المدى الثقافي

الصفحة الرئيسة للاتصال بنا اعلانات واشتراكات عن المدى ارشيف المدى
 
 

الترميم وإعادة بناء التراث المعماري العراقي

د.علي ثويني*
*معمار وباحث عراقي مقيم في السويد
    
thwanyali@hotmail.com
لم تعِ السلطات التي قوضت أحياء الكرخ وقبلها الرصافة وأوابد العراق التاريخية بحجج العصرنة الواهية ، بأن التراث ملك مشاع للأجيال، وأن فناء أثر يعني محو حقبة من ذاكرة الشعوب، والأهم في الأمر الصعوبة التي تكتنف إعادة الروح للبناء ،بنفس المواصفات بعد تقادم السنين. لقد أطلق الشاعر والفيلسوف الأميركي الأسباني هنري بتروسكي، تحذيراً قال فيه: " أولئك الذين لا يتذكرون الماضي محكوم عليهم بأن يعيدوا تمثيل أحداثه ".
لقد تعامل الأتراك ثم السلطة الملكية ثم القوميون و البعثيون بإسفاف مع الموروث الحضاري العراقي ،ولم يكترثوا لمنزلة البلد في الموروث الحضاري والآثاري العالمي. لقد وجدنا معاهد وجامعات للدراسات الأمنية والمخابراتية والحزبية أيام البعث، ولم نجد جامعة يعتد بها للدراسات الآثارية مثلا،ولم نسمع عن دراسات ترميمية لأوابد ومعالم أو أقسام للدراسات المتحفية (
museology) ، وأقسام تعنى بالخصوصيات المعمارية والتخطيطية و الفنية العراقية،بل تركوا وراءهم قصوراً فرعونية تعبث بها الريح وتقطنها عساكر المحتل .
تشير كل الدلائل إلى أن أرض العراق أكتنفت مهد التمدن وأحتوت على باكورة العمائر. ونصل خلال رحلة البحث والتدقيق والمقارنة، إلى أن جل عناصر العمارة الموجودة اليوم كانت جذورها عراقية،و وردت كلها في حيثيات حركة العقل الإنساني و سطوة العلم والتأمل والتجريب،التي وجهت مهارة الأنامل وأرتقت بوسائل الإبداع ،لتصب في غايات راحة الإنسان ،وهي بحد ذاتها سنة التطور وإرتقاء النوع الإنساني من البدائية إلى الحضارة ومنتجها.
لقد شهد العراق أول تصنيع لمادة البناء (الطوب والآجر) ،وأول عناصر تسقيف أوعقادة ونعني العقد والطاق والقبة في غياب الحجر وخشب الغاب. وشهد أول تجربة لعناصر جوهرية في العمارة مثل الحوش(الفناء أو الباحة)، وشهد أول تجربة لعمل مبنى متعدد الطوابق ،واستعملت السطوح للنوم عليها منذ أيام أور وأوروك ،ونجد تجارب بابلية لعنصر البادكير(الملقف).ويمكن أن يكون العراقي أمهر من واءم عمارته مع البيئة،وأقتفى معطياتها، فلم يعنفها، أو يعاند سطوتها، بل هاجنها بحذق، حتى أمست حلولهم قاعدة توائمية مثالية تماشت مع حيثيات عمائر الدنيا حتى يومنا هذا.
وخارج جرم السلطات والحداثة المفروضة،فقد عانت الأوابد العراقية من الإجحاف المركب: أولا من جراء بيئة قاسية ونزيز ورطوبة وطوفانات وملوحة تربة من جهة، وثانيا تهديم مستمر وبناء مدن على أنقاض أخرى. ويمكن أن تكون لخامة الآجر(الطابوق) مبرر سهل عملية الهدم الممنهج والنقل السريع منخفض الثمن، من خلال وجود أنهار قريبة يستفاد من جريانها لنقل الخامات،التي يعاد توظيفها في بناءات جديدة، مثلما حدث بين بابل ومدن الفرات الأوسط،وبين المدائن وبغداد وبين سامراء ومدن العراق الأوسط.
وهكذا ظهرت حرفة (النقاب) التي لاتعرفها أجيالنا المتأخرة،التي كانت تضطلع بعملية هدم المعالم المعمارية وتسويق خاماتها، وعزل أنواع الآجر والأخشاب بحسب الصلاحية والحجم والإستغلال. ونورد ماذكره الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد: (أول ما نبدأ به ذكر أقوال العلماء في أرض بغداد وحكمها وما حفظ عنهم من الجواز والكراهة لبيعها فذكر عن غير واحد منهم أن بغداد دار غصب لا تشترى مساكنها ولا تباع ورأى بعضهم نزولها باستئجار فإن تطاولت الأيام فمات صاحب منزل أو حانوت أو غير ذلك من الأبنية لم يجيزوا بيع الموروث بل رأوا أن تباع الأنقاض دون الأرض لأن الأنقاض ملك لأصحابها وأما الأرض فلا حق لهم فيها إذا كانت غصباً).
وهكذا مكث من ميراث (أم الدنيا) كما كانت تكنى ثمانية معالم شحيحة مشتتة، وأن المساحة التي احتفظت بسمات تراثية لا تشكل اليوم سوى 1/ 275 من مساحتها أو بلغة الأرقام ثلاثة كيلومترات مربعة.
ويقارن الفرنسي (اندريه كلوت) في كتابه (هارون الرشيد وزمان ألف ليلة وليلة) بين حال بغداد الراهن،وأسمها اللامع مع حالها وما مكث من تراثها، بالمقارنة مع مدن روما وأسطنبول وأثينا، وحتى دمشق ، أو القاهرة التي تشتمل اليوم في جنباتها على ما يقارب الستمائة معلم إسلامي وكلها مازالت تحتفظ بقبس من ماضيها وأثارها. ومن الجدير بالذكر أن كل تلك المدائن لم تطأ الذروة التي تبوأتها بغداد في التاريخ .لقد فقدت بغداد كل ما تملكه من تراثها بسبب سياسات التوسعة وإعادة الهيكلة الساذجة التي حرمتنا من جزيل معالمها.
و ورد عن الجاحظ البصري قوله: (من شأن الملوك أن يطمسوا على آثار من قبلهم وأن يميتوا ذكر أعدائهم، فقد هدموا بذلك السبب المدن وأكثر الحصون، كذلك كانوا أيام العجم و أيام الجاهلية، وعلى ذلك هم في الإسلام، كما هدم عثمان صومعة غمدان وكما هدم الآطام(الحصون) التي كانت في المدينة،وكما هدم زياد كل قصر ومصنع كان لأبن عامر وكما هدم أصحابنا(ويعني العباسيين) بناء مدن الشام) وفي نفس السياق يقول المؤرخ الشامي محمد كرد علي: ( كم أدركنا وأدرك آباؤنا وأجدادنا من أثر بديع سطت عليه يد خرقاء لنسل حجارته. وكم من كتابة تاريخية عفى أثرها جهلا وغباوة).
وعانت مدن العراق عموما وحاضرتها بغداد من العتق والهزال بسبب التقادم أو الإهمال أو التقويض الذي مارسه مسيرو العمران حينما غاب عنهم الحس الحضاري وإملاءات الضمير. ولدينا مثال إنتهاكات أمناء بغداد أيام الحكم الملكي(حسام الدين جمعة) و(أرشد العمري) الذين هدموا أجمل معالم بغداد الأثرية بحجة توسعة شوارع أو إنشاء عقار "حداثي" أو عمل ساحة عامة أو موقف سيارات.ونجرد هنا أمثلة بسيطة من إنتهاك التاريخ البغدادي على يد العثمانيين أو أمناء العاصمة الذين أسترسلوا بنفس العقلية:
باب المعظم (السلطان): شيد في 1095م - هدم في 1925م.
باب الطلسم: شيد في 1221م - هدم في 1917م.
الباب الشرقي (البصلية): شيد في 1221م - هدم في 1937م.
جامع مرجان: شيد في 1356م - هدم في 1946م.
جامع النعماني: شيد في 1381م - هدم في 1936م.
جامع السيد سلطان علي: شيد في 1383 - هدم في 1934 وكذلك في 2000م.
جامع الخلفاء: شيد في القرن الثالث عشر - هدم في 1779 وكذلك في 1957.
جامع معروف الكرخي: شيد في القرن الثالث عشر 1215م - هدم في 2000م
الترميم والصيانة
والترميم أو التجديد أو الصيانة "عمل أو مجموعة من الأعمال الفنية التي تهدف إلى تلافي الأعطال ، ومعالجتها (إن وجدت) بغية استرجاع الأصل (المعطب أو الذي سيعطب) إلى حالته الأولية التي كان عليها وإدامة الأثر، مما يضمن قيامه بوظيفته "..و عُرفت صيانة المباني منذ زمن بعيد، لكن مفهومها تبدل حسب الزمان والمكان، وكذلك أنواعها وأسلوب تنظيمها. فقد استخدم المسلمون مصطلح "حد العمارة" كمرادف بديل للصيانة. وهذا ما نجده في فتوى الزيلعي عندما أفتى في "حد العمارة" من خلال فهمه للاستعمال العادي للموقوف (أي مفهوم الصيانة العادية) وذلك بقوله:بقدر ما يبقى الموقوف على الصفة التي وقفه بها (الواقف)، لأن الصرف إلى العمارة ضرورة إبقاء الوقف ولا ضرورة في الزيادة.
وواكب مفهوم الصيانة التطورات التقنية المتسارعة التي دخلت في مجالات الإنتاج الصناعي وغير الصناعي، مما أدى إلى تبلور أهمية تكاليف الصيانة. وقد عقّد المنتج التكنلوجي بدوره عمليات الترميم ودعا إلى التخصص بها حتى أمست علما معماريا مختصا.وهكذا أصبح لزاماً على الإدارة الناجحة مجابهة نمو هذه التكلفة عن طريق تبني الأساليب العلمية المناسبة التي تؤدي إلى القرار الصائب. وتعرّض مفهوم الصيانة لتقلبات متعددة طبقاً للنواحي العلمية ، ونجد أن معظم المفاهيم ركزت على أمور أساسية نجملها:
(1) الصيانة عمل أو مجموعة أعمال.
(2) الهدف لإعادة الأصل لحالته الأولية للقيام بوظيفته.
(3) الكشف عن الأعطال كعمل وقائي لتجنب الأعطال المثيلة المتوقع حدوثها مستقبلاً.
(4) تركّز العملية الإنجازية على التكلفة الاقتصادية عموما.لكن هنا يتحاشى الكثيرون النظر للجانب المادي بقدر الموقف الأخلاقي في المحافظة على الأثر، بما يتضمنه إحترام للموروث وتقدير لحق الأجيال.
والترميم الآثاري عملية تختلف عن البناء من الأساس، وتتطلب خبرة تقنية عالية ،ناهيك عن تكاليفها التي تكون أبهظ من البناء الجديد. و عملية صيانة المبنى من الخراب الذي ألم به هي منظومة أعمال علاجية (
process)، تروم قدر الإمكان إلى إعادة المبنى إلى حالته الأصلية عن طريق إعادة بنائه او إصلاحه حسب ما تتطلبه حالته .وقد تطورت لتصبح علماً قائماً يتبع تأريخ العمارة ويختص به نفر من المعماريين ،وقد ترادف مع معانٍ تصب في نفس الهدف مثل ترميم أو صيانة (Restoration ) أو محافظة(Conservation) أو تجديد (Renovation) أو إعادة بناء Reconstruction-Rebuild)).
ومن المعلوم أن المباني التاريخية تعاني من العتق والهزال بسبب تقادم الزمن والظروف الطبيعية والبشرية،مما يستدعي عملية منظمة تدخل فيها العلوم والفنون على قدم وساق وعلى حد سواء، لتشارك في عملية تخليص المبنى مما يعانيه من الرطوبة والهدم او الحث والتجريد ، ويتطلب محاولة إعادة صنع مواد البناء الأصلية أو إعادة إنتاجها ومحاولة استعمال نفس التقنيات المتبعة لدى إنشاء المعلم. ويتطلب ذلك إزالة حطام كبير من صلب البناء أو ما علق به من إضافات لا تمت للأصل بصلة ،بعد أن تتم عمليات التمثيل المعماري ودراسة الأثر بمنهجية بحثية وعملية حذرة. حتى أن عمليات النهو أو التشطيبات (التتميم كما وردت في التراث) تحتاج إلى يد عاملة ماهرة من أسطوات الحرفة (artisan ) ،بما يجعل إعدادهم عمليا من ضمن مقتضيات العمل.
ولا ضرر بهذا الصدد في الأخذ بتجارب الشعوب . ويمكن الإقتداء بالبولونيين عندما أعادوا المدينة القديمة (ستارا مياستا) الى رونقها الأول بعد محوها مع الأرض على أثر قصف النازية لها في الحرب الثانية.أو حتى تجربة السويد في ترميم حي(كاملاستان) المركز التاريخي لمدينة ستوكهولم، التي تعتبر من أكثر التجارب الناجحة في ترميم وإعادة توظيف المدينة القديمة لأغراض تجارية وإدارية وسياحية وترويحية وترويجية ،بما أعطاها حياة بعد ترنح، وبعدما هجرها الناس.والأمر عينه يمكن أن يطبق على مدن بغداد وسامراء والنجف وكربلاء والموصل وكركوك وأربيل وعانه والبصرة وغيرها الباقية تصارع من أجل البقاء.
ولم نشهد أي عملية منظمة لترميم آثاري في العراق خلال حقبة البعث، و ما يتعلق بترميم مدينة بابل ،فيشهد الخبراء على أنها عملية فاشلة ،ولاتمت الصلة بـالمعالجات الترميمية ،وأشيع عن استعمال خامة "الطابوق الجمهوري" في أجزاء كثيرة منها لتسريع الإنجاز،وذلك تبعا لإملاءات الطاغية، بما ينافى ابسط شروط الترميم.


نظريون معزولون وعقدة السياسة
 

فوزي كريم
"من الأُمور الطريفة في الثقافة العربية الآن ضمن طرائف كثيرة أُخرى هو أن بعض الشعراء والكتاب العراقيين بالذات راح يتباهى على أقرانه بأنه لم يتدخّل في السياسة في أي وقت وأنه ظل بعيداً عن كل المعارك التي شهدها بلده، مكتفياً ربما بمناجاة النجوم والقمر، باعتبار أنه لا ينبغي للشاعر أو الكاتب أن يقول أي شيء، يهم الناس. إن هؤلاء الذين لا يقولون أي شيء حقاً ربما لا يعرفون أو حتى يعجزون عن معرفة حقيقة أن الشاعر أو الكاتب أو الفنان العربي الذي يعزل نفسه عن أُفق حركة الحداثة العربية الشاملة ويخلو رأسه من أي فكرة تثير اهتمامنا ويصعب عليه أن يكون ضميراً تاريخياً للثقافة الإنسانية الجديدة داخل مجتمعه, يصبح عبئاً على الثقافة نفسها وأداة تمسيخ لها. ولكن بما أننا نحترم حتى حق الانسان في الخطأ فسوف نتركهم يواصلون لا شيئهم، كجزء من فكاهة الأدب في مجتمع التخلُّف." (ص348).
اللهجة شرسة ولا تقبل التسوية، وادّعاء رحابة الصدر في السطر الأخير (احترام حق الانسان) سخرية أكثر شراسة. الراديكالي ينطلق في موقفه من مركز الأهواء فيه، ولغته وليدة هذه الأهواء، فهي غير معتمَدة عقلياً. الذي ينأى بنفسه عن معترك الإديولوجيات والعقائد العمياء لا تعود له، في نظر الراديكالي، غير مهمّة مناجاة النجوم والقمر! وكأن مهمّات الكاتب والشاعر محدودة بهاتين المهمّتين! والأفكار التي تثير اهتمام الراديكالي لا تخرج إلاّ من "أُفق الحداثة العربية الشاملة"، حتى لو كان هذا الأُفق بالونة هواء أو دخان لغوي لا غير.
تورجينف الذي يحذر اندفاعة الراديكاليين كان عرضة لاتهامات الراديكالي دوبرولايوبوف، المحرر الأدبي لمجلة "المعاصر"، عن رواية "في المساء": "... بينما يتحدث تورجينف عن المساء، نسأل نحن عن فجر اليوم الحقيقي متى يطلع؟ إذا لم يكن قد طلع بعد فبسبب أن الشبان المتنورين الأخيار، أبطال رواية تورجينف، عاجزون ومشلولون، وسوف ينتهون، بسبب كل كلماتهم الحلوة الرقيقة، متكيفين مع قناعات الحياة المحافظة لمجتمعهم، لأنهم مرتبطون بقوة بالنظام السائد، بشبكة العائلة والعلاقات الاقتصادية والمؤسساتية التي لا فكاك منها...إيرزِن وأوغاريف يقيمون في لندن ويضيعون وقتهم في فضح وعرض حالات الظلم والفساد والفوضى في الامبراطورية الروسية. ولكن هذا على بعده ربما يساعد على إزالة مخاطر نهايتها ويطيل عمرها. المهمة الحقيقية هي في تحطيم كل النظام اللاإنساني... إن هؤلاء، ومن ضمنهم تورجينف، يريدون إصلاحاً وما يؤمّن الراحة. نحن نريد تحطيم ما هو ماثل. نريد ثورة وبناء أُسس جديدة للحياة. ما من طريقة أُخرى كفيلة بتحطيم عهد الظلام.".
قناعة تورجينف لم تحصنه من المخاوف من تأويلات الراديكاليين لرواياته. كان في حالة ازدواج من مشاعر الاعجاب والعطف إزاء هذه الشبيبة التي تتحلّى بشجاعة في المجابهة، والقدرة على التضحية في وجه الرجعية، والشرطة، والسلطة، الى جانب ازدراء وعدم احتمال لتوجههم النفعي المضاد والخشن لأي حس جمالي، ورفضهم المتطرف لكل ما هو عزيز عليه من ثقافة ليبرالية، وفن، وعلاقات إنسانية متحضرة.
كان تورجينف يشارك المفكر هيرزن وأصدقاءه كراهيتهم لكل أشكال الإستعباد، والظلم، والقسوة، ولكنه على غير شاكلة بعضهم لا يرتاح كثيراً داخل أي مبدأ أو نظام إديولوجي. كانت تلك المبادئ بالنسبة له تجريداً يثير استنكاره. رؤيته بقيت دقيقة، حادة، صلبة، وواقعية. المذاهب الهيجلية، يسارية ويمينية، المحيطة به يوم كان طالباً في برلين، وكذلك المادية، والاشتراكية، الوضعية... بدت له جميعاً محض تجريدات.
هيرزن يرى شبان الستينيات هؤلاء دوغماتيين، نظريين، تستحوذ عليهم الرطانة اللغوية... إنهم يريدون أن يحطّموا نير الطغيان القديم، فقط لكي يعوضوا عنه بنير آخر من صنع أيديهم. إن جيل الأربعينيات (جيله وجيل تورجينف) ربما كان ضعيفاً، أحمق، وأبله، ولكن هذا لم يكن يعني أن الجيل التالي، شبان الجيل الستيني الساخر، الخالي من الحب، الخشن بقسوة، هو بالضرورة أرفع منزلة منهم!

________________
من كتاب تهافت الستينيين الذي سيصدر عن دار (المدى)


في حوار مع الشاعر رعد كريم عزيز الفائز بجائزة ديوان شرق غرب : اكتشفت إن للشعر قيمة الذهب
 

حواره: أحمد الحلي
منذ أمد ليس بالقصير ، أتيح لي أن أتعرف عن قرب إلى الشاعر رعد كريم عزيز ، وقد عرفت فيه شخصاً دؤوباً ومثابراً ويمتلك صبر المحارة وهي بصدد صنع لؤلؤتها الأثيرة فهو يمتلك كل المقومات التي من شأنها أن تصل به إلى ضفة الشعرية الحقة ، تلك الشعرية التي اقترنت مفرداتها المتهادية عنده بطبيعة الحياة اليومية ومكابداته فيها .
وعلى الرغم من كل محاولات التغييب والغياب التي ظل يحيا في خضمها شاعرنا في المشهد الشعري والأدبي في العراق ، إلا انه استطاع في عدة مرات أن يخترق جدار هذه الشرنقة التي أريد لها أن تكون سميكة وكثيفة بما يكفي لكي يظل صوته محشوراً ضمن نطاق ضيق ، وفي الآونة الأخيرة وقبيل انتهاء العام 2005 استطاع أن يثبت جدارته وحضوره بقوة تجعل المتربصين بتجربته الشعرية غير قادرين على حجب اسمه مرة ثانية ، والذي طار في سماء الأدب فكان له موعد مع جائزة ديوان شرق / غرب الأولى في الشعر للعام 2005 ، حصل عليها عن ديوانه المعنون " النصوص فاكهة السواد " .
جاء في كلمة الناقدة د. فريال جبوري غزول والتي تم تثبيتها على غلاف الديوان الأخير والتي هي بمثابة تقييم للديوان ؛ يتميز هذا العمل بقصائد قصيرة تعتمد على المفارقة التي تكتمل في نهاية القصيدة ، وعلى سبيل المثال قصيدة ترتيب ؛ لقد أعادت زوجتي / ترتيب أوراقي / يا للهناء / أنها فرصة طيبة / لخلق / الفوضى من جديد .
وتتناول قصائد هذا العمل مواضيع مختلفة تتراوح بين الحرب والموت ، الكتابة والزمن ، الغزل والوصف ، وهي قصائد محكمة تدل على بصيرة استثنائية كما في قصيدة توهم ؛ حين نقلوا النسر / من حديقة لأخرى / توهم انه ذاهب للجبال ، ويقتصر المعجم الشعري على المتعارف ولهذا فهذه القصائد تندرج تحت السهل الممتنع .
ويتبين لنا مدى احتفاء الشاعر بذاته ، وهذا حق من حقوقه الأساسية ، من خلال الكلمة التي كان أعدها لهذه المناسبة وألقاها في الحفل الذي أقيم في 21/ 12 / 2005 في المنصور ميليا ، ومما جاء فيها : " فجأة ، اكتشفت أن للشعر قيمة تعادل الذهب وان الانشغال بالعمق الثاني للحياة لم يذهب سدى ، اليوم ليس لي علاقة بالأرض ، والأثير ينقلني إلى الطفولة وما ترون من ملامح خشنة على وجهي ما هي إلا قناع الزمن القاسي الذي إضافته الحروب والجوع ورعاية الأولاد في ظل ظروف شائكة .."


في مكان ما في العاصمة بغداد ، التقينا الشاعر رعد كريم عزيز وكان لنا معه الحوار التالي :
* : ما الذي شكلته لحظة الفوز بالنسبة لك ؟
* : الشاعر طفل كبير ، يسهو ، ويشطح ، ويفرح بطريقة قريبة من الجنون العاقل ، لذلك فأن لحظة الإعلان كانت بمثابة رجوع إلى يوتوبيا الأمل بأن الحياة ملموسة ويمكن أن تعاش رغم قساوتها . وحين فاضت مشاعري بالشكر والامتنان لاتحاد ديوان شرق / غرب وراعيته أمل الجبوري لم استطع تميز الوجوه كنت سادراً في النشوة وشعرت أن ريشة الفرحة تطير بي نحو الأيام الماضية أيامي الأولى . أيام الكتابة والصراع من اجل التعلم
الذي ما زال مستمراً ورغم أن الأصدقاء قالوا :- كنت رائعاً ... إلا أني شعرت باني كنت مرتبكاً إلى حد الذهول .
أما على المستوى الإبداعي فان فوزي يعتبر انتصاراً للشعر المغيب الذي طالما بقي حبيس الجلسات المغلقة او المعلنة على استحياء . وحققت الجائزة في إنجازها الأول كتاباً مطبوعاً وانتشاراً عربياً عبر معرض القاهرة الدولي للكتاب لعام 2006 والذي سيقام في شهر كانون الثاني .
* : عشت الغربة وعانيت منها ، غير انك عشتها لأمد قصير نسبياً ولم تذهب بعيداً ، ما الذي أفدت منه ثقافياً من الغربة وبالذات في مجال الشعر ؟
* : الغربة هي اغتراب الروح الخاصة التي تعتمل في ذات الشاعر وأنت أصبت المعنى حين قلت لم تذهب بعيدا ً وألا فان عمان مكان أليف للعراقيين أما الذي أفدت منه ثقافياً من الغربة ...فأهم إحساس أضيف لي هو الإحساس بقيمة الأشياء والحيوات التي فارقتها ..العائلة ..والأصدقاء ..والأنهار . لحد أن الغربة جلت غبار الاعتياد وأعادت القيمة للذكريات والماضي وكل ما صنعناه في البلاد وسط لعبة حقيقية اسمها الحياة وأتذكر إني حين أبلغت من المفوضية السامية للاجئين بقبولي لاجئاً سياسياً هاتفت صديقي الشاعر علي عبد الأمير هنأني بحصولي على ( البطاقة الزرقاء ) التي تعني التخلص من فقرة اسمها ( تجاوز الإقامة ) ولكنني شعرت بانفصالي عن الأرض وقلت له ... اشعر أن جذوري تتقطع .
وفي مجال الشعر أضافت لي ستة نصوص نشرتها في مجلة المسلة " وكما تعرف فأني مقل في الشعر ، أتأمل كثيراً قبل أن امسك النص كما يمسك صغير بحمامة ولكنه سرعان ما يطلقها في الهواء ... أما نحن فنسجن النص على الورق في تحد يائس للزمن .
* : لماذا يتكلم بعض أدباء الداخل بحساسية تجاه أدباء المنفى ؟
* : يتكلم بعض أدباء الداخل بحساسية اتجاه أدباء المنفى بسبب حساسية الموقف نفسه لان العديد من أدباء المنفى يتحدثون عن أدباء الداخل بقسوة غير اخذين بنظر الاعتبار قسوة الداخل وظلاميته الوحشية ، واعتقد أن الزمن كفيل بمد الجسور بين الداخل والخارج ، وإعادة العلاقة الحميمة الصادقة لأدب عراقي أصيل بعيداً عن المكان وإشكالاته واعتقد إن الحديث عن أدب الخارج والداخل لم يحصل إلا في العراق نسبة للظروف القاهرة التي عصفت به وما زالت نارها تحرق أذيال الواقع المرير وهناك مسألة جديرة بالاهتمام وهي أن كل أدباء الخارج يلحون على قراءة أدب الداخل باعتباره الحاضنة الأولى التي لا يمكن مغادرتها ..حتى في النصوص الأدبية المكتوبة في الخارج .
* : أنت تعمل في مجالات ثقافية وإعلامية متعددة ، هل تعتقد أن تشظي الأديب أو الشاعر يمكن أن يؤثر على مجال اهتمامه الأساسي ؟
* : لا يوجد أديب عراقي متفرغ وان وجد فأنه يتهم بالعزلة ، ولا أجد ضرراً في اشتغال الشاعر في عدة مجالات خاصة إذا كانت قريبة من مجاله الحيوي ، فالإذاعة والمسرح ، أو الصحافة حاضنة ترعى الشاعر في الكثير من اشتغالاته رغم انها تسرق من وقت خلوته وتأمله .. ولكن يستطيع خزن كل ذلك في ذاكرته والاشتغال بنفس روح الشاعر في كل المجالات حفاظاً على جذوته المشتعلة وأستطيع أن أشبه ذلك مثل عامل القطار الذي يرفع أكواب الشاي الدافئة إلى الأعلى حفاظاً عليها رغم اهتزاز العربة .
* : سمعنا انك كتبت رواية قصيرة سابقاً ولم يتح لها أن ترى النور ، هل لك أن تحدثنا عن ملابسات هذا الأمر ؟
* : نصي المفتوح المعنون ( موت ذهبي ) منعته دار الشؤون الثقافية وما زلت محتفظاً بكتاب المنع وما زال النص محفوظاً لدي بانتظار الطباعة وهو نص استفدت فيه من ألف ليلة وليلة وفكرة كلكامش عن الخلود ولعله يرى النور وهو واحد من النصوص العراقية الكثيرة التي بقيت في الظلمة رغم نصاعة جوهرها .
* : علمنا انك اشتركت في العاصمة الأردنية عمان في معرض فني وتحديداً في مجال النحت ضمن مسابقة أعدتها المنظمة الدولة هناك ، وفزت بإحدى الجوائز المهمة ، ما قصة ذلك ؟
* : اشتركت في العاصمة الأردنية بمعرض أقامته السفارة السويسرية للاجئين العراقيين ويعود الفضل باشتراكي بفن النحت للنحات المبدع هيثم حسن وكل ما عملته أنني اخترت مادة من الطبيعة وكأن عيني هي التي نحتت وفرزت هذا الحجر من بين أكوام أحجار الأردن وكانت تجربة مدهشة بالنسبة لي والعمل ما زال محفوظاً لدى السفارة السويسرية .
* : كيف ترى وضع المثقف العراقي في المرحلة الراهنة ، وما تأمله في البعد الزمني المنظور في الأقل ؟
* : وضع المثقف العراقي قلق ومتأرجح بين مطالبه الحياتية وسعيه للرقي بالنص العراقي ولكن عموماً فان النصوص أخذت ترى النور بعد حبس طويل .

 

 

للاتصال بنا  -  عن المدى   -   الصفحة الرئيسة