نظريون
معزولون وعقدة السياسة
فوزي
كريم
"من الأُمور
الطريفة في الثقافة العربية الآن ضمن طرائف كثيرة أُخرى هو
أن بعض الشعراء والكتاب العراقيين بالذات راح يتباهى على
أقرانه بأنه لم يتدخّل في السياسة في أي وقت وأنه ظل بعيداً
عن كل المعارك التي شهدها بلده، مكتفياً ربما بمناجاة
النجوم والقمر، باعتبار أنه لا ينبغي للشاعر أو الكاتب أن
يقول أي شيء، يهم الناس. إن هؤلاء الذين لا يقولون أي شيء
حقاً ربما لا يعرفون أو حتى يعجزون عن معرفة حقيقة أن
الشاعر أو الكاتب أو الفنان العربي الذي يعزل نفسه عن أُفق
حركة الحداثة العربية الشاملة ويخلو رأسه من أي فكرة تثير
اهتمامنا ويصعب عليه أن يكون ضميراً تاريخياً للثقافة
الإنسانية الجديدة داخل مجتمعه, يصبح عبئاً على الثقافة
نفسها وأداة تمسيخ لها. ولكن بما أننا نحترم حتى حق
الانسان في الخطأ فسوف نتركهم يواصلون لا شيئهم، كجزء من
فكاهة الأدب في مجتمع التخلُّف." (ص348).
اللهجة شرسة ولا تقبل التسوية، وادّعاء رحابة الصدر في
السطر الأخير (احترام حق الانسان) سخرية أكثر شراسة.
الراديكالي ينطلق في موقفه من مركز الأهواء فيه، ولغته
وليدة هذه الأهواء، فهي غير معتمَدة عقلياً. الذي ينأى
بنفسه عن معترك الإديولوجيات والعقائد العمياء لا تعود له،
في نظر الراديكالي، غير مهمّة مناجاة النجوم والقمر! وكأن
مهمّات الكاتب والشاعر محدودة بهاتين المهمّتين! والأفكار
التي تثير اهتمام الراديكالي لا تخرج إلاّ من "أُفق
الحداثة العربية الشاملة"، حتى لو كان هذا الأُفق بالونة
هواء أو دخان لغوي لا غير.
تورجينف الذي يحذر اندفاعة الراديكاليين كان عرضة لاتهامات
الراديكالي دوبرولايوبوف، المحرر الأدبي لمجلة "المعاصر"،
عن رواية "في المساء": "... بينما يتحدث تورجينف عن المساء،
نسأل نحن عن فجر اليوم الحقيقي متى يطلع؟ إذا لم يكن قد
طلع بعد فبسبب أن الشبان المتنورين الأخيار، أبطال رواية
تورجينف، عاجزون ومشلولون، وسوف ينتهون، بسبب كل كلماتهم
الحلوة الرقيقة، متكيفين مع قناعات الحياة المحافظة
لمجتمعهم، لأنهم مرتبطون بقوة بالنظام السائد، بشبكة
العائلة والعلاقات الاقتصادية والمؤسساتية التي لا فكاك
منها...إيرزِن وأوغاريف يقيمون في لندن ويضيعون وقتهم في
فضح وعرض حالات الظلم والفساد والفوضى في الامبراطورية
الروسية. ولكن هذا على بعده ربما يساعد على إزالة مخاطر
نهايتها ويطيل عمرها. المهمة الحقيقية هي في تحطيم كل
النظام اللاإنساني... إن هؤلاء، ومن ضمنهم تورجينف، يريدون
إصلاحاً وما يؤمّن الراحة. نحن نريد تحطيم ما هو ماثل.
نريد ثورة وبناء أُسس جديدة للحياة. ما من طريقة أُخرى
كفيلة بتحطيم عهد الظلام.".
قناعة تورجينف لم تحصنه من المخاوف من تأويلات
الراديكاليين لرواياته. كان في حالة ازدواج من مشاعر
الاعجاب والعطف إزاء هذه الشبيبة التي تتحلّى بشجاعة في
المجابهة، والقدرة على التضحية في وجه الرجعية، والشرطة،
والسلطة، الى جانب ازدراء وعدم احتمال لتوجههم النفعي
المضاد والخشن لأي حس جمالي، ورفضهم المتطرف لكل ما هو
عزيز عليه من ثقافة ليبرالية، وفن، وعلاقات إنسانية متحضرة.
كان تورجينف يشارك المفكر هيرزن وأصدقاءه كراهيتهم لكل
أشكال الإستعباد، والظلم، والقسوة، ولكنه على غير شاكلة
بعضهم لا يرتاح كثيراً داخل أي مبدأ أو نظام إديولوجي.
كانت تلك المبادئ بالنسبة له تجريداً يثير استنكاره. رؤيته
بقيت دقيقة، حادة، صلبة، وواقعية. المذاهب الهيجلية،
يسارية ويمينية، المحيطة به يوم كان طالباً في برلين،
وكذلك المادية، والاشتراكية، الوضعية... بدت له جميعاً محض
تجريدات.
هيرزن يرى شبان الستينيات هؤلاء دوغماتيين، نظريين، تستحوذ
عليهم الرطانة اللغوية... إنهم يريدون أن يحطّموا نير
الطغيان القديم، فقط لكي يعوضوا عنه بنير آخر من صنع
أيديهم. إن جيل الأربعينيات (جيله وجيل تورجينف) ربما كان
ضعيفاً، أحمق، وأبله، ولكن هذا لم يكن يعني أن الجيل
التالي، شبان الجيل الستيني الساخر، الخالي من الحب، الخشن
بقسوة، هو بالضرورة أرفع منزلة منهم!
________________
من كتاب تهافت
الستينيين الذي سيصدر عن دار (المدى)
|