المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

سقوط بغداد وصعود مخرج

سمير فريد
في فيلمه الثاني "ليلة سقوط بغداد" (2005)، بعد فيلمه الأول "فيلم ثقافي" (2000)، يثبت محمد أمين أنه مخرج-مؤلف بالمعنى الدقيق للمصطلح، والذي لا يقتصر على كونه يكتب السيناريو إلى جانب الإخراج. فالمؤلف هو من يؤلف الفيلم ذاته لقطة وراء لقطة بلغة السينما، ومن يعبر عن عالم فني خاص حتى لو لم يكتب السيناريو، أو استند إلى أصل أدبي أو مسرحي. والعالم الفني لمحمد أمين كما يبدو من فيلميه يقوم على السخرية اللاذعة من الواقع الذي يعاصره في مصر، والتعبير عن الكبت الجنسي والسياسي للجيل الذي ينتمي إليه، واللامبالاة الكاملة برقابة السينما ورقابة المجتمع في نفس الوقت.
"فيلم ثقافي"، وهو التعبير الكودي المصري عن أفلام البورنو الإباحية، فارس اجتماعي (هزلية عن المجتمع) يبحث فيه ثلاثة شباب (اثنان من المسلمين والثالث من المسيحيين) عن مكان يشاهدون فيه فيلم بورنو، وعندما يجدون المكان يكتشفون أن على الشريط جلسة من جلسات مجلس الشعب في تعبير جريء عن الحياة السياسية في مصر حيث يراها لا تختلف عن الأفلام الإباحية. أما "ليلة سقوط بغداد" فهو فارس سياسي (هزلية عن السياسة) عن الحياة السياسية في مصر بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003. وهناك فرق كبير بين الفيلم السياسي والهزلية السياسية، فالفيلم السياسي يعبر عن موقف من قضية ويقوم بتحليلها من وجهة نظر مؤلفه، ويستهدف إقناع المتفرج به، والمتفرج أو الناقد -وما الناقد إلا متفرج جيد أو هكذا يفترض- الذي يتعامل مع هذا الفيلم كفيلم سياسي يظلم نفسه ويظلم الفيلم في آن واحد.
فيلم "ليلة سقوط بغداد" ليس فيلماً معادياً للسياسة الأمريكية كما يبدو للوهلة الأولى، ولكنه يستخدم العداء السائد للسياسة الأمريكية لنقد الحياة السياسية في مصر، والواقع المصري بصفة عامة. بل إنه محاكمة الأجيال الجديدة من الشباب المصريين في العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين لكل الأجيال السابقة منذ ثورة يوليو 1952. إنه لا يدين الأمريكي الذي يسعى وراء مصالحه ولو تحول إلى جلاد، وإنما يدين من جعل نفسه ضحية لهذا الجلاد أساساً، أولاً وأخيراً. وتلك هي أهمية الفيلم الذي يعتبر أحسن فيلم مصري عام 2005.
ومثل كل عمل فني حقيقي فإن نجاحه لا يرجع إلى مضمونه، وإنما إلى الشكل الذي عبر به عن هذا المضمون، أو المعادل الموضوعي الدرامي حسب مصطلح إليوت، والذي يصل إلى حد النموذج في "ليلة سقوط بغداد". إنها قصة ناظر مدرسة ثانوية في القاهرة 2003 بعد غزو قوات التحالف الدولي بقيادة أمريكا للعراق يعاني من كابوس يرى فيه هذه القوات تغزو القاهرة، وتصل إلى بيته وأسرته المكونة من زوجته وحماته وابنه وابنته. ويكون رد فعل الناظر تجاه ذلك الكابوس البحث عن تلميذه القديم طارق الذي عرفت عنه القدرة على الاختراعات العلمية، وتكليفه بصنع سلاح ردع يحمي مصر، فيخترع طارق شبكة إلكترونية تحيط بسماء مصر. تعرف المخابرات المركزية الأمريكية (سي. أي. إيه) بالاختراع، وتحاول شراءه، ولكنه يرفض، وتفشل التجربة الأولى للاختراع، وتنجح الثانية، ولكن رجل المخابرات الأمريكية يقول أن الاختراع على أية حال لن يجد من ينفذه لا في مصر ولا في أي بلد عربي، لأنهم وضعوا في أماكن اتخاذ القرار مجموعة من السفهاء الذين يعوقون التقدم العلمي، ويحققون مصالح أمريكا بالاتفاق أو من دون اتفاق.
"الناظر" شاكر (حسن حسني) وأصدقاؤه (سامي مغاوري ولطفي لبيب ويوسف داود) يعبرون عن أجيال ثورة يوليو التي حكمت وتحكم مصر منذ 1952 حتى الآن، وطارق (أحمد عيد) وسلمى (بسمة) ابنة شاكر وابنه محيي والطلبة الثلاثة في المدرسة الثانوية التي يديرها شاكر يعبرون عن الأجيال الجديدة في العقدين الماضي والحاضر. الأجيال القديمة لم تعد تملك إزاء الرعب من أمريكا إلا أن تعاني من الكوابيس وتحلم بأن مصر لديها سلاح نووي سري (لازم عندنا .. تعرف لما الكهرباء انقطعت عن مصر كلها ده كان تمويه على السلاح النووي، وتعرف السحابة السوداء دي من أثر التجارب النووية السرية). وفي نفس الوقت يقررون فتح مركز للتدريب على المقاومة الشعبية بأسلوب حرب السويس عام 1956 الذي عفا عليه الزمن، ولكنهم لا يعرفون سواه بحكم خبراتهم.
أما الأجيال الجديدة من أبناء الناظر وتلاميذه فهي لا تملك سوى التظاهر ضد أمريكا في أفغانستان والعراق (بين قوسين في اللافتات) ثم دفاعاً عن إيران وسوريا بعد فتح القوس في مظاهرة تالية، ويقول لهم الناظر اتركوا القوس مفتوحاً. ولا يملك طارق سوى الكذب على أمه والادعاء بأنه يعمل في مركز البحوث العلمية بينما هو عاطل يدخن البانجو فيما يطلق علية مركز بحوث الجوزة، وسوى ممارسة العادة السرية وهو يتخيل أنه يعاشر كوندا ليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية. وعندما يرعاه شاكر ليخترع يطلب منه البانجو ليعدل مزاجه، ويذهب الناظر لشرائه فيجد ثلاثة من طلبته الصغار يدخنون البانجو بدورهم، ثم يطلب منه الزواج من ابنته سلمى لينهي الكبت ويستطيع أن يخترع، ويقدم له الناظر شريط فيديو لرفع معنوياته عن أهم إنجازات مصر منذ حرب أكتوبر فلا يجد عليه إلا مباراة كرة قدم انتهت بانتصار الفريق القومي.
نتيجة تدخين البانجو يتوصل طارق إلى اختراعه، ويقول أنه دفاعي ولا يستطيع البرادعي "أن يفتح بقه" في تعبير عن الوعي الزائف السائد الذي يرى البرادعي تابعاً لأمريكا بينما كانت الإدارة الأمريكية ضد استمراره في عمله، ولذلك لم يفرح المصريون بفوزه المستحق بجائزة نوبل للسلام. وعندما تعترض والدة سلمى على زواجها من طارق يرد شاكر بأن هذا الزواج من أجل مصر فتعلق حتى زواج ابنتي من أجل مصر في تعبير عن الإعلام الزائف الذي يتغنى بمصر وكأن الغناء يكفي للتعبير عن حب الوطن، أو البديل للعمل من أجل الوطن. ويصل الفيلم إلى ذروته في مشهد زفاف طارق وسلمى، وطلب شاكر إذاعة الأغاني الوطنية في الحفل مثل خللي السلاح صاحي ويل حبيبتي يا مصر وغيرها، وهي الأغاني التي نشر البعض في الصحف أنها من "الثوابت" القومية، وحتى أن طارق يقول " هو أنا ح أدخل على عروستي ولا ح أدخل على مصر".
لا يستطيع طارق ممارسة الجنس مع زوجته في ليلة الزفاف، ويصل الفارس (الهزل) إلى حد أن المشكلة الجنسية لا تحل إلا بأن ترتدي العروس زي جنود المارينـز الأمريكان، فيشعر طارق أنه ينتقم مما حدث في سجن أبو غريب في بغداد، والذي يجسده المخرج في كابوس آخر يرتدي فيه السجناء ملابس سجناء جوانـتانامو، وتصبح أزياء المارينـز الوسيلة لحل المشاكل الجنسية لدى الجميع في مشهد مونتاج هيستيري. ويتصاعد الهزل إلى القطع بين رقص بسمة لزوجها إلى رجل السي. أي. إيه يؤم المصلين في أحد المساجد، ثم إلى مليونير مصري يلجأ إليه شاكر وطارق لتمويل الاختراع بعد أن يئسا من الجهات الرسمية، فيقترح عليهما أن الأفضل اختراع رنات موبايل مبتكرة. ولا يجد الجميع من حل إلا التوسل إلى صور جنود المارينـز الذين يتدربون على السلاح بإطلاق النار عليها بالإنجليزية "بليز دو نوت فك مي".
خلاصة الفيلم في قول طارق للناظر عندما يستعجله لإتمام الاختراع "أنتم مسلمينا الراية عامله كده" صانعاً بإصبعه علامة السقوط، ويواصل "أنتم مسلمينا البلد ملط" أي عارية تماماً بالتعبير العامي المصري. وخلاصة الأمر أننا أمام عمل فني رائع وغير مسبوق في السينما المصرية يتألق فيه مؤلفه وكل العاملين معه، وخاصة حسن حسني في أروع أدواره وأحمد عيد في أول أدواره الكبيرة التي تعلن مولد نجم جديد من طراز مختلف ومن الطراز الأول، ومدير التصوير إيهاب محمد علي، والمونتيرة مها رشدي، ومؤلف الموسيقى تامر كروان.
ومرة أخرى بعد "الرجل الأبيض المتوسط" إخراج شريف مندور، و"بحب السيما" إخراج أسامة فوزي، تؤكد إسعاد يونس كمنتجة وموزعة أنها تشارك بقوة في صنع تاريخ السينما المصرية.


رسالة روما الثقافية .. الفنان سعد علي في مدينة الليمون
 

موسى الخميسي
افتتح هذه الايام معرض الفنان العراقي سعد علي في كاليري" تورناتو" في مدينة برشلونة الاسبانية ويستمر حتى الخامس عشر من الشهر الجاري.
عرض الفنان 25 عملا فنيا جديدا ليركز تجربته، التي كثف كل ما من شانه ليمنحها الصفاء الشاعري، وان لم يضف اليها استنباطات جديدة على صعيد الموضوع، الا انه منحها منطلقات وصفية كثيرة، تقوم على تحويل مظاهرعشقية بين الرجل والمرأة، حتى اصبحت المسالة الجنسية محركا لمخيلته ومبررا لفنه ومنفذا لشخصيته، وكانه في كل الاشياء التي صاغها لونيا، معبرة عن لحظات معاشة مستوحاة من صورية ذاتية مليئة بالذكريات.
اشارات ورموز تعبيرية متجلية في حقول ملونة اصطلاحية يطغى عليها الاحمر والبرتقالي والاصفر الغامق لتعكس نفسها على سطوح منتظمة ببنائها الزخرفي، فالفنان عمد الى خلق تركيبات متناظرة تامة التماسك والثبات، تبدو ذات قيمة لدى المشاهد، وتحمله على ادراك معنى تلك العلائق الخالصة التي تجمع المرأة بالرجل، في حالات العشق، نستمد منها الانشراح العميق الذي يعكسه هذا الكم من الفرح، وذلك من خلال التركيز على الكثير من المعاني التي تربطنا بمثل هذه العوالم الحلمية، فتجعلنا نتأملها بالاحساس الجمالي الانتقائي الذي يكتسب احيانا معنى خاصا ومغايرا، بعد ان يصبح مقصورا على حالات الادراك التي تؤثر في مشاعر اللذة في النفوس. الرموز التي حرص الفنان سعد علي للغور في اعماقها دون اللجوء الى المنظور والتظليل، ليحقق شعورا بالمتعة البصرية،ذابت في تأنيقيته التي اقتربت من فن الايقونات، بالرموز التوراتية والتقنيات القديمة، عن الموت والتجلي، والايمان والفداء، الا انها عن الفنان سعد علي صاغت رؤاه الداخلية باحلام ذات ملامح يشكل العنصر الجنسي محورها الاساس. ركز على وحدة الانسجام والايقاع والدقة لتخدم وظيفة رمزية اثارية لها سحرها الخاص.


محمد النوري ووسام الحداد رحلة للخط العربي في نابولي

 

موسى الخميسي
في قاعة سانتا ماريا لانوفا بالقصر التاريخي العريق في وسط مدينة نابولي الايطالية شهد جمهور غفير يتقدمه محافظ اقليم كامبانيا الجنوبي ورئيسة بلدية مدينة نابولي معرضا فنيا لكل من الفنانين العراقيين الخطاط محمد النوري والسيراميكي وسام الحداد.
الاول: وهو مدرس مادة الخط العربي في معهد الفنون الجميلة بالشارقة، ركز اهتمامه بالحفاظ على بنية الخط العربي والحرص على اتباع قواعده، وقد اتبع منهجا جديدا في نقل خطوطه الشعرية على سطح الكانفس ومعالجتها بالالوان الزيتية والكليرك، ليضع اساسيات المساحة الخلفية التي تندمج احيانا بنهايات وبدايات الحروف والكلمات، كالبني الغامق والاخضر الحار والاخضر البارد، والازرق الحار والازرق البارد، ويدعم هذا التقابل اللوني المبسط بتركيبات حروفية مسطحة وضعت في اتجاهات متعددة وكانها تطير من سطحها في اتجاهات متعددة، افقية، عمودية، محورية، او دائرية، ولعل هدف هذه الاتجاهات الاساسية هو الربط بين الموضوع الذي يتناوله القول القرآني الكريم او البيت الشعري والخلفية التي تتسم عادة بتدرجات اللون المشع، حيث تنتج عن ذلك، مساحات ذات بنية متشابكة، كانها بناء للوحة تكعيبية.
في مجال اختياره لهذه الطريقة مبتعدا عن السطوح الورقية، والاشتغال بتقنية تعتمد على وضع طبقات من اللون، يعود بعدها الفنان الى نزع قسم منها ليضع كلماته وبالوان جديدة مختلفة، فقد اصبحت اللوحات اشبه بالجدران القديمة التي مر عليها الزمن، حيث اصبحت اشبه بالواح الاعلانات التي احتفظت بآثار او اجزاء من الملصقات الدعائية القديمة، التي تعطي انطباعا ايهاميا بقدمها. انه فنان يمتلك اقتداراً كبيراً بصنعة الحرف، ويعرف كيف يتحكم بمادته لما يمتلكه من مهنية اكاديمية كفنان تشكيلي.
اما الفنان وسام الحداد فقد برزت اعماله السيراميكية الجديدة وكانها بناءات جدارية منسجمة متناغمة بتقشف لوني في وضوح العلاقة الداخلية التي تحمل الشكل الخارجي والكتابات القرآنية والابيات الشعرية التي تضمنها هذا الشكل الذي ترك جوانبه الخارجية سائبة لاعطاء تصور بانها لاتنتهي عند حد معين، وكانها تتوالد من بعضها البعض، في جو غنائي حالم وفي تتابع لامتناه من التوردات، ومن تتابع الخطوط العريضة الغنية بالاستنباطات والرؤى.
حرص الفنان على التدرجات اللونية واناقة الخطوط ، بيد ان معالجته للمساحات قد ادت بفضل الوسائل الاسلوبية الجديدة الى ايهام جديد بالعمق، فجاء نتاجه الفني اكثر تأنيقية، مع انه اصطبغ بشيء من المعالم الخشنة للتعبيرية، ليبدد صورة السيراميك التقليدية المتعارف عليها بالانسيابات والانحناءات المبسطة والمختزلة والتي تتسم بالهدوء والمرونة. لقد عمد الفنان الى تقابل المساحات المقطعة اصطلاحيا، وتحديد سمات الشكل الكلي، مكتشفا امكانية معالجة القطعة السيراميكية ومداها التشكيلي دون الاستعانة باية وسيلة ايهامية، وذلك عن طريق اضافة الوان غامقة مختلفة للمساحات المتجاورة والمتقابلة بهدف تحديد مختلف الاوضاع التي تشغلها. والتوصل الى هذا المدى الفضائي في قطعة السيراميك وخاصة القطع الجدارية التي لم يتم بناؤها فقط عن طريق التجربة الحسية مع مادة الطين بل عن طريق التفسير الذهني للقيمة التشكيلية لفضاء العمل وهو يعلق على الجدار.


(الهرب) وكشيش الحائز على عدد من الجوائز
 

ترجمة/ عادل العامل
حصل المخرج الفرنسي من اصل تونسي، والمولود عام 1960، عبد اللطيف كشيش، على العديد من الجوائز في العام الماضي تكريما له على فلمه (الهرب)، منها جائزة السيزار لافضل فلم وجائزة السيزار لافضل سيناريو وجائزة السيزار لافضل مخرج. كما حصلت الممثلة سارة فوريستيه على جائزة السيزار لافضل دور نسوي في هذا الفلم.
وقد صور كشيش الفلم قبل سنوات في شمال شرقي باريس، حيث تعتبر المنطقة مأوى الاجيال التي انجبتها حرب الاستقلال الجزائرية، والتي تعتبر من مناطق المشاكل في فرنسا، وقد جاء في مقابلة معه في بيليفيل شمالي باريس حيث يعيش، قوله: "لقد اردت ان اعرض طريقة مختلفة للنظر الى الفتيان والفتيات في منطقة المشاريع، فالكل يتحدث عن العنف في الضواحي، ومن المخزي اعتبارها مصدرا للمشاكل"، كما تقول جوان روبون في مقالها هذا.
لقد ظل المخرج يحاول ان ينجز "الهرب" لمدة 12 عاماً بمخطوطة جرى تطويرها، واعيد العمل بها، لتمثل في الاخر المشروع الاصلي : "لقد اردت ان اتحدث عن المسرح، وان انجز قصة حب، واتحدث عن الضواحي بطريقة مختلفة، خارج نطاق الزيجات الاجبارية او الجدل المتعلق بغطاء الراس" اشارة لموضوع الحجاب في المدارس الفرنسية العامة.
وقد اصبح الفلم مدارا للنقاش والنقد الجيد على صفحات الصحف اليومية. وراح كشيش وممثلوه الشباب والشابات يظهرون في المقاطعات وحول باريس ليحضروا جلسات استجواب مع الجمهور بعد العرض المسائي. ويستمتع كشيش بهذه اللقاءات. وراح يتحدث في ليلة اخرى، في سينما جاك تاتي بتريمبلي ـ ان ـ باريس، مصحوبا بالممثلة الشابة صابرينا عوازاني، الى حشد من النظارة حول متاعبه في انجاز الفلم، وحول الكيفية التي انخفضت بها ميزانيته المكونة من 3 مليون جنيه استرليني فجأة".
وقال كشيش: " لقد صورنا الفلم هنا تماما، ليس بعيدا عن "ستوديو فرنسا" وقد حشدت الممثلين من خلال نشر الملصقات في كل مكان، ومنحتني طاقتهم الشجاعة العزم على المضي قدما، واوجدت خيارا حدسيا لتصويرهم عن قرب على الفور، فاستخدمنا آلة تصوير تسند باليد من اجل العمل بصورة اسرع، بسبب مشاكل الميزانية واثبت ذلك انه يناسب الممثلين، فقد كان لدينا افراد طاقم اقل في اثناء التصوير، واستطعنا ان نكون اكثر حرية".
ولكن حتى مع وجود آلة تصوير تسند باليد، واشخاص غير محترفين، فان "الهرب" يتميز بنص مكتوب بدقة، والدراما تتجلى في سلسلة من المشاهد المحكمة، فكريمو الحالم (الذي يمثل دوره عثمان الخراز) والذي "لم يقرأ كتابا على الاطلاق في حياته" يقع تحت تاثير سحر ليديا التي تمثل دورها سارة فورستيه جارته وزميلته، الشقراء الصغيرة ذات الاسنان اللؤلؤية.
وتظهر ليديا رائعة بردائها الطويل، وهي تقوم بدور خادمة تتظاهر بانها سيدة في مسرحية "لعبة الحب" ، التي يتضمنها الفلم، ويكافح كريمو ضدها باعتباره "المهرج" وقد اعطاهما مدرسهما هذه القطعة، "لتمثيل مسرحية بمناسبة نهاية العام الدراسي" بسبب الطريقة التي تعالج بها الفروق الطبقية، موضحا ان الاغنياء يلعبون دور الفقراء، والفقراء يلعبون دور الاغنياء، والحب نفسه تكيفه الظروف الاجتماعية.
غير ان كريمو لا يستطيع ان يتصرف، ولا يستطيع ان ينفض عنه حياته الخاصة، فابوه في السجن، وصديقته السابقة تلاحقه، وزملاؤه في المدرسة يبدأون ينادونه بالمخنث، او باسوأ من ذلك.
وعندما يخبر ليديا بانه يرغب في موعد للقائها، تتردد، ويتسبب هذا في حدوث دراما.
فان "يهرب" يعني ان "يتجنب" وليديا، المراوغة البارعة، فتاة عصرية تريد ان تقضي وقتها، من دون أي ضغط من اندادها ، قبل ان تتخذ أي قرار. وتتجمع فريدا، التي تلعب دورها صابرينا عوازاني، مع صديقات واصدقاء لها فيما يشبه الكورس الاغريقي من حولها، بينما يحاول زملاء الخراز ايضا حمايته من هذه اللعبة الخطرة المسماة بالحب.

عن :  International
Herald tribune


احمد مختار يحاور العود الياباني  في أمسية (حوار الشرق)
 

على مسرح جامعة لندن وفي مركز الدراسات الشرقية والافريقية يقدم عازف العود المنفرد والمؤلف الموسيقي احمد مختار امسية بعنوان (حوار الشرق) وسوف تشترك معه (جنك يو) عازفة الـ(بي باـ العود الصيني) وجنكيو يودا عازفة الـ(بيوا ـ العود الياباني) وتعد جنكو يودا القادمة من اليابان اشهر عازفة في كل انحاء الصين واليابان وبلدان اسيا، حيث تقوم بجولة حول العالم بعدها ستقدم امسيات مشتركة مع مختار في كلا من اليابان وبلدان اسيوية اخرى، ويذكر ان العود الياباني والصيني يعود منشآهما الاصليان الى حضارة وادي الرافدين القديمة وكما يعتقد انهما انتقلا الى بلدان اسيا وتطورا حسب ثقافة تلك البلدان، حتى اصبح العود الياباني (بيوا) من اشهر الالات الموسيقية في بلدان يصل تعداد سكانها الى اكثر من مليار نسمة.
ووقع اختيار المؤسسة على احمد مختار ليمثل اصالة هذه الآلة للنجاحات التي حققها على مدى السنين الماضية ولعمق اصالة العزف والتقنية التي استقاها من عدة مدارس العود الشرقية حيث درس على يد اساتذة من العراق واذربيجان وبحث في المدرسة العربية القديمة.
وجاء على لسان رئيس قسم الموسيقى العالمية واستاذ الموسيقى اليابانية البروفسور ديفيد هيوز:
هؤلاء العازفون المعروفون الثلاثة يقدمون آلة العود بلغات مختلفة معبرة عن ثقافاتهم المتنوعة التي جاؤوا منها وبامسية توافقية فريدة تحدث اول مرة في العالم واوربا تحديدا كل عازف منفرد سوف يمثل آلته بتقديم قطع موسيقية من التراث واخرى حديثة معاصرة من مؤلفاته والتاليف الموسيقي نقطة اخرى تجمع الفنانين الثلاثة وتميزهم ، كما سوف يكون عزف مشترك للثلاثة في نهاية الحفل.
تقام الامسية على قاعة بروناي في جامعة لندن ـ سوس ، مساء الاربعاء القادم.


جاسم العبودي .. والعقل التركيبي في المسرح
 

د. فاضل خليل
إن الصفة التحليلية _ التركيبية التي يتمتع بها العبودي جعلته يبتكر السبل في اختيارات دروسه وتنوعها التي بواسطتها يمكن إيصال المعلومة بدقة إلى طلابه وممثليه. وحين طلب منا يوما وحسب منهجه، أن نقرأ بإمعان (سورة نوح) ليتسنى له شرحها لنا وتفسيره لها لاحقا باعتبارها درسا مهماً في كيفية العمل على كتابة سيناريو العرض المسرحي وحتى السينمائي. وفعلا قمنا بقراءتها واجبا عمليا و تمعنا بها جيدا وفق توجيهاته لنا، فوجدنا فيها درسا غاية في السهولة من حيث تسلسل أحداثها وما يصاحبها من تطور وتأزم وصولا إلى الذروة التي طالما أكد في الحديث عنها حين أعطاها أهمية اكبر من بقية الأحداث الصغيرة المساعدة في الوصول إلى النتائج، وهي في مقاييس النظام الستانسلافسكي يطلق عليها بـ (الهدف الأعلى) وأدبيا بـ (الذروة). وهو هنا يقدم شكلا متقدما من أشكال الإدراك المنطقي في تسلسل الأحداث وتتاليها كما يتطلبه المسرح أو السينما، لما تحمله من الوضوح الذي يقرب الفهم للدارسين والمهتمين بالفنون، وفي كيفية التعامل مع النصوص التي تحتاج إلى وضع السيناريو (التسلسل المنطقي) لها لأيمانه، " بأن المجربين هم أكثر الناس وعيا بالموروث "(1). وحين بدأ يفسر لنا السورة (بآياتها الكريمة) من بدايتها أو وسطها كان يؤكد لنا أنها فعلا وحسب اجتهاده كانت تقدم التسلسل المطلوب (المنطقي، الذي يحمل التبرير، والهدف) في كافة ما حملته من صور ومعان وتفسير. عبر تحليلها وتفكيكها ومن ثم في إعادة التركيب. ما هي إلا أنموذج عال المستوى لما نسعى إليه في التعريف بالـ(السكر بت) أو (السيناريو) في العمل المسرحي أو السينمائي. في البداية وبحكم المشاكسة التي نحملها - لم نأخذ الأمر على محمل الجد، حتى أواخر أيامنا حين فكرنا جيدا بعد نضوج مبكر عند بعضنا ورحنا نعيد التفكير بما قدمه لنا وجدنا انه على حق وان المثل الذي جاء به، يحمل معاني كبيرة وسامية تؤدي أغراضها بدقة ووضوح تام. أنا على سبيل المثال حين فكرت جديا بالموضوع شعرت بالفائدة الكبيرة، واليوم حين شرعت بالكتابة عن العبودي مخرجا وعلما من أعلام الفن والثقافة العراقية، وجدت لزاما علي وأمانة علمية أن استذكر هذا الموضوع كإضافة تحسب له في ابتكار موضوعاته لدروسه أو في طرح أفكاره. ولذلك سأدخل للموضوع من خلال تحليل ما ظل في ذهني من أفكاره في تناول الموضوع ومما تبقى في الذاكرة من أقواله وجزء اكبر من تجربتي الخاصة في العمل طالبا وفنيا وممثلا في المسرح. بدأت من الوصف والتحليل مما تبقى في الذاكرة من كلامه: أولا بعودتي إليها، باستخراج السورة من القرآن الكريم، وبالقراءة الكاملة لـ (سورة نوح)، أما ما سيتم شرحه لها من قبلي فيما بعد فهو محض افتراض واجتهاد شخصي فرضته على الصيغة التي وجهنا وفقها العبودي وبهداية من تعليماته لنا طلابا قبل ما يقرب من الأربعين عاما.
تبدأ المشكلة
ولابد من مشكلة في الدراما -: حين يقف النبي نوح(ص) خطيبا في قومه الذين أرسل إليهم مبشرا ونذيرا كحال اغلب المرسلين الى أقوامهم. كما في قوله تعالى:
" أنا أرسلنا نوحا إلى قومه , أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب اليم *" وهي اللقطة الأولى من السيناريو (الحركة الأولى في المسرحية)التي تخيلها العبودي ودعانا لتخيلها. أنه كان واقفا فوق مرتفع من الأرض خطيبا بقومه، يدعوهم الى اتباع تعاليم الرب والابتعاد عما يغضبه. وقد أتاهم لينذرهم ويدعوهم الى عبادة الله تعالى وتقواه، لتأتي اللقطة الثانية (الحركة الثانية في المسرحية) من دعوته لهم من قوله تعالى:
" قال يا قوم اني لكم نذير مبين * أن اعبدوا الله واتقوه واطيعون * ". وحين ابلغهم بما أرسل من اجله، وانتظر طويلا أن يصيبوا في ما أمروا به، لكنهم لم يكونوا قد استجابوا للأمر وانما زادوا إصرارا في غيهم. وأكثر هزيمة وعدم استجابة من دعواته في إصلاح أنفسهم باتجاه رضا الله (جل جلاله) وحين يئس من استجابتهم عاد إلى ربه:
" قال رب اني دعوت قومي ليلا ونهارا * فلم يزدهم دعاءي إلا فرارا * " وبين كيف انه دعاهم بمختلف الأشكال وبمختلف الدعوات، لكنه كيفما توجه إليهم في الدعوة بمختلف أشكالها، العلني و السري فلم يستجيبوا:
" ثم اني دعوتهم جهارا * ثم اني أعلنت لهم وأسررت لهم أسرارا * " وحتى حين ذكرهم بما حباهم الله به من نعم وأعاد على سمعهم سبل تقويمهم بمختلف أشكالها، لكنهم أيضا لم يتعظوا وسلكوا الطريق الخطأ الذي اختاروه، رغم علمهم انه لا يتفق ودعوة نوح و لا ترضي الله تعالى:
" والله جعل لكم الأرض بساطا * لتسلكوا منها سبلا فجاجا * "
وبعد أن يئس منهم، عاد الى ربه يخبره انه أوصل لهم أوامره لكنهم بدل أن يتعظوا، أوغلوا في عصيانهم واتبعوا هواهم الخاسر بل وزادوا في مكرهم:
" قال نوح رب انهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا * ومكروا مكرا كبارا * "(صدق الله العظيم)
اخترت أنموذجا لما كان يريده العبودي من مادته ودرسه لنا في منطقية التتابع للأحداث والأفعال وما يتبعها من سلسلة الأفعال المتصلة وصولا الى الهدف الأعلى. بل وزاد على ذلك فيما يتوجب سلوكه من قبل (المخرج والممثل والمصممين وبقية فريق العمل في المسرح) عندما يشرعون في تقديم أفكارهم واختبارها أمام الناس. وفي كل ما يمكن اكتشافه من اختيار، ابتداء من النص وحتى آخر لحظة من حياة المسرحية.

ــــــــــــــــ
الهوامش:
1) جاسم العبودي: المسرح الذي نريد، مجلة السينما، بغداد 1956، رئيس تحريرها: المخرج السينمائي كاميران حسني، أعداد قديمة مخزونة بعدم اعتناء ضاعت فيها بقية المعلومات المطلوب تدوينها للتوثيق.


فضاء مكتبة.. فضاء الكون

سعد محمد رحيم
أن تنشئ مكتبة في فالق الحصار، انهماك أخير من أجل فضيلة منتهكة.. احتمال الكوميديا في طرقات الجياع.. نَفَس براعم وأطفال في موسم متخم باليائسين والميتين.. جنوح قد يُقبل على مضض، أو لا، في عرف الشرطة، وفي حسابات رجال الأمن..
أن تعرض كتباً تعترض خطى المتعبين على رصيف القهر.. أن تعلن لمن لا يملك في جيبه ما يقيم أود أبنائه عن الماركسية والوجودية والعولمة والاستشراق والبنيوية والتفكيك والرواية وقصيدة النثر.. أن تقول للمصابين بفقر الدم والخوف واليأس اقرأوا، اختيار مفرط في تورطه إلى جانب ما يصعب تفسيره، ناهيك عن تسويغه..
مكتبة مؤيد سامي كانت جزءاً من المشهد الفانتازي لمدينة لم تعد تأبه بمقتضيات الهندسة والقلب.. مدينة (لم تكن، عراقياً، استثناءً) تعرت أكثر مما يجب تحت وطأة مناوشات سرية، لا أحد يعرف، على وجه الدقة، لماذا وكيف، ومَن، ومن أين؟. مدينة صارت تكابد أسفل سلم ماسلو، وتجد في الكتاب واللوحة والموسيقى بطراً يستدعي شديد الاستنكار، وكثيراً من الضحك.
فضاء المكتبة هو فضاء الكون، ومع المكتبة أنت مع بُعد خامس لا يكمِّل أبعاد المكان والزمان بل يحتويها، يوجزها.. بُعد لا تستطيع سبره بأي من الحواس الخمس. بُعد خفي، غير أنه هناك، في متناول الروح.. الروح المعذبة التي كانت، في مدينة مثل بعقوبة، وخلال سني التسعينيات المخربة، بأمس الحاجة، من أجل أن لا تختنق، إلى فضاء مكتبة.
إلى يمين المكتبة محل لبيع الثلج، وآخر للبقالة. إلى يسارها محل لتصليح الدراجات الهوائية.. في الجانب المقابل مطعم صغير، وبائع شاي، وثلاثة محال متجاورة، الأول لبيع العطور وماكياجات النساء، الثاني مغلق دائماً، يبدو أن أحدهم يتخذه مخزناً لبضاعة ما، الثالث لبيع الملابس المستعملة، فتصور أن تضع بين هذا الحشد المتنافر نجيب محفوظ وعبدالرحمن منيف وهمنغواي وجان بول سارتر وسيمون دي بوفوار وطه حسين وحسين مروة ونصر حامد أبو زيد والجاحظ وابن خلدون وإدوارد سعيد وتشومسكي وميشيل فوكو وجورج طرابيشي وآخرين من تلك الكوكبة المتأنقة الغريبة وهي تديم فوضى السوق وتمنحها طابعاً مثقفاً، ولكن بشكل فكه. وفي وسط الدكان/ المكتبة كان هناك جذع ضخم لنخلة تخترق السقف، وربما اعتزازاً ارتأى المالك إبقاء تلك النخلة التي يمكن صعودها من السطح ـ سيستفيد مؤيد، من الجذع، فيما بعد لتعليق الإعلانات عن الأسعار وما شابه. ولأن السقف لم يكن ملتحماً تماماً حول الجذع فإن ماء المطر سيجد طريقه، في أيام الشتاء، ليبلل الكتب التي بقيت على الأرض على الرغم من الرفوف التي أنشأها لاحقاً. وسيكون هذا الأمر مصدر مشكلة ومحنة يضطره، أي مؤيد، مع أسباب أخرى، للانتقال، بعد سنتين أو أكثر، إلى محل آخر يبعد عن الأول بمسافة مائة متر تقريباً.. مكان أكثر ملاءمة لاتخاذه مكتبة. إلى يمينها محل للكماليات النسائية، وإلى يسارها باب دار سكني، وأمامها إعدادية للدراسات الإسلامية.
حين جاء مؤيد بأكياس الجنفاص المملوءة بالكتب، ذات صباح خريفي من العام 1996، أحاطته وجوه مغرقة بالابتسام والدهشة، باعة ومتسكعون وفضوليون وأطفال ولصوص صغار وشطار عقد التسعينيات.. في البدء لم تكن هناك رفوف.. فرش مؤيد الكتب على الأرض على رصيف الدكان، وجلس على كرسي معدني قديم، يعلو وجهه وملابسه الغبار، وطوال الوقت كان يقابل ابتسامات الفضوليين والمناكدين والمشاغبين والمتعجبين والمعجبين بابتسامة عريضة مفعمة بالثقة والخجل والحيرة؛ هذه بضاعتي، من يشتري؟.
وكانت تلك هي البضاعة الوحيدة، في سوق ذلك الزمان، التي تستطيع أن تقول عنها واثقاً، أنها ليست مغشوشة.
لم يكن مؤيد سامي يصلح لشيء سوى لقراءة الكتب وكتابة الكتب وإدارة مكتبة.. كان العالم " نفسه وأفراد عائلته وأصدقاؤه ووطنه.. هو والآخرون" في عرفه، كتاباً لا بد من أن يقرأ في كل يوم، وفي كل ساعة، ويؤول في كل مرة بشكل مختلف، أوسع وأعمق.. كان مستقبل العالم في ظنه ومخياله كتاباً يُكتب.. كتاباً عظيماً لا حدود لشساعته.. كتاباً يلخص بهجة الوجود وألمه ومعناه دفعة واحدة.. كتاباً مستحيلاً، على كل جيل أن يحلم به ويسعى لكتابته.
لم يكن مؤيد سامي يصلح إلاّ لهذا، وفي اللحظة التي اختار فيها طريقاً آخر تحت وطأة الحاجة، وفي موسم اضطراب الأشياء، وغياب المنطق، اختار من دون أن يدري، أو كان يدري ولا خيار آخر لديه، سبيل الموت، ولكن؛ أي موت؟. أي موت مدوٍ فاضح عنيد كاشف لمأزقنا، وإخفاقنا، وغربتنا ونحن بين أهلينا، وشقائنا، وإفلاس أحلامنا، وبؤس وجودنا وهشاشته.
صارت المكتبة طوال سبع سنين واجهة غامضة، ولكن حية ومشاكسة لخلفية من الهواجس والانفعالات والأفكار والأماني والإحباطات والأحلام المتوهجة في نفوس ووعي جيل المحنة، من مثقفين وأشباه مثقفين وأدعياء ثقافة، وهواة قراءة، ودجالين، وأنصاف مخبولين، وسياسيين قدماء مترعين بالخيبات، ووكلاء أمن، ومتعلمين بدرجات متفاوتة، وطلاب جامعات، وطالبات يرفلن بالخجل، وأساتذة، ومتدينين بإفراط، ومتدينين باعتدال، وشكاكين، وملحدين، وواهمين، وأفاقين، وهلمجرا.. صارت المكتبة فضاء سردياً متداخلاً، وعراً، كثير التعاريج، لتجربة ذلك الجيل، في مدينة هي فسيفساء ديمغرافية مبرقشة، كما العراق (أو هي خلاصته)، في فاصلة صعبة، مشوشة، ضاجة بالتناقضات، بالأعاجيب، وبالوعود.
حتى ذلك الحين لم تكن تربطني بمؤيد علاقة صداقة قوية، فمؤيد كنت قد عرفته في شتاء العام 1994 بعد أن ناقشني حول قصة لي قرأتها في مهرجان مشترك بين اتحاد أدباء ديالى وكلية المعلمين، ولم نلتق عقب ذلك اليوم إلاّ لماماً، غير أن المكتبة كانت واقعة قرب الكراج الذي أستقل منه الحافلة التي تأخذني إلى حي الكاطون حيث كنت أسكن.. ولذا وفي غضون السنوات السبع، إذ بقيت المكتبة مفتوحة الباب، كنت ألتقي مؤيداً كل يوم تقريباً.. كل يوم أجلس هناك على كرسي، أطيل النظر في العنوانات، وأقلِّب الأوراق، وأقرأ، وأثرثر.. ويوماً بعد يوم كانت علاقتنا تترسخ أكثر وأكثر، تديم نسغها نقاشاتنا المتعمقة في قضايا السياسة والثقافة والأدب والفكر، وفي شؤون الكتب، وحيوات الكتّاب. وأحسب أن تلك النقاشات بالغة الخصوبة قد أمدتني لا بأفكار ومشاريع كتابات جديدة فحسب، وإنما بقوة معنوية عالية وإيمان أكيد بأهمية وضرورة أن أواصل الكتابة.. أن أكون كاتباً في هذا العالم.. لقد كرس فيَّ مؤيد القناعة بجدوى الكتابة.. بالجدوى الفذة للكتابة. وفي هذه الآونة قرأت عشرات ومئات الكتب القديمة والحديثة، إذ كان مؤيد يجازف بجلب الكتب الممنوعة وغير الممنوعة، واستنساخها. وأعترف أنني قرأت لكتّاب عرب وعالميين للمرة الأولى، وقرأت كتباً ما كانت تتاح لي فرصة قراءتها لولا تلك المكتبة/ مكتبة مؤيد سامي. وكان مؤيد قد ابتكر طريقة مثيرة في التعامل مع القراء وهي الاستعارة، أي أن بإمكان القارئ استعارة الكتاب مقابل مبلغ محدد يحسب على كل يوم، ويزداد كلما طالت مدة الاستعارة مما كان يجبر المستعيرين على إنهاء قراءة الكتب في فترات أقصر.
انقلبت المكتبة بمرور الزمن إلى ملتقى للمثقفين ومدعي الثقافة، ولعشاق الأدب والفكر والفن، وحتى السياسة، فأصبحت بؤرة مريبة من منظور رجل الأمن، وواحة فكر ثرية من منظور من له شغف بالثقافة والأدب، ومتنفساً منعشاً لمن يريد الكلام في السياسة ونقد الحكومة، ومكاناً غير اعتيادي يلتقي فيه غريبو الأطوار من وجهة نظر رجل الشارع الاعتيادي، ومساحة خطيرة بحسب رأي هؤلاء جميعاً.
تاريخ مكتبة مؤيد سامي هو تاريخ أشخاص وتحولات أفكارهم وقناعاتهم، في السنين التي سبقت سقوط نظام صدام حسين واحتلال العراق في 9 نيسان 2003.. تاريخ مدينة تصب هواجسها وأحلامها ومخاوفها وآلامها وتصوراتها عبر موشور الوعي لأولئك الأشخاص في حدود ذلك الدكان الذي لا تتعدى مساحته الثمانية أمتار مربعة. ومن خلال تقصي ورصد ذلك التاريخ الإشكالي الشائك يمكن الوقوع على تاريخ البلد كله/ العراق وهو يمور ويعتمل ويتفاعل في هذر وثرثرة وحوارات مرتادي المكتبة الذين صاروا أصدقاء بهذه الطريقة أو تلك، بهذه الدرجة أو تلك.. أصدقاء كانوا متجاوزين لضيق ومحدودية هوياتهم المذهبية والعرقية والعشائرية ومتشبثين بهويتهم الثقافية التي عنوانها العراق، والإنسانية.
في ذلك الفضاء الضيق بالمعيار الفيزياوي، والواسع سعة الدنيا بمعيار الثقافة نضجت أفكار وحصلت خصومات، وهاجت نفوس، وأينعت مشاريع أدبية وفكرية.. ومن خلال ذلك الفضاء عاد إلى القراءة مدمنو كتب ممن كانوا قد شفوا من دائها منذ زمن طويل، وعاد إلى الكتابة من كان قد كفر بجدواها منذ زمن طويل.. وصار يقرأ من لم يكن في أي يوم يطيق رؤية كتاب.. وفي ذلك الفضاء عرف طلبة الجامعات، لا سيما في أقسام الدراسات الإنسانية والأدبية، أهمية أن يعتنوا ببحوثهم، ووجد طلبة الدراسات العليا معيناً غنياً من المصادر والبحوث بين الرفوف المزدحمة بالكتب في المكتبة هذه، وكان بعضهم يجد ضالته في اختيار موضوع أطروحته، ويخطط لفصولها، هناك أيضاً.. وكان هذا الكائن المسمى مؤيد سامي بثقافته الموسوعية يلهم الجميع، ويدهش الجميع.
كان مؤيد يناقش المغرمين بالأدب القديم والأدب الحديث ويسهب مع المهتمين في تفاصيل الماركسية والوجودية والسريالية والانطباعية والبنيوية والحداثة وما بعد الحداثة والتفكيكية وتاريخ الفن، ويفصل في مسائل الدين من فقه وحديث وتفسير وتاريخ أديان، ويستعرض النظريات الخاصة بعلم الاقتصاد وعلم الاجتماع والأنثربولوجيا، وقواعد اللغة ونحوها، والشعر والعروض، الخ، الخ...
ذات يوم سألته؛ ألا تقول لي متى وكيف قرأت واستوعبت كل تلك الكتب؟!.
قال؛ سلخت الشطر الأعظم من حياتي وأنا أقرأ.
كان بإمكان مؤيد أن يكتب الكثير، لكنه لم يفعل إلا في القليل النادر وبدفع وتشجيع منّا، نحن أصدقاءه.. كان يقول ويكرر القول؛ أجد متعتي الكبرى في القراءة، لا في الكتابة. ويردد قول الفيلسوف الفرنسي جاستون باشلار؛ اللهم أعطنا كل صباح كتباً كفافنا.
قليلون في هذا العالم رددوا كلمة كتاب بقدر ما رددها مؤيد سامي.
ــــــــــــــــــــــ
* مدخل كتاب بعنوان "مكتبة مؤيد سامي"


التدحرجُ مما سوى السرّ

وضحى المسجّن*
* شاعرة من البحرين صدر لها ( أشيرُ فيغرقُ مائي ) .


أجسُّ طفولته
أتماثلُ للسرِّ

كَمْ فاتني أن أكونَ على جدولِ العشبِ رقراقةً
لا أُقايضُ قلبي لو اشتعل البردُ باللمسة الـ أخطأتني
وفي عتمةِ الصمتِ صاخبةً لتعثرِ أحزانه
لا أكون على قدرِ قامة قلبي
أدرّبُ بين يديه مواسمَ أجنحتي

***
حظه أن يجيءَ بريئاً .. بريئا
نحو أكثرنا رأفةً حين يبرأُ من زغبهِ

شاخصَ الحزنِ
ظِلُّ أصابعِه في مهبِّ التَّفتُّح
تلويحةٌ بين غرفةِ غيرتنا وممرِ الكلام
*******
تترامى على صدرِ زفرتهِ
أوجهٌ نسجتها ملائكةُ الحُبِّ
عمّدها اللعبُ الطفلُ
أوراده حضنُ مجمَرةٍ
شارداتٌ لجفنِ قيامته
حظه أن يجيءَ حفيفَ شبابيك مشدودةً
قمراً مائلاً يتعثّرُ بالبوح أو بالمواعيدِ
هل سامه الرب.. أم أنه لم يكن شاهداً ,
أو رقيباً على جسدٍ فائضٍ ؟
رّد عليه مواجعَ أوتاره .. ومضى
*********
حظه أن يجيءَ رذاذ قميصين
يقطفني من سواي ..
كلما كَبُرَت تحته الأرضُ
أتلفها بالجنون


فيلم ( سيد الحرب )

متابعة جودت جالي

في هذا الفيلم شخصيتان رئيسيتان هما (يوري أورلوف) و(الكلاشنكوف). الأول يبيع الثاني في جميع أنحاء العالم فهو سيد الحرب. يوري أورلوف أمريكي من أصل أوكراني .علاقته بهذا السلاح ليست علاقة مصير بقدر ماهي وصف لحالة، تجارة السلاح مهنة حقيرة ولكنها مربحة، ممنوع على المجتمعات ممارستها ولكن حكومات هذه المجتمعات تبيح لنفسها تلك الممارسة. يبدأ الفيلم بداية بارعة ذكية تبين بلقطات متتابعة مكونة من صور مركبة، سيرة حياة رصاصة كلاشنكوف وهي تمر بجميع مراحل تصنيعها الى أن تذهب الى التاجر والمشتري لتستقر أخيرا في جمجمة جندي حدث من ليبيريا . هذه اللقطات هي في الوقت نفسه سيرة حياة سيد الحرب (يوري) أبن صاحب مطعم في بروكلين أدعى أنه يهودي لكي يجذب الزبائن اليهود الذين يسكنون في الحي. بدأ يوري بالعمل في تجارة السلاح داخل الحي أولا ثم توسعت تجارته عالميا، وأزدهرت أعماله بعد سقوط جدار برلين. يصف السيناريو الذي كتبه آندرو نيكول بدقة فائقة تفكيك ترسانات الكتلة السوفيتية السابقة (المعسكر الأشتراكي) لصالح القوى الصاعدة الجديدة من أوكرانيا الى سيراليون وقد منح نيكولاس كيج شخصيته الهيئة الحقيرة لتاجر السلاح، التجرد من القيم والنباهة، الخصلة الأولى تسمح بأجراء مقارنة ساخرة بين شخصية تاجر الموت الجسور وبين شخصية الجنرال الأوكراني الفاسد الجبان الذي يبيع الدبابات وطائرات الهيلكوبتر بالجملة في حين يخشى من (الأخ الأكبر) السوفيتي أندريه بابتيست (مثل دوره أيمون ووكر) وبين شخصية رجل ليبري وهو رئيس خيالي ذو تركيبة سادية ومستنيرة ( في العالم الواقعي أصبح شارلس تايلور رئيسا لجمهورية أفريقيا الغربية الصغيرة وهو في الحقيقة أقل أثارة للسخرية مما أظهره عليه الفيلم). أما بالنسبة الى خصلة النباهة عند أورلوف فقد أظهرت لنا بدقة بعض الجوانب الدينامية في هذا القطاع الذي يجري التستر عليه عالميا . أن المخرج أندرو نيكول هاو عظيم للسينما الحديثة وقد أخرج فيلمه السابق (سيمون) متخيلا مصير نجم رقمي يظنه الجمهور شخصا حقيقيا. لقد وجد أسلوبا بالغ الخصوصية في أستخدام أداة الديجتال. مع هذه الحداثة نجد أيضا المسلمات الهوليوودية حاضرة أيضا بالثنائيات الشهيرة فألى جانب شخصية سيد الحرب أندرو نجد شخصية شقيقه الأخلاقي ( يمثل دوره جاريد ليتو). كذلك الغلبة الساحقة للبطل الهوليوودي على منافسه تاجر السلاح الذي ينتمي الى المدرسة القديمة (مدرسة الحرب الباردة) والذي لايلبث أن يختفي من الشاشة (مثل دوره الممثل البريطاني القدير أيان هولم). أخذ المخرج غداة الحرب على العراق بعرض السيناريو على الأستوديوهات وقد رأت الشركات فيه تثبيطا للروح الوطنية ولكنهم لم يقولوها له صراحة بل من خلال طلبهم أن يجعل الأحداث تدور من وجهة نظر تاجر السلاح بل من وجهة نظر الشرطي الذي يتعقب المجرمين (مثل دوره أيتان هاوك). أخيرا أتصل مدير أعمال نيكول بالمنتج الفرنسي فيليب روسيليه الذي تحمس لتمويل الفيلم، وقد ساعد قبول نيكولاس كيج العمل في الفيلم في أنجاحه الى حد بعيد . حين قابله المخرج وضع أمامه على المنضدة رشاش كلاشنكوف وبعد تردد من نيكولاس وأعتراض من المحيطين به قبل القيام بالدور. صوروا مشاهد في في جمهورية التشيك حيث أعارهم تاجر سلاح ماعنده من دبابات ومدافع للتصوير!! ثم طاروا الى ليبيا والى أفريقيا الجنوبية بطيارة ( أنتونوف ) نفسها التي ينقل بها السلاح الى الكونغو!

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة