقد، بشكل علمي ومنهجي، المؤرخين المسلمين الذين سبقوه مثل: ابن اسحق، والطبري، والاشدي، والواقدي...وسواهم ممن قال عنهم في مقدمته: إن التاريخ على أيديهم صور تُجرّد من بوادرها. وهم على الجملة، إذا تعرضوا لذكر دولة نسقوا أخبارها نسقا، محافظين على نقلها وهما أو صدقا، لا يتعرضون لبدايتها. ولا آيتها، ولا علة الوقوف عند غايتها"، ووفق هذه الآراء فان ابن خلدون ابتكر منهجا جديدا لكتابة التاريخ فلم يعد الأمر يقتصر على تدوين الوقائع فحسب، بل صار الهم يقوم على تعليل الوقائع تعليلا علميا منهجيا يقوم على الملاحظة والمقارنة والموازنة والمعارضة، لاسيما دراسة البيئة، وأصول العوائد، وقواعد السياسة، وطبيعة العمران.
من هاتين المحطتين التاريخيتين، ينتقل العريس ليستقر في القرن العشرين الذي احدث ثورة هائلة في مجالات الفكر والفن والعلم والتطور التقني، كما كان قرنا مليئا بالمجاعات والصراعات والثورات والحروب. يختار العريس من بين مبدعي هذا القرن رموزا في مختلف مجالات الفكر والأدب والفن محاولا الإجابة على السؤال الرئيس الذي يطرحه على نفسه، والمتمثل في: لماذا، ولمن يكتب الكاتب؟ والجواب على هذا السؤال يتوضح بصورة تدريجية على مدى القراءات التي تحملها صفحات الكتاب، عبر التركيز على علاقة الكتابة بكاتبها، باعتبارها ـ كما يقول ـ العلاقة الحاسمة التي تجعل للنص هويته، وشكله ومضمونه، فالنصوص التي نطالعها في الكتاب تفترض أن الكتابة هي في المقام الأول "تعبير عن الذات"، أو حسب تعبير نيكوس كازانتزاكيس ـ أحد الحاضرين في الصفحات ـ هي تعبير عن لهيب الروح.
العريس يحاجج في "أن نص الكاتب ينبع، أولا، من همه الذاتي، من رغبته في تحدي الحياة والموت معا، بل وفي حدود قصوى من رغبته في الوقوف خارج الجماعة.ومن هنا يكون الفن (أدبيا أم غير أدبي) فعل مشاكسة. ولأن كل مشاكسة تجاوز، يصبح الفن لغة التطلع الدائم إلى الممكن، بل والى المستحيل. ودائما عبر مرشّح الذات الخلاقة"، وبهذا المعنى فقط يمكن ـ في رأيه ـ النظر إلى فعل الإبداع كفعل تسام يحاول الإنسان المبدع من خلاله أن يجد لنفسه مكانا خارج حسابات البشر ويومياتهم الفانية، حتى وان كان من سمات الأدب الكبير والفن الكبير النهل من حياة البشر ومن أحزانهم، وأفراحهم، وآمالهم، وخيباتهم.
يتناول العريس، إذن، في مؤلفه تجربة عدد كبير من الكتاب الذين تختلف اهتماماتهم، لكن ما يجمعهم هو قرابة الحبر، فيتحدث عن أبرز كتاب اليابان، ويتوقف عند مبدعي الحداثة الأوربية المعاصرة، ويقرأ تجربة مؤرخ الأديان أو المنقب في تاريخ الأساطير، وتجربة اشهر كتاب ألبانيا وسويسرا...وسواهم، محاولا رسم الأجواء الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي رافقت ظهورهم وولادتهم، مرورا بمراحل الطفولة، والصبا، والمواقف التي تركت في نفوسهم ندوبا لا تمحى، والنزعات والهواجس التي تصارعت في ذواتهم، والقلق الذي طغى على تفكيرهم، والخيبات الكثيرة التي لقوها، وصولا إلى بلوغ هؤلاء مرحلة المجد الأدبي أو الفني دون أن يخططوا لذلك بشكل واع، ومدروس.
وهو يقيم أعمالهم من خلال ذائقته الخاصة ككاتب متابع ومجتهد، عبر رؤية موضوعية تقرأ قسمات وجوههم، وتكشف عن الأسرار التي اكتنفت مصائرهم في محاولة منه الوصول إلى منبع الإشعاع الذي توهج، ذات إشراقة، في دهاليز روحهم ليشع بنوره على العالم، وتحقيقا لهذا الهدف فهو يضع أعمالهم وسيرتهم الذاتية تحت مجهر النقد مستعينا بخبرته التي اكتسبها عبر زاويته اليومية في صحيفة الحياة "ألف وجه لألف عام" والمخصصة للحديث عن أهم الإبداعات العالمية في مجال المسرح والسينما والتشكيل والأدب...وما يقوم به في زاويته، يطبقه هنا أيضا، إذ يجهد في تأويل ما كتبه هؤلاء الكتاب عبر قراءة جديدة للمراحل والظروف والحالات التي مروا بها، والأمكنة التي عاشوا فيها، وهو يقارب عوالمهم بكثير من الشغف والحذر والدراية، وبلغة ترتقي إلى مصاف النص الأدبي الذي ينأى عن إطلاق الأحكام النقدية الحاسمة والصارمة، وإنما يكتفي بسرد هذه الحياة بكل تناقضاتها وتشعباتها التي تمخضت عن شخصيات لعبت دورا كبيرا في رسم ملامح القرن العشرين.
المفكر الفرنسي لوي التوسير من الشخصيات التي يفرد لها مساحة في كتابه، وهو يركز على نقطة مهمة تتعلق برؤية التوسير ـ المتوفى في العام 1990 ـ للماركسية، إذ يرى العريس ان قراءة متأنية لأعمال التوسير ستضعنا أمام واقع يقول "إن عملية سلخ الجلد الأيديولوجي عن الماركسية، إنما بدأت مع التوسير الذي وقف على نقيض غرامشي وغارودي..ليعلن أن الماركسية إما أن تكون علما أو لا تكون..وان أي نظرة أخرى إلى الماركسية تحاول أن تؤنسنها، إنما يعني رمي الماركسية كفلسفة للاقتصاد والتاريخ في أحضان الأيديولوجيا، وتحويلها إلى دوغما تزعم حل مشكلات الإنسان ككل، وهي على هذه الشاكلة عاجزة عن ذلك". ويكتب عن جورج دوموزيل (1898 ـ 1986) المفكر الفرنسي الذي قضى عمره يدرس وحدة الجنس البشري، ويعقد المقارنات بين مختلف الشعوب والحضارات، ويسجل نقاط اللقاء بين الأقوام، تلك النقاط التي كانت، بالنسبة إليه، أفسح وأكبر من نقاط الخلاف بكثير، لذلك كان يطرح سؤالا على قرن شهد صراعات وحروبا مريرة: ترى لماذا يتصارع هؤلاء الناس؟ وعلام هم مختلفون حقا؟
ويقف العريس عند تجربة ميرسيا ايلياد الإشكالي، فهو ولد في بوخارست عاصمة رومانيا عام 1907 واستقر في باريس، عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، بعد تنقلات كثيرة، وفيها بدأ بنشر أهم كتبه باللغة الفرنسية، فهو من كبار كتاب القرن العشرين ويصعب تصنيفه تبعا لتعدد اهتماماته الكتابية والفكرية حيث كتب البحث التاريخي كما كتب الرواية، كتب الشعر كما غاص في التأمل الفلسفي، فضلا عن دراسته لتاريخ الأديان. وفي فصل تحت عنوان "حداثة القرن العشرين" يقف العريس عند تجربة الروائي الفرنسي مارسيل بروست، وخصوصا رائعته الذائعة الصيت "البحث عن الزمن الضائع"، التي أخرجت الرواية من المكان الذي وضعها فيه بلزاك، والجديد لدى بروست، بحسب العريس، هو ذلك التضاد الذي أبدعه بين الزمن الحقيقي المتآكل، والزمن الداخلي اللامتناهي، كما يتحدث عن تجربة الروائي الايرلندي جيمس جويس (1882 ـ 1941) وتحفته الروائية الخالدة "أوليس" التي تشتغل على الزمن بشكل مغاير للفرنسي بروست: إنها باختصار "تفلش" الزمن، تمده، وتدخل في تفاصيله، إذ أن أحداث الرواية جميعها تدور على مدى ثماني عشرة ساعة لا غير...ثماني عشرة ساعة تتوزع على ما يقارب الألف صفحة، وهي بذلك تعتبر أعظم عمل روائي افرزه القرن العشرون، فهي رواية تتحدث عن بلوم (البطل) الذي يستيقظ صباحا، وينام بعد منتصف الليل، ويمضي حياة رتيبة إلى حدود الموت...يمضي نهارا واحدا هو في عرف جويس الحياة كل الحياة. ومغزى هذا النهار يكمن في ان "أوليس" هو الذي أعطى لجويس مكانته كواحد من كبار كتاب الحداثة في القرن العشرين.
تلك هي الطريقة التي يقارب بها العريس عوالم الكتاب الذين اختارهم، وسيكون في مقدور القارئ التعرف في الصفحات اللاحقة على كتاب، بعضهم بلغت شهرته الآفاق، وبعضهم الآخر لم ينل حظه من الشهرة في العالم العربي، ومنهم: روبرت موتسيل، لوي فردينان سيلين، توماس مان، أرنست جونغر، إزرا باوند، بيار لوتي، فريدريك دورنمات، الكاتبة كارين بلكسن، تشيزار بافيزي، نيكوس كازنتزاكيس، وليم فولكنر، تينيسي وليامز، ألبير كامو، ستيفان تسفايغ، غراهام غرين، لورانس داريل، البرتو مورافيا، يانيس ريتسوس، تانيزاكي، ياسوناري كاواباتا، يوكيو ميشيما، اسماعيل كاداري، بول بولز، جان جينيه، فرانز كافكا...وغيرهم.
في كتاب "لغة الذات والحداثة الدائمة"، نحن إزاء نص ثري يرسم مساراً خاصا، ومحببا لقراءة الفكر والأدب العالميين، مركزا على إبراز حقيقة "إن نص الكاتب ينبع أولاً من همه الذاتي"، والكتاب بهذا المعنى لا يكرر ما قيل عن هؤلاء الكتاب، من قبل، بل يقدم طرحا جديدا يخوض، تحديدا، في سؤال الكتابة، هذه الكيمياء المعقدة التي لا يمكن الإحاطة بأبعادها ودلالاتها وغموضها، وكل ما يقوله الكتّاب، والمبدعون في هذا السياق هو انهم لا يستطيعون العيش دون كتابة، ولعل هذا ما عبر عنه الشاعر الألماني ريلكه حين قال، مخاطبا المبدع: "إذا كنت تظن بأنك قادر على العيش دون كتابة، فلا تكتب". الكتابة بهذا المعنى هي ضرورة، وقدر لا يمكن للكاتب الفكاك منه، وهذه الاشكاليه هي ما يحاول ابراهيم العريس مناقشتها عبر صفحات هذا الكتاب.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة