المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

تمصير الكوفة والمنهج الإسلامي للعمران

د.علي ثويني
thwanyali@hotmail.com

عند حديثنا عن باكورة تجارب الحواضر ترد الكوفة الواقعة على الفرات،و تبعد بضعة أميال الى الشمال الشرقي من مدينة الحيرة العراقية. وكان القصد من إنشائها عسكريا محضا ، لتكون رباطا متقدما لجيوش المسلمين ينطلقون منها لفتوحات الشرق و يلجأون إليها إذا أصابَهم هجوم مباغت . ويذكر الطبري أن سعد بن أبى وقاص بعث وفدا إلى الخليفة عمر بن الخطاب يخبره بالفتح ، فرأى الخليفة ألوانهَم تغيرت وحالهَم تبدل ، فسألهم عن سبب ذلك فأجابوه : تخوم البلاد غيرت حالنَا، فأمرهم: أن يرتادوا منزلا ينزل فيه المسلمون ، لان العرب لا يلائمُهم طقسُ بلدٍ إلا إذا جاء ملائما لمزاج الإبل وكتب الى سعد (ابعث سليمان وحذيفة رائدين ليرتادا منزلا بحريا ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر). فارتاد سليمان وحذيفة جانبي الفرات نزولا من الأنبار حتى الحيرة العربية .
لقد أمر سعد بن أبي وقاص بتأسيس الكوفة في يوم 23 كانون الثاني (يناير) من عام(16هـ- 638م) على هذه البطحاء من الأرض الخصبة الطينية التي اكتسبت اسمَها منها ،أو ربما ورد من اسم آرامي قديم يخص تلك البقعة من الأرض.ويذكر الطبري: (والكوفة على حصباء وكل رمله حمراء، يقال لها سهلة وكل حصباء ورمل هكذا مختلطين فهو كوفة). وجاء في تاج العروس سميت بالكوفة لاستدارتها . و بنيت بيوت المدينة الجديدة على الطراز الحيري وتكرر ورودُه وتطور حتى ورد أن المتوكل العباسي طبق خطَته في قصره المسمى (الجوسق الخاقاني ) في سامراء. و كان تخطيط الكوفة دائريا وهي سنة عمرانية عراقية. فقد وجدت في أور واشور والحضر بما يوفر من اقتصاد في المساحة وعقلانية في توزيع الأحياء واتصالها بالمركز،ناهيك عن الوسطية للجامع ودار الإمارة .
أما بيوتهُا فقد اختيرت لها في البداية مادة القصب نظرا لوفرتها في المنطقة وكذلك سهولة تنفيذ البناءات بها بما يتوفر من خبرة محلية ورثها العراقيون منذ أيام السومريين،ومازالت حتى اليوم. وقد كان قد استخاروا الخليفة عمر ( رض ) فسألهم وما القصب ؟ فأجابوه : (العكرش إذا روى قصب فصار قصبا) فأعطاهم حرية الاختيار بالرغم من عدم معرفة الفاتحين به . لكن الحريقَ الذي وقع في الكوفة والبصرة بعد عام واحد أحالها إلى رماد مما إستوجب البناء بالطين (اللبن) بعد استشارة الخليفة ناصحا لهم: (افعلوا ولا يزيد أحدكم على ثلاثة أبيات ولا تطاولوا في البنيان و ألزموا السنة تلزمكم الدولة) . فأرسل سعد إلى أبي الهياج فاخبره بكتاب عمر وأمره بالمناهج ليكون عرض الشارع 20م وما يليها 15 م وما بين ذلك 10 م والازقة 3،5 م وفي القطائع 30م .
والظاهر أن أبا الهياج هذا كان من أوائل المعماريين في رحلة الإسلام الحضارية. وكان المسجد أولَ ما اختط في مركز المدينة ، و تحاذيه دارُ الإمارة من جهة القبلة التي كانت بينها وبين الجامع فجوة ٌ سرعان ما احتوتها دارُ الإمارة بعد حالة سطوِ عليها فاصبح ملاصقا للمسجد وهذه السنة أصبحت القاعدة في تجسيد الحواضر الإسلامية في المستقبل حيث أنها تجمع ما هو روحي مع ما هو نفعي. و تجسد ذلك في رسالة الخليفة عمر (رض) إلى سعد حينما قال له : (بلغني أنك بنيتَ قصرا اتخَذتهُ حصنا ويسمى قصرَ سعد وجعلتَ بينك وبين الناس بابا فليس بقصرك ولكنه قصرَ الخبال . إنزل منه منزلا مما يلي بيوتَ الأموال و أغلقهُ ولا تجعل على القصر بابا يمنعُ الناسَ من دخوله ) . وبالرغم من التغييرات والإضافات التي طرأت على بناء القصر هذا ولكن شَكلهُ العام مربعٌ طول ضلعه 110 م و الشكل المربع كان مفضلا لدى المخططين المسلمين نظرا لنسبتة المتزنة ورمزيته بالاستقرار والعدل بما يعكس حالة العدل الإلهي.
و إستعمل زياد بن أبيه الآجر (الطوب
المصنوع من اللبن والمجفف تحت وهج الشمس) كمادة رئيسية في بناء المسجد ودار الإمارة وذلك عام 671م فادخل بعض التحسينات والتعديلات عليها ليجعَلهُ اكبرَ واجملَ مسجد إسلامي أنذاك - كما وصفه المستشرق ماسينيون وقال عنه كريزول ( أن فن العمارة في الكوفة اخذ يسجلُ تقدما ملموسا في أيام زياد. فقد أعاد استعمال الآجر الحالة المتوارثة في العمارة العراقية وذلك باستعمال الحيطان السميكة الساندة والمسقفة بنفس المادة بأشكال الطاق او القبو أو القبة بتقنية تنفيذية موروثة توفر عليهم استعمالَ الخشب الذي تفتقر إليه بيئة المنطقة). أما المعالجات الفنية الداخلية فتظهر من زخارف الجص المتكونة من قطع صغيرة تشير الى نماذج ذات تعابير نباتية وهندسية، وهي أقدم الأمثلة في العمارة الإسلامية.
و ورد وصفٌ للبلاذري لأسواق المدينة حيث يقول(وبنى خالدٌ حوانيتَ في الكوفة وجعل سُقوفها آزاجا مسقوفة بالآجر و الجص). وظهرت كذلك الكتابات بالخط الكوفي باللون الأسود ومعظمهُا ينطوي على معاني الاستغفار والتوبة. ويمكن أن يكون ذلك أول اتصال بين العمارة والخط العربي الذي توسع استعمالهُ حتى وصل الذروة في القرن الخامس الهجري- الحادي عشر الميلادي . ويذكر بعض المؤرخين أن دار الإمارة هذه قد أقفرت في زمن الخليفة العباسي المهدي بعد أن كانت قد وصلت المدينة أوج عظمتها في العصر الأموي وبلغت أبعادُها 15 كلم طولا و 9 كلم عرضا. وقد تضاءلت عند بناء واسط ومن ثم بغداد. وفي الفترة الأخيرة من تاريخها تعرضت لهجمات القرامطة وعندما زارها الرحالة ابن جبير عام 580هـ-1184م ، قال : (إن معظمَها خراب ) ، أما مسجدُها الجامع فلم يبق منه سوى الظلة.
ومن ذلك يمكننُا أن نستلهم بعض العبر والدروس ،و نرصد إشارات منهجية في مراعاة أمور أساسية أرادها عمر الفاروق أن تتجسد تباعا في المدينة الإسلامية وهي:
1- تحديد مفهوم "عمارة الأرض" القرآنية من خلال التنمية الاقتصادية،واستثمار موارد الأرض ،حيث يرد في رسالته لبلال بن حارث المزني عندما توانى عن استثمار أرضه قوله: (أن رسول الله - ص - لم يَقطعُك لتحتجزَه عن الناس،وإنما أقطعَك لتعمل، فخذ منها ما قدرت على عمارته، ورد الباقي).وهو بذلك يحث على الإنتاج ،والعمل الجاد ويعتبر ذلك ممارسة أخلاقية.
2- المنهج الحازم حيال سعد بن أبي وقاص ونأيه عن المحاباة والمداهنة ، عندما وبَخه وذكره بمنهج عاهدوا الله على تكريسه، فحواه التواضع والإيثار وخدمة العباد وأن التسلط على الناس لا يعني اعتزالهم وإنما تقديم الخدمة لهم. وقد جاءت حادثة حرق باب سعد في دار الإمارة ردا فيه رمزية لتكريس ذلك المنحى الروحاني وتلك العلاقة الجديدة في فهم الأمور وإفهامها.
3- منع أي كان من المسلمين هدم الكنائس ،أو المساس بها بسوء، وجعلها سنة الدولة التي طبقها حتى بني أمية عندما ابتاعوا كنيسة القديس يوحنا التي أصبحت تباعا المسجد الأموي في دمشق.وبذلك حدد منهجا تسامحيا مسالما يعكس حسا إنسانيا حضاريا ، جديراً بتذكير المسلمين بها في أيامنا، لاسيما قوى الظلام الإرهابية في العراق التي فجرت كنائس أهلنا النصارى .
4- التكريس المنهجي لفكر الإسلام فيما يخص الوظيفية المعمارية التي تصب في الصالح العام وذلك بعد أن أمر بلصق دار الإمارة بالجامع ونموذجية ذلك فيما ندعوه اليوم (التعدد الوظيفي للعمارة) الذي يكرس حالة الاقتصاد بالمساحة والمصروف والحركة يصل حتى الثلث من إجمالي المعلم .وفي ذلك نرصد النضج العقلي، والنزعة الزاهدة وعدم الإفراط في التزويق بقوله (وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس) فهو منحى يراد منه الاقتصاد والترشيد ، و أن يوظف المصروف الزائد في أمور تصب في فائدة للمسلمين وكذلك تحاشي ما يشغل ناظر الناس ويقلل من حالة الخشوع لديهم .
5- التركيز على إقامة المساجد في المدن وليس القرى لما يرجوه من تكريس للحالة الحضرية التي تكتنفها حياة المدن على عكس القرى التي تبقى متداخلة في سجيتها مع حياة الأعراب والبداوة التي رفضها الدين الحنيف.وجاء في ذلك منع القبائل من التقوقع في مساجد خاصة بهم مما يلغي حالة (الأمة) الشاملة .
6- المنهجية العمرانية في إختيار الموقع المناسب للحاضرة .ويرد إيحاء الاهتمام بما يناسب الأنعام،الذي ينم عن حس بيئوي مرهف .
7- اختيار موقع المدينة قرب الحيرة والقادسية كمصدر للتقاليد الحضارية والعمالة الماهرة التي أثمرت تباعا عن تيارات فكرية اقترن بها اسم الكوفة، عروجا على رهط لا ينتهي من الأعلام و منهم الإمام جعفر الصادق والفقهاء النخعي وسعيد بن جبير والشعبي وابن مسعود وجابر بن حيان ،ولم يزل هذا الدفق من الأسماء يسمو حتى توج بالإمام أبو حنيفة النعمان ممثل الفكر العراقي في الإسلام .
8- تواضع الفاروق وعدم تكبره أو مكابرته كونَه خليفة َرسول الله ( ص ) وتأكيده أن لا ضرر في عدم معرفتة بالبناء وتقاليده وأعرافه وكنه مواد البناء وذلك بسؤاله عن القصب لعدم سابق معرفته به وهذا ما يرسم صورة جليه عن طبيعة القائد الذي لاينافس العارفين بأمورهم.والأمر يوحي لنا بطغاة العصور،وآخرهم (صدام) الذين وسموا بأنفسهم عارفين بكل شاردة وواردة.
9- حرية اختيار مواد البناء المحلية المتوفرة في بيئة المدينة من القصب الى الطين،الى الحجر بما يؤكد موقف الإسلام في استعمال مواد البناء التي تزخر بها البيئة بسخاء ،لكي تكون سهلة المنال وزهيدة القيمة، وعدم وجوب جلبها مما يصب في منهجية الزهد الإسلامي في البنيان،ناهيك عن النزعة للإبداع حينما تطأ المادة المبتذلة الذروة في قيمتها بيد صانعها ، اقتفاء بالنهج الرباني في خلق البشر من الطين الواهن ، ليكرس به روحَه وصفاته وجماله. أما اختيار نفيس المواد بغرض الاختيال فأمر مرفوض. وقد أدى ذلك المفهوم الى وصول الفنان المسلم الى محاكاة فاخر الرخام بالفخار ذي البريق المعدني.وأنعكس لدى المعمار في إضفائه أسمى قيم الجمال في فضاءات العمارة التي يتداخل بها مع مقتضيات البيئة.
10- تحديدَه مقاسات الشوارع بما يقتضي الحاجة دون تقتير أو تبذير بما يكرس توازنا معماريا بين الكثير والقليل الذي دأبت على حلها تيارات العمارة الحديثة . وقد جاء الإرشاد بعدم التطاول وتحديد الارتفاعات وعدد الحجرات لكل دار ما يصب في ذلك المنحى العقلاني للبناء بما يسمى المقاسية (المودول) بالعمارة الحديثة .
11- يعتبر الخليفة عمر (رض ) أول من أوجد القياس والتدوين لأراضي الدولة في الإسلام ،ومسحها وتعيين حدودها ، وتدوينه في سجلات ،تشرف عليها الدولة ،وتتصرف بها بحذر كونها جزءا من المال العام. وقد كان قد أستحدث مقاس خاص بالدولة سمي فيما بعد بـ( الذراع العمري) ،الذي أستعمل قرناً من الزمان من بعده.
12- الخليفة عمر هو أول من أستحدث محطات الاستراحة للمسافرين على طرق القوافل في الإسلام ،بما يمكن أن يكون بواكير بناء الخانات أو بيوت القوافل على الطرق . وكانت هذه المراكز تشتمل على كل الخدمات التي يمكن أن توفر للمسافر الراحة ومقتضيات الحاجة. وقد استحدث كذلك أول منشأ لإقامة الوفود القادمة ،والزائرين الرسميين بما نسميه اليوم (دار الضيافة أو قاعة الزوار) ، بالرغم من عيشه في بيت زاهد.
13- حرص الخليفة في الأمن والآمان على أرواح المسلمين من خلال الاهتمام بتفاصيل البناء ودعوته المسيرين الى(تعريض الحيطان وإطالة السمك وتقريب بين الخشب) ،وهي مبادئ أساسية في الهياكل الإنشائية .
14- ضبط الآلية التي تحدد مسؤولية التسيير الإداري الذي تسنه الدولة وتبث فيه روح الدين ومنهجه وفلسفته من خلال استحداث وظيفة "الحسبة" ،التي لم تكن معروفة في سابق حياة العرب، بما توفره من تطبيق التعاليم الدينية في البنيان والمعاملات ،حتى تسمو منزلة المحتسب الى ما يحاكي القاضي . حيث قال القلقشندي (ت821هـ-1418م) في (صبح الأعشى) نقلا عن الماوردي في (الأحكام السلطانية): (أن اسم المحتسب مشتق من قولهم (حسبك) بمعنى أكفف وسمي بذلك لأنه يكفي الناس مؤونة من يبخسهم حَقهم).
كل ذلك يدعو إلى وقفة في ضبط آليات ثبوت الفكر وتطوره العضوي دون المساس بالجوهر الدستوري . والأمر برمته مرهون بالمكارم الأخلاقية والممارسة الإنسانية في العمران والعمارة التي يرجوها الإنسان.وما التراث إلا ممارسة أخلاقية قبل أن يكون أشكالا نحاكيها ونقلدها،ونسبغها على مبانينا. فلا خير في تراث للطغيان والظلم يراد له الإحياء.وهنا نلمس بأن ثمة تناغماً بين قدوة الحاكم ومسعاه إلى جواهر الأمور في علاقة الحاكم والمحكوم ، بما يتداعى بأن المعمار قد ألبس المضمون شكلا،ولم يعر الحيثيات أهمية فكان مباشرا وصادقا وقافزا فوق المظهر نحو الجوهر،وبذلك أنتج عمارة خالدة لصيقة بالأرض والإنسان ، وهو مانسعى إليه منكبين في إعادة فهم الموروث، من أجل إزالة الخراب والتركة اللا أخلاقية التي تركها الطغاة.


قراءة في مسرحية (حوارية الأشباح) لفؤاد التكرلي

عبد الخالق كيطان
يبدو من المبكر جداً إطلاق أحكام نقدية بصدد القاموس اللغوي الذي بدأ المبدعون العراقيون استلهامه في نصوصهم الجديدة التي كتبت بعد التاسع من نيسان 2003، وذلك لأن هذا القاموس قد أخذ بالانوجاد إذعاناً لسلطة قهرية جبارة تحكمت بهذه النصوص ومبدعيها على السواء. لقد ولى الزمن الذي يحبس فيه المبدع العراقي، والمبدع بشكل عام، نفسه بعيداً عن مشاكل عصره وهموم أبناء لغته بالدرجة الأساس. وفي الحالة العراقية فقد أصبح كابوس الإرهاب الوافد والمقيم حالة يومية لا يكتوي بنارها المواطنون فحسب، بل المبدعون أيضاً، ولقد خسر المشهد الثقافي العراقي بالفعل العديد من رموزه ومبدعيه بسبب الإرهاب بعد أن كانت خسارتنا قبل التاسع من نيسان بسبب جور الديكتاتورية وظلم الطغاة.
هذه التقدمة أجدها مناسبة وأنا أقرأ النص المسرحي، أو الحوارية بلغة مؤلفها القاص والروائي الكبير فؤاد التكرلي والمعنونة(حوارية الأشباح... والمخطوف العراقي) المنشورة أخيراً في جريدة الحياة اللندنية بتاريخ 7/2/2006.
والنص الذي بين أيدينا هو نص الواقع بامتياز، وبالرغم من قصره، فهو في مشهد واحد، ولكنه نص يمنحنا تصوراً واضحاً عن واحدة من المفردات الجديدة والوافدة في المشهد العراقي، وتتعلق بظاهرة خطف المواطنين.
يبدأ النص بجمل واضحة عن شخص معصوب العينين ومقيد اليدين إلى كرسيه، وبعد لحظات نرى الشخص الذي قام بفعل الخطف أو ممثل جماعة الخاطفين، والذي يصفه التكرلي بأنه "رجل متين الجسد، يرتدي ثياباً خشنة ورخيصة، بملامح فظة غير متناسقة، في حوالي الخمسين من عمره" فيما الرجل المخطوف يجلس على كرسيه " بملابس أنيقة يلوثها الطين والتراب في مواضع عدة". ونفهم بعد ذلك بأن الرجل المخطوف ثري عراقي مسن ومريض كان غادر العراق بعد العام 1990 بعام أو عامين ثم عاد إلى وطنه بعد سقوط الصنم الصدامي على غير إرادته:
- قلت لها مرات عدة، لا يمكنني العودة إلى تلك المدينة بغداد، إلى ذلك البلد الملعون.. قلت لها وكررت القول ألف مرة. لا يمكنني.. لا يمكنني..لكنها لم تجد وصفاً تصفني به إلا الجبن.. الجبن والخوف والاختباء والتراجع وحتى خيانة الحقوق، وبماذا يمكن أن أجيبها وقد أكملت الثالثة والسبعين؟ تقول ماذا تبقى لك كي تخشاه؟
يفضح المونولوغ السالف الكثير من صفات الشخصية المخطوفة، عمره، مستواه الطبقي، ورؤيته للحياة ولبلده.. وهو يلمح ولا يفصح حول شخصية المرأة في هذا المقتطف، وقد نتصورها زوجة الشخصية بالنظر لعمر الشخصية ذاتها. تحريض الزوجة، إذن، لزوجها بالعودة إلى بلادهما قاد الزوج إلى أيدي الخاطفين، هؤلاء الذين لا يريدون منه سوى ثمن رأسه، وهو كما يخبره الخاطف 250 ألف دولار أمريكي قابل للزيادة بالنظر لعمليات المتاجرة بالمخطوفين السائدة بين الجماعات الإرهابية في العراق:
-هو: هناك أخوة يريدون شراءك.
- الرجل المربوط: نعم؟! نعم؟!
-هو: لا تستغرب هذا، نحن في خضم سورة من الأعمال والتبادلات والشراء والبيع، وأنت لا تقدر على فهم ذلك.
الرجل المربوط: أأنتم رجال أعمال يا سيدي؟
ثم ينتقل المشهد إلى محاورة سريعة عن قصة غائرة في تاريخ الشخصية المخطوفة كان الخاطفون قد توصلوا إليها من خلال تحرياتهم عنه قبل خطفه كما يؤكد الشخص الخاطف، وهي القصة التي ستفك لنا لغز سبب الخطف:
-هو: ألا تتذكر، في مراهقتك و شبابك، عائلة أو بالأصح امرأة وولدها، يعيشان معكم ويخدمانكم ليل نهار، ولا أحد من أهل البيت يتجرأ على السؤال عن هويتهما؟ لماذا؟ لأن الوالد الثري المتسلط هو الذي وضعهما في ذلك المكان، وهو الذي اختار أن يكونا معه، فلما فارق الحياة تسنى لك وقد ملكت السلطة في البيت، أن تطردهما وترميهما إلى الشارع من دون شفقة.
ويحاول الرجل المخطوف أن يدافع عن نفسه فيقول:
- الرجل المخطوف: لقد علمت بأن والدي يرحمه الله قد اشترى، في زمانه، تلك العبدة، العفو، تلك المرأة وتزوجها عرفياً وأولدها صبياً نشأ وكبر في بيتنا... في بيتي وصار، كما يمكنك أن تتخيل، خطراً على بنتيّ المراهقتين.
ولكن الخاطف لا يقنع بهذا الكلام بل يزيد بأن طرد الشخص المخطوف للصبي وأمه هوالذي سبب له هذا الدمار، مما يدفع الشخص المخطوف للبحث في إمكانية تسوية القضية بعيداً عن عمليات بيعه لشخص ثالث قد يقوم بقتله وكان قد دفع مبلغاً أكبر من المبلغ المقرر ثمناً للمخطوف، وهو 300 ألف دولار أمريكي، كما نفهم من سياق المحاورة، وعندما يتساءل المخطوف بحرقة عن هذا الشخص الذي يدفع فيه مثل هذا المبلغ يجيبه الخاطف ضاحكاً بالقول:
- هو: أنت لو أنزلت لحظة هذه العصابة عن عينيك وعرفتني، لكان لذلك معنى واحد... الموت يا صديقي. يسأل من هم! نحن أشباح تعرف بعضها بعضاً ونحن لا نخون. أننا نمارس كل الأمور الخسيسة التي تعرفها ولكن بأمانة واستقامة.
وأزاء ذلك لا يملك الشخص المخطوف غير القبول بحاله في هذا المكان ودفع المبلغ الأول على تسليمه للشخص الثالث ولكن الخاطف يحسم المحاورة، والنص أيضاً، بالقول في آخر سطور الحوارية:
- هو: سنسلمك إليه. لقد دفع أكثر وله الأولوية، له الحق إذاً في أن تكون له. قضية حسابية بسيطة، لا تأخذها كأنها قضية حياة أو موت. كن مثلنا. إخدم نفسك واركض وراء مصلحتك. كلهم، هنا، يفعلون هذا الشيء. لا تحزن، أرجوك، كن مثلنا.
لتنتهي الحوارية عند هذا الحد.
ويتبدى القاموس العراقي الجديد في هذا النص بوضوح شديد، كما يتبدى الموضوع الجديد في المسرحية العراقية، والثقافة العراقية بشكل عام، وهو موضوعة الخطف. وفي بنية النص نرى أن النص بوصفه مشهداً وليس مجموعة مشاهد يمثل أول ملامح نجاحه، فيما يمثل مشهد الرجل الخاطف والرجل المخطوف في غرفة قميئة ذروة حدث بشع مثل حدث الاختطاف، وبالتالي تصبح عمليات اللف والدوران الدرامية، إذا جاز التعبير، حول هذه الفكرة محض مضيعة للوقت، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن حصر الحدث بمشهد واحد سيتيح للمؤلف، ومن بعده كادر عرض المسرحية فيما لو قدر لها أن تعرض على المسرح، أن يحتفظوا بقدر معقول من التوتر الدرامي بسبب من انشداد أجزاء المشهد نفسه.
حبكة المسرحية، كما أشرنا في سياق تحليلها، بسيطة للغاية، ولكنها مشحونة بالعاطفة، والعاطفة ليست من حيثيات الدراما الطارئة، وهي حبكة تراجيدية في النهاية، ولكنها من نوع تراجيديا الواقع، إنها من تلك الحكايات التي يمر الناس عليها بكثرة في الشوارع والباصات العامة وتتداولها الألسن باعتبارها حدثاً عادياً، الدراما هنا تقوم بتصعيدها إلى منطقة الخلود، منطقة الفعل التراجيدي المؤثر، أو لنقل بلغة أكثر وضوحاً، أن الدراما تخلق منها نموذجاً.
فؤاد التكرلي لا يعبأ كثيراً هنا بشروط درامية محددة، فهو أمين إلى أبرز قوانين الدراما: الزمان، المكان، والشخصية والحدث. كل شيء واضح منذ أول لحظات النص، ولكن ما هو غير متوقع يكمن في نهاية النص، لقد كانت نهاية باردة ولا شك، ولكننا نعتقد أنها باردة لأسباب كثيرة أهمها احساس الخاطف ببرودة الحدث وعاديته!، فهو بالنتيجة، كما يقول، يخدم نفسه ويركض وراء مصلحته لا أكثر ولا أقل.
وإذا كان الإيقاع المتوتر في مثل هذه النص يمثل عامل تقوية، بل بمثابة بناء محكم الحبك فإن موضوعة المسرحية تحتفظ هي الأخرى بمستوى عال من التوتر في ظل رغبة محمومة بتسفيه الحياة من قبل الشخص الخاطف ورغبة محمومة بالبقاء على قيد الحياة بالنسبة للشخص المخطوف. على أن المؤلف يحاول أن يبذر بعض البذور التي قد يطورها قارئ فتكبر في اتجاهات شتى، ومن هذه البذور قصة الولد وأمه اللذين طردهما الرجل المخطوف في سالف الزمان وعلاقتهما بالرجل الخاطف أو الرجل الذي دفع مبلغاً أكبر من أجل الحصول على رأس المخطوف. نستطيع هنا أن نقول بيسر أن عملية الخطف تمت على خلفية ثأر شخصي، أو هذا ما يريد النص أن يقوله ببساطة شديدة، وهو قول يسخف الكثير من المقولات التي كثيراً ما تبجح بها من يسمون أنفسهم(مقاومة) في عراق اليوم عندما ينفذون عمليات خطف تدينها الشرائع السماوية والدنيوية على حد سواء.
ولا يبدو مصادفة أن يكون الشخص المخطوف في الحوارية رجلاً ثرياً، فهو يمثل عامل جذب لشبكات خطف الأبرياء في العراق، فالرجل الخاطف يقول لضحيته بوضوح في بداية الحوارية بأنه "قطة سمينة جداً ولا يمكن أن تمر بسهولة" ، مضيفاً:(أنت سمكة كبيرة لا تستطيع أن تخترق شباكنا).
إن مهارة الروائي الكبير فؤاد التكرلي تتجلى بوضوح في هذه الحوارية من حيث قدرته على إقامة بناء درامي مشدود بأقل ما يمكن من سرد، وبأكثر ما يمكن من توتر، ما يمنحنا بالنتيجة نصاً إبداعياً ممتعاً ومشوقاً يمس واحدة من أخطر مفردات القاموس العراقي الجديد، وهي مفردة الخطف التي شوهت بالفعل الوجه الجميل لبلدنا، وإذ يدين المؤلف صراحة، كما هو واضح، هذه المفردة الغريبة على حياة العراقيين، فإنه من جهة ثانية لا يدخر وسعاً في إدانة الوطن العراقي نفسه، ومنذ سطر الحوارية الأول، وهذا ما يمكن أن يكون نجاحاً لفقه الخاطفين الذين جعلوا الكثيرين منا ينفرون من وطنهم، بالرغم من إدراكنا أن المؤلف يريد أن ينقل تفكير شخصياته وليس تفكيره هو، وهذه من بديهيات الدراما. لقد تردد الشخص المخطوف في العودة إلى وطنه بعد أن كان هرب منه قبل أكثر من عشرة أعوام، وهو عاد إليه مدفوعاً برغبة زوجته لا رغبته هو، ولقد كانت تلك العودة وبالاً حقيقياً عليه أنتهت الحوارية دون أن نعرف مصيره فيها على وجه التحديد... نهاية تريد قول الكثير من الأشياء، فعلاوة على قولة برودة أعصاب الخاطفين، كما أشرنا قبل قليل، كانت نهاية الحوارية ترمز إلى المصير الغامض الذي يعانيه وطن برمته يبدو أنه قد خطف من قبل الموجات الظلامية والتكفيرية وما شابه، وبين انتظار الفرج من قبل الشخص المخطوف، وبين انتظار الغنيمة بالنسبة للخاطف بقيت خيوط النص تطلق أسئلتها عن حلم أردناه حقيقة ولكنه يأبى أن يتحقق إلا على جثث الأبرياء.


قراءة في تجربة قاسم محمد المسرحية .. (السفينة وخيوط العرائس) (2-2)
 

أ.د. عقيل مهدي يوسف
- أطواره التكوينيـــة :
وكان للمسرح الروسي ، دور تكويني ، في انشاء الذات المفكرة والمبدعة لقاسم محمد ، ، واخذ منه المسرح الالماني ايضا جل انتباهه فيما يخص برخت وبيسكاتور ، وتأثره بهما ، فهو (يستعمل
مثل بسكاتور الوثائق والمؤلفات والافلام وكل ما ينطبق على الوقائع التاريخية والموضوعية (التوثيقية) جاء الخط الشكسبيري الملحمي في الدرامات المعدة عن قصة) أو حكاية ، او امثولة على خشبة المسرح ، انه يشبه كبار المبدعين المسرحيين) (6)
عرباً واجانب في الانفتاح على الفنون المجاورة والاجناس الاخرى ، ومحاولة برمجتها ضمن خطط مسرحية ، وهذا ما فعله (بسكاتور في الحرب والسلام وتوفستنوجوف في رواية النهر الهادىء .. هذه التجارب قدمت (تياترالية) اكثر حرية ، تتشابه مع ماقدمه كريج وابيا)
وهو يقترب من اسلوب بيتر بروك وتجاربه (التي مزجت الشكلين (الارسطي وغير الارسطي) بعضهما بالبعض مزجا عبقريا) (7)
ان قاسم مثل (هايز موللر) يبحث عن " تجنيد الخيال الاجتماعي " بوصفه احدى الوظائف السياسية المهمة في الفن" (8)
لكن قاسم بخلاف كثير سواه ، اقترنت لديه التجربة الجمالية ، بتجربة الشعب العراقي ، وذاكرته التاريخية والانسانية وكان يحفر في زمنه ، قنوات للتواصل الحضاري الآني المحفز للجديد ، وتشهد على ذلك كثير من تجاربه الخاصة التي تلقي باضوائها الملونة على حياة تراثية سالفة ، او على حياتنا ، بتفصيلاتها اليومية ، ومشاهدها المبهرة، ان قاسم يبحث عن قوة العدل ، ورفض الاضطهاد والقهر والعدوان من قبل اية سلطة مهما تسربلت باغطية مبهرة ، وصاخبة ، ومهيجة لان الالوان الفاقعة ، لن تخفي سحنات الشر المرتسم بوجوه صفر مرذولة ، تغتال فرح الانسان البسيط.
وقد يستدرك مع(باسكال) الذي كان يرى العدل ضعيفا ان لم تدعمه القوة ، أي قوة القانون والا استحالت الى قوة مجرمة اذا لم تقم على اسس عادلة ، والعدل ، كما يستأنف باسكال قوله: (ليس ان نعطي كل انسان الكمية ذاتها ، معتقدين اننا بذلك فرضنا المساواة ، بل ان نساير مؤهلاته الخاصة ونوفر له الامكانيات نفسها) .
4- مزايا إبداعيــــة:
ولذا ، يتميز الذين يعلمون عن سواهم ، ويحقق المبدعون تميزهم من بين سواد الناس ، لابغرض التسيد المقيت ، انما بتمييز قابلية البشر ، كلا حسب استحقاقه وجدارته ودرايته الخاصة ، وموقفه من المشهد الحياتي العارم، الذي يحيطنا ولن يخدع الجمهور العريض ، بالدعاوي الزائفة لمن يحرص على الوصول الى سدة السلطة للتحكم برقاب العباد (بأساليب دعائية ناعمة) ومغرية ، ومفخخة (ان الافاعي وان لانت ملامسها عند التقلب في انيابها العطب) .
وينفر ، قاسم محمد ، من اولئك الادعياء في عروضه المنددة بالمتاجرة بقوت الناس ، وبجثامينهم الممتلئة وهم يرطنون بالتقوى والانسانية وكما يثير اشمئزاز (باسكال) ذلك (الذي وصفه) بانه رجل " معوج التفكير" لاعتقاده بانه وحده من يتمتع بالبصيرة النيرة !! وانه بحيازته على هذه الموهبة يرى ان الاخرين بفتقدونها. ويبقى هو المتميز الاوحد !!
5- اصداراته الاخيرة :
ولو تتبعنا آخر اصدارات قاسم محمد ، كالذي جاء في نصين مسرحيين ضمنهما كتاب موسوم : بـ (تجارب مسرحية عربية في المسرح البصري)، لوجدنا احتفاءه المعروف بالبعد التراثي والبصري (الفرجة) معا والمسرحيتان هما :
1- مونولوج الخوف والرجاء عند شواطىء الجنوح .
2- تحولات حالات الاحياء والاشياء .
وقد صدر كتابه هذا عن مركز الحضارة العربية
القاهرة (2005).
نرى قاسما هنا ، يعتبر نفسه صانعا للنص ومركبا له ، وقد تماثل مع السندباد ، فاخذ يعاني معه بوصفه سندباداً اخر ، ويركز على (بحوثية) السلوك ، الحركة ، الجسد، كتل الصوت ، كما يقول فالاصوات المبهمة ، الوحشية ، يكون مصدرها (شيئاً) أو (حياً) او (وظيفة) او (لاشيئاً) محدداً ، فالمهم خلق " حالة شعورية" تؤدي الى اعمال الفكر ويوصل رسالته بما نصه : من كائن قد انتهى ذبيح. الكائن هذا يقول عن نفسه : قد ضيعت اذ جنحت بوصلة الوطن. ويلهج (الاحياء) في عالم البحار ، بالنشيج وفق النسق الاتي : ذي غربان ، اصواتها ، نوارس ، نوارس اشكالها غربان ، نوارس غربان ، وريشها اسنان قرش ، ويفصل النص ، مابين رقي الاحياء من البشر: والعجائز الشمطاوات بلا عمر ممسوخات الجنس. ويضيف في تفصيلاته الاخرى: لكل عجوز منهم قرد. ويقرن النص، الحركة باليد: وحين تمتد من جذعها لسعفها مكسوة بثوراً ، عمي عيون اصابعها فاقدة للنور ، ويثبت النص ، ملاحظة للاخراج :في عمق المشهد ثم اوار ، ويضع على لسان التوحيدي ، الوراق الكلمات الاتية : ابتدأت دوامتي بعد اوبتي ، من رحلتي السبعين مشرداً
ويضيف انني مضيع قد ضيع البلاد
يتناغم تداعي التوحيدي مع البؤرة المركزية للنص ، حين يقرر افناء منجزه تحت الحاح الغباء المستشري ، الخانق ، لنبض الخلق والابداع ، (لن اعدل عن حرق كتبي ، لي اسوة في الحرق بائمة هم قدوتي ، مثل عمر بن العداء ، حين دفن المخطوطات بقلب الأرض.
ثم يذكر اخر اسمه (ابي سلمة الداراتي) الذي اسجر مخطوطاته بالتنور : فالى متى الكسيرة اليابسة والبقيلة الذاوية ، والقميص المرقع ، ها ان الارض اقشعرت والنفوس استوحشت وتشبه كل ثعلب بأسد ، وقتلى كل انسان لاخيه ، حبلا من مسد ومن ثم تتداعى ايضا- اصوات البحارة : رباننا انك بعد ربنا تقودنا. وثمة خلفية لمشهد السندباد : رزايا تطفو غرقى ثم اخشاب واجداث تحترق ويتداعى ايضا الصاحب الاخر : اتركونا للمدى او للردى ، او للمفاوز ، ويتداعى كذلك الحلاج / ما معناي انا العالم والعارف ؟ وترد ملاحظة للتصميم : المدى لون ابيض تعلوه كتل سود تسعى (..) تقهقه النشاز فتكرب النفوس ويقول
ابو العلاء الناس بين حياتهم ومماتهم مثل الحروف محرك ومسكن .وتسمع مؤثرات صوتية : هل نمت ، ام تراني مت ؟ (..)ليس الفراغ شكل نوم ، او شكل موت او محض صمت ، لا الفراغ وجود يتحسس يتنفس يتلمس ينبض يحيا ولايموت. اما في مسرحيته الثانية ، فان (ماريونيت) او دمية (جوردن كريج) باتت منخلعة الاطراف والاعضاء في زمن اجبرتنا فيه اقدارنا المطاطية- على ركوب البحار والعيش على شفير الهاوية في زمن تنساب رمال لحظاته من بين الأصابع. يريد قاسم محمد في محاولته (البصرية) هذه ان يجذب من خلال " لون" العرض ومشهديته ، عيون النظارة ، ويغدق عليهم امكانية الاحساس بالواقع العراقي المرير ، وهو واقع ماثل في العرض ، ليستفز المتلقي ، وحتى يزيد من وتيرة تفاعله العاطفي ، تراه يرمز لافكار خاصة تعزز من تيار الانثيالات ، والتداعيات التي يتراسل عبرها وبها مع ذلك الوطن القصي الذي اسمه العراق ، ويحفه بجو عام مناسب لتسويق افكار العرض المبتكرة هذه ، بشكل مجسم ومنظور وملموس .
ويتشبع (ماريونيت) قاسم، المعمول من خشب (بونوكيو) باحاسيس البشر بعد ان يتحول انفه الخشبي الى كائن غريب كلما اقترف كذبة جديدة ، ولن يعيد الامر الى مجراه الطبيعي سوى الرجوع الى " انسانيتنا " وهو في نصه الجديد يقول على لسان احدهم : هل نحن انسان تخشب (..) أم خشب تشوق الى التحول الى انسان .
هذا " الصبي " الخشبي ، سيكون نافعا ، ويمكن للصغار أن ينتزعوا منه كمانا وقوسا، فيصدحوا بترانيم تمجد الانسان ثم (يبني خدم العرض من اشكال الماريونات الخشبية اشكالا انسانية تعزف على الكمان .)
وهكذا يدفع قاسم بقلوع سفينته المغتربة ، باشرعة تفردها اجنحة الفراشات ، للإبحار باتجاه الرقم الطينية والمسلات، بحثا عن الكمال والخلاص وبعيدا عن قيود حبال مطاطية .


الشاعر الامريكي روبيرت بينسكي ومباهج الكتابة الشعرية .. رؤية الجمال والإثارة في العادي جزء كبير من الفن

ترجمة- عادل العامل
عن - مجلة 1/2006 Poet chat
يمارس روبيرت بينسكي التدريس في برنامج كتابة المتخرجين بجامعة بوستون، وهو أيضاً مؤلف لمجلدين من المقالات في الشعر. ويحمل لقب شاعر الولايات المتحدة، وقد أجرى دانييل كين هذه المقابلة معه بشأن قصيدته المذكورة أدناه وأسلوبه الشعري ضمن سلسلة مقابلاته مع الشعراء في هذا الإطار.
أولى الصباحات المبكرة معاً
ونحن نستيقظ معاً فوق دكان الحلوى
نسمعُ الطيور تصحو أسفلَ عتبة النافذة
وببطءٍ نتعرف أنفسنا على الطقس،
الوقتِ، والطيور التي تحفُّ هناك حتى
تهبط الى الشارع كالضباب وتصعد بهدوء
والحمائم ترفرف من الظلةِ المتجعدة
لتستطلعَ، وتدمدمَ، وتحدقَ وتنتقلَ
ناقرةً الميزابَ الملون بألوان قوس قزح فرادى وازواجاًُ.
* تقول"أن يكتب المرء (في نمط من الانماط) لا يعني بالضرورة ان يكتب بنمطية". وما يثير فضولي في ضوء هذا التعبير قصيدة "أولى الصباحات المبكرة معاً" باعتبارها قصيدة تتطلب ان يتلقاها الواحد نمطياً ولا نمطياً على حدٍ سواء، ان شئت. فنظام القافية أب أب /ج د ج د هنا" "نمطي" جداً وقد يقرأه طلبة الشعر كشيء يتلاءم مع ما "ينبغي" ان يفعله الشعر كما يدركون بشكلٍ مبهم- والذي هو الايقاع. وفي الوقت نفسه، فان السرد معقد على نحوٍ وافٍ، ويهدد الطبيعة الشعرية النغمية للقافية. فمثلاً، تسمح كلمة "حتى
untill" للسرد بالمضي في تشكيلة مختلفة من الاتجاهات- انها يمكن ان تنتهي هناك وتجعل المقطع الشعري الأول محيراً على نحوٍ غريب، ويمكن ان تقرأ متصلةً بالمقطع الثاني حيث تحف الطيور "حتى الضباب وتصعد بهدوء" فهل ترى ان طلبة الشعر ينبغي ان يستخدموا النمط ليخلقوا هذا النوع من اضطراب الهزل fun trouble؟ هل ينبغي استخدام النمط لتعقيد افكارنا عما ينبغي للنمط ان يفعل؟
- الكلمة المهمة عندي هنا "الهزل" فاذا كان التفكير بالطريقة التي تكون بها كلمات معينة تبدو متشابهة ومختلفة سارّاً بالنسبة لي، فلأستمتع به. وإذا لا، فلا أهمية لذلك. إن القصيدة التي اكتبها، بالنسبة لي أشبه بتقديم حفلة للقراء منها بتقديم اختبار.
فاذا كنت في مزاج للتحدث، فذلك جيد، وإذا كنتَ في مزاج للرقص، فذلك جيد، وكل تلهفي ان لا تكون متضجراً.
* معظم الشعراء الذين أجريت معهم مقابلات يعتبرون- في مختلف الأحوال- كتاباً طليعيين أو "تجريبيين". ومن جهة اخرى، يمكن القول ان قصيدتك هذه قصيدة "نمطية" أو "تقليدية".
لنفرض انك توافق على هذا التخصيص، فيما يتعلق بما تجعله قصيدتك "تقليديا" فهل هذه الأنواع من التمييزات تبدو إشكالية لك ككاتب؟
- هذا ليس تمييزي ولا هذه مصطلحاتي:
"الطليعيون" و"التجريبيون" لهم تقاليدهم وتاريخهم. والعمل الذي يجري تعيينه بهذه المصطلحات يمكن ان يكون متسماً بمحاكاة التقليد واصطلاحياً أو قد يكون طازجاًُ ومتميزاً. إن هذه القصيدة الصغيرة لي- وقد كتبتها في أوائل عشرينياتي، وأحسب انك اخترت الاقدم، وربما الاقصر، من كل قصائدي المجموعة- تمتلك بالفعل ما يشبه الاصوات في نهايات الأبيات- (
…until, weather, sill, together) والكتابة المرتبة على هذا النحو يمكن ان تكون متسمة بمحاكاة التقليد واصطلاحيته، وقد تكون طازجة ومتميزة، بكلمات آخر، ليست هناك طريقة أوتوماتيكية لجعل الشيء جيداً وجديداً، ولا يمكنك ان تنجز هذا بتوقيعك عقد عمل مع فريق، أو ترتيب كلماتك بطريقة معينة مألوفة لدى أولئك الذين يستعملون مصطلحات فنية جديدة.
* من تجربتي انا، وجدت ان طلاب الشعر ينظمون شعراً ليس في صالحهم- أي ، ينهون كتابة قصائد مكررة الى حد الابتذال نسبياً، ذات أبيات تجهد نفسها أكثر نحو التأكيد بأن الأوزان "تعمل" باعتبارها مضادة لإبداع أبيات تدهش وتسر.
هل لديك أية نصيحة للناشة الذين يمكن القول انهم نظامون مصممون، من اجل توسيع الامكانات للوزن، ام ينبغي لهم أن ينقطعوا عن الوزن فقط ليعودوا اليه؟
- أنصحهم بقراءة بن جونسون، إيميلي ديكينسون، وليام بتلرييتس، إيدوين أرلينغتون روبنسون وغيرهم من أساتذة الايقاع الشعري، وان يسألوا أنفسهم ان كان باستطاعتهم ان يكتبوا ذلك فردياً، بذلك النوع من التناسق والتعبيرية، وهم يحافظون على الايقاعات الأخيرة.
* يقدم تعبير "الميزاب الملون بألوان قوس قزح" لطلاب الشعر هنا طريقة تجديدية لاعادة تخيل بيئتهم اليومية- اعني، على المستوى - الأكثر وضوحاً، ميزاباً هو موصل للوساخة، ومع هذا تصبغ انت هذا الشيء بلونٍ حرفي، أي نوع من القيم تظن انه موجود في أشياء معيدة للتخيل كالميزاب بنوعٍ من المثالية تعرضه هنا؟ أية مباهج تشعر بها وأنت تكتب هذا التعبير؟
ان رؤية الجمال والإثارة في العادي على وجه الافتراض جزء كبير من الفن بالنسبة لي، فني انا بالتأكيد. وانا أأمل في ان ملاحظة الوانٍ جميلة يمكن ان يصنعها قليل من زيت محرك أو غازولين في بركة ماء على حافة طريق ستقدم شيئاً من البهجة للقارئ، كما فعل لي.
أأمل في ان الصورة هي اقرب الى "الطازج والمتميز" منها الى "المتسم بمحاكاة التقليد".
وأنا في الواقع لا استطيع الآن ان اتذكر ما شعرت به عند كتابة هذا التعبير- فقد كنت في عهد الصبا تقريباً آنذاك، واكتب انطلاقاً من الانشداه بما تركته علاقة بأمرةٍ في نفسي- لكنني سأتأمل ذلك، نعم استمتعت به.


الكتاب المستنسخ في العراق مازال الأكثر رواجا

محمد مزيد
عندما نتجول في شارع الثقافة العراقية ، ايامنا هذه ، سنجد بدون ادنى شك تأثيرات ذلك الحصار الدامي الذي فرضه النظام الشوفيني على الشعب العراقي ابان فترته المظلمة ، خصوصا على المثقفين العراقيين الذين تحايلوا وصمتوا وتواروا عن الانظار ، والذين كانوا بانتظار ان تمطر تلك الغمامة السوداء كي يخرجوا الى النور ، مما استولد لديهم سلوكا ثقافيا في غاية الطرافة والحزن والمأساة ، ربما لم يمر به مثقفو اي بلد عربي اخر من قبل وربما من بعد .
ذلك السلوك يعد الان من مخلفات الماضي لكنه مازال يلقي بظلاله على الحراك الثقافي مما انتج فيما بينه وبين العالم المنفتح المصاريع لغة وخطابة تحتاج منا التوقف عندها لتسليط الضوء عليها .. اذ مازال المثقف العراقي الذي حوصر اكثر من اثنتي عشرة سنة يركض خلف الكتاب المستنسخ ، الذي اعتاد عليه في تلك الايام ، والذي غالبا ما يكون سببا لاطلالته على العالم واساسا في التواصل وتلقي رسائله وخطاباته .
هذا شارع المتنبي الذي يكتظ كل جمعة بالمثقفين العراقيين والباعة المتجولين الذين يتبارون في ايجاد الكتاب الثمين المفقود في المكتبات ، ستجد فيه الكتاب المستنسخ او الكتاب المنسوخ على جهاز الدفلوب هو الاكثر رواجا و طلبا وهو الاكثر ترجيحا في البحث والتنقيب .. بينما الساحة العراقية بعد ان تفتحت ابواب الحرية قد احتشد فيها كل ما يتمنى المثقف العربي الحصول عليه .
تعود قصة الكتاب المستنسخ الى تلك الايام السود التي انغلقت فيها السبل للحصول على الكتاب الثقافي ، فكان ذلك دافعا لمجموعة من المثقفين الصامتين الرائعين ممن تيسرت لهم الحال ان يسعوا الى تصوير الكتب الثمينة ، في المعارف كلها ، اللغوية والادبية والفلسفية والنفسية والدينية ، لتباع هذه الكتب باسعار زهيدة ويثلج بها صدر المقتنين ، والحكومة كانت تدرك جيدا ان شريحة المثقفين هم دائما كانوا الاكثر خطرا على وجودها لانهم كما تعتقد يحملون شعلة برومثيوس ويتنقلون بها من مكان الى اخر ، ويروجون لها من الكلام الى الصمت ,, رغم ان عيون عسسها كانت ترصد بدقة ومجهرية ما يمكن ان يفعله هؤلاء الصعاليك الذين انصرفوا عن ولائم الدكتاتور ليستطعموا جوعا شفافا لم يخرجهم عن طورهم ولم يدخلوا حلبة المنافسة غير الشريفة لتلميع وجه الطاغية القبيح ، كان كل همهم الوصول بالكتاب الى اولئك المتصامتين المتوارين عن الانظار القابضين على الجمر بانتظار انتهاء فصول مسرحية المهزلة التي استمرت ثلاثة عقود وبنجاح قل نظيره في الفشل .
اصبحت تجمعات المثقفين المتوارين فيما بينهم تشكل نمطا يوميا من السلوك ، كان احيانا يجلب بعض السرور لصدورهم المختنقة بالالم ،و لان ما ارادت التعتيم عليه دولة اللاثقافة بات مكشوفا ، وكان شارع المتنبي يشهد ، كل اسبوع ، وفي كل جمعة ، همسا بالغ الخطورة ، لم تستطع اجهزة النظام الفاسد القبض على لغته الغامضة السحرية .
وتكونت لدى المثقفين مكتبات مستنسخة ، حروفها ناعمة صغيرة يخالطها الحبر ورداءة الورق ، وكانت كل اسباب ايقاف عجلة الثقافة التي جندت الحكومة لها ما جندت من الترغيب والترهيب تبوء بالفشل مادام هناك من يمد المتعطشين للمعرفة وقد انكروا ذاتهم بل ان بعضهم ذهب الى دروب الموت الحتمي ولم يثن ذلك الاخرين الذين اضاءوا الحياة الثقافية العراقية بهذا العطاء الثر الجبار .
شاعر يقول : لست ادري كيف يمكنني ان اصف تلك اللحظات المجنونة التي وقفنا فيها نتحدى الطاغوت لنرسل الكتب المستنسخة الى المبدعين العراقيين مقابل اثمان بسيطة ربما تسدد بالكاد تكلفة الورق والحبر .
لماذا يبحث المثقفون عن تلك الكتب المستنسخة بينما شارع المتنبي يكتظ بكل ما لذ وطاب ، انه الاعتياد على هذا السلوك ، كان هناك شبه اجماع على ان ما كان يفعله المثقفون تلبية لاشباع فضولهم المعرفي يعد من الناحية النفسية نضالا سريا ضد الاستبداد والقمع والسواد الذي عممه خطاب الشوفينيين ، هذا الشعور يثير طعما اخاذا باذخا في نفوس المثقفين لذلك كانوا يهرعون الى سوق الكتاب في شارع المتنبي بحثا عن تلك السعادة الباطنية التي عاشوها ، وليس خافيا ايضا ان الكتاب المستنسخ مازال الى الساعة الاكثر رواجا بين الكتب الاخرى .
هذه الظاهرة الا تحتاج الى دراسة ؟ ربما !


اصدارات

كلمات مغتربة


استجمعت الشاعرة سعاد العبيدي قواها الشعرية لتصدر مجموعتها الشعرية الثانية (كلمات مغتربة) وحين نقرأ قصائد المجموعة نجد انها ليست مغتربة بل تنتمي الى قضايا الإنسان العراقي واحياناً تبتعد عن المئات ليصبح الإنسان في كل مكان قضيتها.
يقول عنها الكاتب ناظم السعود في المقدمة التي قدم بها الشاعرة (تذكرني بلمسات شواعر وشعراء كبار هضمت الشاعرة نصوصهم فاعادت انتاج نصوص اخرى تبدو مرتبطة حيناً ومنفصلة حينا آخر عن التيار الأول)، اما المقدمة الثانية فقد كتبها الباحث والأديب جاسم محمد صالح فقد عقد مقارنة بينها وبين الشاعرة نازك الملائكة (الشاعرة سعاد العبيدي تسير في ابداع وتواصل مع الشاعرة نازك الملائكة في تناول البحر كرمز من الرموز).
 

قصائد في متن المعنى


يحرص الشاعر فائز الحداد على تجديد مشروعه الشعري بلغة شعرية محلقة تسكن متن المعنى وما يدعو الى الاحتفاء إصداره الجديد (لا هوية لباب) حيث يعتمد اللغة لا كعنصر توصيل الى المتلقي فحسب بل عنصر خلق وابتكار وعن قصيدة (نافذة الفقد) التي احتوتها المجموعة نقرا:
سالتقيك على نافذة الفقد
لترى الكأس شيخاً..
لايروعه البياض عن العيب..!!
وحين توقدني سيكارة فوق كتاب..
لا تقرأ ني بأخلاق الليل
فلست ورقة ساقطة اتعلق بعين
أو يأسرني وهم العدسات..!
ضمت المجموعة (22) قصيدة بـ(53) صفحة من القطع المتوسط وصمم الغلاف الفنان قاسم العزاوي.
 

جسد على الطريق


عنوان انثوي لرواية كتبتها الروائية آمال عدنان الزبيدي والرواية هي أول عمل سردي تصدره الروائية بعد ان مارست ابداعها كشاعرة منتصف التسعينيات.. تناولت الرواية مجموعة قضايا تنحاز الى المرأة بكل ثقلها حيث تلقي الحياة الاجتماعية للمرأة العربية بكل محظوراتها على شكل عقبات تحبط وصول المرأة الى اهدافها لكنها تنتصر بارادتها وربما تشكل الرواية أول تناول لقضية العنوسة التي خلقتها المناخات الاقتصادية الخانقة وظروف الحروب التي دفعت المراة شبابها ثمناً لها على الرغم من كونها لا علاقة لها بها وبالتالي تتحمل نتائجها مجبرة.. ربما تعتقد ان القدر يقف بالمرصاد ازاء أحلامها لكنها اخيراً تبرئ القدر فترضى بعريس في الوقت الضائع.
وقعت الرواية بـ (114) صفحة من القطع المتوسط وضمت أربعة فصول.
لا هوية لباب

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة