تحقيقات

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

(الورقة الثالثـــة) الضيـاع في حفـر الباطن -صكوك الهلاك-

  • كان هاجسنا الجمعي يتحسس أهوال الكارثة من تسارع البيانات والتصريحات وزحف الترسانة الكونية نحو مياه الخليج
  • صباحات عديدة هشمها البرد وانا ألوك فيها بمعجزات

بغداد/عبد الكريم العبيدي

انا ملم بهذا الضياع، ازعم انني حفظت اهواله.
اتباله احيانا، خصوصا في لحظات الغروب، كي ادع نوبته تتوهم، تأخذ حصتها الكافية من التفكك ثم تمضي في تقهقرها المفضوح، وقبل ان تختفي احدق، من اسفل، في ذلك التلاشي المسحور، ففي النهاية لا بد للثور المطعون من ان يحدق في وجه طاعنه، وسيحفظ المصارع حتما تلك النظرة، لن ينساها بتاتا..
ينتهي صخب الحفلات الليليلة دائما بنوع من الملل الوقتي والمكرر... الاشباح التي كانت ترقص وتغني وتكرع الكؤوس تتفكك شراكتها الطارئة حالما ينتهي مكوك حوارها الليلي، وتبدأ صفة التوحد بالاختفاء عن مشاعر كانت مهووسة بالانتشاء ولكنها جفت الان وبردت، فلم يعد لذلك الالتصاق من معنى.

ولكن ومع كل غروب يكون ذلك الملل قد خاب، وتكون رغباتنا التي بددها خواء النها قد تفتحت واتحدت، وتصبح قضية اعادة امسية من اماسينا المصورة ربما لها ما يبررها.
لكنني، مع هذا لم اخضع كثيرا الى ذلك النوع من الاعادة، كنت اختفي من حين الى آخر، ابحث عن متاهات جديدة، وعن علاقات هامشية مع اصدقاء طارئين اتعرف عليهم في اماكن مختلفة ثم اكتشف انني اكثرهم ضياعا، وان ما افتقده يبقى دائما في مكان آخر.
وفي آخر لقاء لي في المقبرة اخبرت صاحبي المعاق بأنني تسلمت كتاب الالتحاق منذ ثلاثة ايام.
حدق في وجهي على ضوء المصباح، ثم قال: ابق معي! لم اجبه، ولكنني سألته، من دونما سبب واضح، عن غياب "ملك الهروب" في تلك الليلة.
-اوه، اختفى.. هذا هو ديدنه
لم يتحسس سؤالي، ظل كعادته يطلق النكات ويشرب ويغني، ولكنه التفت فجأة الى الجهة اليمنى من المقبرة، ثم عاود الغناء بارتباك، وبدا متضايقا.
التفت، فشاهدت ثلاثة اشباح تركض بين القبور، في اقصى الطرف الجنوبي.. اندهشت، ولاحظت ان صاحبي لم يكترث بهم كثيرا، برغم التشنج الذي طرأ على أدائه.
سألته: من هؤلاء؟
لم يجب.. ملأ كأسه بارتباك وشربه بسرعة.
-اذن.. دفن احد الاطفال في نهار هذا اليوم.. قالها وكأنه يريد ان يفشي سرا.
*صحت مندهشا: ماذا؟!
لم يجب ايضا.. مسك بالقنينة هذه المرة وشرب نصفها، شعرت انه تحول الى مخلوق آخر، وان شيئا ما يؤرقه، ويخشى ان يبوح به.. قلت: هل ان..
قاطعني بصوت غليظ.. اسمع.. هاتان ساحرتان تزوران المقبرة ليلا، حالما تعلمان بدفن احد الاطفال حديثي الولادة.
*ماذا؟!.. ساحرتان ام ثلاث؟.. انزعج من سؤالي، ثم اضاف: ساحرتان تمسك كل واحدة منهن بطرف قصبة طويلة ممتدة بين ساقيها، ثم يشرعن بالجري بين القبور كما لو ان كل واحدة منهن تمتطي جوادا.
لماذا؟ صمت طويلا ثم اضاف:
-قبل الفجر يقمن بنبش القبر، واخراج الجثة.
لم أسأله، برغم ان ذهولي كان بحجم الصاعقة، كان يحدث نفسه على ابعد تقدير، كان يريد ان يشاركهن النبش لاخراج جثته الضائعة، اضاف
-يهشمن الجمجمة، تصور يهشمن الجمجمة لاستخراج المخ.. المخ.. مادة نادرة في اعمال السحر.. السحر ها ها..
بدأت الاشباح الثلاثة تقترب، وشعر صاحبي انني أتأهب لملاقاتهم..
قال: لا تخف،
*ولكن كيف، ومن ادراك بأمرهن؟!.. صرخت في وجهه ونهضت..
مسكني من ساقي وضحك، قال: لا تخف، انا اعمل معهن.. أوفر لهن الحماية!
*مـ ..... اذا؟!
نعم والشبح الثالث الذي رأيته هو ملك الهروب.. صاحبك، ها... تخلصت منه، وركضت بسرعة باتجاه شمال المقبرة، ولكنني سمعته يقطع قهقهته، من حين لآخر مردداً: ابق معي افضل، لا تلتحق، سانقذك من الموت كما انقذتني ها..
الفجر الذي كان يحثني على العودة من صالات الملاهي مات. انغمر الان بأنفاس فجر آخر تسلل، الى غرفتي فوجدني يقظا، ثم لازمني من طاسة الماء التي تسكبها امي من خلفي الى معسكر الدريهمية.
رأيت اطراف اشجار الحدائق للمرة الاولى بعد ما حسبتها رؤوس طناطل تنط من خلف اسيجة البيوت.. ورأيت الازقة التي افتقدتها كثيرا، وشاهدت الارصفة والحفر التي كثيرا ما وقعت فيها.
في ذلك الفجر، كان انتمائي الهزيل الى الخارج يزداد سوءا.. وكنت اظن، وكان ظني صحيحا، انني بدأت اخطو نحو قلب الضياع بالاتجاه الصحيح.
كان البرد يذكرني بنهايات الاجازات الدورية الشحيحة، بمئات من حالات الالتحاق القسري الى خنادق الموت التي ما زالت لسعاتها حية.. وكانت اصوات اذان الفجر المنبعثة من المساجد تمثل لي تراتيل للعزاء، تنشدها جوقات غير مرئية في موكب تشييعي الرسمي.
عبرت عدة شوارع فرعية وازقة ضيقة وجسور، ووصلت الى الشارع الرئيس الذي بدا خاليا من حركة السير وموحشا، ولكن عددا من العمال والكسبة تجمعوا قربي بعد حين وبدأوا اشبه بفصيل من الجنود من كثرة الملابس العسكرية التي كانوا يرتدونها.
توقفت اول سيارة اجرة، وصاح احد ركابها: الى ساحة سعد، اصعد.. تدافع العمال بسرعة للحصول على مقعد فيها.. ثم توقفت سيارة ثانية وثالثة، ولكني بقيت متسمرا في مكاني.
-تدافع معهم، وإلا بقيت الى الظهر، صاح احد العمال من نافذة السيارة.
كان ذلك التدافع، في تلك الساعة المبكرة يمثل لي فصلا آخر من فصول الالم التي اعتاد عليها العمال والكسبة على ما يبدو.. وكان بالفعل هو السبيل الوحيد لحصولي على نصف مقعد تكرم به احد الركاب...
في داخل السيارة شعرت بدفء لذيذ، ولكنني لم انعم به كثيرا، فسرعان ما لاحظت ان جميع الركاب رقدوا الى النوم وراحوا يتمايلون يمنة ويسرة، اما الراكب الذي تبرع لي بنصف مقعده فقد نام على كتفي وراح يشخر بقوة.
تداخلت اصوات الشخير مع روائح الاجساد، فشعرت بالاختناق واضطررت اخيرا الى فتح النافذة واللجوء الى الهواء البارد.
-يله عيني بسرعة.. يله اخوان، هاي ساحة سعد
هكذا كان على السائق، يوميا ان يوقظ ركابه الميتين، هذا ما اكتشفته فيما بعد!

بدت ساحة سعد مكتظة بالبائعات والجنود والكسبة، ولم الحظ سيارة واحدة في كراج بغداد القريب منها... سألت احد الجنود عن سيارة تقلني الى الزبير فابتسم في وجهي مستغربا، قال: انتقل الكراج الى الساحة القريبة من محطة تلفزيون البصرة، واضاف، استأجر سيارة تاكسي، وهناك ستجد سيارات الزبير.
استأجرت سيارة بضعف اجرتها، السائق قال: هاي كروتهه، الدنيا ليل! وبعد نصف ساعة وصلت الى تلك الصحراء التي تحولت فجأة الى كراج غير نظامي والى تلول من المزابل.
-للزبير، نفر واحد، صاح احد السائقين الذي عرف حاجتي على ما يبدو، فكنت "نفره" الواحد والاخير..
استدارت السيارة على ارض ترابية ملحية لم تطأها عجلات عربة من قبل.. وكان عليها ان تستمر في صعودها البطيء لاكثر من ثلاثة امتار حتى تصل الى الشارع الرئيس، مما اضطر الركاب الى الامساك بالمقاعد واطلاق نداءات الاستغاثة "المألوفة": يا الله.. يا علي، يا بوالحسن.
كان اغلب الراكبين من الشباب الملتحقين الجدد، ولكن ملامحهم حجبتها اغطية الرأس المختلفة، فبعضهم كان يلف رأسه بكوفية حمراء او سوداء، وآخرون تقنعوا بالكليته العسكرية التي لا يظهر منها سوى العينان. وما ان اجتازت السيارة اول سيطرة عسكرية حتى اخذ جميعهم أوضاعاً مختلفة على المقاعد توحي بتأهبهم الى النوم، مما اضطرني الى لصق وجهي بالنافذة الباردة ومراقبة الصحراء التي اخذت بالاتساع بشكلها اللانهائي.
كنت دائما اقول ان "للزبير" خصوصيتها الخليجية التي تفردت بها منذ قرون، فهي محاطة بالصحراء من جهاتها الاربع، وتبدو لهجة سكانها اقرب الى اهالي الخليج، كما ان زيهم التقليدي هو الدشداشة البيضاء والكوفية والعقال و"النعل الزبيري الشهير".. كل ذلك احاط "الزبير" بهوية خليجية بدت واضحة من حوارات سائق الحافلة.. قال السائق للراكب الذي كان يجلس بجانبه: "يبه كل واحد أهله بعيد، يحدر علينه، ترانه معازيب عرب ها".
-كفو، والله وتعيش.. اجابه الراكب الذي تبين انه قادم من "العمارة". كانت مشكلة الكثير من الجنوبيين هي ان مسقط رأسهم ودوائر تجنيدهم في "البصرة" بينما تسكن عائلاتهم محافظات السماوة والعمارة والناصرية، وهذا ما كان يسبب لهم منغصات عديدة كلما استدعيت مواليدهم.
كان ذلك الراكب اكثر قلقا واسئلة واستفسارات، وكان تفكيره الملح، بالمبيت وبمصاعب احواله المعيشية تطغي على كل حواراته ونقاشاته.
حتى انه كان يسـأل عن أية بناية او جامع او آثار تقع على جانبي الطريق وكان السائق يجيبه بلهجته الزبيرية، المحببة: "هذا مرقد طلحة الصحابي. هاي منارة الامام علي..مرقد الزبير بعد وايد بعيد، حدر يصير".
ظل (العمارتلي) يسأل، والسائق يجيب، حتى قذف بنا في ساحة الكراج وسط المدينة التي بدأت تتضح معالمها في ذلك الصباح البارد.
سرنا في ازقة الزبير مثل قطيع ماعز اجبره البرد على الانضمام.. "كليتات وكوفيات ودشاديش وقماصل عسكرية"، مخلفات حروب عديدة تمضي الى المحرقة حاملة صكوك هلاكها وسط نظرات المارة التي هالها ذلك القطيع فانهالت عليه بالحسرات وعبارات الاشفاق والـ.."خطية".
لم يكن لنا راع غير مصائرنا في انكسارات ذلك الطور التي كانت تقودنا من مأزق الى آخر.
تفرقنا الى مجاميع صغيرة، استقلت كل واحدة منها سيارة "زوبة" هكذا يسمي الاهالي سيارات الواز العسكرية التي بيعت في المزاد، جلسنا في داخل السيارة على لوحين خشبيين متقابلين، وراحت اجسادنا تتمايل بقوة بسبب وعورة الطريق الترابي وكثرة المطبات والحفر.
تضايق "العمارتلي" كثيرا بعد سقوطه المفاجئ على ركبتيه، قال: "تعال ليّه وين اولي بهالديرة الغُرب، سودة بوجهي" لم يعينه احد على الجلوس، كان كل منا يكتفي بمواساة نفسه.. وكان الصمت هو لغتنا جميعا.
هذا هو المعسكر.. صاح السائق، فنزلنا نتفحص بوابته بنظرات جامدة.. لم يتغير من ذلك المعسكر شيئ. بنايات واسعة مهدمة واشجار اغلبها ميتة.. عبرنا عدة اروقة ضيقة ووصلنا الى ساحة العرضات، ثم امرنا بالجلوس على ارض رطبة لاتمام اجراءات التحاقنا.
قال الضابط الذي كان يقف الى جانب رأس عرفاء الوحدة: لا توجد تجهيزات ولا معدات ولا افرشة. ارتدوا ملابسكم العسكرية القديمة او ابقوا هكذا بملابسكم المدنية، وحين تنتهي ساعات التدريب عودوا الى بيوتكم، اما القادمون من المحافظات فبأمكانهم المبيت في المعسكر..
للمرة الاولى اتلمس خيبة ومرارة في حديث ضابط في معسكر للتدريب، كان يندب حظه ويستهجن حياته العسكرية، وللمرة الاولى ارى جنديا يزعق في وجه الضابط ويوبخه.. وحين امرنا بالاستعداد، لاحظت ان وقفتنا كانت في خطوط متعرجة ومتداخلة، وكانت قيافتنا المزرية بتلك الدشاديش والقماصل تثير السخرية.
احد الجنود قال متندرا: صدك هذا جيش محمد العاكول، اخيرا شفناه!.. بعد ساعة صاح العريف: اتفرق، فتفرقنا.
اعتدت على منغصات الذهاب الى المعسكر يومياً، صباحات عديدة هشمها البرد وانا الوك فيها بمعجزات "الفرضة والشعيرة والعليقة المنفردة والتفكيك والتركيب والبندقية كلاشنكوف عيار 7.62ملم واجلس وابرك وفتح النظام و.. الى الوراء در..
كانت نسبة الحضور تتقلص يوميا.. ووصلت حالات الغياب والهروب بين المنتسبين الى مستويات عالية، وكان بعض الجنود "يزورون" المعسكر اسبوعيا ومع هذا لم الحظ اثرا للعقوبات مما جعل حضوري يتعثر وفق نظام لا شعوري ثم راح يزداد سوءا، حتى كدت اشعر انني لا انتسب الى معسكر للتدريب.
ولكن تلك النهارات الخاوية لم تمنحني فرصة التسكع في الليل خشية القاء القبض عليّ ولم اشعر فيها الا برتابة عمياء كانت تمررني في كل ليلة بذات الكؤوس والموائد والحوارات العقيمة.. وكان هاجسنا الجمعي يتحسس اهوال هبوط الكارثة من تسارع البيانات والتصريحات وزحف الترسانة الكونية نحو مياه الخليج.
كانت امي تلتقط بفطنتها مقاطع من حواري الداخلي داخل صخب العائلة وذهولها المستمر، وكان ابي يراقبني عن بعد ويتفقد حالتي.. ولكن نقطة التصادم بينهما لا بد ان تحدث في تلك الدوامة التي صنعتها حالة التحاقي الى الجيش.
قالت امي وكأنها تتفحص حواف العاصفة: يقال ان شباب المحلة كافة ينوون الهروب.. ثم تساءلت بصوت أعلى: من يحاسب كل هؤلاء؟ بلقيس شقيقتي الصغرى ردت عليها: الوضع الان لا يشبه ما كان عليه في اعوام الحرب مع ايران، الناس سئمت من الحروب.
ظل أبي يدخن ويجيد الاصغاء كعادته، ولكن ملامح الغضب طغت على نظراته. وحين شعر ان محاولات امي اقتربت من تياره الصاعق، انتفض رمى المسبحة من يده وقال: الابن الذي يخرج من صلبي ويهرب، اقتله انا بيدي.
لا مكان لجبان في عائلتي. ولن اسمح للانضباطية وافراد الجيش الشعبي ان يدخلوا الى بيتي.. اتريدين ان يبحثوا بين اجسادكن في الليل عن ابنك الهارب؟
لم تصمت امي هذه المرة.. التفتت الى شقيقي الاكبر وقالت: يذهب الى بيتك.. خذه معك. منطقتكم بعيدة ولا يعرفه احد هناك.
ولكن شقيقي خيّب املها تماما، خذلها بهدوء حين لوى رقبته وطأطأ برأسه مرددا: اخشى ان يمسكوه في بيتي واتورط..

بدأت رياح انكساراتي تتحرك من الداخل. وتحطمت في ظني صلات كنت احسبها طرية، هزة طارئة لا غير كشفت عن عمق عزلتي قبل ان تطوي صفحتها الاولى..
لم اكن اتصور ان لشقيقي رقبة قبيحة يستخدمها في لحظات صدقه فقط..
وما كنت اطمح بقسوة ابوية اكبر مما شاهدت.. كنت على يقين دائم، ان ثمة نوعاً من الرجال مصابون بمرض "التبغل الحاد" الذي يضفي على سلوكهم عنادا دائميا مقدسا لا تخدشه الزلازل.
في تلك الليلة انطفأت فجأة بقايا انتمائي. وشعرت انني مخلوق لا منتمٍ.. حتى حالات التوحد الليلية المكررة فاحت منها رائحة البيرة، وما عدت اذكر منها أي مشهد.. انا ضائع حقا وموانئي مكتظة بشحنات هائلة من الفراغ.. وهذه الانكسارات التي تطقطق في رأسي ما هي الا وجبات من صخب الاسواق والشوارع ورحت اتلمس صفائي المفقود في موج الشط وصمت ضفافه، وفي جلسات الصيادين الكئيبة قرب السفن المقلوبة والقوارب الضالة.
كنت اشعر ان هاوية الضياع تقترب، وان انحداري المتسارع نحوها يمنحها نوعا من المصداقية ويجعلها بنظري تمثل الخاتمة الحية الوحيدة في طنين ذلك الفراغ.
اقتربت من همهمات آخر المارة، عبرت الجسر وسرت في احد ازقة سوق الهنود، ثم تسللت باتجاه عدة فروع مظلمة وطويلة.. كان شيئاً ما يقودني الى مواجهات فاضحة.. صدامات تفكك وهمي القديم وتزيدني عزلة.
وقفت في زاوية مظلمة وبدأت امد رأسي ببطء ثم اتحرك على اثر الاكتشافات التي راحت تستعرض اشكالها بهدوء مريب من خلف الواجهة الزجاجية.
قمصان، سفاري، دشاديش، بدلات.. ها، هـ.. هذه.. هذا انا القديم، بدلتي، هذه بدلتي معلقة بين بدلتين..
تأملها عن بعد.. بدلة صنعها الوهم وسيرتديها الفراغ طويلاً.. تلذذت برؤية صورتي بلا رأس ولا قدمين، قلت: خلف هذا الزجاج ترقد روحي بلا شاهدة. سأتركها تواجه الخياط والمارة والغبار.. وسيظل صمتها، صمت الغابة الاستوائية يعشش في هذا المكان.. ويذكر الخياط والصبي بذلك الابله الذي غزاها ذات ليلة، في نهاية ساعات عملهم ليفاجئهم بطلبه الغريب.. بدلتي، ابقِ هنا، لن اسرحك من هذا الانتظار المهين، سأتركك خلف الزجاج تستعرضين انفاسي ورائحتي وسيبقى مفقودك المعتوه ضائعا الى الابد.. آه، بدلتي الحزينة، ايتها الصورة اللقيطة، غير الشرعية لذلك المخلوق الذي لم يعد منتميا لا يماشيء، حتى لكِ، استمتعي بلذة الهلاك غير المعلن لتلك الصحبة الطارئة التي لم تبدأ بعد.


السفارات العراقية والواقع الجديد

أ.د محمد يونس

قريبا ستتألف الوزارة الجديدة التي تعقد الملايين العراقية امالا كبيرة عليها.وينبغي ان تكون قوية فعالة حازمة في قراراتها وفي تدبير امور البلد وليس كسابقتها حيث ستكون مدعومة من هيئة برلمانية رصينة حريصة طويلة العمر وبالتالي فستكون الوزارات ان شاءالله سباقة في رسم برامجها مندفعة في تنفيذ اهدافها مخلصة في يحقيق مشاريعها.
ووزارة الخارجية ستلتفت لتطوير كوادرها الدبلوماسية ورفدها بدماء جدبدة لها المقومات الدبلوماسية الجيدة.فالخارجية السابقة كانت تستقي قدرتها على الحركة البسيطة من معين الابتسامة اللطيفة للوزير هوشيار زيباري_ صاحب القلب الطيب والكل يعرف ان الدبلوماسية علم له من العمق ما لا تنفع معه الطيبة وحدها.
اما الخارجية الجديدة فتتطلب وضع الخطط العلمية الدقيقة لتطوير ملاكات سفاراتها في الخارج حيث كان ولا يزال يعشش فيها بعثيون نفعيون أميون- دبلوماسيا- ولا يجيد معظمهم لغة البلد الذي يعملون فيه، لذا نجدهم يستعينون بالمترجمين المحليين الذين يرهقون خزينة الدولة بمستحقاتهم وبامكان وزارة الخارجية التعاون مع كلية اللغات- جامعة بغداد لتهيئة مثل اولئك المترجمين من ملاكات وطنية. ثم كيف يؤدي ذلك الدبلوماسي الابكم دوره بالتعريف بسياسة وحضارة وثقافة بلده؟ او كيف يتابع ما ينشر ويُذاع عن بلده في الصحافة والاذاعة والتلفزيون؟
كانت وزارة الخارجية في عهد المقبور صدام مكانا للفائدة الشخصية او منفى للابعاد السياسي. وحدث مرة ان قام وكيل وزارة الخارجية (المزمن) بنقل نفسه سفيرا لدى الاتحاد السوفييتي ويبقى في منصبة هذا بضعة اشهر من دون تقديم اوراق اعتماده. وكان يجند كل موظفي السفارة، عراقيين ومحليين، للتجوال في الاسواق والتبضع: الف ملعقة والف شوكة وألف وسادة الخ. ثم عاد ذلك الدبلوماسي (النحرير) فنقل نفسه ثانية ليعود وكيلا لوزارة الخارجية وتبين انه كان قد شيد فندقا واراد تأثيثه باسعار رخيصة فقام بتلك العملية المفضوحة.
المعروف ان السفارة لدى الدول الكبرى لا يشغلها الا جهابذة السياسة واساتذة الدبلوماسية، لكن صدام، الذي تهمه مصلحة العراق، كان بمزاجه يكلف بها من يهوى بغض النظر عن الامكانية والخبرة الدبلوماسية.
فقد قام بتعيين احد مترجميه سفيرا في احدى دول جنوب شرق آسيا، ومترجم آخر سفيرا لدى الاتحاد السوفييتي ومن المضحك ان سفيرا صداميا كان في خزينة سفارته ثلاثة ملايين دولار عند انهيار الصنم، فالتهمها السفير مدعيا ان الجماهير قد نهبتها، هذا ما تتحدث به الاوساط العراقية في تلك العاصمة الكبيرة، وهناك قائم بالاعمال في عاصمة عربية كان قد وشى بأبن عمه -الشيوعي- فتعرض الاخير الى تعذيب فظيع ثم اطلق سراحه ليموت بعد بضعة ايام. والمعاملة السيئة يلقاها المواطن العراقي في العديد من سفاراتنا بالخارج على يد بقايا البعثيين وكانهم لا يزالون يملكون رقاب الناس. فهل يرضى بذلك الوزير؟ ترى هل أجدبت ارض العراق من المثقفين المخلصين والسياسيين المقتدرين، الذين يجيدون اللغات الاجنبية ومن الذين تعرضوا للاضطهاد او الاهمال زمن الطاغية المقبور والذين هم من احرص الناس على مصلحة وسمعة بلدهم؟
العراق يزخر بمثل هذه الطاقات الخيّرة وسترى وزارة الخارجية ما سيجود به ابناء الرافدين البررة!

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة