المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

أغرب لقاء صامت في غرفة أوفيليا الخاصّة

صلاح نيازي *
*كاتب عراقي مقيم في لندن

لم يتعامل مترجما هاملت : جبرا والقطّ، مع مسرحية هاملت، كتأليف سيمفوني يُحرّم فيه فصل آلاته عن بعضها دون إنزال النشاز بها، ولا كلوحةِ رسمٍ متداخلة الألوان، متناغمة.
جاءت ترجمتهما كلمات مثقلة بقاموسيتها، وجملاً منقطعة عمّا قبلها وعمّا بعدها، فأصبحت مِثْل أشجار صغيرة مثمرة في أصص، ثمارها لا تصلح للأكل.
ربما لهذا السبب، لم يلتفتا إلى أهمية تكرار الكلمات والصور. نسمع الكلمة ( وهي في الغالب مصطلح)، على لسان أحد الأبطال، في مشهدٍ ما. تعود الكلمة نفسها، ولكنْ بلبوس مختلف، على لسان البطل نفسه، أو لسان بطل آخر، في مشهدٍ ثانٍ وثالث ورابع. هذه الطريقة التي ينفرد بها شيكسبير في التأليف المسرحي، تجعل النَّص متواشجاً عضوياً، وينمو نموّا استبطانياً، بالضبط كالتأليف السيمفوني، وكلوحة تشكيلية.
يقول سدني بولت
Sydney Bolt في معرض تحليله الفطِن لرثاء أوفيليا :"ليس من المستغرب أن لا تُفهم حادثة ما في مسرحيّة بمعزل عن بقيّة الحبكة. ولكنْ ما هو مستغرب، أنّ تلك الحادثة ينبغي لها أن تُرْبط ببقية المسرحية بواسطة صلات لا علاقةَ لها بالسبب والنتيجة ولكنّها (أي الصلات) متحدة مع جوانب عرضية لإنتاج إيقاعٍ رنينيّ كامل" (Hamlet A Critical Study ).
حرصاً على توضيح الفكرة لا بدّ من إعطاء بعض الأمثلة. أسرّت أوفيليا أباها بولونيوس:
"بينما كنتُ أخيط في غرفتي الخاصّة
دخل اللورد هاملت وأزرارُ سترته مفتوحةٌ كلُّها
ما من قُبّعةٍ على رأسه، وجورباه ملطخان
فالتان فتهدّلا إلى رسغيْ قدميه كأنّهما حلقتا قيد
كان شاحباً بلون قميصه، وركبتاه تصفق بعضهما بعضاً
ومع نظرة تثير الرثاء في تعبيرها، كأنّما فلت من الجحيم
ليتحدّث عن الفظائع"


Oph. My Lord, as I was sewing in my closet,
Lord Hamlet, with his doublet all unbrac’d,
No hat upon his head, his stockings foul’d,
Ungarter’d and down-gyved to his ankle,
Pale as his shirt, his knees knocking each other,
And with a look so piteous in purport
As if he had been loosed out of hell
To speak of horrors”

 

وحتّى تكتمل الصورة، لا بدّ من التنويه الى أنّ أوفيليا قبل أن تروي هذا المشهد لأبيها، قالت له:
"آ، ياسيّدي اللورد، ياسيّدي اللورد
إنني منفزعة تماماً،
يدلّ تكرار: "يا سيّدي اللورد" مرّتيْن، على انقطاع نفَس أوفيليا، و على تشتّت أفكارها، فلا تدري من أين تبدأ. أرادتْ إصغاءه التام. يدلّ التكرار هنا أيضاً على حدّة استغاثة أوفيليا بأبيها، مما يشير إلى عِظَم ثقتها به.
إذنْ بهذا الانهلاع والاستغراب واللاّ تصديق، كانت تروي أوفيليا المشهد أعلاه. ولأن أوفيليا ببراءتها وربّما سذاجتها اتخذت لنفسها دور الراوية، لذا يأخذ المشهد قيمة استثنائية، ذلك لأن المشاهد في هذه الحالة، إنّما يشهد الحدث وكأنه يقع أمام عينيه في التوّ، فيزداد فضوله من لحظة إلى أخرى.
يبدأ المشهد هكذا "بينما كنتُ أخيط في غرفتي الخاصّة"
"الغرفة الخاصّة"، حيلة فنّية بارعة الدقّة وظّفها شيكسبير لعزل أوفيليا عن كلّ شئ آخر، حتى تتركز عليها الأنظار كلّية. ولأنها غرفة خاصّة، فإنّ دخول هاملت عليها بدون موعد سابق وبدون استئذان شيء يبعث على الريبة.
لنقرأْ المشهد ثانية كصورة أدبية.
كانت أوفيليا تخيط. وسواء كانت خياطتها قتلاً للوقت أم مللاً، أم جدّاً، فإنّ حاسّة بصرها مركزة في غرزات الإبرة. حاسّة البصر في هذا المشهد والمشهد الذي يليه، تبلغ أو تكاد تبلغ أعلى درجات الحيرة والخبال. ما من حاسّة سواها. لها مفعول صورة مرسومة بلون واحد. حتّى لتبدو كثافته متأزمة متصلبة.
أوّل شيء تخبرنا به حاسة بصر أوفيليا أنّ أزرار سترة هاملت مفتوحة كلّها. لماذا كلّها؟ ( هل تناول سترته على عجل؟) تنتقل حاسّة البصر من الأزرار إلى الرأس. كان رأس هاملت بلا قبّعة. (عجلة أخرى، لأنّ القبّعة كانت تُلْبس حتى داخل البيوت في العصر الإلزابيثي).
الغريب تنتقل حاسّة البصر فجأة من الرأس إلى الجوربيْن المتهدليْن. ولكن لماذا كانا ملطخيْن وهو الأمير؟ نجد الجواب في :"حلقتا قيد".هل كان شيكسبير يفكّر بقيد ودم؟وما علاقة الدم بالشحوب، حيث انتقلت حاسّة البصر من الجوربيْن مرّة واحدة ، وبلا تسلسل الى الوجه الذي "كان شاحباّ بلون قميصه". تنتقل حاسة البصر مرّة أخرى من شحوب الوجه إلى الركبتيْن وهما تصطفقان، ومن هذا الاصطفاق، انتقالة أخرى إلى أعلى، إلى عينيْ هاملت. إلى النظرة فيهما. كانت تلك النظرة تثير الرثاء، وكأنّ فيها أهوالاً، كأنّ فيها رعبَ مخلوقٍ هاربٍ من أهوال. تقاس ضخامة الأهوال هنا بما طرأ على أوفيليا من حزن حنون. لا ريب في ان اوفيليا كانت في بداية الحديث مع والدها ،منفزعة تماماً"، من هاملت، أما الآن فهي مشفقة عليه.
قبل الاستطراد أكثر، ينبغي ألاّ يفوتنا أنّه لم تُنْطَقْ في هذا المشهد كلمة واحدة. الصمت في هذا المشهد كالجرح العميق الحادّ. لا أثر له بادئ الأمر. لا يُؤذي بادئ الأمر. ثمّ ينْزف قطرات كبيرة. كان الصمت بين هاملت وأوفيليا كالجرح العميق الحاد. نازفاً وغامضاً. أعمق نزف وأصعب غموض.
على أية حال فما دمنا قد ذكرنا النْزف فقد وردتْ في المشهد أعلاه صورتان مهمّتان. تمثّلتْ الأولى بكلمة :"شاحباً"، والثانية بكلمة :"الجحيم".
إنهما صدى وصوت في الوقت نفسه. أخذا بعديْن إضافييّن لأنهما ارتبطا من قبلُ، بشحوب الأشباح، وجحيم الأموات.
تعرّف المشاهد (أو القارئ) على ذلك الشحوب أوّلاً حينما كان يصف هوراشيو لهاملت منظر شبح والده الملك الذي رآه:
هاملت: كيف بدا الشبح، عابساً؟
هوراشيو: في وجهه أسى أكثر منه غضباً
هاملت: شاحباً أمْ محتقناً؟
هوراشيو: لا بلْ كان شاحباً جدّاً"
تعرّف القارئ على الجحيم من قبل، وكان جحيماً كبريتياً غريباً، من الحوار الذي دار بين شبح الملك وبين هاملت :
"أنا شبح والدك. كُتِب عليّ الطواف طيلة الليل
لزمنٍ معلوم، أمّا في النهار
فمقيّد بلا قوت وأنا وسط النيران
محظورٌ عليّ أن أخبرك
عن أسرار سجني، وإلاّ لرويتُ لكَ قصصاً
وأبسط كلمة فيها تُمزّق الروح شرّ ممزّق
وتُجمّد دمَكَ الفتيّ
وتجعل عينيك تطفران من محجريهما كنجميْن من مدارهما
وتفرق لها خصلات شعركَ المعقودة
وتقف كلّ شعرة على طرفها
مثل حسائك قنفذ خائف
لكنّ أسرار ما بعد الحياة ليستْ
لآذان من لحم ودم
…"
رأينا سابقاً كيف وصفت أوفيليا هاملت في نهاية المشهد :"وكأنما فلت من الجحيم ليتحدث عن الفظائع"، ألا نقرأ فيها صدى لانفلات شبح الملك من الجحيم ليلاً؟
الشبح لم يتكلمْ عن أهوال الجحيم لأنّ ذلك محظور عليه ولكن ما الذي منع هاملت من الكلام؟
بهذه الحيلة الصامتة ركّز شيكسبير بحذق حواسّ المشاهدين بحاسة واحدة هي حاسّة البصر كما قلنا أعلاه. بكلمات أخرى أصبحت حاسة البصر أكبر بخمسة أضعاف لأنها جمعت أو أنابت عن كلّ الحواس.
على أية حال، أكملتْ أوفيليا سرد بقية المشهد لأبيها ببرود جرح حادّ قبل النّزف:
"أخذني من معصمي وشدّ عليه بقوّة
ثمّ رجع بمسافة ذراع
واضعاً يده هكذا فوق جبينه
ودقّق في وجهي بإمعان
كأنما يريد أن يرسمه. بقي هكذا مدّة طويلة
أخيراً هزّ ذراعي هزّاً خفيفاً
وثلاث مرّات حرّك رأسه إلى الأعلى وإلى الأسفل
وتنهّد تنهيدة مبكية من أعماق كيانه
كأنما بدت تُكسّر كلَّ هيكله
وتُنْهي كينونته. بعد ذلك تركني
وأدار رأسه على كتِفيْه
فبدا كأنْ يجد طريقه بلا عينيه
لأنّه خرج من الأبواب دون أن يستعين بهما
وحتّى النهاية كانتا توجهان شعاعهما إليّ":


He took me by the wrist and held me hard.
Then goes he to the length of all his arm,
And with his other hand thus o’er his brow
He falls to such perusal of my face
As a would draw it. Long stay’d he so.
At last, a little shaking of mine arm,
And thrice his head thus waving up and down,
He rais’d a sigh so piteous and profound
As it did seem to shatter all his bulk
And end his being. That done, he lets me go,
And with his head over his shoulder turn’d
He seem’d to find his way without his eyes,
For out o’doors he went without their helps,
And to the last bended their light on me

 

حينما نقرأ :" أخذني من معصمي/ وشدّ عليه بقوّة"، ندرك على الفور أنّ المفاجأة أفقدت أوفيليا الإرادة. ما من مقاومة من أيّ نوع.
راح هاملت يقوم بحركات أشبه ما تكون بحركات رسّام أو هذا ما ظنّته أوفيليا:"يده على جبينه/يدقّق بإمعان في وجهها هكذا فترة طويلة..
تصوّرتْ أوفيليا أن هاملت أراد أن يرسم وجهها، إلاّ أن حركات هاملت تُوحي بأكثر من مجرّد الرسم، وإنْ اشتركا في محاولة لتخليد الملامح. هل مرّ ببال هاملت هاجس غيبي غامض فشعر باللاوعي بأنّ أوفيليا على وشك الموت أو شعر بأنّه سيفقدها إلى الأبد لسببٍ ما؟ فجاء إليها مدفوعاً بهاجس غامض كما يبدو لا بأيّ شبق من أيّ نوع وإلاّ لطارحها أو أغراها بكلمات ممغنِطة أو بلمسة حبّ لها مفعول البنج في عموم الجسد.
أكثر من ذلك ألا تدلّ حركة الرأس البطيئة ثلاث مرّات إلى أعلى وإلى اسفل على طقوس، لا سيّما وإنّ للرقم ثلاثة دلالة خاصة لدى شيكسبير؟
إذنْ هل تعني :"أخذني من معصمي وشدّ عليه بقوّة" الخوف عليها من يأخذها أحد ما دامت لا تعني غزلاً؟
من ناحية أخرى فإنّ توقيت :"فتنهّد تنهيدة من أعماق كيانه" مهم للغاية، لأنّ شيكسبير بهذه الوسيلة اللمّاحة أنهى الطقوس نهاية طبيعية. ولكن لماذا تنهّد تلك التنهيدة التي ضعضعت هيكله؟ ولماذا تركها في تلك اللحظة؟ هل كانت هذه التنهيدة هي كل ما أراد أن يقوله لاوفيليا؟
هكذا ترك هاملت أوفيليا، وخرج من الأبواب دون الاستعانة بعينيه لأنهما كانتا توجهان شعاعهما إليها.
لم يكنْ هذا الوداع وداعاً طبيعياً، وهو أشبه ما يكون بتوديع ميّت حيث تتركز الحواسّ الخمس عادة بحاسة البصر التي تضاعفت حدّتها خمسة أضعاف، لتختزن، لتتشرّب لتنقش ملامح الوجه ملمحاً ملمحاً قبل أن يختفي نهائياً.


كتاب: اغتيال المهدي بن بركة جريمة دولية وحقيقة مغيبة
 

عرض /المدى

رغم مرور ما يزيد عن (40) عامًا على جريمة اختطاف المناضل المغربي/العربي/الأممي وقتله، في باريس على أيدي النظام الملكي المغربي، ممثلاً عندئذ بالحسن الثاني، رئيس لجنة "تحرير" القدس! وأداته القمعية الإجرامية، الجنرال أوفقير، الذي انقلب على مولاه وسيده في مرحلة لاحقة، والذي جهز، بموافقة سيده "سليل العائلة الشريفية!" الملك، من دون شك، قاعات اجتماعات القمم العربية التي كانت تعقد في المغرب بأجهزة تنصت للموساد الإسرائيلي وقاد شخصيًا عملية تهجير ما يزيد عن (200000) مغربي يهودي إلى فلسطين المحتلة دعمًا للعدو الغاصب، وبمساعدة فعالة من أجهزة الاستخبارات الفرنسية والأمريكية والصهيونية، أو من أفراد فيها، فإن الحقيقة لاتزال غائبة.
اغتيال المناضل المغربي الكبير جريمة قتل بقيت الى الآن من دون جثمان، ومن دون الادعاء على المجرمين القتلة!. المؤرخان الفرنسيان جاك دِرُجي وفردرك بلوكان، وبمشاركة رينيه دِرُجي
ويتزمان تابعا قضية الاختطاف بمراحلها، ولاحقا حركة كل الأفراد الذين كانت لهم علاقة بالجريمة، كل شارع وفندق وحانة وماخور في باريس وضواحيها، بهدف كشف الحقيقة المغيبة، في كتاب استقصائي فذ، لا مجاملة فيه لأحد ولا سكوت عن اسم أي كان، مهما كان منصبه.
ومع أن المؤلفين لم يتمكنا من تقديم إثباتات قانونية، وهي ليست مهمتهما على أي حال، تدين أشخاصاً محددين، إلا أن المؤلف تمكن، بفضل براعة التقصي وانحيازه إلى جانب الحقيقة من إثبات تورط ما لا يقل عن أربعة أجهزة استخبارات في الجريمة هي: الاستخبارات الفرنسية ووكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) "الأمريكية"، والموساد الصهيوني والاستخبارات المغربية، إضافة إلى مجموعة من الأشقياء والمجرمين المعروفين في "العالم السفلي" من تجار مخدرات وتجار سلاح وقوادين . . إلخ.
تقصي مؤلفي الكتاب بين أن القضية أعقد بكثير من أن "تكتشف" تفاصيلها، والخسائر الناجمة عن ذلك تمس دولاً وأحزابًا وشخصيات عديدة لا تُعد جميعها من التاريخ . . فقضية بن بركة واختطافه وتعذيبه ثم قتله لا تزال حية وكثير من الأشخاص والشخصيات التي كانت مشاركة فيها، إما بحكم موقعها، أو بسبب مشاركتها المباشرة، لاتزال حية، وعدد منها مازال يمارس نشاطه السياسي.
إضافة إلى الحقائق والتفاصيل المهمة التي كشفها الكتاب، للمرة الأولى، فإن أهميته تكمن في إيضاح أن هدف التخلص من المناضل العربي المغربي الكبير المهدي بن بركة، لم يكن فقط القضاء على شخصية عالمية الأثر، وإنما أيضًا جزء من عملية إمبريالية متكاملة كان هدفها وقف صعود حركة التحرر العالمية التي كان المهدي بن بركة من أبرز زعمائها، جنبًا إلى جنب مع رفاقه المناضلين نذكر منهم تشي غيفارا وفيديل كاسترو وكوامي نكروما وجمال عبد الناصر وأحمد بن بللا وأحمد سوكارنو وأحمد سيكوتوري وباتريس لومومبا وغيرهم من قادة "العالم الثالث" العمالقة، الذين نفتقدهم جميعًا في زمن الانبطاح المشين لإملاءات الإمبريالية الأمريكية وحلفائها الأوربيين في حلف الناتو. فقد رافق عملية الخطف والقتل الغادرة وتلاها انقضاض إمبريالي على زعماء حركة عدم الانحياز توجها عدوان العدو الصهيوني عام (1967 م) بمشاركة إمبريالية فعالة، مازلنا نعاني آثارها إلى يومنا هذا.
للكتاب أهمية خاصة لأنه يضع جريمة الاختطاف والغدر ضمن إطار سياسي متكامل هدفها كان إعادة إخضاع الشعوب المتحررة حديثًا سياسيًا وثقافيًا واقتصاديًا عبر سلبها ثوراتها وتاريخها وتراثاتها.
وللتنويه فإن هذا الكتاب يأخذ مكانة مرموقة في سلسلة توثيق وفضح الجرائم السياسية التي ارتكبتها القوى الإمبريالية العالمية وعملائها في "العالم الثالث" إلى جانب كتاب (أسرار اغتيال باتريس لومومبا) الصادر أخيرًا في دمشق وبيروت، أيضًا عن دار قدمس للنشر والتوزيع.
هامش الكتاب: خفايا اغتيال المهدي بن بركة، كشف جريمة دولية
تأليف: جاك درجي وفردريك بلوكان
ترجمة: محمد صبح
عدد الصفحات: 382
السعر: 12 دولاراً


في مديح عبد الرحمن طهمازي

 

علي حسين *
*كاتب عراقي

ظل رقيق يفرش ارض الثقافة العراقية بالخصب والعافية، وابتسامة شفافة، ووجه صبوح، وضحكة خجولة تبعث في معارفه واصدقائه الامل بان ايام الصفا والبراءة لم تطحنها بعد معاول الارهاب وبنادق مكفري الثقافة.. ونظرة عميقة وثاقبة ممزوجة بروح التسامح والالفة تشعرنا بان المفكر الحق هو ضمير الشعب .. وعينان لامعتان بالفكر والفلسفة والتاريخ تشعان خلف نظارة سميكة بالنور،
انه عبد الرحمن طهمازي الرجل الذي لايتستر على نفسه بالمعرفة ولايتجافى عن المعرفة من نفسه.
ذات صباح مرت عليه سنوات طويلة التقيت للمرة الاولى (ابو عوف ) كما يحلو لاصدقائه ان يسموه بصحبة صديقه الاثير عزيز السيد جاسم وكان اللقاء في مدخل شارع السعدون الذي يحمل في نفس طهمازي الكثير من الذكريات ففي احدى ازقته كان يقع ذلك المقهى الذي اصبح ملتقى جيل من الشعراء ابرزهم فاضل العزاوي ومؤيد الراوي وانور الغساني وفوزي كريم وعبد الرحمن طهمازي ومنعم حسن ووليد جمعة واخرون في هذا المقهى الصغير -مقهى جمعة- قرر هؤلاء الشعراء ان الشعر يكتب من خلال صبوة الروح .. وان الشاعر الحقيقي هو الذي يحاول فهم العالم لا اللعب في داخله وان القصيدة هي التي تكتشف قوانينها الخاصة في مواجهة الكون . منذ ذلك اللقاء الاول اكتشفت انني ازاء رجل مفعم بالحكايات والرؤى وانه لايترك موضوعا الا ويستخرج كل مكنوناته.. وان حديثه دائما مرصع بالرؤية والرؤى .
ولعل هذه الصفات سمة جيل كان عبد الرحمن طهمازي ابرز ابنائه جيل لم يكن يريد ان يفلت منه شيء دون ان يكون طرفا حاضرا في ساحته مشهرا اسهامه واضافته، اسهامه الصارخ احيانا .. الصاخب احيانا .. الرافض في احيان كثيرة .. جيل وضع بصماته مع سبق الاصرار والترصد على خارطة الثقافة العراقية..
***
بين ذكرى الحاضر وجنازة انكيدو مرورا بتقريظ الطبيعة تمتد تجربة عبد الرحمن طهمازي الشعرية التي تتسم بكونها تاتي من خلال تكثيف مذهل من المعاني والافكار مبلورة اجابته التي تعكس دائما تصاعدا حسيا لافتا وتتسم بتفرد شعري متميز. وربما خلق الوعي المتراكم عند طهمازي مجري بعينه للاسلوب والادوات الفنية. فزحمة العبارات المركزة في شعره وادراكه أهمية الكلمة جعله يبتعد عن ترف الاسترسال والوصف محافظا على التوتر الداخلي لايقاع القصيدة وبنائها الذي يثور على النغمية التقليدية .
(اسمع انتها الخفيفة تغيب / لاادري اين تخفيها / وفي صوتها اجد سلما يعتدل لربيع غامض /لم تكن تصنع كلاما متفقا عليه/ ماالذي جعلني انصت مطولا؟/ لابد من ان شيئا ما يقال عني ولايعنيني / لابد من انني سالتقط اللحن واحمل كماله المطارد / وامضي به اليها / ومن شفتيها اسمعه يدب في صمتي واحميه هناك )..
هكذا تتقدم القصيدة عند طهمازي حاملة عزاءها ومراثيها الى العالم .. وفي الوقت نفسه تتقدم لتوجه سؤال الشاعر بمسؤوليته ازاء ما يجري حوله كأن سؤال الشاعر لم يعد قابلا لان يعيش في الامل واليأس .. سؤال الشاعر صار ايضا بحثا عن جواب .. عن سبب فشل الشعر احيانا في اشاعة الامل .. عن تجديد يبحث عن حلم .. وعن حلم لايموت.
( تخلب لب الشاعر الصادق احيانا اقاويله/ فيهتدي فيها الى العالم والنفس/ ويستمر الشاعر الصادق في صدقه حتى اذا صار الى اليأس / فتش عن عالمه وصاح :/ يا نفسي)
وكأن القصيدة الحلم كانت تخطو نحو افتراقها ومن هذا الافتراق تطل اسئلة جديدة للشاعر.. كيف نصوغ الحلم الذي لايخون؟ كيف تحول القصيدة الى عالم بلا خوف ولا منفعة؟. الى عالم يعيد الانسان الى نفسه .
( خذوا ما شئتم من قصيدة / واتركوا القاضي بعيدا واقرءوها دونما خوف ولا منفعة / سوف تعيدون الى انفسكم شيئا من الشعر / تعودون الى انفسكم شيئا فشيئا ) .
وفي اطار السؤال يصمت طهمازي احيانا حيث يكون الصمت توجسا من الشاعر لما يدور حوله.. واحيانا اخرى تأملاً لمازق المثقف في وضع اصبح الجميع فيه يحاولون تفريغ الكتابة من شغبها الجميل وصدقها .. وفي المرات القليلة التي يطل علينا فيها طهمازي نجد انفسنا امام واحد من اصدق الاصوات واخلصها واكثرها قدرة على البوح والمكاشفة..
***
/ يعيش الشاعر سعيدا في مسكنه المتواضع .. ينام على السرير البسيط تحيط به على الجدران مكتبة تحمل اغلى واثمن ما اثمرت الانسانية من افكار .. حياة بسيطة لو شهدها اغنياء هذا العصر لعجبوا كيف يعيش الشاعر المفكر وغيره يرفل بالحرير والانعام !؟
لكنك يا صديقي العزيز قانع بعد هذا العمر الذي يشع من حولك الفة وسعادة ويحكي مع كل سطر خطته يداك قصة شموخ المثقف وعفته ونزاهته في هذا الزمن المغبر..

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة