(يسلطان
المشايخ صاحب الحضرة) ..
القبة العسكرية .. قرون
والسامرائيون يجدون الشمس ببريقها
رشيد
الخيُّون
يأسر زائر سامراء
مشهدان: ملويتها الحلزونية (القرن الثالث الهجري)، التي
تصعد ملتوية بعكس عقارب الساعة، معاندة للزمن، وقبتها التي
تملأ فضاءها وهجاً. كل حَجرة من أحجار سامراء تحكي قصة قرن
من القرون الخوالي. بناها المعتصم (ت227هـ) على أساس دير،
وأثر بابلي وآشوري وساساني. وسكن الإمام علي الهادي
(ت254هـ) داراً لدُليل بن يعقوب النصراني، كاتب بغا
الشرابي، ابتاعها (الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد)، وأصبحت
مرقداً له ولولده الحسن العسكري (ت260هـ)، وكان الخليفة
جعفر المتوكل (ت247هـ) قد استدعاه من المدينة ليكون تحت
رقابته. وكان دُليل مكلفاً بالصرف على إعمار القصور
العباسية بسامراء، وخصوصاً القصر الجعفري (معجم البلدان)،
ولا يستبعد أن تكون عِمارة الملوية ومسجدها ضمن ما كُلف به
دُليل. وبهذا التعاطف ظهرت سامراء الإسلامية بجامعها
الكبير، وجامع دلف، ومأذنتاهما الملويتان، وعاصمة إسلامية
بين (221-279هـ).
اتخذ من سامراء ثمانية خلفاء عباسيين عاصمةً: المعتصم،
الواثق، المتوكل، المنتصر، المستعين، المعتز، المهتدي،
المعتمد. حتى عاد الأخير ببلاط أجداده إلى بغداد. بعدها
أُهملت، ولم يحيها غير قبة مرقد الإمامين علي الهادي
(ت254هـ)، وولده الحسن العسكري، وقصة الغيبة منها، وقبة
مسجد السرداب. إلا أن ملويتها وقصرها المعشوق ظلا محط جذب
لهواة الآثار والدفائن. مر بها ابن بطوطة (العام 728هـ)،
وهو في طريقه إلى الموصل، وقال في خرابها: "لم يبق منها
إلا القليل". وبلا اكتراث للأثر التاريخي هُدم السنة 1936
بابها الغربي، وهو باب القاطول، لتشيد على أنقاضه دار
الحكومة ومدرسة. وهُدم بابها الجنوبي المعروف بباب
الناصرية، لعله نسبة إلى الناصر لدين الله العباسي، لتبتنى
عليه مذبحة ومسلخ. وكأن الأرض ضاقت حتى يوسع للبناء بهدم
أسوار تاريخية. ومن انتزاع أحجار قصورها وأسوارها وأروقتها
وأعمدتها التاريخية شيدت معظم منازل سامراء الحالية، مثلها
مثل منازل الحلة وما جاورها شيدت بأحجار خرائب بابل.
عرف الساسانيون أرض سامراء باسم "التيرهان" أو "الطيرهان"
(المروي بالماء)، وعرفها العراقيون قبل التاريخ بأسماء
اشتق منها اسمها الحالي: سورمريت، سرمارتا، سومرا، شامريا
(أي الله يحرس). ثم عربياً: سر مَنْ رأى، سامرا، سامراء
(يوسف متي، بشير فرنسيس، كوركيس عواد في عدة مصادر). ظلت
سامراء تابعة لبغداد، وتتبعها تكريت إدارياً، ولما أصبحت
تكريت قضاءً، قال التكارتة مازحين: "تكريت صارت قضاء على
عناد سامراء". ومن صباح 8 شباط 1976 أصبحت تكريت المحافظة
تتبعها سامراء القضاء، وسبحان مغير الأحوال. وللعراقيين
سفراتهم إلى سامراء في موسم الخريف، مثل سفراتهم إلى سلمان
باك في موسم الربيع، ذلك لزيارة مرقدها والهناء ببطيخها،
ولجودته ضرب به المثل "بطيخ سامرا". ولعبود الكرخي: "بطيخ
سامرا الردف.. يترجرج فريدوني" (الشالجي، الكنايات
البغدادية).
فقدت حاضنة التاريخ سامراء رأس ملويتها في أبريل 2005 ،
وفقدت في فجر الأربعاء (22 من شباط الجاري) قبتها المذهبة،
التي ينظرها السامرائيون مثلما ينظرون الشمس. يدرك الفاعل
قيمة هذين الأثرين، ويعرف تماماً ما لقبة سامراء وملويتها
من شهادة على تاريخ تعايش المدينة وتسامحها، فهي منذ شيدت
على أرضها الملوية والأديرة المسيحية حولها، ولم يهجرها
يهودها إلا بأمر أتى من خارجها، وظلت محتفظة لهم بمنطقة
"حارة سوق اليهود". ومنذ علت في سمائها أكبر قبة مذهبة حل
التعاطف بين فريقي الإسلام فيها، حتى اعتقد شيعة جنوب
العراق ووسطه أن مَنْ يزور مرقد الإمام علي الرضا لا تثبت
زيارته إلا بسمرها بسامراء. ومن أسس هذا التعاطف أن بلدة
سُنيَّة شافعية في أغلبها تعتمد بعيشها على زوارها الشيعة،
تهيئ لهم كافة ملتزمات طقوس الزيارة وفي مقدمتها الأمن
والأمان، فماذا دهاها لتكون ساحة للنسناس القادم من خارج
الحدود؟ أصبحت قبة ضريحي أمامي الشيعة: علي الهادي والحسن
العسكري معلماً من معالم بلدة سُنيَّة بالكامل، يتكفلها
سدنة شافعيون، ويتبرك ببريقها المسلمون العراقيون كافة،
ومحجة لذوي ذائقة التاريخ، والباحثين عن الهواء النقي.
إلا أن قيمة القبة قيمة تاريخية وأثرية، ناهيك عن قدسيتها
وأثرها الروحي، ومَنْ حظي برؤيتها من قَبل يصقعه مشهد
تدميرها المفزع. إنه تدمير طراز معماري يصعب توفير خبرته
في هذا العصر. قد يعود البناء والتفاصيل، لكن لا تعود
لمسات وأنفاس تلك العصور، فبوابة عشتار المنسوخة بباب
بابل، أي باب الله، حالياً ليس لها بهاء الأصل المستقر منذ
1902 في متحف "بيركامون" ببرلين.
نقرأ في سيرة القبة والمرقد، المكان المقدس والأثر
التاريخي، الحوادث التالية: (333هـ) شيد المرقد والقبة
وبنى الدار ناصر الدولة الحمداني. (368هـ) أشاد معز الدولة
البويهي القبة من جديد، وسرداب الغيبة، وعين للمرقد السدنة
والحجاب واجرى لهم الأرزاق. (337هـ) سيج عضد الدولة
البويهي الضريح بخشب الساج الثمين، ووسع الصحن، وشيد حول
المرقد السور. (445هـ) أعاد الأمير التركي أرسلان
البساسيري (قتل 451هـ)، الذي تعاطف مع الفاطميين بمصر
وقتله السلاجقة هو وآخر سلاطين البويهيين الملك الرحيم،
أعمار القبة، وجعل رمان صندوق الضريح من الذهب. (495هـ)
جدد بركياروق السلجوقي الأبواب، ورمم القبة والرواق.
(606هـ) رمم الخليفة الناصر لدين لله القبة وعمرَ المآذن،
وسقف السرداب، وكتب أسماء الأئمة الاثني عشر في المرقد.
(640هـ) أبدل المستنصر بالله الصندوق بعد حريق شب في
المرقد بسبب الشمع. (750هـ) جدد السلطان حسن الجلائري
الضريح والقبة، وحول المقابر التي بدائر المرقد إلى
الصحراء، وربما لهذا السبب وجد مرقد السيد محمد بن الإمام
علي الهادي بعيداً عن سامراء. (1106هـ) تعرضت إلى حريق
آخر، فأصلحها الشاه حسين الصفوي، وعمل شباك الضريح من
الفولاذ، وكسا البناء والأرض بالرخام. (1200هـ) عمرَ سلطان
منطقة خوي الأذربيجانية أحمد الدنبلي الروضة والسرداب وهما
العمارة الحالية. (1285هـ) جدد السلطان القاجاري ناصر
الدين شاه الشباك وذهب القبة والمآذن، كما هي حالياً قبل
التدمير الأخير. (1922) وسع الملك فيصل الأول البناء.
(1930) زود المرقد بالكهرباء. (1937) تعرض المرقد إلى سرقة
كبرى، فقد لوحتين من الذهب وقطعاً من الفضة (محمد السماوي،
وشايح السراء في شأن سامراء، النجف 1940).
انقطع الوجود الشيعي فترة طويلة عن سامراء، حتى عاد بقوة
أيام المرجع الشيعي الأعلى محمد حسن الشيرازي (ت1895)،
الذي نقل مرجعيته إليها بعداً من طلبات النجفيين الكثيرة
إثر أزمة حادة من أزمات المدينة، على قول أحد المؤرخين،
وأسس هناك المدرسة الجعفرية، وأقيمت المواكب في عشرة
عاشوراء، وقد استجاب أهل سامراء لهذا الطقس فأخذوا يخرجون
مواكبهم بعاشوراء أيضاً.
لكن بعد وفاة صاحب فتوى التنباك المشهورة، الميرزا
الشيرازي تفرق جمع علماء الشيعة إلى كربلاء والنجف
والكاظمية.
ومثلما يتحلق تحت قبة المرقد الزوار الشيعة من كل صوب
وحدب، يجد المتصوفة السُنَّيون مكاناً فسيحاً لهم تحتها،
وكثرت التكايا حولها على أنواع مذاهب التصوف. وورد في
المديح الصوفي السامرائي لصاحب المرقد الإمام علي الهادي:
"هلَ بتاج المشايخ يا علي الهادي.. أبو جعفر علي يا قطب
سامراء .. يسلطان المشايخ صاحب الحضرة".
وسامرائي يناشد صاحب الضريح، وهو الشافعي ويسمي المهدي
المنتظر بالمرتجى: "وإلى الإمام العسكري ونجله.. المرتجى
ذاك الإمام المنصف"(محمد عرب، السراء في أحوال سامراء).
لكل هذا أرى من الطبيعي أن تبقى سامراء متعايشة مع مرقدها،
ومذهبها السائد، وكي يكون هذا المرقد، وهذه الكارثة،
معبراً من الأزمة الطائفية أن يستمر الضريح بيد أهل
سامراء، مثلما ظل لأكثر من ألف عام، ولا حاجة للمطالبة
بتحويله إلى الوقف الشيعي، مازال هو في أرض العراق، وروح
السامرائيين هي الأقرب مكاناً وعاطفة منه، ناهيك عن أهميته
في رزق بلادهم ومعاشها.
تدمير قبة المرقد العسكري موجع ومسر في آن واحد. مسر إذا
نظرنا إلى التعاطف بين مذهبي المسلمين، وبقية الأديان
العراقية. وتستطيع الفرز بين مواكب المحتجين بسهولة. خرج
السامرائيون والأعظميون ومواكب سُنَّية أخرى بالهتاف برفع
الأيادي، بينما خرجت المواكب الشيعية تلطم الصدور، فكل سلك
ما تعود وأحب وبالتالي العاطفة واحدة. ظهر الشيخ محمد عبد
الغفور السامرائي، رئيس الوقف السُنَّي، باكياً، وهو يقلب
ناظره في الفضاء حول القبة، التي تحول بريق ذهبها إلى كهف
خرب، بلون التراب. وأن سامرائياً يحمل عمامة الإمام علي
الهادي الخضراء اندفع صارخاً لهول الفاجعة. وأن أعظمياً
سُنَّياً يهتف في المسيرة: "اعتدوا على إمامنا وسيدنا علي
الهادي". واحتج بابا الكلدان، وأمير الأيزيدية، والصابئة
المندائيون بطريقتهم، والكُرد أكدوا أنهم أكثر قرباً من
قبل.
أقول لقد ترفع الشارع العراقي بتوحده في هذه المحنة على
خطابات بعض السياسيين المتمذهبين، التي ظهر فيها اللمز
والغمز واضحاً. وقد تجاوز بعض آخر المحظور، الذي طالما
راعاه العراقيون في أزمانهم المختلفة، ونزع إلى إيذاء
المساجد، ولم يسمع لوصايا علماء الدين ومراجعه. ومثلما
تألم قوم لفاجعة القبة، والتجاوز على قدسيتها ودهرها
العتيق وتعزى بتعاطف الطائفتين، وما جاورهما من أديان
أخرى، مارس آخرون حقدهم أملاً في حرب طائفية، قد تحيا من
بين أردانها دولة البعث ثانية.
|