المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

(يسلطان المشايخ صاحب الحضرة) .. القبة العسكرية .. قرون والسامرائيون يجدون الشمس ببريقها

رشيد الخيُّون
يأسر زائر سامراء مشهدان: ملويتها الحلزونية (القرن الثالث الهجري)، التي تصعد ملتوية بعكس عقارب الساعة، معاندة للزمن، وقبتها التي تملأ فضاءها وهجاً. كل حَجرة من أحجار سامراء تحكي قصة قرن من القرون الخوالي. بناها المعتصم (ت227هـ) على أساس دير، وأثر بابلي وآشوري وساساني. وسكن الإمام علي الهادي (ت254هـ) داراً لدُليل بن يعقوب النصراني، كاتب بغا الشرابي، ابتاعها (الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد)، وأصبحت مرقداً له ولولده الحسن العسكري (ت260هـ)، وكان الخليفة جعفر المتوكل (ت247هـ) قد استدعاه من المدينة ليكون تحت رقابته. وكان دُليل مكلفاً بالصرف على إعمار القصور العباسية بسامراء، وخصوصاً القصر الجعفري (معجم البلدان)، ولا يستبعد أن تكون عِمارة الملوية ومسجدها ضمن ما كُلف به دُليل. وبهذا التعاطف ظهرت سامراء الإسلامية بجامعها الكبير، وجامع دلف، ومأذنتاهما الملويتان، وعاصمة إسلامية بين (221-279هـ).
اتخذ من سامراء ثمانية خلفاء عباسيين عاصمةً: المعتصم، الواثق، المتوكل، المنتصر، المستعين، المعتز، المهتدي، المعتمد. حتى عاد الأخير ببلاط أجداده إلى بغداد. بعدها أُهملت، ولم يحيها غير قبة مرقد الإمامين علي الهادي (ت254هـ)، وولده الحسن العسكري، وقصة الغيبة منها، وقبة مسجد السرداب. إلا أن ملويتها وقصرها المعشوق ظلا محط جذب لهواة الآثار والدفائن. مر بها ابن بطوطة (العام 728هـ)، وهو في طريقه إلى الموصل، وقال في خرابها: "لم يبق منها إلا القليل". وبلا اكتراث للأثر التاريخي هُدم السنة 1936 بابها الغربي، وهو باب القاطول، لتشيد على أنقاضه دار الحكومة ومدرسة. وهُدم بابها الجنوبي المعروف بباب الناصرية، لعله نسبة إلى الناصر لدين الله العباسي، لتبتنى عليه مذبحة ومسلخ. وكأن الأرض ضاقت حتى يوسع للبناء بهدم أسوار تاريخية. ومن انتزاع أحجار قصورها وأسوارها وأروقتها وأعمدتها التاريخية شيدت معظم منازل سامراء الحالية، مثلها مثل منازل الحلة وما جاورها شيدت بأحجار خرائب بابل.
عرف الساسانيون أرض سامراء باسم "التيرهان" أو "الطيرهان" (المروي بالماء)، وعرفها العراقيون قبل التاريخ بأسماء اشتق منها اسمها الحالي: سورمريت، سرمارتا، سومرا، شامريا (أي الله يحرس). ثم عربياً: سر مَنْ رأى، سامرا، سامراء (يوسف متي، بشير فرنسيس، كوركيس عواد في عدة مصادر). ظلت سامراء تابعة لبغداد، وتتبعها تكريت إدارياً، ولما أصبحت تكريت قضاءً، قال التكارتة مازحين: "تكريت صارت قضاء على عناد سامراء". ومن صباح 8 شباط 1976 أصبحت تكريت المحافظة تتبعها سامراء القضاء، وسبحان مغير الأحوال. وللعراقيين سفراتهم إلى سامراء في موسم الخريف، مثل سفراتهم إلى سلمان باك في موسم الربيع، ذلك لزيارة مرقدها والهناء ببطيخها، ولجودته ضرب به المثل "بطيخ سامرا". ولعبود الكرخي: "بطيخ سامرا الردف.. يترجرج فريدوني" (الشالجي، الكنايات البغدادية).
فقدت حاضنة التاريخ سامراء رأس ملويتها في أبريل 2005 ، وفقدت في فجر الأربعاء (22 من شباط الجاري) قبتها المذهبة، التي ينظرها السامرائيون مثلما ينظرون الشمس. يدرك الفاعل قيمة هذين الأثرين، ويعرف تماماً ما لقبة سامراء وملويتها من شهادة على تاريخ تعايش المدينة وتسامحها، فهي منذ شيدت على أرضها الملوية والأديرة المسيحية حولها، ولم يهجرها يهودها إلا بأمر أتى من خارجها، وظلت محتفظة لهم بمنطقة "حارة سوق اليهود". ومنذ علت في سمائها أكبر قبة مذهبة حل التعاطف بين فريقي الإسلام فيها، حتى اعتقد شيعة جنوب العراق ووسطه أن مَنْ يزور مرقد الإمام علي الرضا لا تثبت زيارته إلا بسمرها بسامراء. ومن أسس هذا التعاطف أن بلدة سُنيَّة شافعية في أغلبها تعتمد بعيشها على زوارها الشيعة، تهيئ لهم كافة ملتزمات طقوس الزيارة وفي مقدمتها الأمن والأمان، فماذا دهاها لتكون ساحة للنسناس القادم من خارج الحدود؟ أصبحت قبة ضريحي أمامي الشيعة: علي الهادي والحسن العسكري معلماً من معالم بلدة سُنيَّة بالكامل، يتكفلها سدنة شافعيون، ويتبرك ببريقها المسلمون العراقيون كافة، ومحجة لذوي ذائقة التاريخ، والباحثين عن الهواء النقي.
إلا أن قيمة القبة قيمة تاريخية وأثرية، ناهيك عن قدسيتها وأثرها الروحي، ومَنْ حظي برؤيتها من قَبل يصقعه مشهد تدميرها المفزع. إنه تدمير طراز معماري يصعب توفير خبرته في هذا العصر. قد يعود البناء والتفاصيل، لكن لا تعود لمسات وأنفاس تلك العصور، فبوابة عشتار المنسوخة بباب بابل، أي باب الله، حالياً ليس لها بهاء الأصل المستقر منذ 1902 في متحف "بيركامون" ببرلين.
نقرأ في سيرة القبة والمرقد، المكان المقدس والأثر التاريخي، الحوادث التالية: (333هـ) شيد المرقد والقبة وبنى الدار ناصر الدولة الحمداني. (368هـ) أشاد معز الدولة البويهي القبة من جديد، وسرداب الغيبة، وعين للمرقد السدنة والحجاب واجرى لهم الأرزاق. (337هـ) سيج عضد الدولة البويهي الضريح بخشب الساج الثمين، ووسع الصحن، وشيد حول المرقد السور. (445هـ) أعاد الأمير التركي أرسلان البساسيري (قتل 451هـ)، الذي تعاطف مع الفاطميين بمصر وقتله السلاجقة هو وآخر سلاطين البويهيين الملك الرحيم، أعمار القبة، وجعل رمان صندوق الضريح من الذهب. (495هـ) جدد بركياروق السلجوقي الأبواب، ورمم القبة والرواق. (606هـ) رمم الخليفة الناصر لدين لله القبة وعمرَ المآذن، وسقف السرداب، وكتب أسماء الأئمة الاثني عشر في المرقد.
(640هـ) أبدل المستنصر بالله الصندوق بعد حريق شب في المرقد بسبب الشمع. (750هـ) جدد السلطان حسن الجلائري الضريح والقبة، وحول المقابر التي بدائر المرقد إلى الصحراء، وربما لهذا السبب وجد مرقد السيد محمد بن الإمام علي الهادي بعيداً عن سامراء. (1106هـ) تعرضت إلى حريق آخر، فأصلحها الشاه حسين الصفوي، وعمل شباك الضريح من الفولاذ، وكسا البناء والأرض بالرخام. (1200هـ) عمرَ سلطان منطقة خوي الأذربيجانية أحمد الدنبلي الروضة والسرداب وهما العمارة الحالية. (1285هـ) جدد السلطان القاجاري ناصر الدين شاه الشباك وذهب القبة والمآذن، كما هي حالياً قبل التدمير الأخير. (1922) وسع الملك فيصل الأول البناء. (1930) زود المرقد بالكهرباء. (1937) تعرض المرقد إلى سرقة كبرى، فقد لوحتين من الذهب وقطعاً من الفضة (محمد السماوي، وشايح السراء في شأن سامراء، النجف 1940).
انقطع الوجود الشيعي فترة طويلة عن سامراء، حتى عاد بقوة أيام المرجع الشيعي الأعلى محمد حسن الشيرازي (ت1895)، الذي نقل مرجعيته إليها بعداً من طلبات النجفيين الكثيرة إثر أزمة حادة من أزمات المدينة، على قول أحد المؤرخين، وأسس هناك المدرسة الجعفرية، وأقيمت المواكب في عشرة عاشوراء، وقد استجاب أهل سامراء لهذا الطقس فأخذوا يخرجون مواكبهم بعاشوراء أيضاً.
لكن بعد وفاة صاحب فتوى التنباك المشهورة، الميرزا الشيرازي تفرق جمع علماء الشيعة إلى كربلاء والنجف والكاظمية.
ومثلما يتحلق تحت قبة المرقد الزوار الشيعة من كل صوب وحدب، يجد المتصوفة السُنَّيون مكاناً فسيحاً لهم تحتها، وكثرت التكايا حولها على أنواع مذاهب التصوف. وورد في المديح الصوفي السامرائي لصاحب المرقد الإمام علي الهادي: "هلَ بتاج المشايخ يا علي الهادي.. أبو جعفر علي يا قطب سامراء .. يسلطان المشايخ صاحب الحضرة".
وسامرائي يناشد صاحب الضريح، وهو الشافعي ويسمي المهدي المنتظر بالمرتجى: "وإلى الإمام العسكري ونجله.. المرتجى ذاك الإمام المنصف"(محمد عرب، السراء في أحوال سامراء). لكل هذا أرى من الطبيعي أن تبقى سامراء متعايشة مع مرقدها، ومذهبها السائد، وكي يكون هذا المرقد، وهذه الكارثة، معبراً من الأزمة الطائفية أن يستمر الضريح بيد أهل سامراء، مثلما ظل لأكثر من ألف عام، ولا حاجة للمطالبة بتحويله إلى الوقف الشيعي، مازال هو في أرض العراق، وروح السامرائيين هي الأقرب مكاناً وعاطفة منه، ناهيك عن أهميته في رزق بلادهم ومعاشها.
تدمير قبة المرقد العسكري موجع ومسر في آن واحد. مسر إذا نظرنا إلى التعاطف بين مذهبي المسلمين، وبقية الأديان العراقية. وتستطيع الفرز بين مواكب المحتجين بسهولة. خرج السامرائيون والأعظميون ومواكب سُنَّية أخرى بالهتاف برفع الأيادي، بينما خرجت المواكب الشيعية تلطم الصدور، فكل سلك ما تعود وأحب وبالتالي العاطفة واحدة. ظهر الشيخ محمد عبد الغفور السامرائي، رئيس الوقف السُنَّي، باكياً، وهو يقلب ناظره في الفضاء حول القبة، التي تحول بريق ذهبها إلى كهف خرب، بلون التراب. وأن سامرائياً يحمل عمامة الإمام علي الهادي الخضراء اندفع صارخاً لهول الفاجعة. وأن أعظمياً سُنَّياً يهتف في المسيرة: "اعتدوا على إمامنا وسيدنا علي الهادي". واحتج بابا الكلدان، وأمير الأيزيدية، والصابئة المندائيون بطريقتهم، والكُرد أكدوا أنهم أكثر قرباً من قبل.
أقول لقد ترفع الشارع العراقي بتوحده في هذه المحنة على خطابات بعض السياسيين المتمذهبين، التي ظهر فيها اللمز والغمز واضحاً. وقد تجاوز بعض آخر المحظور، الذي طالما راعاه العراقيون في أزمانهم المختلفة، ونزع إلى إيذاء المساجد، ولم يسمع لوصايا علماء الدين ومراجعه. ومثلما تألم قوم لفاجعة القبة، والتجاوز على قدسيتها ودهرها العتيق وتعزى بتعاطف الطائفتين، وما جاورهما من أديان أخرى، مارس آخرون حقدهم أملاً في حرب طائفية، قد تحيا من بين أردانها دولة البعث ثانية.


ستينيون وقرابات روحية

فوزي كريم

"لقد أسس البيتنكس رؤيتهم الفكرية والشعرية على أساس الاعتراض والاحتجاج ضد أُسطورة "طريقة الحياة الأمريكية" التي واجهوها بأُسطورة مضادة. واجهوا التطرُّف في النظافة بالعثور على المتعة بالوساخة وهاجموا مثال العصامية الأمريكية، حيث يصنع المرء نفسه من الصفر بالعمل الشاق المضني، وامتدحوا الكسل. كما سخروا من الأخلاق البيوريتانية الرفيعة. وفيما بعد أطلق الطلبة على هذا "السباق نحو القمة" بكل احتقار اسم "سباق الفئران".
"من صلب هؤلاء الرافضين انحدر ذلك الجيل الجديد الذي اتخذ احتجاجه في البداية طابعاً بدائياً ومعاكساً لجوهره، عندما شكل عدد من الشبان في كاليفورنيا بعفوية عصابات تقود الدراجات البخارية وتعتدي على المارة، مطلقين على أنفسهم "ملائكة الجحيم ـ
Hell`s Angels". ولكن هؤلاء الذين ما كانوا يمتلكون أي محتوى فكري سرعان ما انقرضوا مع ظهور الهيبيين الأوائل في مطلع الستينيات، بوجوههم الشاحبة الرقيقة مثل وجه المسيح، بشعورهم المنسدلة الطويلة, بورودهم، بسراويل شركة ليفي شتراوس الزرق المثقوبة، بقلاداتهم المتدلية من العنق، بسجاير الماريوانا، بالجنس الحر، بسلميتهم وحياتهم الجماعية في الكومونات. كان الهيبيون التجسيد الحي للقيم الأدبية التي ابدعها جيل البيتنكس، فقد رفضوا القيم الرأسمالية لمجتمعاتهم ودعوا الى الوفاء للداخل الانساني وغزوا العالم بشعارهم المثير الذي أصبح شعاراً لجيل بأكمله "Make love not war". في كانون الثاني (يناير) 1967 بلغت الموجة الهيبية أوج تألقها في الممارسة الجماهيرية العلنية للحب الحر الذي أقدم عليه أُلوف من الشبان والشابات في متنزه "غولدين غيت" في سان فرانسيسكو. لقد ابتكرت الحركة الهيبية في الحقيقة "ثقافة مضادة"، امتزجت فيها العناصر المضادة للرأسمالية مع التحرير الجنسي ومعاداة الحرب والعسكرية ورفض الروح الاستهلاكية وإعادة الاعتبار الى الحلم والتأكيد على المغامرة، هذه الروح المضادة تحولت في الوقت ذاته الى حركة شاملة في الفن والأدب ايضاً وشكلت معنى الكتابة الطليعية الجديدة.
"إن القرابة الروحية بين الستينيين العراقيين والبيتنكس هي أبعد وأعمق من المحاكاة الشكلية، إنها قرابة الموقف المشترك من قضايا عصرهم ضمن جيل واحد، وهي دليل على أنهم كانوا في قلب زمنهم ويدركون روحه الحية." (ص172 -173).


العيش سويا في فضاء التنوع والاختلاف .. ملف العدد الجديد لمجلة (قضايا اسلامية معاصرة)

عرض/ المدى الثقافي
تناول العدد المزدوج 31ـــ 32 (شتاء وربيع 2006) لمجلة قضايا اسلامية معاصرة التي يصدرها مركز دراسات فلسفة الدين في (بغداد) موضوع (العيش سويا في فضاء التنوع والاختلاف: مقاربات في التعددية الدينية والثقافية).
ومنذ سقوط صدام حسين تمحورت اهتمامات هذه الدورية العراقية على معالجة الاستقطابات الطائفية والعنصرية المتفجرة في المجتمع العراقي، فتناولت ((التسامح ومنابع اللاتسامح)) في أكثر من عدد، وأصدرت سلسلة كتاب شهرية رديفة لها في بغداد بعنوان ((ثقافة التسامح)) طبع منها اثنا عشر كتابا. كذلك اهتمت قضايا اسلامية معاصرة ببحث اشكاليات التعددية الدينية والعرقية والثقافية والسياسية. ساهمت في هذا العدد نخبة من المفكرين والباحثين والدارسين العرب والايرانيين .

قراءة للتعددية من منظور مختلف
في (كلمة التحرير) يتحدث الدكتور احميدة النيفر عن (جدل العالمية والخصوصية) في قراءة للتعددية من منظور مختلف ، فيقول: إنّ سؤال: "كيف يمكن أن نعيش سويّا و مختلفين؟" يثبت أوّلا ما أصبح واقعا معايَنا فيما عُرف مع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين بعودة المقدّس أو الصحوة أو انبعاث الأديان. يؤكّد السؤال من ناحية ثانية الحاجة إلى إعادة الاعتبار إلى " ثقافة الحوار " بديلا عن ثقافة التنافي، التي حوّلت التحديث العربي في أكثر من حالة إلى تنظير للاستئصال، كما أفضت بالتراثيين إلى رفض مطلق للآخر، أدّى في حالات تزايد الضغوط والإحباط إلى إهمال الدعوة، والارتماء في مسالك الترويع والتدمير.
من جهة ثالثة يحقّق إرساء شروط ثقافة الحوار التجاوزَ الإيجابي لما انساق فيه "حماة الخصوصيات" من ضرورة مقاومة العولمة إيديولوجيا، أي الإعراض عن تقديم إجابات لأسئلتها الكبرى، ورفض التحكم في آلياتها وتقنياتها.
ويشير الدكتور النيفر الى: ان من أهمّ ما مكّن الإسلامَ من البقاء والاستمرار، سواء أكان ذلك في فترات السطوة السياسية أم في مراحل ضعف الدولة أو اختفائها، كان عنصر التمازج الثقافي القائم على قبول الآخر. هذه القيمة أتاحت للإسلام أن ينتشر في أصقاع نائية لا تربطها أية صلة ثقافية بالجزيرة العربية أو الـهلال الخصيب. ثم مع الانتشار كان الاستمرار الذي لا يُعزى بأي حال إلى سلطان سياسي.
لقد أدركت نخب المسلمين هنا وهناك أن مصدر قوتها في الرهان على عنصر التثاقف مع الآخر، فاختارت في لحظات تاريخية مفصلية ما أثبتت به وعيها، بأنّ أساس كل استمرار للحياة متحقق بالتنوّع والتغيير. ذلك هو الحسّ الذي دفع هذه النخب إلى الربط الواعي بين الثبات والتغيّـر، الربط القادر على تسويات تاريخية لا تخطر اليوم على بال التراثيين، فضلا عن دعاة القطيعة. تلك هي فاعلية الثقافة الإسلامية في أطوار قوّتها المُبدعة، حين أخذت على عاتقها تطوير الجماعة ثم المجتمع، هو العنصر ذاته الذي ـ باختفائه ـ تأكّد اندحار المسلمين في درك التقليد والعجز، بتغليبهم ـ في مواقع الحسم ـ جاذب الثبات والاتباع على دافع التحوّل والتطوير. "سر ّ" البقاء والاستمرار ـ إذن ـ كامنٌ في جدلٍ بين الثابت والمتغيّر، قادرٍ على إبداع صيغ وحلول جديدة، جدلٍ لا تحتلّ قيمتا الحصرية والإقصاء محلاّ في مكوّناته الثقافية الأساسية.

الدين والعلمانية والهوية
وفي باب( حوارات) يحاور الباحث المصري حسام تمام المفكر الفرنسي باتريك ميشيل حول(الدين والعلمانية والهوية في عصر سقوط الأيديولوجيات ونهاية الروايات الكبرى) ويوضح بجلاء صعود الدين اليوم وكيفية انعكاس ذلك على الهوية بقوله: نحن في عصر أعيد فيه تشكيل العلاقة بين الزمان والمكان تماما..وهو ما أحدث خلخلة وذبذبة أعادت حضور الدين مجددا كفاعل رئيسي..فتمت تعبئة الدين بهدف إعادة بناء الـهوية. وفي مسألة الـهوية، فإن كل المقاييس التي كانت تنظم مسألة الـهوية فيما مضي تغيرت، ومن ثم فقد صارت معايير تحديد الـهويات غير واضحة، فنتيجة هذه الخلخلة أو الذبذبة لم تعد الـهويات ثابتة كما كانت سابقا، لقد صارت الـهويات متحركة ومتغيرة وهو ما يعني أنها أضحت ضعيفة، وللتوضيح نضرب أمثلة مختلفة: فالنوع الجنسي الذي كان يحدد الـهوية (ذكراً أو أنثى) تغير فأعيد تعريف الذكورة والأنوثة حتى بيولوجيا، وظهر الجندر أو النوع الاجتماعي بديلا عن النوع البيولوجي، ولم يعد مقبولا فكرة التفرقة الجنسية في تنظيم الحياة (مثل العمل).كما شهدنا حالة انفجار في النماذج الأسرية بعد أن تكسرت الأسرة النووية التقليدية، وقد رصدت دراسة في فرنسا 27 نموذجا أسريا مختلفا، بينت عدم الوضوح أو التغيير السريع في الـهوية الأسرية؛ فمثلا نجد أن الفرد يمكن أن يكون لديه ابن ويتزوج من امرأة لديها ابن والأربعة يعيشون مع بعضهم وفي المنزل نفسه ونجد الابنين يتعاملان مع بعضهما معاملة الإخوان ولـهما نفس الأقارب من طرف الأب والأم، بينما في الأوراق الرسمية ليست لـها أي صلة.
كما حدث التغير نفسه في الـهوية المهنية: ففيما مضى كان العمل أكثر ثباتا وكان الواحد يمتهن مهنة معينة طول حياته الوظيفية، بينما الآن يمكن أن يتنقل من شركة الى أخرى أو من مجال عمل إلى آخر، ويتم ذلك بسهولة ومرونة. وكذلك الحال في الـهويات الاجتماعية إذ لم تعد فكرة التفرقة البرجوازية أو ظهور الطبقة العمالية والأرستقراطية ثابتة وصار ممكنا الانتقال بين الطبقات. وفي الـهويات السياسية: تغير محور اليمين واليسار الذي كان سائدا قبل سنوات، وكان يعطي إمكانيات لتفسير السياسة ورسم خريطتها، ولم تعد لـه الآن المركزية نفسها التي كان عليها. والشيء نفسه فيما يخص الـهويات الوطنية حدثت تغيرات عميقة أهمها التغير في مفهوم ونظام الدولة القطرية، فلم يعد من الممكن في فرنسا ـ مثلاـ أن نتحدث عن وحدة التاريخ المشترك بيننا كفرنسيين فقط، وصار من المفترض إعادة النظر في فكرة المواطنة نفسها بعد أن انفتحت الدولة الفرنسية لموجات الـهجرة، كما تكسر وهم " المثل " الذي كانت تعتمد عليه الدولة الوطنية، كما تكسر نظام الدولة القطرية بسبب مطالب الاستقلال المحلية(دعاوى الاستقلال في اسكتلندا عن بريطانيا، وكورسيكا عن فرنسا، والشمال في إيطاليا، والأندلس في أسبانيا..) كما ضعفت الدولة القطرية من مستوى أعلى، تمثل في ظهور كيانات أكبر منها، مثل الاتحاد الأوربي، كما جاء الضعف نتيجة الاعتراف باستحالة علاج بعض المشكلات على مستوى الدولة القطرية مثل قضية التقنية العلمية (فليست هناك دولـة الآن تستطيع أن تصنع طيارات بمفردها لأن هذا مشروع أوروبي ليس فرنسياً أو إيطالياً أو ألمانياً..) وحقوق الإنسان وحماية البيئة.. فكلـها قضايا صارت فوق قطرية، وعابرة لحدود كل دولة. وهذا ينطبق أكثر ما يكون على حركات المقاومة والحركات المناهضة للعولمة فهي لا تتم في إطار الدولة وإنما تتسع على مستوى العالم.
ومن أكثر الـهويات التي صارت تفتقد الوضوح الـهويات الدينية؛ وإعادة تشكيل الـهويات الدينية يتم في السياق نفسه لكل الـهويات الأخرى، بمعنى أن الشأن الديني ليس منفصلا عن المجتمع، وبالتالي فإن الـهوية الدينية تفقد الاستقلال والاستقرار نتيجة الفردنة، بمعنى أنها يمكن ان تتغير، ولا توجد أية مؤسسة دينية يمكن أن تمنع ذلك، فقد صار من الصعب أن تقنع المؤسسة الفرد بوجود شيء مستقر ومطلق ومركزي ينظم كل شيء(القدر والنصيب..) يمكنه أن يؤمن به، والـهويات الدينية مثل الـهويات الأخرى تتقدم وتتغير وتنمو نموا سريعا، ولا يمكن النظر إلى أن التحركات بين الـهويات لا يمثل ضعفا في الـهوية، فالـهويات متنقلة وتعكس مناخا عاما يؤثر في الـهوية ويشكلـها بمختلف أشكالـها سواء كانت اجتماعية أو أسرية أو جنسية أو دينية، فأبناء الجيل الثاني من العرب في فرنسا يحملون الـهويتين العربية والفرنسية في الوقت نفسه، ورغم أنه بإمكان الواحد منهم أن يختار أن يكون فرنسيا فقط لكنه دائما ما يرجع إلى أصولـه العربية، ردا على التهميش وعدم الاعتراف بخصوصيته، ولأن الـهوية العربية تصطدم مع بعض مبادئ الـهوية الفرنسية التقليدية فالحل في هذه الحالة النزول لمستوى آخر في الـهوية وهو الإسلام؛ بمعنى التخلص من الـهوية العربية إلى هوية أكبر وأوسع يمكن أن تضم الـهوية الفرنسية أيضا لكن تتجاوزها وتحقق الخصوصية والتميز (شعار مسلمي فرنسا: فرنسي نعم ولكن مسلم أيضا) وهو ما يمكن أن يفسر صعود الدين بين أبناء الجاليات المسلمة. وأود التأكيد على أنه وإن كانت هناك حركات تفكيك دينية ولكن هناك رد فعل عليها بمحاولات إعادة البناء، والتحدي أمام حركات إعادة البناء هو تكوين هويات قابلة للحركة، والـهوية المتحركة لا تعني أن الـهوية نفسها تتحرك ولكن تعني أن الناس أنفسهم يعترفون بأنهم يتحركون من هوية لأخرى. نحن في سياق إعادة تشكيل عام للعلاقة بين الإيمان ومضمون الإيمان فالمناخ العام يشير إلى قبول حركة التنقلات بين المرجعيات الدينية، ومن نتيجة البحوث الاجتماعية في أوربا نلاحظ أن الناس لا يتأثرون بالمضمون فمن الممكن أن يكون الفرد مسيحيا لفترة ثم يخرج منها إلى الإسلام ويعرج منه للبوذية وربما انتهي إلى مزيج إيماني من عدة ديانات مختلفة، وهو ما نراه بوضوح لدى المتصوفة في أوربا فالتصوف حالة إيمانية لا تتعلق بدين محدد بل وربما يدخلـها ملحدون كما أسلفنا، وهو ما نسميه بعصر
new age (أو الإيمان دون انتماء ديني محدد) لكن هذه ليست قاعدة ثابتة إذ يمكن لـهذا المشوار أو الطريق الإيماني أن يتوقف ويستقر الفرد في مرجعية دينية معينة، وهو ما نراه في المنتمين للحركات الإسلامية الأصولية في أوربا، فهم بمجرد دخولـهم في هذه المرجعية الدينية استقروا غالبا فيها ولم يدخلوا ـ كأبناء جيلـهم ـ في new age، ولكن في أغلبية الوقت يمكن أن نفسر الإيمان في أوربا على أنه كمشوار أو كطريق، فالإيمان حاليا ليس معناه أن ينتمي الفرد لديانة معينة، وإنما يعني التنقل بين مرجع إلى آخر، والحركة بدلا من الاستقرار.

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة