اراء وافكار

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

مـــــــــع ذكرى تموز قـــد نعبر القنطرة

د. عدنان عاكف

أعادتني المقالة الافتتاحية لجريدة (المدى) في 24/12 وما أثارته من ردود (رد د. حسان عاكف والرد على الرد للسيد سهيل سامي) إلى أواسط التسعينيات، عندما فتحت مجلة (الثقافة الجديدة) صفحاتها "لأخذ ورد" بين عدد من الزملاء حول ثورة 14 تموز. وقد كانت بداية هذا الأخذ والرد فقرة وردت في مقالة لكاتب صديق، اثارت ردود فعل لدى مجموعة من الزملاء، وكان العبد الفقير واحداً منهم.
ما أشبه اليوم بالبارحة. حتى التعابير التي وردت في مقالة (المدى) عن الجزم العسكرية والنظام الدستوري المغدور، والعسكريين الجهلة والانقلاب الذي جر إلى انقلاب، هي نفسها التي وردت في مقالة صديقنا الأديب.
ولكن مع اختلاف واحد، وهو أن (الثقافة الجديدة) آنذاك كانت مجرد واسطة خير بين المتحاورين الإلداء، في حين إن (المدى)، ليست مجرد واسطة خير، بل هي المحرك والمساهم الرئيس في هذه الفعالية الحوارية.

لنتوقف عند مقالة السيد سامي. مع إنها تكاد تعلن بانها تتحدث باسم هيئة تحرير، غير إن هناك اختلافاً بين المقالتين. فإذا كانت الافتتاحية قد كتبت بأسلوب هادئ، محبوك ومفهوم، وتناولت قضايا حالية ملحة، نجد أن مقالة السيد سامي جاءت منفعلة ومتشنجة، وقد تضمنت العديد من الفقرات المشوشة وغير المفهومة، وكانت معنية بشخص من كانت ترد عليه أكثر مما هي معنية بما قاله. انتقد محاوره، لأنه تمسك بفقرة صغيرة من الافتتاحية وأهمل ما تبقى. لكنه ويا للعجب يقترف نفس الإثم، إذ أهمل أهم ما تناوله المحاور وصب غضبه عليه لأنه لم يقل ما كان يود سماعه هو. وقد أنهى مقالته وهو يتساءل بعصبية من نفذ صبره:
"لماذا لم يقرأ ما بين السطور؟ كيف لم يقرأ (المدى) من خلال افتتاحيات أخرى لكي يعرف ان جملة واحدة هنا أو هناك لا تشكل لحظة تحليل ولا نتيجة بل هي مجرد قنطرة عبور!؟".
كان السيد عاكف بالفعل معنياً بتلك الفقرة فقط. ربما كان الرجل متفقاً مع كل ما ورد في جسم الافتتاحية ولم يجد ما يستوجب الرد عليه سوى تلك الفقرة. فلم كل هذا العتاب؟ من الواضح أيضاً إن هذه الفقرة لم تكن بالنسبة له (وكذلك بالنسبة لي أيضا) مجرد جملة واحدة، ويمكن، كما يقول السيد سامي، استبدالها "عشرات المرات، من أجل أن نحيي فيه رمزياً عشرات الأموات، ونلمع من صورة ثورة تموز المباركة، وقادتها، وأهدافها، لكن من دون ان نغير شيئاً من النتيجة التاريخية لها". لا أظن بأننا سوف نتقدم خطوة واحدة نحو الحقيقة (في حين نحن مطالبون بعبور القنطرة) لو اعتمدنا أسلوب جبر الخواطر لإرضاء هذا أو ذاك، أو لتلميع هذا الوجه وتلك الصورة. فالحديث يدور عن تقييم جديد (حتى وإن ورد في فقرة واحدة) لأهم حدث في تاريخ العراق المعاصر، بحيث أن السيد سامي، ومن قبله هيئة تحرير (المدى) اعتبرته الشرارة التي اندلعت منها سلسلة الانقلابات العسكرية التي قادت البلاد إلى وضعها الحالي. لذا فإن أهمية تلك الفقرة لا تقتصر على تقييم ذلك الحدث التاريخي، بل تمتد لتشمل "النتيجة التاريخية" له.
الجانب الآخر لمدلولات تلك الفقرة يتعلق بوضعنا الراهن، واهميته لا تقل عن أهمية الجانب التاريخي، إن لم تكن أكبر. فالأمر يتعلق بمفهومنا عن أكثر التعابير التي تتردد على أسماعنا اليوم، مثل النظام الدستوري، الدستور، الديمقراطية، دور العسكر.. الخ. إن لم نجد قراءة الماضي موضوعياً، فلن نستطيع قراءة الحاضرة بتعقيداته، التي تكاد تكون غير قابلة للفهم.
أما دهشته من ان السيد عاكف لم يقرأ ما بين السطور، و"لم يقرأ (المدى) من خلال افتتاحيات أخرى.." فتثير الدهشة والذهول حقاً. كيف لم يقرأ افتتاحيات (المدى) إذا كان قد أشار إلى أنه ما كان ليتوقف عند تلك الفقرة التي تناولت ثورة تموز لو إنها لم تكن صادرة عن هيئة تحرير (المدى). تعالوا لنقرأ معاً هذه الجملة من مقالته: "إلا إن الغريب في الموضوع هو أن هذا التقييم جاء باسم "هيئة تحرير" الجريدة وفي افتتاحية لها، مما يعني أنه يعبر عن سياسة الجريدة ونهجها، وهو ما يتناقض مع ما يعرفه آلاف القراء عن التوجهات والمواقف الوطنية الديمقراطية والتقدمية للجريدة والدار التي تصدر عنها ورئيس تحريرها". شخصياً أضم صوتي إلى صوت السيد عاكف لأعبر عن دهشتي من الموقف الذي اتخذته الجريدة من ثورة تموز وقادتها. لا أنكر على (المدى) حقها المشروع في تقييم أي نظام، وبالصيغة التي تراها. ولكن من حقي بصفتي واحداً من آلاف قراء (المدى)، بل ومن بين أولئك القراء الذين ساهمت مؤسسة المدى، وعلى مدى أكثر من عقدين في بلورة تقييماتهم المختلفة كلياً عن التقييم الحالي، أن أتساءل عن أسباب هذا التغيير المفاجئ. والعجيب أن هذا التقييم المتسرع، والذي لم يدعم بأي تحليل موضوعي يأتي ضمن مقالة افتتاحية للجريدة طالبت فيها القوى السياسية المختلفة والمتصارعة أن تبني تحليلاتها على أساس التحليل السياسي الموضوعي، لأن "نتائج أي تحليل سياسي، مهما كانت قاسية، هي دليل عمل لتوسيع الرؤية السياسية، وشحذ الإرشادات البناءة". ولكن ما ورد عن ثورة تموز وقادتها كان مجرد "خبط لزق". ثم جاءت مقالة السيد سامي لتخلط المخبوط بالملزوق.
لقد وجهت الافتتاحية تهمتين أساسيتين إلى ثورة تموز (وهي بالطبع ليست بالتهم الجديدة). الأولى كونها ألغت المؤسسات الدستورية التي كانت قائمة، والثانية هي إنها شكلت سابقة خطرة لكونها فتحت الباب أمام الجزم العسكرية لتدخل مجال السياسة، مما قاد فيما بعد إلى الانقلابات المتتالية. لنحاول بشكل سريع أن نتبين حقيقة هاتين التهمتين:
لنخضع الفقرة تلك الى " التحليل السياسي " ، كما نصحتنا الافتتاحية، التي جاء فيها أيضا " ان الحكومات الملكية قد نكلت بمعارضيها، وأجبرتهم الى اللجوء الى العمل السري ... لينتهي الأمر إلى تحطيم النظام الدستوري بانقلاب عسكري ". هذه الجملة تحوي المتناقضين، اللذين لا يمكن أن يجمعهما إلا قضيب المغناطيس، بقطبيه السالب والموجب. كيف يمكن لنظام تنكل حكوماته المتعاقبة بقوى المعارضة وتدفعهم الى العمل السري، أن يكون نظاما دستوريا ؟ فاذا كان السيد سامي قد طالب بأن يدله أحد على نظام دستوري آخر شهده العراق بعد النظام " الدستوري الملكي " فهل هناك من يدلني على أي نظام دستوري في العالم تنكل فيه حكوماته المتعاقبة بقوى المعارضة طيلة عقود عديدة وتزج بهم في السجون والمعتقلات ". لا يوجد ثلج حار، ولا رجل طويل قصير، وإياك ان تبحث عن امرأة سمينة نحيفة، لأنك لن تجدها أبدا. لنتذكر كم عانينا خلال العقود الثلاثة المنصرمة، بسبب مثل هذه المحاولات العبثية، التي كان بعض الأشقاء العرب يسعون من خلالها الى الجمع بين الزعيم القومي البطل، والدكتاتور الذي يستخدم السلاح الكيمياوي ضد شعبه. ويجب أن لا يغيب عن بالنا ان الحديث يدور عن سياسة حكومات متعاقبة، وليس عن سلوك مؤقت فرضته ظروف استثنائية، يتم خلالها تجميد الدستور، كما يحدث حتى في أكثر الأنظمة الدستورية تطورا. هناك شروط ومتطلبات يجب توفرها كي يكتسب أي نظام شرعيته الدستورية. لست من المتخصصين في القوانين والدساتير، ولكن ما تعلمناه من السياسة ( وأنا من هواتها وليس من محترفيها ) ان ثالث هذه الشروط هي حرية الأفراد في العمل السياسي وحرية التنظيم الحزبي والنقابي، وما يترتب على ذلك من حرية التعبير عن الرأي وحرية الصحافة، وحرية الأقليات...ألخ. هذا ناهيك عن الشرطين الأساسيين الآخرين، وهما : العمل بالدستور والاحتكام اليه، والفصل بين السلطات، الذي ينبغي ان يضمن استقلال القضاء. وأي إخلال في أي من هذه الشروط، قد يحول النظام الدستوري الى مجرد لافتة تعلق في القاعة التي يجتمع فيها " نواب الشعب ". لم تكن مقالة السيد عاكف دفاعا عن ثورة تموز بقدر ما كانت محاولة لتقديم وصف موجز عن الطبيعة السياسية للنظام الملكي، وما اذا كانت تتوفر فيه الشروط التي ينبغي توفرها في أي نظام دستوري. وهذا بالذات ما أهمله السيد سامي كليا.
ان أهمية التأكيد على التمسك بتلك الشروط لا تقتصر على الماضي ، بقدر ما هي مهمة لوضعنا الراهن. اننا بحاجة الى مراجعة جادة مع النفس، والتوقف مليا عند بعض المفاهيم السياسية التي تعج بها اليوم وسائل الإعلام ، والتي بسبب كثرة ما نستخدمها وتتردد على مسامعنا أصبنا بظاهرة من الخداع الذاتي، نتصور بانها من الأمور البديهية التي يعرفها كل طفل في العراق. غير ان واقع الحال وكل ما حصل ويحصل يدل على عكس ذلك. عن أي نظام ديمقراطي دستوري يمكن أن يدور الحديث، في بلد يفتقر الى المؤسسات الضرورية القادرة على حماية المؤسسات الدستورية وحماية حقوق الأفراد وصيانة أمنهم؟ ان الانتخابات البرلمانية ليست هي الديمقراطية، حتى وان كانت حرة ونزيهة، إنما هي مجرد شرط مهم من مستلزمات الديمقراطية، فما بالك اذا كانت هذه الانتخابات قد شابها الكثير من الممارسات غير المشروعة ؟ وكتابة الدستور والمصادقة عليه، مهما كان متقدما، لا يعني قيام النظام الدستوري، ما لم تتوفر آليات تنظم تطبيقه ومراقبة مدى الالتزام به من قبل الجميع، وتوفر ضمانات قوية تكفل المحافظة على عدم تحوله الى كتاب مركون في المكاتب، كما هو الحال في الكثير من البلدان. أليس هذا جوهر ما كانت تريد افتتاحية ( المدى ) ان توصله الى " الديكة " المتصارعة في بغداد؟ ولكن الكثير من ساسة اليوم، وخاصة الذين أوصلتهم الأكثرية الطائفية والعرقية الى مكبرات الصوت وكراسي الحكم لا يترددون بالجزم ( من خلال سلوكهم اليومي ) بان صناديق الانتخابات خولتهم ليس فقط الانفراد بالسلطة السياسية، بل وامتلاك الدولة ومؤسساتها. وواقع حال العراق يؤكد على انهم يتصرفون اليوم وفق هذه الفلسفة، لذلك سخروا الدولة لخدمة مصالحهم الشخصية والحزبية. كيف لنا ان نقنع من يتباهى بانجاز الديمقراطية العراقية والنظام الدستوري باننا لا نزال بحاجة الى عبور أكثر من قنطرة كي نصل بأمان الى النظام الدستوري، اذا كنا نسمح لأنفسنا ان نصف النظام الملكي، الذي كان يتصف بكل تلك العورات بانه نظام دستوري ؟ ولنقلها بصراحة: ان من يذرف الدموع على " المؤسسات الدستورية " التي أباحت للحكومات المتعاقبة بكل تلك الممارسات القمعية، التي أطاحت بها ثورة تموز لا يحق له اليوم ان يكون داعية لاحترام الدستور. أي نظام دستوري هذا الذي أبقى البلاد نصف فترة وجوده في ظل الأحكام العرفية، أي حكم بدون قوانين وبدون دساتير؟
التهمة الثانية هي ان ثورة تموز شكلت سابقة خطيرة ، لانها كانت بداية لتدخل العسكريين في العمل السياسي. هذه ليست تهمة باطلة فحسب، بل افتراء واضح يسعى البعض من خلاله الى تضليل من يجهل تاريخ العراق قبل ثورة تموز. ومما يؤسف له انهم قد نجحوا بدرجة ما في مسعاهم، بحيث لا يتردد الكثيرون من الأخذ بها عن حسن نية. أدعو القارئ ان يعود الى المعلومات التي وردت في مقالة السيد عاكف ليرى كيف ان العسكريين كانوا الحكام الفعليين للعراق- بعد التاج البريطاني طبعا، وكيف كانت جزماتهم تدوس بكل سهولة على القوانين التي كانوا يسنونها بأنفسهم، وكيف كانوا يسخرون من " مجلس نوابهم ". واذا كان ما حدث في 14 تموز مجرد انقلاب عسكري فانه لم يشكل سابقة في تاريخ العراق، لأنه لم يكن الأول ، إذ سبقه أكثر من انقلاب، وأكثر من نزول للمصفحات والجزم العسكرية الى الشارع.
والآن ! هل من حقنا ان نتغافل عن كل هذه الوقائع ونصر على التمسك بهاتين التهمتين، بحجة حرية الفكر ؟
هل ان ما حدث في عام 1958 كان ثورة أم مجرد انقلاب ؟ اذا كانت المقالة الافتتاحية مع الخيار الثاني فان السيد سامي قد اختار تعبير " ثورة تموز المباركة "، بالرغم من كونه تعامل مع الأمر بنوع من الاستخفاف. ماذا يعني هذا ؟ هل تراجعت جريدة ( المدى ) عن رأيها ؟ لا أظن ذلك. كل ما في الأمر انه ينظر الى ما ورد عن الموقف من ثورة تموز بكونه أمراً ثانوياً ولا أهمية له، ويمكن إهماله كليا. وبين انه يرى امكانية استبدال الجملة التي وردت عن ثورة تموز عشرات المرات. وبالرغم من تأكيده على ان " ثورة تموز أفضت إلى 8 شباط، والأخيرة أفضت إلى 18 تشرين الثاني، وهذه إلى 17 تموز 1968، والأخيرة إلى صدام حسين "، تجده يعترف بعبثية هذا المنطق ويؤكد بأنها : " ليست هذه طريقة في التحليل بالطبع... ". أيعقل هذا الكلام ؟ لكنك استخدمتها يا سيدي في تقييم ثورة تموز،واستخدمتها افتتاحية ( المدى ) في الفقرة التي أثارت كل هذا الجدل. أليست هذه الطريقة في التحليل هي التي دفعت بالكثيرين الى اعتبار ثورة تموز سبباً لكل ما عاناه الشعب العراقي خلال العقود الماضية، وان دكتاتورية صدام هي التي دفعتهم للترحم على ديمقراطية نوري السعيد؟ هل يستبعد السيد سامي مجيء ذلك اليوم الذي سوف تترحم فيه شرائح واسعة من الناس على دكتاتورية صدام نتيجة لكل ما جرى ويجري الآن؟ فاذا كانت لدينا قوة النظر التي سمحت لنا ان نلاحظ العلاقة بين ثورة تموز ونظام صدام، بالرغم من الحلقات العديدة التي تفصل بينهما، فالأولى بنا ان نلاحظ العلاقة بين صدام والاحتلال الأمريكي، وما نتج عنه. ثم أليست هي الفقرة التي تريد منا استخدامها كقنطرة للعبور ؟ قد ننجح بالعبور، ولكن الى أين ؟؟؟
لنقرأ هذه الفقرة القصيرة من مقالة السيد سامي: " الحقيقة كل الحقيقة إننا لم ندافع عن النظام الدستوري الملكي.. لكن ليدلنا أحد على أنظمة دستورية جاءت بعد سقوط هذا النظام، ثم ليدلنا أين هي الإبل.. وأين تورد؟ "
كنت أتمنى ان السيد سامي، بعد ان عبرنا القنطرة، سيوصلنا الى الإبل والمكان الذي تورد به، ما دام ان السيد عاكف قد أخفق في مهمته. أما ان يبحث عن من يدله على أنظمة دستورية جاءت بعد 1958، فهو أمر يستوجب التوقف عنده. يبدو لي ان الكاتب يتعامل هنا وفق المثل الشعبي " اللي شاف الموت يرضى بالصخونة ". أي منطق هذا ؟ نعم، انه غير مقبول، ولكن ليس أمامنا سوى الاعتراف بانه لم يعد بالغريب على الإطلاق، بل انتشر لدى أوساط واسعة من العراقيين، بعد خيبات الأمل المتعددة التي توالت عليهم. ولكن أيحق لجريدة مثل ( المدى ) أن تقبل به ؟ أنا شخصيا لا أتمنى لها ذلك. ان منطق القبول بأحسن الشرور خطر جدا، والتهاون بقبول الشر الأصغر سيقودنا بالتدريج بتقبله طواعية على انه الخير، ما دام الشر الأكبر جاثم أمام أعيننا. ويبدو لي ان بعض القوى السياسية الفاعلة اليوم في العراق تتبنى موقفاً كهذا. لقد عرف العراقيون ما لم يعانه شعب في هذا العصر. لذلك ستكون بعض الخروقات الدستورية وبعض التصرفات غير الإنسانية مقبولة ما دامت تحدث بمقياس أقل نسبيا. سيقبل العراقيون بانتخابات مزورة ما داموا قد حرموا من الانتخابات طيلة حياتهم، فانتخابات مزورة أفضل من عدم وجود أي انتخابات. أليس هذا هو المنطق الذي لجأ اليه احد المسؤولين الكبار عن حماية الأمن ، وهو يتفاخر أمام الصحفيين بالديمقراطية العراقية الجديدة عندما طمأنهم ، بأن التعذيب لم يطل جميع المعتقلين في سجن الجادرية، وان الذين تعرضوا فعليا للتعذيب سبعة فقط لا غير، وهو أمر لا يستحق كل هذه الضجة. ومن أجل ان يثبت تمسكه بالممارسة الديمقراطية، ومن أجل ان يثبت إنسانية وسائل التعذيب المتبعة اليوم في العراق الديمقراطي أعلن ( بالصوت والصورة ) ان آثار التعذيب التي تبدو على أجسام هؤلاء المعتقلين تافهة وبسيطة، مضيفا وبالحرف " ولم يكن هناك قتل وقطع رؤوس ". هذا هو منطق العدل؛ فما دام نظام صدام كان يقطع رؤوس السجناء والمعتقلين، فان كل ما دون ذلك يهون ويمكن تقبله، ولا يمكن اعتباره انتهاكاً لحقوق الإنسان. وما دام قد اصبح لنا دستور وبرلمان، فلن يكون هناك مشكلة لو حدث تزوير في الانتخابات هنا أو هناك. وسبعة معتقلين هنا، وألف هناك أفضل ألف مرة من اعتقال عشرات الآلاف كما كان يحدث في الماضي. وتعذيب يترك آثاره على أجساد المعتقلين، أفضل بألف مرة من تعذيب ينتج عنه معتقلون بلا رؤوس وأجساد بلا أسماء، و مقابر جماعية.....
ليسمح لي السيد سامي في الأخير أن أتوقف عند هذه الفقرة القصيرة التي خاطب بها السيد عاكف : " ليخبرنا: هل دافعت افتتاحية (المدى) عن نوري السعيد حتى ينكل به كل هذا التنكيل غير المفيد؟ ". السيد سامي على حق؛ فلا يحق لمن منح الحق لنفسه أن يعبر عن وجهة نظره بكل حرية، أن ينكل بأحد، حتى وان كان هذا الأحد،
من ارتبط باسمه النظام الملكي " الدستوري "، أكثر مما ارتبط بأسماء الملوك الذين تعاقبوا على التاج العراقي، وكان رئيسا للكثير من الحكومات التي، بشهادة ( المدى )، نكلت بالقوى السياسية المعارضة " كل ذلك التنكيل غير المفيد ". ورد اسم نوري السعيد مرتين. في المرة الأولى عندما استشهد بفقرة من كلامه والثانية عندما ذكر ان السعيد شكل الوزارة 14 مرة. فان كان هذا هو المقصود " بالتنكيل غير المفيد " فليكن. ولكن من حقنا أن نتمنى لو ان السيد سامي قد أبقى قليلا من نزعته الديمقراطية المتسامحة هذه وهو يتحدث عن حماقات قادة ثورة تموز، وحماقات العديد من القوى السياسية. أنا أتفق معه بكوننا لا نستطيع ان ندافع عن تاريخنا " حتى النهاية من دون أن نضحك على أنفسنا ". ولكن ما قدمه الكاتب لم يكن إعادة قراءة علمية وحكيمة لهذا التاريخ، بحيث تجعلنا نتوقف عن الضحك على أنفسنا. ان ما قدمه ليس أكثر من صورة كاريكاتورية مشوهة، ونظرة ساخرة بحق تاريخنا. كل نضالنا وشعاراتنا كانت مجرد وهم وضلال. ألا يعتقد الكاتب بأن العراقيين لا يستحقون مثل هذه المعاملة القاسية التي يمكن أن تقود الى اليأس والتشاؤم في زمن أصبح فيه أشد المتفائلين يعبرون فيه علنا عن خيبة أملهم بكل ما حدث خلال السنوات الثلاث الماضية. حتى أكثر المناضلين ثورية، وأكثرهم تفاؤلا، يبقون بحاجة ماسة الى ما يشد من عزائمهم ويقوي من معنوياتهم. لماذا علينا ان نجلد أنفسنا بهذه القسوة الموجعة ؟ لقد شهد العراق عقودا من الاقتتال الداخلي والخارجي، وكانت ثورة تموز ( بالرغم من كل سلبياتها وإخفاقاتها ) هي القضية التي التفت حولها غالبية العراقيين، واعتبر يوم 14 تموز عيداً وطنياً للشعب. هل يوجد على هذه الأرض شعب يتخلى عن عيده الوطني ؟ هل يوجد على هذه الأرض شعب بدون عيد وطني ؟ نعم لقد أجهضت الثورة قبل ان تحقق أهدافها، وهناك الكثير من الممارسات الخاطئة ( وحتى القاتلة ) التي قام بها قادة الثورة والأحزاب السياسية على حد سواء. ولكن مع ذلك كانت لها إنجازاتها الكبيرة، وطموحاتها الإنسانية النبيلة أيضا. فلماذا لا نحافظ على الذكرى الطيبة لهذا الحدث، كرمز للم الشمل في هذا الزمن الذي لم يعد فيه الحديث عن الطائفة والقومية مجديا، فرحنا نتحدث عن القبيلة والعشيرة والأفخاذ. نحتفظ بها كبصيص نور، عله يساعدنا على تلمس خطانا ونحن نعبر القنطرة الى بر الأمان ؟
قبل ثورة تموز في العراق كانت ثورة يوليو في مصر. وكما في العراق، جعل المصريون منها عيدا وطنيا للشعب المصري. بعد وفاة عبد الناصر بدأت مرحلة القتل البطيء لهذه الثورة، حتى كادت قوى الانفتاح ان تجهز على جميع آثارها. مع ذلك لا تزال مصر الشعبية والرسمية تحتفل بعيدها الوطني...


العبـــــــــور بشـــــــــــــروط!
 

سهيل سامي

برد الدكتور حسان عاكف على جملة واحدة اقتطعها من سياق افتتاحية (المدى) لعدد 14 كانون الأول الماضي، وردي الصغير عليه، وبدخول الدكتور عدنان عاكف على خط النزاع (مقالته المنشورة هنا) تكون الافتتاحية نفسها قد دخلت إلى أفق آخر، ولم يعد يظهر منها غير جملة واحدة جرى نفخها لتصبح دليلاً جرمياً على خيانة ثورة 14 تموز، والنيل منها، ومن قادتها، والسخرية من شعارات قواها السياسية على حد تعبير حسان عاكف.
اليس هذا كثيراً جداً، وتعسفياً جداً، على جملة واحدة، حررت من سياقها وأعطي لها نوابض ومعدات أخرى غير وظيفتها في مقال افتتاحي له أهداف محددة؟
ولمزيد من المعلومات أن هذه الجملة جاءت في سياق مثال المعني به هو الحاضر، بالأحرى القادة السياسيون للحاضر، بعد أن قام نظراؤهم في الماضي بتحطيم الحياة المدنية العراقية، ولاسيما العسكريون منهم.
ما أثارني في مقالة حسان حقاً، فضلاً عن الاقتطاع الجائر، استغرابها من ان تكون (المدى) تتبنى طرحاً غريباً عليها، مما يضع السيد حسان في منزلة الرقيب والحريص على خط (المدى).. الرقيب الذي قبض تواً على (جملة) شاردة بعيدة عن توقعاته ومبادئه السياسية.
والحال إنني لم آخذ بجدية اعتراضاته وأنا أرد عليه، فهو يلقي القبض على جملة واحدة، في حين أنه يلتقي مع (المدى)، أو حتى معي، في النهايات، أي عندما يتطلب الأمر أن نقرر فيه اختياراتنا السياسية، من هنا نصحته أن يعبر (جملة) الخلاف / القنطرة.
الآن، وأنا أقرأ مقالة الدكتور عدنان عاكف، أشعر أن الأخوين عاكف لن يعبرا هذه الجملة / القنطرة، إلا بعد أن أسلم معهما أن ثورة تموز ليست انقلاباً، وان النظام الملكي ليس دستورياً، وأن تلك الجملة الخلافية هي حكم قيمة على مجمل التاريخ السياسي العراقي، وأن علي أن أرفعها، لكي انسجم معهما، ومع (المدى) ومع التقدميين، ثوار 14 تموز.
هذه الشروط تليق حقاً بالكثير من التقدميين الذين عرفتهم في شبابي وأدرت ظهري لهم، فعلى الرغم من أنهم دعاة جبهات وطنية على مر العصور، لا يستطيعون احتمال جمل اعتراضية خلافية، صغيرة كانت أم كبيرة، ما دامت تمس خبرتهم الخاصة، أو تثير خللاً بأحكامهم. إنها تصبح حجر عثرة امام التقدم، وتعيق الاتفاق، وتمنع العبور. تقدميون مخلصون لماض دخل إلى أفق تاريخي، وبات خارج التجربة الحسية هنا والآن، ولا يعرفون من حاضرهم غير ما اتفقوا عليه مسبقاً.
لا مناص إذن من ان يكون المرء جدياً مع الأخوين عاكف، ويعلن على المكشوف موقفه من التاريخ السياسي العراقي بدلاً من أن يضع نفسه موضع استخدام سيئ في مماحكة قائمة على جملة واحدة.
سأنطلق من هدف الافتتاحية الصريح. فالهدف الأصلي من جعل الأنظمة السياسية أمثلة هو الوصول إلى النتيجة الآتية: كل نظام سياسي يصنع معارضة على صورته الخاصة بواسطة سلوكه السياسي. المطلوب نظام لا يصنع معارضة تدخل إلى السراديب ولا تتعلم شيئاً غير الضغائن وروح التآمر ثم تعيد إنتاج الأسلوب نفسه الذي استخدم ضدها.
يتوفر في هذا الهدف بداغوجيا سياسية معنية بالحاضر، لكنه يضم موقفاً من تاريخنا السياسي الاستبدادي، وليس موقفاً من ثورة 14 تموز وحدها، فقد حكمتنا أنظمة دكتاتورة وفاشية حتى الآن. لا تاريخ للديمقراطية في العراق، هناك تاريخ للاستبداد والاضطهاد مقابل تاريخ للنضال والموت والشهادة. والمثير في الأمر أن التاريخ الثاني مسيس جداً على نحو يستدعينا تفكيكه وعزل شهدائه ما بين الشياطين والملائكة، إذا ما فكرنا بطريقة سياسية مباشرة.
فحتى التواريخ سيّست بقوة تجريدية عالية على نحو باتت تتداعي في أذهان الناس على أساس من انتماءاتهم السياسية وليس بما تمثله حقاً في أي تاريخ موضوعي، أو ما نستطيع أن نطلق عليه كذلك. إن 50 عاماً من الدكتاتوريات والفاشية غطت على تاريخنا السياسي، وغطت حتى على تاريخ عيدنا الوطني. فإذا ما دققنا بالأمر ملياً، فسنجد أنه لا عيد وطني واحد في العراق حقاً، فالعراق نفسه لم يعد واحداً.
هذه النتيجة هي موضوع تجربة وليس تأمل مبادئ متعالية سامية. موضوع مأزق وطني يحتاج إلى نضال سياسي وثقافي ذي طبيعة وحدوية لا يوفرها الحاضر للأسف.
هل كان النظام الملكي دستورياً؟ نعم.. لكنه خان دستوره مئات المرات على نحو ظلت أنظمة الحكم بعده تخون دساتيرها أو تفضل العمل بدونها، بما جعل النضال السياسي يخوض في مستنقعات الجهل في أبسط مقومات الحياة الإنسانية الحرة، وحوّله إلى أشبه بطاحونة تعيد إنتاج دكتاتوريات جديدة.
هل وفرت ثورة 14 تموز أبسط أرضية للنمو الديمقراطي؟ أبداً. إن قادة تموز أنقلبوا على تموز وعلى قائد الثورة، وهم أنفسهم الذين أعدموا القائد العام للقوات المسلحة ورفاقه من دون محاكمة. إن من ينسى الحقائق، ويؤيد العسكريين مغطياً إياهم باسم (الثورة) الكبير سيجد نفسه يؤيد انظمة تحكمها الكارزمات العسكرية والمدنية التي تحكم باسم الإلهام الروحي.. وكم نحن قريبون اليوم من الناحية الفعلية من الملهمين الروحيين حتى بعد كارثة الاحتلال!
في الوقت الذي طور العسكريون وتوائمهم من الفاشيين نزعة ارادوية قاسية، سعى التقدميون والديمقراطيون العراقيون دائماً إلى أن تكون حصتهم صغيرة، لأنهم ضللوا أنفسهم بموضوعية كريهة قائمة على قبول المعطيات وليس إعادة بنائها بروح النقد الفعال الذي لا يخشى من نتائجه.
كلما انتصر الفاشيون وسراق الثورات والمجموعات الهائلة لقوى ما قبل الدولة بسبب بسالتهم وجنونهم وقدرتهم على الغدر، لم يجد التقدميون في جعبتهم غير الحرص على الحوادث السعيدة في التاريخ.
ويا لها من دورة تتكرر، ويا لها من تواريخ تدخل إلى أفقها التاريخي ولا يعود بالإمكان انقاذها، فإذا بالمخلصين يتنادون لإنقاذها على الورق!
دعوني أقول إنني معني في ما كتبت بالحاضر -
هذا الحاضر الذي بقدر ما يوفر وعوداً ممتازة، يوفر أسوأ أنواع الخراب.. وبقدر ما أدعو إلى التحرر من الماضي، لن أدعو أبداً إلى الانبطاح أمام الحاضر.
ان تقييم ثورة 14 تموز يحتاج الى مقال منفصل تماماً.اشير فقط الى مقال نشرته في العدد الاول من المدى تحدثت فيه عن الثورة وقائد الثورة من دون ان اخل بتطلعاتي الخاصة وتطلعات جيلي الى الحرية .
(مع ذكرى تموز قد نعبر القنطرة) هذا هو عنوان مقالة السيد عدنان عاكف.. إن الأمر يتعلق بذكرى.. ودائماً يتعلق الأمر بذكرى بالنسبة لتقدميين أخلصوا لحادث سعيد أكثر من إخلاصهم لتجربتهم الحسية المليئة بالطراد والخوف والهزائم. تقدميون يصلحون لإثارة المماحكات أكثر من التقدم بأفكار جديدة.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة