مشروع
الأمة الوطنية ..قراءة
في وصايا الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين
د.
فائز الشرع
لا تأتي أهمية
وصايا المرحوم الشيخ شمس الدين من شموليتها ومعالجته ـ عن
خبرة ودراية ـ موضوعا حساسا وشائكا، هو وضع الشيعة في
لبنان وبعض الدول العربية، فحسب، وإنما تتضاعف هذه الأهمية
من الوضع الذي صدرت عنه هذه الوصايا، لكونها آخر ما أنجزه
رجل دين عالم وناشط سياسي فضلا عن دوره في التوجيه المعنوي
للجهاد، ومن ثم فهي خلاصة تجربة تستند، إضافة للدعامة
التاريخية، إلى الممارسة القيادية والنضالية المتعلقة بوضع
الشيعة ومحاولتهم إثبات تأثيرهم، الذي يتجاوز إثبات وجودهم
المحاط بالتهميش والإلغاء في أكثر من بقعة، من العالم
الإسلامي، لاسيما العربي. وتتطلب الوصية موصياً هو الشيخ
شمس الدين هنا، وموصى وهم الشيعة في لبنان مع بعض البقع
العربية وبخاصة العراق، وموصى به، وهو حال معنوية غير
مشخصة إلا على التشخيص الجمعي، هذه الحال هي مصير الشيعة
ووضعهم في البلدان التي يوجدون فيها، أما متن الوصية ـ غير
المكتملة ـ من حيث البنية، لا من حيث المعطيات، فسنرتبه لا
على أساس ما ورد في الجلسات التي سجلت فيها الوصية، وإنما
من حيث أهمية موادها، وما يحقق مرتكزاتها الممثلة لمشروع
الشيخ النهضوي الوحدوي، عربيا وإسلاميا، و كما يأتي:
المرتكزات
الأساسية للوصايا:
تقوم الوصايا على
مرتكزات جوهرية، تندرج تحتها كل الطروحات والمقترحات، سواء
التي أشار الموصي إلى تنفيذها أم التي بقيت تنتظر من
ينفذها، إضافة إلى ما يعد مقترحات إصلاحية تبقى للتاريخ
وتتلخص بـ:
1-اندماج الشيعة في المجتمع (الأمة)الذي يوجدون فيه.
2-نبذ وسائل التمييز الخاص.
3-عدم الاستماع إلى الدعوات التي تحث على التمييز، طلبا
للإنصاف ورفع الظلم عنهم.
4-عدم الانخراط في التكتلات الحزبية ذات الإطار المذهبي.
المسوغات والحجج:
1-التذكير بمبدأ
أساسي أقره أهل البيت (ع)، وهو وحدة الأمة.
2-التحذير من ضرر العزل، وما له من أثر سلبي على الشيعة
أنفسهم والمجتمع الذي ينتمون إليه بأكمله.
3-التنبيه إلى مخالفة الأئمة (ع)، لاسيما الإمامين الباقر
والصادق، في أقوالهم وسيرهم التي انتهجت الاندماج بالمجتمع
الإسلامي.
4-الإشارة إلى عدم استطاعة أحزاب شيعية تحقيق بعد إسلامي
شمولي، مركزا على تجربة (حزب الدعوة) وغيره مما لم يسمه،
فضلا عن تجربة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، التي فصَّل
في تناولها .
والملاحظ على مرتكزات الوصية ومسوغاتها أنها تنطلق من
الخصوصية لمعالجة العموم، بمعنى أن الشيخ شمس الدين، لم
يغادر الخطاب الخاص للشيعة، وهو يؤكد ضرورة ذوبانهم في جسد
الأمة الواحد، وفي ذلك تعارض ظاهري بين الدعوة إلى التوحد
واستبعاد التمايز على أساس الانتماء المذهبي، مع التذكير
بالخصوصية المميزة. ويمكن التغلب على الوقوع في التعارض،
بفهم أن الشيخ يوجه خطابه بالدرجة الأساس إلى أبناء
الطائفة الشيعية في لبنان، مع توسع في تناول الشيعة في
الوطن العربي وبخاصة العراق. ويتطلب الحديث إلى أبناء هذا
المذهب أن يصدر عن خصوصية اعتقادية، لضمان التأثير، وهو
المطلوب من الوصية، لذلك فقد سلك الشيخ في إيجاد المسوغات
على عناصر متكاملة، قطباها الماضي الاعتقادي والحاضر
القريب المعاش.
وقد اتخذت الوصية طابعا إشاريا، يعتمد خطابا مختزلا، نتيجة
للظروف التي أنتجت فيها، إذ سُطرت والشيخ شمس الدين في
أيامه الأخيرة، فضلا عن العرف التعبيري للوصايا، الذي لا
يتطلب خطابا تفصيليا بحثيا، رغم هيمنة التوكيد على المتن
التعبيري للوصية التي لم تكتمل، مع أن الراحل قد أكد أهم
ما يريد الإدلاء به وتوجيه أبناء طائفته إليه، وهو
الابتعاد عن التمييز على أساس المذهب والاندماج في
المجتمعات التي يعيشون فيها. ويخف أثر الاختزال في سرد
مختصر لقصة إنشاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، ليثبت
أنه كان ضرورة بدئية بالنسبة لشيعة لبنان، الذين فرض عليهم
واقع من التهميش في مقابل تمايزات طائفية ودينية، خلقها
واقع سياسي وإقليمي واقتصادي، منذ هيمنة الدولة العثمانية
وما تلاها. ومع ذلك فإن تعارضات، ناتجة عن اختلاف الرؤى
والمصالح الشخصية، لم تهيئ له أن ينجح في تحقيق أهدافه
التي أرادها الإمام موسى الصدر، وقادة الهيأة الشرعية،
لتجاوز الاتجاه الضيق للطائفة إلى ما يصب في حيزالمصلحة
الوطنية، في إطار مواجهة الأخطار الخارجية ممثلة بخطر
إسرائيل والتدخلات والوصايات الإقليمية والدولية الرامية
إلى تسيير الحياة اللبنانية، كلا بحسب مصالحه مما خلق
التمزق الذي عاناه الشعب اللبناني بقسوة.
الجامعة الإسلامية
الشيعية:
كرس الشيخ شمس
الدين هذا المسعى فيما ذكره من الإصرار على إقامة جامعة
شيعية (الجامعة الإسلامية في لبنان) وهي من المساعي التي
تعود إلى (أيام الاستعمار البريطاني في الهند كتعبير عن
الذات، وتعبير عن الخصوصية، وفشلت..)(ص32) مرورا بمحاولة (أيام
المرحوم السيد محسن الحكيم، المرجع الديني الشهير، حيث
تأسست لها هيئات، وجمعت لها أموال، واشتريت أرض كبيرة بين
الكوفة والنجف، ووضعت نظمها وأنشئت بعنوان "جامعة الكوفة"
وذلك لتكون رافعة للحضور الشيعي الإسلامي العربي في العراق،
ولتكون نافذة على تحديث وتطوير وضع الشيعة العراقيين
وغيرهم) والنتيجة (أن الأحداث التي عصفت بالعراق، والروح
الطائفية التي غلبت على النظام العراقي، أفشلت هذا المشروع
أيام الرئيس عبد السلام عارف، حيث سحبت الإجازة، وصودرت
الأموال، وصودرت الأراضي، وماتت الفكرة)(ص33) وكان من
مقاصد المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان إحياء هذه
الفكرة وتنفيذها، وقد حالت الظروف السياسية الصعبة دون أن
يجعلها الإمام موسى الصدر من أولوياته، ولكنها بقيت في
ضمير الشيخ شمس الدين، وحرص على إنشائها على الرغم من
الخذلان واللامبالاة من القوى الفاعلة في الطائفة الشيعية
اللبنانية، في مقابل معونة الرئيس الهراوي ورئيس
الوزراء(الراحل) رفيق الحريري، وقد كانت الجامعة تمثيلا
فاعلا لرؤية الشيخ شمس الدين الفكرية بخصوص وضع الشيعة في
لبنان، وهي صورة مصغرة لمجتمع يعد إعدادا حضاريا ليكون
نواة لنموذج اجتماعي مدني ينزع إلى الوحدة من دون تمايز،
فنجد الشيخ قد رسم لهذه الجامعة مهام مختلفة عن أطر
التسمية والانتماء، إذ (لا يجوز أن تكون جامعة مذهبية أو
طائفية،أو دينية خاصة، بل يجب أن تكون جامعة لتندمج في
تكوين الاجتماع اللبناني العام، وتقوم بدورها في البناء
الإسلامي العام، ودورها الوطني اللبناني العام)(ص34)، كما
يمكن أن تحدد مواصفات هذه الجامعة على وفق رؤية الشيخ شمس
الدين بأنها:
1-قوة تغيير في المجتمع.
2-لبنانية وطنية إسلامية.
3-تلتمس الحقول العلمية والخبروية غير المتوافرة في لبنان،
فضلا عن الاختصاصات العلمية المعهودة.
4-تعنى ـ في الدراسات الدينية والإنسانية ـ بالفقه المقارن
وقضايا الوحدة الإسلامية.
5-تمهد لنشوء جيل من المجتهدين الإسلاميين العاملين في
الشريعة الإسلامية العامة لا على الصعيد المذهبي، مقارنة
بالقوانين الوضعية.
6-تسعى لجعل الشريعة جزءا من الهيكلية القانونية الحقوقية
في الفكر العالمي.
7-تعيد توحيد "السنة النبوية"، سواء ما ورد منها عن طريق
أهل البيت أم الصحابة.
8-تعنى بعلم الأديان المقارن والحوار الإسلامي ـ المسيحي،
في لبنان والعالم العربي.
9-تحديث علم الكلام الإسلامي، لتناول قضايا عصرية، بمراعاة
التقدم العلمي والبحث الفلسفي.
يؤطر ذلك كله تمسك الشيخ بالقول "التمسوا وابحثوا في أعلى
المقاييس، وأصعب المقاييس الأكاديمية وطبقوها في هذه
الجامعة" من جهة، والحصانة من هيمنة السلطة السياسية،
والابتعاد عن التعيينات النفعية، من جهة أخرى.
ما يستشف من مواصفات هذه الجامعة أنها مشروع إصلاحي، لا
يتوقف أثره عند المعطى الأكاديمي، وإنما ينقسم إلى
فعاليتين هما: توجيه طاقة تغييرية للمجتمع اللبناني بشكل
عام، وضمان نهضة وطنية شاملة، وتوجيه طاقة تغييرية خاصة
بأبناء الطائفة الشيعية في لبنان. وإن كانت الفعاليتان
تكمل أحداهما الأخرى، إذ ينطلق الإصلاح من الخاص إلى العام.
ولكن الناحية الأخطر في هذا المشروع ترتبط بتناول قضية
الاجتهاد في المذهب الشيعي والمذاهب السنية، إذ يعتمد
المذهب الشيعي في وصول "السنة النبوية"، بعد النص القرآني
المتفق عليه،على ما يصل عن طريق أئمة أهل البيت (ع) لتكوين
ما يدعوه الشيخ بـ(سنة أهل البيت) في حين يأخذ أهل السنة
بـ(سنة الصحابة)، وما تسعى إليه الجامعة هو (إعادة توحيد
السنة النبوية)، وهو سعي يلتقي في النتائج أو الهدف مع
اتجاه إسلامي، قاد إلى نتائج خطيرة بإزاء عدم انسياق
المذاهب معه، فضلا عن تعارض الكثير من ثوابته مع مقتضيات
العصر، وهو التيار السلفي، الذي يدعو للعودة إلى المنابع
الأولى للسنة النبوية. غير أن مشروع الشيخ شمس الدين يرمي
إلى استكمال المشاريع الإصلاحية، مادامت مرتبطة بتطور
العصر تقنيا وفكريا، ويهدف ضمنا إلى إلغاء الاجتهاد على
أساس مذهبي، وهو ما يمنح الاجتهاد بعدا إسلاميا موحدا.
ولكن مثل هذا المشروع لا يمكن أن يكتب له النجاح ما بقي
مشروعا انفراديا محدود الأثر في بيئته، فكيف بالبيئات
الأخر، لأن نجاحه يعني تقويض مؤسسات كالمرجعيات الدينية
وهيئات الإفتاء، فضلا عن الأقطاب التي تمثلها الشخصيات
الدينية، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن العمر المديد، وتراكم
التقاليد للمؤسسات والتنظيمات المذهبية عموما لا يمكن
اختراقها بإقامة مشروع ضيق الأثر كالجامعة الإسلامية التي
أنشأها الشيخ شمس الدين.
الأمانة العامة
للقمة الروحية اللبنانية:
تعزيزا لتوجهه
الوحدوي، الذي أراد له أن يتجاوز الوحدة الإسلامية إلى
وحدة شاملة على أساس المعطيات الروحية التي تجمع الأديان،
أكد الشيخ شمس الدين في وصيته ضرورة إنشاء وتفعيل مشروع (الأمانة
العامة للقمة الروحية اللبنانية)، لـ(ترصد وتراقب وتواكب
التقلبات السياسية العامة ذات الشأن الوطني العام،وتتلقى
من مرجعياتها التوجيهات في هذا الشأن) من أجل (تكوين رؤية
مشتركة يمكن أن يوجه من خلالها خطاب وطني جامع)(ص29) وهي
خطوة أكثر تطورا من مشروع الجامعة الإسلامية، إذ يغادر
الخصوصية الدينية الموحدة إلى العمومية الدينية، موجدا لها
اصطلاحا لا يخلو من ذكاء وشمولية ودقة، في كونه يدرج تحته
مفهوما جامعا مانعا، فالأمانة الروحية تعنى بما هو روحي،
بصرف النظر عن أن يكون المعتقد دينا يمتلك طقوسه وتراثه
ونضوجه، ما دام روحيا يقوم على مركزة الوازع الأخلاقي في
تسيير الحياة، كما تتيح هذه الأمانة عدم الاقتصار على
الأديان والمعتقدات الموجودة في لبنان، بل هي نواة لهيأة
عالمية، قد تتجاوز الأثر الايجابي الاتحادي الذي تحققه
هيئات كمنظمة المؤتمر الإسلامي. ولكن مثل هذه الأمانة،
التي يذكر الشيخ الراحل أن اقتراحها لقي قبولا من (نسبة
عالية من إخواننا رؤساء الطوائف) في اجتماع "بكركي" لا
يمكن أن يكون أفضل حالا من تجربة المجلس الإسلامي الشيعي
الأعلى، التي أشار إليها الشيخ نفسه،لأنها لن تضم الغالبية
فكيف بالجميع، مع وجود الكثير من التعارضات ووجهات النظر
المنطلقة من استقراء الواقع، يضاف إليه البعد الشخصي الذي
يدخل في احتساب الانضواء تحت مثل هذا التجمع الروحي، من
دون تناسي البعد الديني والطائفي الذي يقف عائقا أمام نجاح
مثل هذا الكيان الروحي القيادي. وقد جمعني مع بعض الزملاء
لقاء بالمرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله، أبدى فيه
السيد معارضته لهذه الخطوة مسوغا الرفض بما ينتج عن هذا
الكيان من أخطار تنعكس على أتباع كل دين ومذهب في حال نشوب
خلاف بين أعضاء هذه الأمانة من زعماء الأديان والطوائف.
الأقليات
والأكثريات في الشرق:
تعد هذه الموضوعة
من أكثر الموضوعات حساسية في الوصايا، وذلك لأنها تقدم
الرؤية السياسية تجاه الحراك العالمي والتوازنات الدولية
وموقع الشيعة وغيرهم في مثابات التحول السياسي، وينطلق
الشيخ في هذه الموضوعة من مقدمة انتقادية تحمل على السياسة
الغربية والأمريكية، وتعاملها مع التكوينات الاثنية
والأقليات في الدول لاسيما في الشرق، ولا يبتعد الشيخ عن
الاستناد إلى نظرية المؤامرة في تدعيم خطابه الناقد /
الكاشف لتلك السياسة، التي تمرر بوساطة ما تقدمه العولمة
من محفزات لإثارة الخلافات على أسس عرقية ودينية ومذهبية،
ويضيف الشيخ أقطابا أخر إلى جانب الغرب بقوله: (إن القوى
العظمى، سواء في العالم الغربي أو في أماكن أخرى من آسيا،
تركز على التنوعات الموجودة داخل المجموعات الوطنية
والقومية الأخرى، وتركز على حقوق هذه الأقليات. وهذه القوى
حينما تنشئ الهيئات، وتعقد المؤتمرات والندوات، فإن حافزها
الحقيقي ليس إطلاقا تحري العدالة في إنصاف هذه الأقليات
مما يصيبها من الأكثرية..وإنما هدفها هو إعادة تقسيم
المجتمعات الوطنية في العالم الثالث تمهيدا لبث الفتن
بينها، والسيطرة عليها، واقتطاع أجزاء منها ضد أوطانها وضد
مصالحها العامة) (ص38)، ولكن ثمة إشكالات يمكن أن تشوب هذه
الرؤية التي تملك عناصر الإقناع، استنادا إلى بعض المعطيات،
تتمثل هذه الإشكالات في طبيعة النظام العالمي الذي بتنا
نحتكم إليه وقد شاعت فيه ثقافة حقوق الإنسان التي تبدأ
بحقوق الفرد لتتناول حقوق الجماعات أو الأقليات المهتضمة
حقوقها، ومما لاشك فيه أن استعادة هذه الأقليات حقوقها لا
يأتي من دون ضغوط على الأنظمة السياسية التي بنت
أيديولوجياتها على تهميش هذه الطائفة أو تلك أو هذا العرق
دون ذلك، فضلا عن تمهيش المعارض السياسي، يضاف إلى ذلك أن
ما تنتقد به العولمة أنها تحاول إذابة الخصوصيات في
الميزات الكبرى المنتقاة للثقافة الغالبة.
أما وصية الشيخ للشيعة، وبخاصة في العالم العربي، بأن لا
يقعوا في فخ (إشعارهم بأنهم يمثلون أقلية في المسلمين،
وأنهم مضطهدون هنا وهناك) وعليهم أن ينظَِّموا صفوفهم،
ويستعينوا بالدول الأجنبية،أو مؤسسات الدول العظمى في نطاق
الأمم المتحدة،لرعاية ما يسمى حقوق الأقليات، ومنح
الولايات المتحدة نفسها صلاحية التدخل على وفق ما يقتضيه "قانون
حرية الأديان" الذي سنته، فقد استدرك عليها مذكرا بقضايا
الاضطهاد والحرمان الذي تعرض له الشيعة في كثير من أوطانهم،
لكنه رأى أن الحل (بالعمل السياسي الإنساني الدائم لتوثيق
عرى الاندماج، بجميع سبل الاندماج، في الحياة الثقافية
والاجتماعية والاقتصادية في أوطانهم، وفي توثيق نظام
المصالح العام، وفي زيجات مختلطة، وفي كل شيء يمكن أن ينشئ
شبكة مصالح عامة للمجتمع، يكون الشيعة جزءا من نسيجها لا
ينفصم) (ص 39)، وهنا يمكن التساؤل ثانية كيف يمكن أن يتم
الحراك والاندماج من دون فقدان الهوية الخاصة، التي يمكن
أن تكون مستساغة بل وواجبة في ظل أنظمة لا تغيب الخصوصيات
الأخر، بل تدعو إلى الاندراج ضمنها؟ ثم ألا يقوم اندماج
الخصوصيات على إلغائها لصالح عمومية موحدة، كما هو الحال
في حل كالجامعة الإسلامية التي وضع الشيخ أسسها الفكرية
ومناهجها؟، ثم لماذا يقاس في احتساب الأقلية الشيعية على
الوطن العربي بأجمعه، في حين أن الوصايا تناقش في الغالب
وضعهم الوطني كما في لبنان،مع أن المحيط الوطني يختلف في
وضع الشيعة في العراق الذين يشكلون أغلبية لا أقلية؟
الأكثريتان
الكبيرتان:
في هذه الموضوعة
من الوصايا يمكن بوضوح إثبات حال الاتزان وبعد النظر في
إيجاد الحلول التوفيقية الجذرية حتى لدى استعمال
الاصطلاحات التي تضم التكوينات المختلفة في المنطقة
العربية، إذ حدد الشيخ، بفكرة لا تخلو من منحى ابتكاري،
أنه(لا توجد أقليات مسلمة ولا توجد أقليات مسيحية. توجد
أكثريتان كبيرتان: إحداهما أكثرية كبيرة هي الأكثرية
العربية التي تضم مسلمين وغير مسلمين، والأخرى هي الأكثرية
الأكبر وهي الأكثرية المسلمة التي تضم عربا وغير عرب.
والشيعة مندمجون في هاتين الاكثريتين)(ص42). ويبدو واضحا
أن الشيخ شمس الدين يقيس على الواقع اللبناني وتنوعاته،
فمع الاعتراف بحصافة رأية واتجاهه الوحدوي، لا يمكن حصر
التنوعات الانتمائية في المنطقة العربية بالعنصرين العربي
والإسلامي مع غلبتهما، إذ يند عن هذا التقسيم وجود أتباع
دين غير الإسلام بقومية مختلفة كالكلدوآشوريين مثلا، يضاف
إليهم من لا يصنف نفسه سياسيا، استنادا إلى الهوية الدينية
(الإسلامية) الكُرد والبربر وغيرهم، وهنا سنكون ثانية أمام
محددات الأقلية!
وفي الختام لا يمكن إغفال أهمية هذه الوصايا وضرورة
استقراء معطياتها ذات الأفق المستقبلي، بمراعاة التحولات
التي تحدث هذه الأيام بعد مدة ليست بالقصيرة من وفاة الشيخ
شمس الدين وتاريخ الوصية، كما لا يمكن إغفال التوقيت الذي
اختارت لجنة النشر في صحيفة المدى فيه طبع وصايا الشيخ
الراحل.
ـــــــــــــــــــــــ
* وصايا الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين، مجانا مع جريدة
المدى، لشهر كانون الأول، سلسلة الكتاب للجميع (17).
|